مقدمة لمذكرات فوزي القاوقجي

أهذا حلم آخر تحققه الحياة: أن أكتب السيرة باللغة العربية؟

إن آداب لغتنا خلو من هذا الأدب، فكل ما وقعت عليه يداي هو إما هجاء معيب، أو مديح مأجور، أو محاولة صبيانية.

يقول «الدوس هكسلي»: «إن العقل يُملِي الحوادث إن هو صمم وعزم وأراد.» إذن فما هي بصدفة أن الْتَقَيت بفوزي القاوقجي، وإنى مدون سيرته، هذا «الزهر» — زهر النرد — يقول هكسلي: «إن التجارب العلمية أثبتت أنه يخضع لإرادة العقل في أكثر الأحيان حين يسيطر العقل ويطغى.»

هكذا أنا في عام ١٩٥٤ أكتب سيرة القاوقجي؛ لأن هذا ما شئت وعزمت وأردت سنة ١٩٣٦، حينما كنت في الفلبين، فعامئذ فرغت من كتابي «نخب العدو» مسرحيته وأقاصيصه، وكنت — شأني إذ أنفض يدي من أي تأليف — سكرانَ بالإعجاب بإنتاجي، أحدث نفسي أنني كتبت أروع القصص وأعظم مسرحية باللغة العربية، ماذا ينقصني لاكتمال المجد الأدبي؟ أن أكتب السيرة؟ لقد دونت هذا الشوق على هامش مقدمة «نخب العدو» إذ وعدت القراء بكتاب عنوانه «فوزي».

وكان القاوقجي في تلك السنة تلغرافات تنقش على صدور الصحف، وأنباء ثورة على الإنكليز، وبطش باليهود، وبطولات نعتزُّ بها نحن المغتربين، وكان المواطنون في الشرق الأقصى يشربون نخبه في الحانات والمآدب، ويعلقون صوره على حيطان بيوتهم. واحتملت يومًا صورة فوزي فوضعتها تحت زجاج طاولتي في مكتبي التجاري، ورحت أحدِّق بها معجبًا وأقول: «سأكتب سيرته في يوم من الأيام.»

وفي يوم من الأيام تطلَّعت إلى تلك الصورة فانتزعتها ومزقتها، أية سيرة؟ أي قاوقجي؟ ليس في الدنيا مخلوق أخشع أمامه بأن أتحدث عنه، سأكتب السيرة عن رجل أقل شهرة، فيكون لي عزة أني رفعته لا ميضعة أني ارتفعت به.

وحاولت بعد عودتي إلى بيروت أن أكتب سيرة البحار «إبراهيم بلطجي» قبل حادثة «الشمبوليون» بسنوات، فأبدى أحد أولاده شيئًا من الخيلاء، فدفنت الفصل الأول بين أوراقي، لعلي أبعثه في المستقبل، وأبعث سيرة البلطجي إن تغلبت على غرور ومشيخات في نفسي لم تُمْحَ بكاملها بعد.

وفي إبان حرب فلسطين التقيت بفوزي القاوقجي في أحد مكاتب السراي، وكان هو في ثوب الميدان العسكري، فتكالمنا خلال دقائق عابرة، وراح يخبرني، من غير أن يعرف من أنا، أنباء القتال، وكيف أنه تلقى ١٤ تلغراف استغاثة من أحد الجيوش، وأية مهزلة هذه أن يستنجد جيش دولة نظامي بجيش عصابات لينقذه من مأزق جبهة لا يستطيع جيش العصابات أن ينفذ إليها. لقد حسبت حينئذ أنها ليست ميزةً عسكريةً أن يُفضِي قائد بهذه الأخبار لرجل غريب، ستكتشف في الصفحات المقبلة سر هذا البوح.

وبعد الكارثة في ربيع ١٩٤٩ عاودني التحرق لكتابة السيرة، وسألت السيد كامل مروة صاحب جريدة «الحياة»، وبينه وبين القاوقجي صداقة، أن يجمعني بفوزي القاوقجي لأدون سيرته؛ فوعد كامل، وأكد لي، مثبِّطًا همتي بقوله إنني لن أقوم بهذا المشروع الكتابي، متهمًا إياي بالكسل الإنتاجي.

وجاء «مؤتمر خريجي الجامعة الأميركية» في بدء هذا الصيف، واقترحت تنظيم الكفاح على كل السويات من أجل مقاطعة إسرائيل، ومكافحة جاسوسيتها، متخذًا لهذا النضال شعار «كل مواطن خفير»، ولما قطعنا في العمل شوطًا اقترحت أن يكون لهذه المنظمة رئيس فخري، ما رأيكم بفوزي القاوقجي؟

فما ثنى كامل مروة على هذا الاقتراح.

وفي أحد اجتماعات «كل مواطن خفير»، جئت على ذكر فوزي القاوقجي من جديد، وبعد الانصراف، فيما نحن ننزل الدرج، اقترب مني «شمس الدين نجم» وسأل: «هل لك أن تعطيني ٤٥ دقيقة من وقتك؟» قلت: «إن وقتي يكال بالأرطال لا بالدقائق.»

– إذن فهيَّا بنا إلى فوزي القاوقجي في «الفيلا» على الشاطئ في «سان ميشال»، وذهبنا.

ها … و، و، و، و… م!

إذن فكل ما سمعته عنه في هذه السنوات الأخيرة صحيح؛ «فيلا» على شاطئ «سان ميشال»! هنالك بين مقاصير اللذاذات، حيث يقيم الفجور مهرجانات الليالي، وتنتفخ علقات الخيانة بدماء الشعب متدحرجةً إلى أعشاش التهتك بالكاديلاكات. على «البلاج» يقيم فوزي القاوقجي سابحًا بالويسكي، متنعِّمًا بأموال نهبها تحت ستار الجهاد، مختزنًا ثروات تتدفَّق عليه من أمراء الكويت، ومن صفقات تجارة غانمة باسم الوطنية والكفاح، متمرغًا «بباشوية» خلعها عليه الملك عبد الله.

وذهبنا.

غير أني لم أكن أحس برعشة من هو على أهبة أن يلقى بطلًا أو رجلًا عظيمًا.

وترجَّلنا من السيارة إلى مسكن متواضع على قارعة الطريق، ومشينا إليه، فإذا على مدخله امرأة تعلق الغسيل، حيتنا بعربية مكسرة، ولاح وجه فوزي القاوقجي من الداخل؛ فأيقنت أن السيدة زوجته الألمانية.

يقال إن لكل رجل وجه حيوان، فهذا يشبه الثور، وذاك الفهد أو الثعلب، وآخر الأسد. وجه فوزي القاوقجي كما أطل عليَّ وكما يوحي إليَّ هو وجه جواد يحمحم.

وجلسنا حول طاولة — نحن الثلاثة — وكان هو يلبس الشورت (البنطلون القصير)، وينتعل خفين، هالني أن رأيت فيهما قدمين مسطحتين غير متقوستين، وتبيَّنت جسده فعجبت أن ليست عضلاته كما يتوقع من قرأ أنباء قتاله. ما هو بمترهل، ولكنه ما هو من القوة الجسدية بحيث يبعث الخشية أو يُثِير الإعجاب، ولكن صدره مرتفع فسيح عتليت، وليس في وسعك أن تصف الأنف أو العينين أو الوجه أيًّا على حدة؛ فرأسه — رأس الجواد المحمحم — هو وحدة كلاسيكية يوحي إليك أنه في طليعة موكب يسير نحو آفاق لا تحد.

وكان أولاده منتشرين هنا وهناك، وتألَّمت أن ليس بين أيديهم دُمًى يلعبون بها، بل إن «أسامة» — وهو في الخامسة — كان يرفه عن نفسه بأن يُغِيرَ على الرمال فيبودر بها وجهه، ثم يهرع نحو حنفية الماء فيغسله متطلعًا إلينا منتظرًا أن يسمع كلمات الإعجاب، وهو في مفاجآت ظهوره واختفائه، وكره وفره، كأنه حيوان صغير يظهر من دغل ويختفي في دغل. وأما «مروان» ففي وجهه أرستقراطية هادئة، ولعله برم بأحاديثنا، وليس بين يديه ما يشغله، فتودد إليَّ بأن وخزني على كتفي متحديًا مداعبًا.

وكان خوفي — أكبر خوفي — أن يستلَّ فوزي القاوقجي مسبحةً من جيبه، وأن يُغرقني بالطرائف والتندر، وبالنكات المحفوظة، ولكنه لم يفعل.

