يوم طوَّقنا القصر الجمهوري في الفلبين

وقابلنا الرئيس «روهس» بالقميص والكلسون

بين أوراق رئيس الجمهورية اللبنانية عشرات تلغرافات تبادلتها وإياه يوم كان رئيسًا للوفد اللبناني لدى منظمة الأمم في الدورة التي سلخوا فيها فلسطين عن بلادنا. هذه البرقيات تبادلتها معه في شهر تشرين الثاني ١٩٤٧، وقد كنت سَنَتَئِذٍ في «مانيلا» عاصمة الفلبين.

إني فخور بهذه البرقيات، ويشوقني أن تنقش على قبري، وتُتْلَى في حفلة رثائي، هذا إن كان من المقدَّر عليَّ أن أصاب بنكبتين: الموت والحفلة الرثائية.

ولكن القصة لا تبدأ هنا، إنها تبدأ في بيت المرحوم كامل حمادة، وقد جلسْنا إلى طاولته، وانبسطت على الطاولة صينية كبة. وصينية الكبة في الفلبين أندر من «الكافيار» في خيام اللاجئين. والسيدة وديعة حمادة — زوجة كامل — لا تُعِدُّها إلا للأصدقاء الغالين. كان منهم «طام نجار» السوري الأميركي، رابعنا على الطاولة. وفيما نحن نتغنَّى بما نرى وننشق، رنَّ التليفون؛ فنهضت على عادتها السيدة وديعة لتجيب، والتفتت بنا وقالت: «من نيويورك!» وبعد لحظة سألتني: من هي أدال أرسلان؟ قلت: «لا أدري.» قالت: «لعلها مقطوعة في نيويورك، وتريد القدوم إلى الفلبين.» وبدأت المحادثة على التليفون، وكان في صوت السيدة وديعة نزق، فهرعت إلى التليفون، وتناولت الحديث عنها. قلت: «من المتكلم؟» أجاب: «عادل أرسلان.» أجبت: «أنا سعيد تقي الدين.» قال: «أطمنك إلى إخوتك.»

المغتربون — أكثرهم — هم أبدًا في سكرة عاطفية من شوق وحنين، وقد زادني نشوةً سمعي «أطمنك إلى»؛ ذلك أن عمي أمين تقي الدين الذي هذَّبني في الأدب كان يغيظه مني أن أكتب «أطمنك عن!» «أطمنك إلى» هي اللغة الصحيحة، ومرة أصلح خطئي بصفعة شديدة!

وفيما أنا في نشوة الذكريات سمعت من عادل أرسلان أن منظمة الأمم المتحدة ستصوِّت على التقسيم، وأنه يرجح أن تصوت الفلبين مع أميركا ضدنا، وأنه من واجبنا أن نسعى لكسب صوت «الجنرال رومولو» مندوب الفلبين، خصوصًا وهو شخصية عالمية، وأن الحالة حرجة. سألته: وإن فشلنا؟ أجاب: سنخوض الحرب! لفظة الحرب من عادل أرسلان سجَّلت في أذني دويًّا أصيلًا، لم تكن لفظةً فارغةً، رجعت إلى الطاولة منفعلًا، ورويت الحديث الذي سمعته.

قال طام «توماس» نجار، وهو وليد أميركا: «لا بأس أن أخذ اليهود فلسطين، هكذا نتخلَّص منهم في أميركا، وأي شأن لنا نحن مع العرب؟!»

وانفجرت في محاضرة.

السيدة وديعة حمادة هي من عائلة هاشم في كفر شيما، عمر ابنها الكبير ستون سنةً، أشهد أني لم أر في حياتي عينين يلمع فيهما العزم والصبا مثل عينيها، ولا جنديًّا استقامت قامته كما استقامت قامتها، ولقد ثارت ثورتها؛ فهرعت تتلفن «إلى مانولين». ومانولين هذا هو اسم التحبب تدعو به «مانويل روهس» رئيس الجمهورية الفلبينية. مانولين ربي في دار السيدة وديعة، وكان يدعوها «أمي» باللفظة العربية. وفي عشاء عيد الميلاد كان يأتي لتناول الطعام على مائدة كامل حمادة، وقد كنت أجالسه مع الصديق سعد الدين الجارودي، المزارع في صور اليوم.