وبعد أن رزت محدثي بعيني رحت أحاسب نفسي: إنه لحقير من لا يرى العظيم إلا حين يرتدي هذا مظاهر العظمة، كتاب الحياة تقطع عباراته كلمة «لو». ألم يكن من المعقول أن يكون هذا الجالس «بالشورت» إلى جانبي اليوم، القائد لجيش موحد واحد، سوري (سوريانا)، وأن تكون تماثيله، على الحصان الأبيض التقليدي، في باحات حيفا ويافا ودمشق وعمان والقدس وبغداد وبيروت؟

إن جليسي على طريق «سان ميشال» هو الرجل الذي شربنا أنخابه في «الفلبين»، وتبوَّأت صدور الصحف أنباء بطولاته، وتغنى بغماره المقاتلون، أفلا يوحي الخشوع إلا حين يلبس بزته العسكرية، وتلمع النياشين على صدره؟

ولماذا نحن نتوقع في الأبطال التفوق الجسدي؟ في يقيني أنه لو ركب حافلة الترامواي هاني بعل، ونابليون، وإسكندر المكدوني، وعنترة، واللورد نلسون، لَصَعُبَ تمييزهم عن مصطفى منتور الطبش، أسعد تيول، شمدص جهجاه، بندر شنديب، والحاج قعفر طيون الطهشناوي.

ثم أليس الإنسان إمكانية؟ إذن فالحياة تسخو علينا كثيرًا، وتنصفنا حين تعرض أمام أنظارنا رجلًا له ثقافة وقوة جسدية عاديتان، ثم تخبرنا أنه فعل العجائب، هكذا تقول لنا الحياة إن كلًّا منا إمكانية تقوى على فعل العجائب.

هنا أسعفني الشاعر الإنكليزي اللورد بيرون بقول حفظته له:

ضع هاني بعل في عينة الميزان، ترى كم كيلو تجد في ذلك المارشال العظيم؟

غير أن في كل إنسان، وفي كل شيء، كميةً خفيةً مجهولة، لا نقدر أن نصفها، أو تقبض عليها أكفنا، لقد عبر عنها الأميركان بلفظة «أمف» oomph سمها x إن أحببت، ما الذي يجعل هذا الحانوت مقصودًا، وهذا الرجل محبوبًا، وهذه المرأة فتانةً؟ بعضهم تجمع أرقام كفاءاته فإذا هي أكثر من المجموع، وفي البعض الآخر تجدها أقلَّ من المجموع. هذه الكمية الخفية، هذه «الإكس» هي في القاوقجي شيء ضخم.

لقد تعددت اجتماعاتي به، وكان ودي واحترامي له ينموان.

لقد جئته مرةً فوجدته مضطربًا، صغيره مريض، وطبيب العائلة في الجبل، تلفنت لصديقي «الدكتور جورج صليبي» فهرع، ومعه «الدكتور الفرزلي»، وبعد أن كشفا على الطفل، ووصفا له العلاج، وقفت الأم تحدث زوجها بالألمانية، ووقف القاوقجي يريد أن يقول شيئًا فتلعثم، واحمر وجهه، وأرسل كلمات: «إن زوجتي تدعوكم إلى فنجان قهوة.» إنه كان صادقًا، فلم يراوغ بأن يتظاهر بدفع أجرة الطبيب؛ إذ إنه لم يكن يملك ذلك الأجر. ولما عاد الدكتور صليبي بالدواء سأله: «كم دفعت ثمنه؟» أجاب: «نحن الأطباء لا ندفع ثمن أدوية، إنها كياسة مهنية بيننا وبين الصيادلة.»

«علاك، علاك.» أجاب فوزي القاوقجي مداعبًا، وكان في إغضاء عينيه حياء وخجل ومِنَّة.

«علاك، علاك.» سمعته يردد هذه الكلمة كثيرًا. «مظاهرات» الشوارع، هي «علاك، علاك»، الخطب الحماسية هي «علاك». في إستنبول عام ١٩١٢ أدخلونا في حزب، وعصبوا أعيننا، وحلفنا اليمين على السيف والقرآن، وكانت النتيجة «علاك بعلاك». في سنة ١٩٣٦ جاءتنا رسل رجالات سوريا إلى العراق، فاستشارونا، ووضعنا الخطط، فما فعل رجال السياسة شيئًا «علاك، علاك».

ولقد جئت هذا الرجل لأكتب سيرته فوجدته — على عادته في القتال — قد قطع عليَّ الطريق فدوَّنها هو في مذكرات، وأمر هذه الدفاتر والوثائق معروف لدى أصدقائه وأعدائه؛ «ففي سنة ١٩٤٩ جاءني الأخ مدلول عباس، وهو ضابط عراقي، وقال لي: لقد وكل إليَّ أمر سرقة مذكراتك يا باشا لقاء عشرة آلاف ليرة لبنانية، قلت: «لماذا لم تقبضها يا …؟»

وفي سنة ١٩٥٠ كانت هذه المذكرات مودعةً في بيت الأخ علي ناصر الدين في بيروت، فإذا بأربعة مسلحين يداهمون البيت في الليل للحصول على هذه المذكرات، ولولا بطولة الخادمة التي علا صراخها رعبًا لتمكَّنوا من اختطاف مذكراتي. ولما فشلت هذه المحاولة أرسل «ﺳ… اﻟ… اﻟ… أ… اﻟ… لقتلي أربعة أشخاص، فجاء أحدهم في يقظة الضمير — وكان قد سبق له أن قاتل تحت قيادتي — واعترف لي بالمكيدة، على مسمع من رجال الأمن اللبناني الذين دوَّنوا هذه الحادثة في سجلاتهم. ولقد بدأت هذه المذكرات في بغداد عام ١٩٣٦؛ إذ كان يُلِحُّ رفقائي أن أكتبها، وتواعدنا أن نبدأها في الساعة الرابعة من بعد ظهر يوم ٢٣ يناير ١٩٣٦، فما إن جلسنا لنبدأ العمل، ورشفنا أول رشفة من القهوة، حتى انتصب أمامي مفوض الشرطة يدعوني إلى مواجهة مدير الأمن العام، فيرسلني هذا إلى المنفى. والآن ما كدنا نتحدث عن هذه المذكرات حتى مرض طفلي «بركان». (ومن الغريب أن مجرمين أحرقوا مطابع «البناء» قبل أن تبدأ هذه المطابع بطبع مذكرات القاوقجي بأيام قليلة.)

قلت لعل هذه المذكرات تحمل ميكروب الكوارث. أجاب ضاحكًا: «الحياة ليس فيها كوارث، إن فينا معتقدات توهمنا أن بعض الأحداث هي نكبات.»

إذن، وقد دوَّن هذا الرجل مذكراته، فما شأني أنا، وما هي مهمتي؟

لقد اكتشفت في القاوقجي تلميذ فلسفة اجتماعية. إن ثقافته الكتبية لا بأس بها؛ فهو مطلع على الحوادث، وهو مطالع الكثير من الكتب والصحف، ولكن ثروته الثقافية هي في غنى التجاريب اكتسبها في ميادين الصراع، فاختزنها في عقله وقلبه، وكمنت في أنحاء نفسه، كما كمنت هذه الشظايا التي لا تزال مستقرةً في رأسه وصدره وساقه. وإن عين الفنان وأذنه ترى وتسمع، ومهمته أن ينقلها. إن أجمل ما في الأدب الصدق، وإن الأديب ليصبح مجرمًا إن هو حاول أن يلون بقلمه تاريخًا خطَّه جندي بدمه.

سبق لي في «رفة جناح» أن قلت: «لكل سيرتان؛ واحدة برسم النشر وثانية ليوم الحشر.»

هذه الأقوال التي نقلتها عن محدثي هي للنشر وليوم الحشر. ولكننا ونحن أمام تاريخ وضمير قومي أودُّ أن أثبت أنه لا بد من إغفال بعض آراء، وطمس بعض حوادث. إن كان في هذه الصفحات من جريمة اقترفتها فهي جريمة الحذف. على أنني سأثبت ما أغفلته وأودعته في مكتبة الجامعة الأميركية على أن يُفَضَّ في مستقبل الأيام.

غير أنني ما استثنيت من مذكراته شيئًا. إن الذي لم أنشره هو بعض آرائه التي أفضى بها إليَّ.

وبعد، فالقاوقجي قاتل في جيوش نظامية، وحارب عصابات. فهذه الملاحظات التي أدونها بعضها له ترتيب نظامي وبعضها عصابات أقوال لا تدري متى تختفي ومتى تنقض.

قال لي: «لقد جاءني الكثيرون يطلبون مني أن يكتبوا سيرتي وينشروا حوادثي. وبعضهم تقدم بعروض مالية مغرية. بعض هؤلاء تعمَّدوا أن يدوِّنُوها قصة، ويطمسوا ذكر صاحب القصة. فأما أكثرهم فأراد أن يسلسلها قصة في جريدة. قد يكون هذا أهمَّ الأسباب التي حملتني على الرفض. وقد قلت لآخرين لا أريد رواية بوليسية أو خيالية. نحن أمام وقائع حدثت، ما أعطي ليدٍ أن تُغيِّرها. وليس الغرض من نشر كل هذه الآراء إلا أن تصبح دليلًا يهدي جنديًّا سواي، إلى خزان القوة في أمتنا فيغرف منه.»

والحق أن أهم ما لفت نظري في أحاديث فوزي أن أقاصيصه لم يروها كذكريات، ولا حنين، ولا تغنٍّ، بل كان يسردها كمن يبسُط تصميمًا لصراع مقبل. ليس في نفسه نقمة أو حسرة أو عتاب. إنه لا يحمل فاتورة برسم القبض يلوِّح بها أمام عيون مواطنيه. لا يمنن أحدًا بما فعل. وهو قد عامل وعاشر أكثر رجالات العالم العربي. وكان في كثير من الأحيان — حتى في ميدان القتال — هدفًا للدسائس والاغتيال. ولكني لم أسمع منه كلمة واحدة خلال محادثاتي العديدة تنطوي على حقد. والناس في نظره ما هم إما شياطين أو ملائكة. يحلل كل شخصية عرفها ويشير إلى مواطن الضعف ومواطن القوة فيها. إنه لا يريد أن يجرح أحدًا، ولكنه يحسُّ بمسئوليته القومية، فهو يريد أن يثبت الأسماء والحوادث، ولأبناء أمته أن يبرِّئوا أو يدينوا، وعليهم أن يعتبروا وأن يتعلَّموا. إنه وقد قاتل مع الألمان والأتراك، وقاتل الفرنسيين والبريطانيين، واليهود، انتهى — كما ابتدأ — بحقيقة واحدة؛ وهي أن أمته أشجع وأنبل الأمم بأسًا. يقول هذا ببساطة ومن غير انفعال ولا حماسة مصطنعة. هكذا قال له التاريخ الذي درسه وتعمَّق فيه، هكذا أثبتت له تجارب الميدان في سينا، في فلسطين، في الغوطة، في تدمر، وفي بغداد، وفي جبهات ومعارك خلال ست وثلاثين سنة.

وهذه الحقيقة لا يرسلها فكرًا سطحيًّا. ما هي «علاك بعلاك». إنه يفهم ويعلل لماذا انهزم الجيش السوري في «ميسلون» ١٩٢١ وكيف أن بعض هذا الجيش في لباس المدنيين مع مواطنين لهم دوَّخ الفرنسيين في معارك الشام عام ١٩٢٥–١٩٢٧، إنه يفسِّر موقف الجيش العراقي في حربنا مع اليهود. ما هو بلغز أن الجيش الأردني جيش صغير عظيم برغم أن قائده بريطاني فرنجي غريب.

إنه شيء عادي أن يهرع إلى الجهاد فلاحو فلسطين مسلحين. من أين البارودة؟ «والله يا بك بعنا مباريم (أساور) المرأة وبعنا الدابة.»

هذا المقاتل الذي خدع الموت عشرات المرات — أو مئات — واستبدل دمه مرات، وهزم، وانهزم، هو موقن مؤمن أن البطولة هي بعض الدم الذي يجري في عروق أبناء أمته. وإن النبل والتضحية والمروءة تغلِّف نفوسهم، وإنهم في كل هذا يفوقون أمم الدنيا قاطبةً. لقد غامر بروحه وأرواح ألوف من مواطنيه على أساس هذا الإيمان، وهذا الإيمان بأبناء أمته ترسَّخ وتجاوب بينه وبينهم؛ فهو الثائر الوحيد — على ما أعلم — الذي انضمَّ إلى ثوراته مرةً بعد مرة مجاهدون من كل طوائف الأمة ومناطقها وطبقاتها، وإن هؤلاء ما خاطروا بأرواحهم إلا بعد أن جاءت التجارب تُثبِت أن قائدهم يستحقُّ هذه الثقة. تعرفت إلى كل هذا من الرسائل الكثيرة التي في حقائبه، ومن قصاصات صحف تعد بالمئات، ومن صور بهتت على كر السنين كما امَّحت من المخيلات ذكرى تضحياتها، ومن جداول بأسماء من انتدبوا نفوسهم للجهاد والبطولة.

ولقد أعلنت الحرب العالمية الأولى وأبناء أمتنا يتهرَّبون من الخدمة العسكرية في الجيش العثماني، فصار لهم صيت أنهم جبناء، ولسبب ما — لعله عمق التفكير — خطر في بال القائد الألماني «تلر»؛ فهيَّأ ثلاثة أفواج من الفلسطينيين في جبهة بئر سبع، وكانت الجيوش البريطانية قد اقتحمت جنوب بلادنا، وحاصرت الجيش التركي في غزة، فما كان من الأفواج الفلسطينية الثلاثة — وضباطها ألمان — إلا أن اقتحمت غزة ومزقت عنها الحصار.

وفي الحرب العالمية الأولى، وصل إلى القفقاز الفيلق الثاني عشر من العراق، وقد جاء العراقيون بملابسهم الصيفية، وحاربوا الروس بين ثلوج القفقاز والقرص وأردهان، وأنقذوا الجيش التركي من كارثة هزيمة. أقتصر على هذين المثلين اللذين سمعتهما من صاحب هذه السيرة، فالمذكرات نفسها تكشف عن نفسية الصراع والبطولة الكامنة في شعبنا. ولقد ذكر القائد الألماني «فون كريس» في معرض المفاضلة بيننا وبين الأتراك أن شجاعة جنودنا لم يُشهَد أروع منها، وجندينا يمتاز بالذكاء حتى لكأنه يقرأ أفكار القائد من غير أن يستمع لأوامره. أما التركي فهو صلب عنيد يصعب زحزحته من مكانه، ولكنه إن غادر متراسه سيطرت عليه الفوضى، واختلط عليه الأمر؛ إذ إنه يعوزه الذكاء الذي يزخر في عقول مواطنينا.

وصاحب هذه المذكرات يصنِّف مواطنيه، ويفهم متى يكون أحدهم في الجبهة جريئًا، ومتى يكون جبانًا.

العراقي بركان يهدأ ويثور، ولكنه قد يخمد فجأةً.

البدوي رجل كسب وغنائم، لا يفهم القومية. إنه نفعي يريد أن يستغلَّ من غير أن يغامر، وهو لا يؤمن بأحد ولا يتعرف إليك، ولا يعترف بقوتك حتى يراك ويلمسك، ولا يحالف إلا حين يتحقق أو يتوقَّع النصر لك، ولا يقاتل إلا حين يصبح في مأزق، فيمسي حينئذ شرسًا بطاشًا شجاعًا كهرَّة برية مطوقة. والبدوي على أروعه حين يحارب من أجل غنيمة، وشجاعته متأرجحة.

الدروز؟ إنهم شجعان، وهم قسمان: دروز حوران (الجبل)، ودروز الشوف، لبنان؛ فأما في النخوة والبأس فهم متساوون، غير أن الشوفيين متحضِّرون، فهم أشد طاعةً وانضباطًا، وليس في أكثرهم شهوة الكسب، وأما بنو جبل حوران ففيهم الكثير من صفات البداوة، وهم غير منضبطين. والدروز يكونون على أتمِّ بطولتهم حين يكونون جماعة سرايا؛ لأن الواحد إذ ذاك يحفز به إلى الأقدام أن رفقاءه سيتغنون به في المجالس، ويصده عن الجبن خشية من الخزي في عيون بني قومه إن نقلت عنه أنباء معيبة.

والدروز يكتسبون قوةً إضافيةً حين يكونون جمعًا؛ لأنهم أبدًا يفكرون بما سيُرْوَى عنهم في المجالس والمضافات. ولقد استعمل القاوقجي الدروز كقوة احتياطية يدفع بها إلى القتال في الأزمات. وكم من مرة قلبوا الهزيمة إلى نصر، وكان اندفاعهم في المعركة مُلْهِبًا لحماسة كل المقاتلين، وكانت الصعوبة الكبرى التي حلَّت به مع المقاتلين الدروز أنهم كانوا في المعركة يضجون من الانتظار، ويتوقون خوض المعمعة، لا يريدون أن يفهموا أن تريُّثَهم حتى الساعة الحاسمة هو أفعل في كسب القتال من اندفاعهم فيه منذ اللحظة الأولى.

وأية بيئة في بلادنا تنبت أصلح المقاتلين؟

يعتقد فوزي القاوقجي أن الشامي هو أفضل مجاهد، الشامي غير المثقف، والشامي — كما يحدده — هو ابن دمشق وقراها المجاورة؛ إنه شجاع رصين، ذكاؤه محدود، مرن في القتال، لا يطلب أجرًا، ولا ينتظر غنيمةً، يموِّل نفسه فيأتي بسلاحه وعتاده، وينفق من ماله إن استطاع، وهو مؤمن أنه إن استشهد فسيدخل الجنة.

ولكن الدمشقيين، وأبناء الغوطة — بعكس الدروز — تتراخى فاعليتهم إن كثر عددهم؛ فروح الفريق — سمِّها عصبية القبيلة — هي عند هؤلاء مفقودة، وهم إما تكاثروا ظهر بينهم المتزعمون وطالبو الوجاهة.

وسترى — في الجزء الثاني — كيف كان يستعين القاوقجي على محو الخلافات بينهم بالتحرش بالقوى الفرنسية؛ كي يشغل رجاله بالقتال عن الاقتتال.

الشركسي؟ شجاع. إنه يُحِسُّ أنه أقلية في بلاد لا يتحسَّس قوميته فيها بعد، فولاؤه لعشيرته يُعلِي شأنها بضروب البأس غير مبالٍ تحت أي عَلَم يقاتل، شرط أن يؤمِّن الثوب العسكري الذي يلبسه رزقه ومجد قومه.