قالت وسماعة التلفيون على أذنها: «هل من بأس إن قابلتموه غدًا؟»

أجبت: «بل هذه الليلة.»

وانطلقت والصديق كامل حمادة، وكان كامل صامتًا متجهِّم الوجه شأنه في الأزمات النفسية.

ودخلنا على رئيس الجمهورية، فاستقبلنا فخامته بالقميص التحتانية وبالكلسون. القليلون الذين يزورونني في بيتي أستقبلهم بالقميص والكلسون، وإن أبدى أحدهم استهجانًا أقول: هكذا استقبلني فخامة رئيس الجمهورية الفلبينية وعدد رعاياها ٢٢ مليونًا من البشر.

كان الرئيس روهس جاهلًا كل شيء عن فلسطين وعن اليهود؛ فراح يستفهم، ورحت أفهمه وأنا غير فاهم، ولكن روهس— ككل أبناء الفلبين — رجل عاطفي، وله حادثة شهيرة في الكونغرس الأميركي؛ إذ وقف يخطب مطالبًا باستقلال بلاده وبكى. لم أكن متصنِّعًا حين اختصرت له الحركة الصهيونية العدوانية، وفي ذروة الكلام بكيت أيضًا. لم يَعِدْ بشيء، ولكني حين قلت له: إن مندوبنا في منظمة الأمم يعتقد أن رومولو سيقترع ضدنا أجاب: «هذا مستحيل التصور This is unthinkable
وانصرفنا وكأنه لمح بي ريبة، فردد العبارة: This is unthinkable.

وتواعدنا على أن نعود إلى مكتبة في الصباح التالي الساعة العاشرة، فنجتمع إلى وزير الخارجية.

وفي طريقنا إلى البيت مررت بمكتب البرقيات، فأرسلت تلغرافًا مطولًا إلى عمر حليق في مكتب الشئون العربية الأميركية في نيويورك أطلب إليه أن يُبْرِق باختصار الحجج التي في صالحنا، وكنت واثقًا أني أجد الجواب في الصباح؛ لأن بين مانيلا ونيويورك ١٢ ساعةً فرقًا بالوقت.

ونمنا تلك الليلة ونامت صينية الكبة في البرَّاد.

وفي الصباح، وجدت على طاولتي في مكتبي جواب عمر حليق وبرقيةً مطولةً موقعةً باسم كميل نمر شمعون يطلب مني ما طلبه عادل أرسلان. وجهت هذه البرقية إليَّ لأني كنت قنصل لبنان الفخري في الفلبين. ذكِّرْني أن أحدثك من حياتي كممثل ديبلوماسي، وكيف كنت أنثر الباسبورتات اللبنانية على كل «مقطوع» يتكلم العربية، منها تسعة باسبورتات للاجئين من ثوار إندونيسيا، ومنها نصف دزينة لعائلة «ميرو أسعد»، وهم سوريون من أنطاكية. على طريق فرن الشباك قامت بناية لآل أسعد كلَّفتهم سبعماية ألف ليرة، وقد حضرت أعراس سليم، وأنطون، وفيلكس أسعد على ثلاث فتيات من لبنان. الحق على شارل مالك، هو الذي أصر على أن أصبح قنصلًا، والقوانين الدولية التي لم أعرفها، اخترعتها.

حاصله …

ذهبنا الساعة العاشرة إلى مكتب رئاسة الجمهورية، وكان فخامته بالكلسون، ولكن كان فوق الكلسون بنطلون، وكان وقار الرئاسة يسود الغرفة هناك، وبين يديه «ملف «فلسطين»، قرأ منه أن ليس هناك اتفاق بين الفلبين وأميركا على شيء، بل كل ما هنالك تبادل رسائل تقول: إن المسألة الفلسطينية ستثار في منظمة الأمم، وإنه يحسن التشاور بين الدولتين حين تفتح الدورة.

وراح الرئيس يستفهم عن فلسطين، وكنت متسلِّحًا بالمعلومات التي تلقيتها من عمر.