سألته لماذا يستثني المثقفين من أبناء قومنا في تغنِّيه عن البطولات، وكيف يفسر أن المقاتلين من الغرب هم أشد بأسًا، مثقفين منهم وغير مثقفين؟

أجاب: إن الذين أصابوا العلم من مواطنينا هم مرفَّهُون ناعمون، يعتقدون أن المدارس منحتهم حصانة تُقصِيهم عن جبهات النضال، فهم يتسلَّمون بارودةً «لا يعطونها حقها»، إلا الذين تخرجوا من مدارس عسكرية، أو خدموا في الدرك، أو البوليس، غير أننا إن نظمنا أمورنا في المستقبل بحيث يحترم المثقفون العلم في دورة جبرية، أو يتدربون في المدارس ويتقشفون، فسيصبح المثقفون منا جنودًا أفضل من غير المثقفين كما هو الشأن في الغرب.

والحياة في نظره ساعتان: ساعة حب، وساعة حرب؛ في ساعة الحب يكون الرجل أنانيةً خالصةً، وهو يملك كل شيء، يحيا هذه الساعة لنفسه، لأثرته، ساطيًا متنعِّمًا، ناسيًا أن في الدنيا شيئًا سواه، وساعة الحرب هي ساعة العطاء؛ إذ يفنى الإنسان في نضاله القومي، ويصبح هو لا شيء، وأمته كل شيء.

هو يقول لك بشيء من التيه إنه يفهم المرأة، وإنها تُغويه ويُغويها، وإن قلبه لا يزال خفاقًا، وكذلك قلب سواه، وإن أنباء غماره في الغرام تستحقُّ كتابًا، غير أنني وقد تعرفت إلى «فرويد»، وإن أكن أنا لم أسئ فهم صوت القاوقجي المرتجف، وتلك الضحكة في أطراف عينيه، فأكبر ظني أن الحب عند هذا الجندي لو انتظم شعرًا لكان قصيدة من نزار قباني لا مقطوعة من مجنون ليلى.

في دفتر قديم قرأت له مذكرات فيها صبيانيات الغرام: «اليوم قبلت فلانةً فأحسست برعشة.» لقد تزوَّج فوزي مرارًا، وهو يعتقد أن البدوية هي أفضل نساء الدنيا، بدليل أن زوجها أبدًا يغادر البيت مكرهًا ويرجع إليه مشتاقًا. وأحب اللواتي تزوجهن كانت البدوية «عابدية» من بني ثقيف أم ابنته «سورية»، وكانت من الجمال «عيونها تخرق دبابةً»!

إن الذي يوغل في الحياة يتعود غرائب صدفها؛ لذلك لم أهتزَّ كثيرًا حين تعرفت إلى خط المرحوم بهاء الدين الطباع في مذكرات القاوقجي. كان بهاء الدين صديقًا لي حميمًا. لقد تصادقنا فتيين في بيروت طوال سنوات العشرين، وكان ثالثنا المرحوم نجيب الريس، حين يأتي بيروت من دمشق. وقد وثقت صلاتي ببهاء الدين أيام فيصل، وكان الصديق بهاء يطمح إلى أن يكون كاتبًا، وكان يحفظ الكثير من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية.

نصحته أن يكثر القراءة في كتاب «كليلة ودمنة»، وأهديته منه نسخةً. بعد ثلاثين سنةً، أقرأ مذكرات القاوقجي، فأتعرف إلى خط صديقي من جديد، وأرى أن قلم بهاء يزخر بألفاظ كليلة ودمنة، وبناء عباراته متأثر بابن المقفع، ولاحظت أن الدفتر الأول يبدأ «باسم الله الرحمن الرحيم»، وتكثر كلمة «الإسلام» في عباراته، وإني أذكر أن بهاء الدين الطباع كان شديد الحماسة لإسلاميته. غير أن أحاديث القاوقجي كانت خلوًا من «الإسلام»، وليس في بحوثه أثر للتقوى، كما شاعت التقوى.

سألته: «هل يهزك الإسلام؟»

أجاب من غير تردد: «إن الإسلام يهزني، ويوحي إليَّ، غير أني أعتقد أن الدين يجب أن ينحصر في مكانين: الضمير والمسجد. أما أن يكون لأحد منا شأن في حياتنا المدنية بسبب أنه تخرَّج من الأزهر، أو أنه يلبس عمةً، أو يطلق لحيةً، فهذا شيء غير معقول.»

إن علينا أن نبني الدولة ذات الحضارة والقوة والمكانة. لا بأس أن تتوثَّق علاقاتها الخارجية بأية دولة سواها، ولا بأس إن عبأنا في جملة ما نعبِّئ أي شيء يجمعنا مع غير الدول من إسلامية ومسيحية.

إنه يؤمن بالله وبالدين، ولكن الدين هو شيء «شخصي بين المخلوق وخالقه».

ولقد أدهشني من جليسي تألق عبارات تسري على لسانه لعله التقطها من رجاله، وهم من كل السويات، ومن مختلف بيئات بلادنا. هذه مساطر من أقواله: متى سحق أعداء «عجنت بواريدهم» حين هزم كلوب باشا، وجرحه صار كلوب «مهزوم مكلوم». حين يهدد بدويًّا، ويقول له: «أبول بحلقك.» في الميدان «يتساوى البصل والخروف المحشي.» والخطط السرية هي دائمًا «شيء في الرأس»، وحين ترك عمان، وجاء إلى أراضي الجمهورية السورية ليقاتل الفرنسيين سأله مودعوه: «هل سترسل لنا أنباءك؟» أجاب: «أخبارنا تسمعونها من بلاغات الجيش الفرنسي.» والطموح من أحد رجال السياسة «إنه يوقد ناري ليهيئ طبخة زعامة.» وعلى القائد أن «يزرق» إيمانه في عروق رجاله، وفلان «أجبن من فارة.» و«المرأة كالرجل الجبان إن استبدَّ بك تغطرس وظلم، وإن قويت عليه خضع وخنع.» وهو حين يناقش شكري القوتلي في دمشق يقول: «إن لي رأسمالًا في هذا العلم.» وحين تسلَّل من العراق إلى فلسطين عبر الأردن بمئات المقاتلين، وعشرات السيارات، وبرغم طائرات كلوب وهجانته، وجواسيسه وكشافته: «مررت بين أصابع كلوب باشا.» ثم هو يعري كلوب باشا من عقاله، ولباسه البدوي، ولسانه العربي، ويرده بريطانيا بلفظة واحدة «مستر» غلوب.

ولا ريب أن معاشرته الطويلة للبدو قد أغنت ثروته اللفظية، وأطلقت لسانه بالبليغ وبالفصيح، حين عاش في مكة كان له عبد سمين منقش الوجه بالجدري، وكانت زوجة فوزي البدوية تتطيَّر من رؤيته، وقد زعقت ذات يوم «هالوجيه» (هذا الوجه الصغير) اللي شنه (الذي كأنه) روث منقرة (نقره) غراب.

ومن الأغاني التي يحفظها أحدوة كان بدو العراق يحدونها سنة ١٩٢٢ إذ ثاروا على الإنكليز:

«بيع أمك (والأم أقدس المخلوقات عند البدوي)، واشر الألماني (اشتَرِ البارودة الألمانية)، وعدن (احسب كل شيء) أشقر (أجنبي) قوماني (عدوًّا).»

بيع أمك، واشر الألماني، وعدن كل أشقر قوماني.

ومن اختباراته مع البدو أنه استبقى أحدهم معه في بغداد، واسمه «تويني»، أخو فايز المثقال شيخ بني صخر، وقد برم هذا بعيشة الحضر في بغداد فشكا أمره إلى القاوقجي، فسأله هذا ما يبغي؟ أجاب: «قطيعًا أرعاه.» فاشترى له تسعة رءوس غنم، وراح التويني يرفه عن نفسه ويشغلها برعي هذا القطيع في جوار بغداد. ويومًا دعا المضيف ضيفه لحضور حفلة سينما في بغداد، وكان الفيلم مزدوجًا «ميكي موس» والصورة الشهيرة «لا جديد في الجبهة الغربية»، فلما انصرفوا من قاعة العرض سألوا التويني رأيه في الذي رأى، فأجاب أنه لم يفهم من «ميكي موس» شيئًا، وما رأيك في «لا جديد في الجبهة الغربية»؟

أجاب البدوي: «ذبح، وقلة ربح.» وقد يكون هذا العنوان أصلح للرواية من: All Quiet on the Western Front.

وسئل التويني رأيه في أحد السعوديين، وهو ذو سلطة عظمى، ومسئولية أكبر من هامة أجاب: «لعينيك ونا برضى.» أي إن نجدته تقتصر على صياحه «لعينيك»، ولكنه لا يبرح مكانه. وسئل رأيه في زميل للرجل الأول أجاب: «لا يدفع ظليمةً ولا يجلب غنيمةً.»

ومن البدو «افتهم» كيف يستغل الدعاية؛ إذ إنه وجد بعد أن وصل إلى العراق، واشتعلت الحرب العالمية الأولى، أن الإنكليز هيَّجوا القبائل على الأتراك بترويج أسطورة بينهم بأن العرب والبريطانيين كانوا فيما مضى فخذين من قبيلة واحدة، غزاهم الأتراك، فهجر فخذ إلى ما وراء البحار، وصار اسمهم بريطانيا، وبقي سائرهم في العراق بدوًا مستعبدين. والآن في الحرب الأولى يعود الإنكليز ليحرروا إخوانهم من نير العدو الذي استعبد قبيلًا ورحل عنه قبيل.

رجعت من «الأزرق» في شرق الأردن ومعي نحو من خمسين فارسًا أكثرهم دروز، وكنت أرمي إلى أن أجعل من هذه القوة الصغيرة نواةً لثورة ضد الفرنسيين. كان ذلك في خريف سنة ١٩٣٦ والأمطار شديدة، وليس معنا مئونة ولا عشب حولنا تقتات به خيولنا، فصار من اللازم أن نلجأ إلى مكان ما، خصوصًا بعد أن راح رفقائي يذكروني بأنهم إن قدروا أن يصبروا على الجوع، فالخيول لا تصبر؛ لذلك قررت أن أتجه إلى أراضي «الصفا» شرقي جبل الدروز، حيث ضربت خيامها قبائل «الغياث»، وهم أشداء ذوو بأس، وكان بيني وبين شيخها «خلف النعير» معرفة قديمة، وقد ساهم معي قبل ذلك في بعض المعارك.

غير أنني أدركت قبل أن أصل إلى خيمة الشيخ أن البدوي لا ينهض إلى القتال معنا إلا إذا وثق من قدرتنا على النصر، ووضح له من حقائق القوة أن الانضمام إلينا فيه له ربح وضمانة، وما كنت لأنخدع بعبارات المجاملة التي يغدقها البدوي على ضيفه، ولا بالعواطف الجياشة يرسلها كلمات فصيحةً حارةً، فالخمسون خيالًا لا يُوحُون بالثقة لقتال دولة فرنسا. ولم أكن أملك مالًا أوحي به ﻟ «خلف النعير» ليستنفر قبائله، ونحن وخيولنا في ذلك الفصل ضيوف ثقلاء على جماعة من البدو قد يكونون هم في حاجة إلى الغذاء والكلأ، فلجأت إلى الحيلة بعد أن تفاهمت ورجالي على العمل.

فلما كان اليوم الثاني لنزولنا ضيوفًا على خلف النعير، رحت أتحدث إلى المشايخ عن الترتيبات الهائلة التي نعدها لقتال الفرنسيين، وكيف أن الخيرات ستأتينا بالقناطير مع المعدات والعتاد والأموال، ثم رحت أتطلع برؤساء حملتي فأخاطب أحدهم مثلًا: «أما أنت يا فلان، فاذهب إلى المنطقة الفلانية، وارجع بمئتي مقاتل، وخذ معك تسعة فرسان.» وهكذا انصرف رفقائي كلهم إلى ضياعهم، ولم يبقَ معي إلا خمسة دروز من عائلة النبواني، وبقي معي الدكتور أمين رويحة، واثنان من الشام. وخلت أنني بهذا خففت حمل الضيافة عن البدو، وأوهمتهم أن رسل الاستنفار ساروا إلى التعبئة على أن يرجعوا إلينا بعد شهر ونصف. وأصبح همي أن أقوم بعمل ما أشرك فيه القبيلة أو بعضها حتى تهب الثورة التي كنت أريد إشعالها، فطفقت أقول إنني أريد أن أهاجم الفرنسيين، ودعوت البدو للاشتراك معي، فتلكئوا منتحلين ألف عذر، مرجئين مساهمتهم إلى يوم مقبل، متمنين لي النجاح والسلامة في كل ما أعمل. وظل الأمر كذلك ونحن راكدون، ورسلي لم ترجع بعد، والحياة بين البدو أحاديث ومجاملات، وهم لا ينهضون إلى نصرتنا، إلى أن كان يوم ٢٤ كانون الأول، فرجعت أحاول أن أحرك نخوتهم للمرة الأخيرة، وللمرة الأخيرة لم أظفر منهم إلا بالأدعية والكلمات المعسولة؛ فخرجت من مضاربهم بسبعة فرسان؛ خمسة منهم دروز من آل النبواني، وفارس شامي نسيت اسمه، والسابع الدكتور أمين رويحة.

وتوجهنا نحو دمشق من غير أن أُطلِع رفقائي على ما عزمت إليه حتى بعد النهار، وقد ابتعدنا عن «الصفا»، فأخذت أخاطبهم: «ها نحن في هذه القطعة من بلادنا، وقد كانت بالأمس ميدانًا وجبهة قتال، ولكن شهورًا كثيرةً مضت لم تسمع خلالها طلقة واحدة. الليلة هي ليلة عيد الميلاد، والفرنسيون سيحيونها ليلةً مخمورةً صاخبةً، والمجاهدون من السوريين سيرجعون إلى دفء بيوتهم، والشعب قد يئس من الكفاح مع المستعمر، نحن حفنة رجال، ولكننا في هذه الوحدة، وفي هذه الليلة سنكون أبطال هذه الأمة، يجب أن نعكِّر على الفرنسيين أفراحهم، ونفيقهم من سكرة النصر، ونوقد الحماسة في صدور مواطنينا، هذا اليوم …»

وقطع عليَّ خطبتي أحد الفرسان، واسمه هايل النبواني، بقوله: «أتريد أن ترسلنا إلى القتال أم أنك مرافقنا؟»

أجبت: «بالطبع أنا معكم.»

فقال هايل: «إذن لِمَ طول الحديث؟ لا عقلنا أكبر من عقلك، ولا أرواحنا أعز من روحك.» فأغناني هذا الجواب عن المقدمات والفلسفات التي كنت قد أعددتها، وانحرفنا عن الطريق إلى أجمة دفنا فيها أوراقنا وأغراضنا التي تحمل علامات فارقةً، وكوَّمنا فوق الحفرة ركامًا من حجارة، وتعاهدنا على أن يعود إلى ذلك المكان من منا بقي حيًّا فيسترد ما دفناه، ويسلِّمه إلى عائلاتنا. وقمنا بهذا العمل بين النخوات والأهازيج، ثم شددنا على الخيول متأهِّبين للقتال، وسرنا وأناشيدنا نفير قتال، ونحن في طرب ونشوة ما عرفت لهما مثيلًا، وصرت أسمع لوقع حوافر الخيل موسيقى تواكب الغزاة الفاتحين.

ودخلنا في المساء قرية في الغوطة أظن اسمها «جوبر»، فرأينا فلاحين يشتغلون في الليل على ضوء سراج، وكنت أعلم أن الفرنسيين قد أقاموا في كل قرية حاميةً من مسلحين، فرحت أتكلَّم بالفرنسية لحضرة القومندان، وكان معلقًا فوق زناره من الأمام خنجرًا شأن الشراكسة، وسألت عن فوزي «فوزي القاوقجي»، فحلف الفلاحون أنهم لا يعرفون أين هو، وأنه لم يأت إلى الغوطة منذ زمن بعيد، فأرسلتهم في طلب الحرس، فجاءني بعضهم، ورحت أوبِّخهم — كل هذا باللغة الفرنسية والدكتور رويحة يترجم — وأعنِّفهم على تراخيهم وغفلتهم صائحًا زاعقًا مهددًا مصرًّا عليهم أن يخبروني عن فوزي، فكانوا يجيبون بأنهم لا يعرفون أين هو، ولعله في الأزرق، والأرجح أنه مات، فأخذت منهم أسلحتهم، وأهنتهم، وفرضت عليهم غرامة مائة ليرة ذهبية على أن يأتوا بها في اليوم الثاني، ويجتمعوا بي عند المستشار الفرنسي في «دوما» حيث تجري محاكمتهم.

واستأنفنا السير حتى وصلنا إلى قرية «يرزا»، وأطلقنا بواريدنا صوب دمشق حتى «نثبت وجودنا»، ونخلق ذعرًا، ثم انتقلنا إلى جسر «طورا»، وفتحنا على دمشق نارًا قويةً، وأسرعنا إلى معمل الزجاج في دمشق نفسها، وأمطرناه رصاصًا هطالًا، وتعالى صياحنا وهزيجنا؛ فقامت القيامة في المدينة، واستنفروا الجيش، وعلا صفير الخطر، وتراكضت المصفحات والسيارات؛ فانسحبنا فرحين، وكان المرج تحت الماء والفيضانات تملأ السهول، ووجدنا حقلًا مزروعًا بالملفوف فأكلنا وأطعمنا خيولنا، وصابحنا الفجر عبر المرج، وسرنا فنظرنا طائرات الفرنسيين تحوم فوق ضياع الغوطة مستكشفةً؛ فشعرنا بلذة غريبة، واستمر سيرنا حتى رجعنا إلى الركام حيث دفنا أوراقنا، فاسترحنا هناك، ثم نبشنا الحفرة واستعدنا أوراقنا وكلنا أحياء ليس في جسد أحدنا خدش.