وفي حضورنا أرسل تلغرافًا إلى الجنرال رومولو — أصبح فيما بعد رئيسًا لمنظمة الأمم — يطلب منه استعراضًا للموقف، ولكن كلمات التلغراف صيغت بشكل يستنفر الموالاة لقضيتنا، وأذكر أن عبارة «ثلاثمائة ألف كاثوليكي في فلسطين» كانت من صوغي.

ولما خرجنا لحق بنا وزير الخارجية «البيديو كيرينو» الذي أصبح فيما بعد رئيسًا للجمهورية الفلبينية. وكيرينو هذا كان لي صديقًا؛ إذ كنا نجتمع أيام الحرب على طاولة بوكر في بيت الصديق فيليب شاوي، وهو أخو مدام رجا كساب صاحب المحل على باب إدريس.

أذكر صحن بوكر عظيم في «المكشوفة» أمامي أصان، وعشرتان ظاهرتان، وأمامه خمستان مكشوفتان، وقد نظفني حين ظهرت الخمسة الثالثة المستورة.

قال وزير الخارجية مداعبًا: «الموقف في صالحكم، ولكن اذكر أن في الحياة دائمًا ورقة مستورة، حذار الخمسة الثالثة.»

وفي بعد ظهر ذلك اليوم، واتقاءً للورقة المستورة، اتخذت احتياطات من شأنها أن تطلعني على نسخة كل برقية صادرة عن مانيلا أو واردة إليها في شأن التصويت على قضية فلسطين، ولم تكن هذه التلغرافات بالشيفرة. وإني أسجِّل أن الرئيس روهس كان صادقًا في كل ما حدَّثَنا به كما أثبتت نسخ التلغرافات التي كانت في يدي أحيانًا قبل أن تكون في يد روهس. وجاء تلغراف رومولو يقول أن ليس بينه وبين اليهود أو ممثلي الدول العربية أي ارتباط، وأن الأميركان لم يُبَاحثوه في الموضوع بشكل حاسم، وأن الفلبين تقدر أن تصوت مع اليهود أو ضدهم، وأنه يرى أن التصويت لصالح اليهود أوفق مجاراةً للرأي العام العالمي، وأنه على كل حال ينتظر تعليمات حكومته لاتخاذ الموقف الحاسم.

ورد روهس بواسطة كيرينو على رومولو ببرقية جاء فيها أن الفلبين، وهي دولة شعبها كاثوليكي، وهي أمة جاهدت من أجل استقلالها، وسبق لها أن قاومت في الماضي مشروع تقسيم اقترحه أحد النواب الأميركيين لشطر إحدى جزرها حيث — الأكثرية محمدية — لا يسعها أمام الله والتاريخ إلا أن تعارض بتمزيق بلاد ثانية.

وفي تلك الليلة بطشنا بصينية كبة في دار كامل حمادة.

وكنت في كل يوم أبعث بتلغرافين على الأقل بالحروف الإفرنجية واللغة العربية؛ لأنه لم نتفق على شيفرة بسبب مفاجأتنا بخبر التقسيم. وكنت أُنهي البرقيات ﺑ «قلوبنا تواكبكم». كانت نسخة ترسل إلى الأستاذ شمعون، وثانية للأمير عادل، وكنت أبتهج أن شركة التلغراف تحسب اللغة العربية شيفرة فتتقاضى أربعة أضعاف عن اللغة العادية.

أذكر أن أطول تلغراف عدد كلماته ٧٨٤؛ ففي كل يوم كنت أوافي نيويورك بالأخبار والتطورات، وفي الليل — بسبب فرق الوقت — أتلفن إلى القنصلية اللبنانية أو السورية، فأتكلم مع شمعون أو أرسلان مستطمنًا، وفي بعض الأحيان لا أجدهما.

هكذا تعرفت إلى قنصلنا في أميركا إدوار غرة حين رد عليَّ ذات مرة، قلت: «إدوار غرة؟ من أين في لبنان؟» أجاب: «من زحلة، أجلك الله!» قلت: «لا أصدق! هات البرهان.» فراح يحدو: «… وشرب العرق عادتنا.» ومرةً طلع بوجهي في إحدى القنصليتين موظف جديد طفق يحاضر في واجبات المهاجرين نحو السعي للانتصار لقضية فلسطين.

فأقفلت التليفون، وأعتقد أن الأخ الفصيح لا يزال يتكلَّم حتى هذه الساعة.

كانت أيامًا ولياليَ محمومةً سجَّلت خلالها العبارة التي بدأت تظهر اليوم في الصحف: «كل مواطن خفير.» أي يهود؟ أي تقسيم؟ نحن في الفلبين خمسة عشر مغتربًا، ربحنا صوت دولة، فكيف يكون شأننا في البرازيل والأرجنتين والمكسيك حيث منا مئات ألوف المواطنين؟

وفي صباح يوم تسلَّمت تلغرافين من كميل نمر شمعون وعادل أرسلان، فيهما تهنئة حارة، وانبسط على صفحات جرائد مانيلا الأولى نص خطاب رائع لكارلوس رومولو — وهو من خطباء الدنيا المعدودين — هاجم فيه التقسيم، وانتصر لقضيتنا.

يومان مرَّا بي كنت خلالهما أشعر أني أقوى من ذلك الذي يطأ الأرض مترفهًا من تيهه، فلقد كنت أمشي من غير أن أطأ الأرض.

ولكن الأرض انخسفت بي حين قرأت تلغرافًا جديدًا بتوقيع شمعون يخبرني فيه أن رومولو أبدل بمندوب ثانٍ (نسيت اسمه، وأرجح أن اسمه الأول طوماس، فلنسمه طوماس)، وذلك تمهيدًا لتعكس الفلبين موقفها من التقسيم، وأن حالتنا في منظمة الأمم خطرة، وأن التصويت تأجَّل.

وهرعت إلى من كان يزودني بنسخ البرقيات؛ فقلب شفته، وحكَّ قفاه وبصق، وكانت هذه عادته في ساعات الخيبة. وقال: «إن الحكومة انتقلت إلى المصيف في «باغيو»، وهي مدينة جبلية تبعد أكثر من ثلاثماية كيلومتر عن مانيلا، وأصبحت المخابرات في يد الجيش، والولدنة مع الجيش، ومخابراته خيانة تعاقَب بأحكام مختلفة أخفُّها الإعدام، وقلب شفته، وحكَّ قفاه وبصق، وشاركته في كل ما فعل.

إنني كنت أعرف جيدًا من هو طوماس المندوب الجديد للفلبين، إنه أكبر عدو لجاليتنا في الفلبين، وقد أصدر منشورًا فور عودة الأميركان، بعد طرد اليابانيين، يتَّهِمُنا بأننا خونة، وبأننا تعاونا مع اليابانيين أيام الاحتلال، وسبب عدائه لنا أن أولاد أسعد اشتروا من قريبة له شريرة قطعة أرض إبان الحرب بثلاثين ألف دولار، ادعى طوماس أنها تساوي ربع مليون، ونشبت الدعاوى، وراح هو، وراحت قريبته تهدِّد بقتل أولاد أسعد، وقد جرت محاولة للفتك بأحدهم؛ يعقوب.

واجتمعت إلى الصديق المرحوم كامل حمادة وإلى أحد أولاد أسعد — نسيت أيهم — واتفقنا أن يتنازلوا عن حقوقهم في قطعة الأرض إن أيَّد طوماس موقفنا في قضية فلسطين. ووجدنا أن في يدنا ورقة ثانية — الخمسة المستورة — وهي أن طوماس انتُخِب عن دائرة جزيرة «إيلويلو»، وهناك مواطن لنا من بشراي اسمه الدكتور فرمين كرم، لا يستطيع طوماس أن يظفر بالنيابة من غير تأييده، وأرسلنا التلغرافات للدكتور كرم وإلى الأصدقاء في جزيرتي «إيلويلو»، و«نغروس» مفتشين عن فرمين كرم ليُتَلْفِن إلى صديقه وحليفه في منظمة الأمم. واتفقنا على دفع أي مبلغ إضافي قد يطلب منا. كنا في سنة ١٩٤٧ والمال عبارة عن تسطير «شك» إذ كنا في بحبوحة بحيث إن سقطت من أحدنا ورقة المائة ريال لخجل أن ينحني لالتقاطها، وكنا في حمى القتال من أجل فلسطين.