وتمهلنا بالعودة إلى مضارب البدو متخفِّين حتى كان رجوعنا إليهم في عصاري اليوم الثالث من مغادرتنا، فأعجَبَنَا أن أنباء مغامرتنا قد سبقتنا مضخَّمَةً منفوخةً بالغلو والأكاذيب، فتوهَّموا أننا نسفنا الجسور، وهاجمنا مخافر المدينة، وقتلنا بعض قادة الحامية الفرنسية، وبالطبع لم أَفُهْ أنا بكلمة تنزع هذه الأوهام من مخيلتهم؛ إذ إن بعض الغاية من تلك الغزوة كانت أن أترسمل أمام البدو بعمل ينهض بهم إلى الثورة. وخلال السهرة جاء البدو فملئوا الخيمة الكبرى يتوسَّطها الشيخ خلف النعير وشيوخ القبيلة، وبعض رجالها يكيلون لنا المديح، ويتغنون بأساطير ما حسبوا أننا فعلنا. وكان أحد الرعيان جالسًا في طرف الجمهور يجهش بالبكاء قلقًا متوترًا يتململ يريد الكلام، وهو يتطلع إليَّ ودموعه تذرف، ويكثر الإشارات نحوي، وكلما همَّ بالنطق ينتهره الشيخ، ولما طال الأمر قلت للشيخ خلف النعير اتركه يتكلم، أخاله يريد أن يوجه إليَّ كلامًا، وكنت في السر أتوقع أنه ثارت به النخوة فهو متطوع للانضمام إلينا، وقد يأتي تطوعه شرارةً تشعل الحماسة في سائر أفراد القبيلة؛ لذلك أصررت على الشيخ أن يأذن له، فسمح له الشيخ بقوله: «احشي لعين أبوك.» (تكلم لعن الله أباك) فانفجر الراعي بالتفجع يقول لي: «والله إني أحبك، أحبك أحبك.» سألت: «ليش؟» أجاب: «والله كان عندي قعود — جمل أشكح أشقر — والله يشبهك، والله مات، وأنا كلما شفتك تتكلم أتذكر القعود وأبكي.»

فندمت على توسطي للسماح له بالكلام.

وشعرت أن أسهمي ارتفعت، وأحسست أن حب القتال بدأ يتوثب بين أولئك البدو. وفي اليوم الثاني أذعت أنني سأغزو قافلة السيارات التي تسير بين دمشق وبغداد، فنفر إلى مرافقتي خمسة وعشرون من شيوخ القبيلة.

فتأهَّبنا وركبنا، واخترت مكانًا خبأت فيه خيولنا، ثم ابتعدنا فرابطنا حوالي الطريق منتظرين القافلة، وجاءت القافلة سيارات «نرن» تتقدمها مصفحة، فتركتها تستمر في السير، وتركت سيارةً ثانيةً تفلت خلفها، وأوقفنا السيارات الباقية، وكنت أعلم أن مصفحةً مسلحةً ثانيةً تأتي في مؤخرة القافلة، فصحت بسائق إحدى السيارات أن ينطلق نحو الجنوب، وكانت القافلة تسير شرقًا بغرب، وهددت السائق أنه إن لم يسرع فيجنح نحو الجنوب حيث أشرت فهو قتيل، فدار السائق مذعورًا، وانطلق بالسيارة جنوبًا؛ فرأت المصفحة في المؤخرة السيارة هاربةً فتبعتها متوهمةً أنها السيارة التي أغارت على القافلة، هكذا بقي سائر القافلة بين أيدينا غنيمةً غير باردة. ووقفنا على البريد السياسي من البعثة العسكرية في الشام إلى السفير الفرنسي في بغداد يطلبون منه أن يتدخل مع السلطات البريطانية في العراق لتسليمهم الدكتور عبد الرحمن شهبندر، وكان فيها لاجئًا سياسيًّا، ووزعنا حمولة السيارات، وكانت حرائر صنع دمشق مختلفة الألوان، وقنابيز، وعباءات، وأذكر أن كل فارس أصابته عشرون قطعةً. أما أنا والدكتور أمين رويحة فقد احتفظنا بقطعتين من الحرير المقلم على أن نخيطها بيجامتين، وأمرنا السواقين فدخلوا بالسيارات في أرض «الحراء»، وهي أرض بركانية، وتركوها هناك، ورجعنا إلى الخيول فامتطيناها، وقفلنا نحو خيام «الغياث»، فلما أقبلنا في ضحى اليوم الثاني والفرسان يلبسون الحرائر الزرقاء والخضراء والحمراء والعباءات على السروج كأننا في تلك البادية موكب من ربيع.

وحين أطللنا على المضارب تكهربت القبيلة، وجنت، وهاجت من مرأى المكاسب، فخلت أن الحرائر الملونة أصبحت أعلام الثورة التي كان كل همي أن تعصف زوبعة قتال في الغوطة وأطراف دمشق.

عفوك! فقد نسيت أن أذكر أنني تركت في مكان حادثة القافلة رقعةً كتبت عليها بخط كبير إن على كل شركة سفريات تريد أن تؤمن سلامة سياراتها عليها أن تأخذ إذنًا من قائد الثورة فوزي القاوقجي، فإن فرنسا أعجز من أن تحمي سيارةً أو مسافرًا.

وفي اليوم الثاني جاء البدو يحرضونني على غزوة جديدة، ولكنني كنت أهدف إلى ثورة، فاقترحت أن نزحف إلى ضياع الغوطة، فعادوا يتلكئون ويعتذرون، وأخيرًا صارحني خلف النعير بأنه يريد مؤنًا وكساءً قبل أن يتحرك، فعمدت — كالعادة — إلى حيلة، وكان معي رفيق من طرابلس اسمه عادل الحامدي (هو موظف في بلدية طرابلس اليوم)، فناديت عليه، فأقبل وبيده دفتر كبير عديد الصفحات، قلت: «ما تبغي يا خلف؟» أجاب: «والله عقال … والله دراعية … فروة …» قلت: «انتهيت؟» أجاب: «والله أختك (يعني زوجته) أريد لها …» وهنا كرَّ بطلبية لأختي؛ زوجته «وغيره يا خلف؟» «والله هايش — هكذا — يريد البيت شاي، ثمن — رز — طحين …» ولما فرغنا من قائمة الشيخ خلف، أقبل شيخ آخر … شيخ وراء شيخ، وأختك وراء أختك، وبيت وراء بيت، حتى عبأنا الدفتر الكبير … فقلت لعادل: «اكتب يا عادل على قفا الدفتر.» فكتب: «إلى أول وطني حر في حي الميدان، دمشق: إخوانكم المجاهدون في حاجة إلى هذه الأغراض المدونة في هذا الدفتر، وهم واثقون من أن مروءتكم ستحفز بكم إلى إرسال هذه الحاجيات. أخوكم فوزي القاوقجي قائد الثورة.»

وحمل الرسل الدفتر، وركبوا الأباعر قاصدين إلى دمشق، حاسبين أنهم يعودون بها محملةً، ورحت أنا أضحك بسري من هذه الخديعة، ولكن البدو كانوا ألعن مني، فلما ندبتهم إلى التجند، ومهاجمة الغوطة ما تحركوا، بل قبعوا ينتظرون رجوع القافلة، وخلال هذا كان المقاتلون الذين جاءوا معي من الأردن قد بدءوا يعودون إلينا من قراهم، ومعهم رفقاء من فرسان ومشاة حتى صرنا أكثر من مائة مجاهد، فرحنا نباغت المخافر في الغوطة، ونصادم القوات الفرنسية فنبطش بالصغيرة منها، ونتجنب الاشتباك مع الكبيرة، وفي كل مرة بعد المعارك نعود إلى «الصفا» للتخفي والاستراحة، فيلقانا البدو بحماسة ودهشة، ولكنهم لا يتحركون للقتال.

حتى كان صباح فسمعت صياحًا ومن يقول: «عادت الأباعر.» فهلعت من انكشاف الفضيحة، وصرخ خلف النعير بفارس أن يذهب ليتأكد إن كانت محملةً أو غير محملة، وهممت أنا بالخروج مع رجالي للهرب متظاهرًا بأننا مغيرون في غزوة، ولكن الفارس عاد يقول إن الجمال محملة، فسُرِّي عني إذ تأكدت أنها غير الأباعر التي أرسلناها. أما خلف النعير فحين سمع أن القافلة عادت محملةً أصابته رجفة من نشوة ما سيأتيه من مختلف الكسوة والمآكل، ووصلت الجمال والرسل فإذا هي القافلة التي أرسلناها وفيها كل ما طلبنا إلا بعض أغراض ناقصة، قرر الشيخ خلف أن الرسل سرقوها فحمى سيخ البارودة، وراح يكوي فيه الرسل حتى اعترفوا أنهم مدوا بأيديهم إلى بعض الحمولة في الطريق.