وركبت سيارتي منطلقًا إلى «باغيو». كانت سيارتي عامئذ من مخلَّفات الجيش، وهي اﻟ Command Car تشعر فيها أنك مستوٍ على برج فوق بالوعة بنزين، وكانت طرقات الفلبين بسبب الحروب والإهمال خلال أربعة أعوام تكاد تشبه أكثر شوارع بيروت. وفيما نحن في منتصف الطريق سمعت طقة حجر، ولكننا تابعنا حتى وقفت السيارة فجأةً؛ لأن الحجر كان قد أصاب خزان البنزين، وهو منخفض يكاد يلمس الأرض؛ فتسرَّب البنزين.

تطيرت من الحادثة، وتأخر وصولي إلى «باغيو» بسببها إلى فجر اليوم التالي؛ إذ قرعت باب صديقي مخيبر كيروز.

وفي باكر الصباح أرسلت باقةً من الزهر إلى البيت الجمهوري، وعند التاسعة استأذنت بزيارة الرئيس.

وتوجهت إليه فإذا هو خارج بيته يتمشى، وحوله زوجته — بادرت إلى شكري على باقة الزهور — وابنته وهم يلاعبون كلبهم.

أريد أن أُثبِت هنا أن موقف رئيس جمهورية الفلبين كان سببه صداقته مع كامل حمادة وزوجته لا صداقته معي.

من السهل تشويه الأمور وتزويرها؛ فكامل حمادة ميت، وزوجته لن يسمع بها أحد هنا في بلادنا، ولكن الصدق يقضي بأن أسجِّل أن الأهمية كانت لهما، ولم أساهم أنا إلا بالنشاط.

وأقبلت على عائلة روهس؛ فبشَّ بي الرئيس كثيرًا — أكثر من كل مرة — فتحققت أنه مُؤَاسٍ لا مرحب.

أجابني أن تعليمات الحكومة لمندوبها في منظمة الأمم لم تتغير.

كلمات سمعتها، ولم أصدقها. ولكن من أين لي أن أثبت عكسها والمخابرات اللاسلكية أصبحت في يد الجيش؟

ثم دعاني الرئيس روهس إلى داخل البيت، وقال: «انظر!»

رأيت كومة تلغرافات لا تقل عن مئات، قال الرئيس: «إن سياسييكم متبجِّحون؛ راحوا يملئون الدنيا تفاخرًا بأن الأكثرية معهم، أين هي كياستهم التي قرأنا عنها في الكتب؟ كل هذه التلغرافات هي من يهود — منظمات وأشخاص — انصبَّت عليَّ من أنحاء الدنيا. كان يشوقني أن أستلم تلغرافًا واحدًا من أي مواطنيكم يشكرني به على خطاب رومولو. لقد اصطدمنا مع أصدقائنا الأميركان، وأنت تعرف كم نحن في حاجة لهم بعد خراب الحرب. كان خطاب رومولو الخطاب الوحيد الذي ألقاه مندوب ضدَّ التقسيم، عدا خطابات رجالكم بالطبع … ولو! ما منحرز كلمة شكر؟» واستدرك: «ولكن بالطبع هذا لم يغير موقفنا، نحن لم نبدل تعليماتنا لمندوبنا.»

وعدت فتحققت أنه أبدلها بسبب ضغط أميركا، وضغط اليهود، ولحد ما لأنه لم يجد التقدير من دولنا. والغريب أيضًا أنه في يوم استقلال الفلبين لم ترسل من الدول العربية تلغراف التهئنة التقليدي، إلا العراق، وكان وزير خارجيتها فاضل الجمالي.

بماذا كنا مشغولين سنة ١٩٤٦حين أعلنت الفلبين استقلالها؟

وتدحرجت راجعًا إلى بيت مخيبر كيروز، وقلبي مثقل بالحزن، فلما وصلته سمعت دق الكبة، وناولني مخيبر رسالة «تلتيب» من مانيلا تقول إننا خسرنا التصويت، وإن الفلبين صوتت ضدنا!