وإني حتى هذا اليوم لا أدري من هو «الوطني الحر»، أو الوطنيون الأحرار في حي الميدان في دمشق الذين لبوا طلبنا، وحملوا الجمال بتلك الثروة، فاستحال ما خططته من خديعة إلى حادثة مروءة ستخلد في تاريخنا القومي.

روى لي محدثي هذه القصة بحضور نسيب له، وهو من مرافقي القاوقجي في بعض ثوراته، فعقب نسيبه على هذه القصة بقوله: «قد يهمك أن تعرف ماذا حل بهؤلاء الفتيان من عائلة النبواني. لقد استشهدوا كلهم في ثورة جبل الزاوية. وفي سنة ١٩٣٦ كنا في معارك فلسطين، إذ أقبل علينا فتًى هادئ، زري الثياب، خجول، يحمل عصًا نزع من أسفلها رسالةً مخبأةً ناولها إلى القائد قاوقجي، فإذا هي كتاب يوجهه إلى القائد أحد المشايخ النبواني يقول به: «يا عتبي عليك يا فوزي، إن عائلة النبواني التي استُشهِد خمسة من فتيانها تحت قيادتكم، لم تكتسب بهذا حقَّ المساهمة بالجهاد اليوم؟ فلماذا لم تعطونا خبرًا حين بدأتم هذه الثورة الجديدة؟ إن حامل هذه الرسالة هو ولدنا سليم الريس من عالية، وإني أستحلفكم بدماء أولادنا الشهداء أن تُفسِحوا له مجال النضال المسلح.» أعطينا سليم الريس بارودةً وعتادًا، وراح يشترك في القتال بضراوة، ولكنه عاش بيننا في عزلة، فإن لم يدع للطعام لا يأكل، وإن لم يقدم له سكاير لا يدخن، وكان كثير التغيب عنا، حتى كان يوم جمعنا فيه مخاتير بعض القرى للتداول في أمر، فأدهشني أن هؤلاء المخاتير راحوا يسلمون على سليم الريس بحرارة وإعجاب، فسألتهم: «ما الخبر؟» أجابوا: «إن سليمًا هذا كان يشتغل حارسًا في إحدى المستعمرات اليهودية، وإن سبب تغيُّبه عنا أنه كان يتسلَّل إلى بعض هذه المستعمرات وحيدًا، فيقوم بأعمال النسف والقتل والتخريب.»

وجاءت معركة «بيت مرين» الكبرى؛ إذ طوقنا الجيش البريطاني في دائرة ١٧ كيلومترًا، وكان الجنرال «دل» يراقب القتال من على طائرته المحلقة فوقنا، وفيما المعركة على أشدها ونحن نصد الإنكليز عن قلب جيش الثوار، جاءت امرأة من قرية مجاورة تزعق صيحة النجدة والنخوة «نشامة … نشامة عسكر غرب البلدة بين الزيتون … اذبحوها … وين راحت النشامة؟» وسمع سليم الريس الصيحة فزغرد، ثم هجم نحو غابة الزيتون، وعقاله في فمه، وكان في القرية مرضى وجرحى من المجاهدين — شاميين وعراقيين — فلما رأوا سليم الريس راكضًا ثاروا، وتبعه من قدر منهم، وثار معه رجال القرية وبعض نسائها، وهاجموا القوة البريطانية فهرب العسكر، وركب أكثرهم المصفحات، وارتدوا إلى الطريق العامة منهزمين، والتجأت منهم شرذمة إلى قرية «سباسطيا»، ورجع سليم الريس — وكان الوقت مساءً — مزهوًّا، وسيكارته في فمه، فرأى بصيص السيكارة جنود سباسطيا فأطلقوا عليه الرصاص وأصابوه في رأسه فاستشهد، ودفناه في دسكرة اسمها «ناقوري» قرب نابلس. وكانت هزيمة القوة من غابة الزيتون سبب فك طوق الحصار عنا في أكبر معارك سنة ١٩٣٦ وأشدها خطورةً.

ولقد عتب عليَّ فوزي القاوقجي، غير الشيخ النبواني، دمشقي اسمه الشيخ محمد فوزي صوري، صاحب دكان صغير أقفله سنة ١٩٢٥، والتحق بالثورة حتى نهايتها سنة ١٩٢٧، وكانت السلطات الفرنسية تلاحقه، فالتجأ إلى «إربد» في الأردن، وفتح فيها حانوتًا صغيرًا. ولما نشبت ثورة ١٩٣٦ جاء يعاتب فوزي، وانضم إلى قواته، فاستشهد في معركة بين الدبابات، وكان أن جمع الحاج أديب خير في دمشق مبلغًا محترمًا من المال لتوزيعه على عائلات الشهداء، وتوجه رسول إلى «إربد» فإذا بأرملة محمد صوري تدير دكان زوجها، وكل ما فيه من بضائع لا يملأ كيس شحاذ، وإذا في جانب الدكان ولدها الكسيح، فناولها الرسول عشرين جنيهًا، فأجابت الأرملة: «نحن لا نبيع رجالنا بالمال، زوجي اشترى الجنة بدمه، أنا لا أشوه الجنة بدراهم، أنتم جمعتم المال لتشتروا خرطوشًا تقتلون الإنكليز واليهود، لا صدقة توزعونها على أمثالي.» ورفضت الإعانة.

ذكرت هذه النوادر للتدليل على أن بعض عناصر الثقافة والفصاحة في القائد قاوقجي استلها من البدو والبداوة، وكذلك من عاديي المواطنين.

ولم أجد في كل من عرفت شخصًا له موسيقية الإشارات كما هي في القاوقجي. لو لم يكن عسكريًّا لصح أن يكون «ماسترو» يقود سمفوني، فحركات يديه وذراعيه متواقعة مع الحديث لا يسرف منها ولا يحبسها، فهو حين يقول لك بلسانه وقبضة يده مندفعة إلى الأرض «جاءني رسول الفرنسويين «فيشي»، وهم حينئذ «أذلاء»، رأيت الفيشيين ركعًا على الأرض يتوسلون، أو بسط يمينه مبعدًا ذراعه عن جسده: «وتمزقت الإمبراطورية العثمانية، تتطاير أجزاؤها أمام عينيك، فطرابلس الغرب تهوي إلى حضن إيطاليا، والبلقان تنشق شظايا من دول. ولكن أجمل إشاراته حين يرفع يديه محاذيةً رأسه، ويدفعها بعينيه، «ومشينا» في تلك اللمحة ترى في يد هذا القاعد بالشورت عصا مرشال يجب أن تكون هناك في قبضته.

ما أنا برجل عسكري، وكل القتال الذي قمت به كان نضالًا غير متكافئ بين طائرات تحوم فوق رأسي، وترمي بالقنابل على مختلف الأبعاد من ملجأ كمنت فيه، وكل الجيوش التي رافقتها لم تتلقَّ مني من الضربات البكر إلا شتائم باللغة العربية كنت أهمس بها حين يبتعد عني سجاني الياباني. ولكني تحققت من أحاديث فوزي القاوقجي ما يجب أن أسجِّله كي يصبح نذيرًا إن رجع هذا المحارب إلى الميدان، وقد يصلح هذا التعليق أن ينبه ناقدًا عسكريًّا يبغي أن يبحث كفاح هذا الرجل من وجهة تقنية صرفة.

يخيل إليَّ أن القاوقجي لا يُقِيم وزنًا للآلة، وأن الهيجاء في نظره هي عبارة عن مقاتلين وقائد يفولذهم إيمان. إني استمعت إليه وتحدثت إلى بعض رجاله. هو في الميدان وقبل المعركة يعد لها، ويأخذ جميع التأهبات: البواريد، الخرطوش، المؤن، كل شيء. ولكني في نقاشي معه شعرت بأنه يكاد يحتقر الآلة، فلا المصفحات، ولا الدبابات، حتى ولا الطائرات تشغل من سرده وأفكاره وخططه ما يجب أن تشغله. لسواي أن يحقق في هذا وأن يصدر حكمه، غير أنه في القراءة الأخيرة لهذه المذكرات انتفض صاحب المذكرات، وأوضح رأيه في الموضوع معلقًا على كلامي: «أنا لا أحتقر الآلة، ولكن الآلة — بيد الجبان — جبانة. والشرط الأول للظفر هو روحية المقاتل. في معاركنا استولينا ببنادقنا على المدافع، وبها أسقطنا طائرات. في معركة «الرمية»، كان سلاحنا السيوف والبواريد؛ فغنِمنا المصفحات والدبابات. في جبل الدروز والغوطة سيطرت النخوة على كل معدات العدو وآلياته.

وفي معارك سنة ١٩٤٨ كانت آليات «جيش الإنقاذ» بغالًا حين دخلنا فلسطين، وانتهى الأمر إلى يوم اغتصبنا من آليات العدو الكثير بينها ٤٢ دبابة، ثم إني أحسب في حروبنا المقبلة سيكون غزاة بلادنا أبدًا متفوقين علينا بالمعدات، وليس لنا إلا أن نبحث عما في أمتنا من بطولة أصيلة.