ولم أستطع الابتسام!

كانت ثاني صينية أعرضت عنها في الفلبين.

الحرب … الحرب … بقيت كلمة عادل أرسلان تدوِّي في أذني، وبعد أسابيع ثلاثة أرسلت إلى شخصية ضخمة (غير فاروق) في القاهرة أعرض مئتي ألف بارودة من مخلفات الجيش الأميركي بثمانية دولارات البارودة واصلةً إلى أي مرفأ يعين، فلم أتلقَّ جوابًا. وفي طريقي إلى بيروت مررت بمصر — آذار ١٩٤٨ — وسألت هذه الشخصية الضخمة: «لم أغفلت عرض الأسلحة؟» أجاب: «إن الأسلحة متوفرة لدينا، عندنا منها أكثر من الحاجة!»

وبعد أسابيع رجع «رومولو» إلى مانيلا؛ فتوجَّهت إليه مع الصديق كامل حمادة لنشكره؛ فأخبرنا قصة التقسيم، وكان أبدًا يردد: «إنها جريمة، إنها جريمة.» ولكنني اضطررت إلى ترك نيويورك والسفر إلى لندن.

أنا لا أحفظ الأوراق والوثائق حتى ولا الكمبيالات، ولا أدري كيف استبقيت رسالةً سريةً بعث بها إليَّ صديق لي في الفلبين عن مؤتمر صحفي عقده رومولو، واستحلف مستمعيه أن يبقى سرًّا، وقد بقي إلى هذه الساعة، وإني لن أبوح به. وقد أهديت نسخةً منه إلى «وليم ليلنثول» — الكاتب اليهودي الذي يهاجم إسرائيل — ووكلت إلى السيدة مدام أديب خرطبيل أن تسلِّمه الكتاب لتغيُّبي عن الحفلة.

ما الفائدة من سرد هذه الحوادث؟

نحن حين نقول بإنقاذ فلسطين لا نعني النصر اليوم، أو في السنة القادمة. صراعنا مع اليهود يُقَاس بالأجيال لا بالسنين. وعلينا أن نسجِّل الآن أخطاءنا ومواطن القوة فينا، لقد أخطأنا حين افترضنا أن الفلبين هي مستعمَرة أميركية، وأن النبل في حكامها لا يستثار، وقد غفل اليهود عن استمالتهم إلى جهتهم توهمًا منهم أنهم ألعوبة في يد الأميركان. وقد أجرمنا حين قتلنا الثقة في نفوس شعبنا، ومنهم المهاجرون، وأخطأنا حين توهَّمنا أن من واجب الأغراب أن ينتصروا لنا من غير أن نتودَّد إليهم حتى بكياسات اجتماعية.

وذلك الصديق الذي ائتمنني على سر، وهو اليوم من كبار موظفي الحكومة الفلبينية، هل أنا أخونه حين أسلم رسالته للكاتب؟

نحن اليوم نسجل تاريخًا نستعين به، أو يستعين به أولادنا، أو أحفادنا في الصراع مع اليهود. أية أهمية للفتك بصديق في سبيل قضية كبرى؟ هذه الخشونة في الروح تتغلغل فيك حين أنت تنتظم في حركة.

أذكر لحظةً وقف فيها قلبي؛ إذ ظننت أن سعيد فريحة كاد يقع في هوة المصعد قبل أن تكتمل بناية العسيلي. أما اليوم فلو أن انتصار القضية الكبرى يقتضي أن أدفش سعيد فريحة إلى هوة المصعد لفعلت. وقد ألتقي بعد ذلك بسكرتير تحرير الصياد، أنطون متري، فأسأله: «سعيد، كيف صحته؟»

حين ودعت «كيرينو» راجعًا إلى بلادي سألته: «هل من وصية؟» أجاب: «لا! إنها نصيحتي أن تحسب أبدًا حسابًا للورقة المستورة، الخمسة الثالثة تقلب الموقف حين تنقلب!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