أولى مغامراته أثارها حافز تودد إلى امرأة أراد أن يغزو قلبها بشجاعته، ترى أتسكن قلب هذا الرجل جنية ترغمه أبدًا إلى الغمار من أجل إرضائها؟! إذن فهل كانت ثوراته والدماء التي أريقت نزوات فروسية لا معنى لها ولا مبرر؟

قد نستطيع الجواب على هذا حين نستكمل السيرة، لا في هذا الجزء الأول، بل في الأجزاء المقبلة.

هذا الإيمان العميق ببني قومه، أكان في القاوقجي مدًّا مستمرًّا أم مدًّا وجزرًا؟

هو يعترف بريبة سطت عليه خلال خسفة عاطفية أصيب بها سنة ١٩٢٢.

كان إذ ذاك في حماة، ضابطًا في الجيش الفرنسي والشعب في ركدته، ومظاهر الخضوع في طبقاته، حتى إن بعض رجال الدين كانوا يأتون إلى الفرنسيين، ويفسرون لهم القرآن الكريم على أنه نبوة بظهور الفرنسيين منقذين للإسلام. أدار القاوقجي نظره فإذا بتركيا دولة تتقاوى وعلى رأسها جندي اسمه مصطفى كمال تصدى لقتال دولة ببقايا جيش مهزوم، فثار لفراع جيوش لم يعد جنودها. من هي تركيا؟ إنها أمة، أين هي من أمتنا؟! والجندي التركي أين هو من جندينا؟ ومصطفى كمال زملاؤه الأتراك تخرَّجوا من المدرسة التي تخرجت وبعض مواطنيَّ منها، وحاربوا في صفوف الجيش، وحاربنا نحن فيه. أنا الذي أنقذته، ولم يكن هو الذي أنقذني، كيف تصبح تركيا دولة ذات شأن فتطرد العدو من أراضيها، وتتصدَّر المجالس في المؤتمرات، وتكنس بضربة واحدة عناكب الرجعية، ونحن هنا في بلادنا مستعبدون، أهمنا شأنًا أكثرنا طواعيةً للمستعمر؟ أحقًّا أنني أفهم أبناء قومي وتاريخ أمتي؟ أنا مخطئ ولا شك، روح الصراع تلاشت فيهم. كانوا في الزمن البعيد أبطالًا، وجاءت حقبة فتحت فجوةً بينهم وبين النضال، فانظر إلينا! عبيد تكدح من أجل العيش لا إباء ولا طموح ولا جرأة. التاريخ علاك، شهور مرت عليه والحزن والريبة واليأس ملء قلبه، وجاءت أنباء ثورة في جبال العلويين، ثورة في جبل الزاوية، وفي دير الزور، ثورة في جبل الدروز، إذن فالحياة هي أبدًا تنبض في بني قومي وتفور.

أنا الأعمى الذي لا يراها، أنا الملحد الكافر. سألته لماذا لم يلتحق بالقوى العربية البريطانية في ثورة الشريف حسين على الأتراك. لقد أجاب على هذا بمذكراته، وشرح لي أنه استبق الحوادث، فأدرك أن البريطانيين كانوا على أن يمزقوا بلادنا ويستعمروها، وأنه كان أسلم لنا أن نبقى تحت حكم الأتراك وحدةً من أن يستعمر البريطانيون نتفًا من بلاد، وقطعًا من أمة تسمِّي نفسها دولًا. وهو كذلك يقول إنه رأى في ذلك الحين أن تصفية أمورنا مع الأتراك إن استمروا مستعمرين كان أهون من تصفيتها مع الإنكليز، وليس لي أن أتثبَّت من هذا الرأي، أَنَشَأَ خلال الحرب الأولى أم بعدها بسنوات. أريد أن أزيد على هذا الإيضاح أن شرفه كجندي، وروح الولاء للفريق الذي يقاتل فيه، وعنفوانه العسكري قد تكون بعض الأسباب التي منعته من نقل ولائه إلى المعسكر الذي يقاتله.

بالرغم أنه اجتمع إلى الكثيرين من رجالات الدنيا: بيرون، مصطفى كمال، عصمت أينونو، فيصل الأول، نوري السعيد، الأمير عبد الكريم، الملك سعود، كان يلفظ أسماءهم كما يلفظ أي اسم آخر، لا خشوع ولا استخفاف، غير أنه مرةً واحدةً حين جاء على اسم «فون لايزر» قال: كنت بمعية الجنرال فان ليزر. لعل في نفسه بقية من خشوع لشيء اسمه ألماني، وفون ليزر هذا كان قريبًا للعائلة المالكة القيصرية «هوهنز لرن»، وقد أرسل إلى الجبهة مرفقًا بأمر جرماني عسكري سري: «يجب أن لا يموت.»

لا أعلم في تاريخنا الحديث والمعاصر كتابًا ظهر، له أهمية هذه المذكرات. وليس الغرض منها تمجيد شخص من واجبنا القومي تقديره إن لم يكن لأي سبب آخر إلا لأن احترامه والتفاخر به هو واجب علينا اكتسبه بدمه، ولا تكون الغاية الرئيسية من سرد حوادث حياة هذا الجندي أن نستعيد الثقة بأمة لا يقوى أن يحجب الثقة عنها أي من فهم تاريخها، وتعرف معرفةً صحيحةً حميمةً حتى إلى حاضرها. بل قد يكون أهمُّ ما في هذه المذكرات أنها بما ترجعنا إلى ماضٍ، وبما تُقصِينا عن غابة مشاكل حاضرة عابرة، وبما تسمو بنا إلى فترات صراع بهية؛ أنها فيما هي تفعل كل هذا توفر أمام أعيننا النظرة الشاملة التي فقدناها، فتبسط أمامنا بلادنا بقضيتها الموحدة؛ إذ إن أكثرنا — وأخصنا من هم دون الأربعين — ما استفاقوا إلا على حطام من وطن سموها دولًا، فأصبحوا في كثرتهم الغالبة إما منشغلين بما يهمهم في هذا الأفق الذي ضاق، وراح الآخرون — في خيبة الحاضر — يحلمون بمستقبل غير عاملين له، بالوطن الذي ما كان ولن يكون.

وهذا الحاضر الكدر الذي نحن نتخبَّط فيه سوف ننفذ من ظلمته إلى ضياء المستقبل الذي تبصره النخبة منا، أولئك الذين لم تألف عيونهم العتمة، فما خضعت ولا غشيت عن الرؤية، غير أننا لن نقوى على إحراق هذه الظلمة إلا بعد أن نرى الخيط — خيط النور — ونتأثره من يوم أن شع فظهر غير واضح، فكان هزة نفس غريزية، وتجاوبًا مبهمًا؛ إذ ظهر في زمن الأتراك بشخص «قحطان»، واستمر تمردًا هنا وثورةً هناك، وبطولات مبعثرةً حتى وقف — ولا أقول انتهى — عند حرب فلسطين، وبولادة «إسرائيل». إن سيرة القاوقجي تجسد كل هذا وهذه الثورات انتهت كلها بانكسارات، يعلل ذلك أنها لم تكن شاملةً، وهي لم تكن شاملةً؛ لأن الوعي اقتصر على النخبة، والتربية القومية كانت كذلك منحصرةً بالقلة بفعل عصور الضعف، فأهمية ثوراتنا كلها منذ ١٩١٠ إلى اليوم لا تتعدى أنها كشفت عن روح البطولة ونفسية الصراع الأصيلة في بني قومنا. وإن وجود «إسرائيل» سيصبح السبب الرئيسي في شمول الوعي، وإرهاف الحس القومي؛ لذلك ستأتي وثبتنا المقبلة كاسحةً ظافرةً؛ لأنها ستكون شاملةً موحدةً.

كل من يقرأ هذه المذكرات بعينين صافيتين ما لوثتهما العتمة يتحتَّم عليه أن يرى هذه الحقيقة.

يقولون إن أخلاق الرجل تتكشَّف في أصدقها على طاولة القمار، قد يصح هذا القول بأزخم حقيقة على الرجل في الميدان. وفوزي القاوقجي عرف رجال بلادنا من كل العناصر التي تستل منها أمتنا قوتها؛ فلقد رافقه الفلاح والبدوي والمثقف والمتحضر والقروي وابن المدينة، في العراق والأردن وفلسطين وأنحاء الشام، وفهم — أو «افتهم» كما هو يلفظها — السياسيين، وخرج إلى حقيقة أن السياسيين كمجموع غير جديرين بالاحترام؛ فهم برغم إخلاصهم على وجه عام ليسوا برجال عمل وتنظيم وإعداد، وفهم هذا الرجل ما يستهوي أفراد الشعب ويستفزُّهم للقتال، ومتى ولماذا يصبح الجبان بطلًا، ومتى ولماذا يجبن البطل، وهو لا يحترم العدد، وقد تكون هذه نقيصة فيه، وقد لا تكون، بل ربما إن الأحداث وأوضاع القتال فرضت عليه هذه الفلسفة، فهو ما خاض معركةً بجيش أو عصابة إلا وكان عدوه متفوقًا عليه عددًا وعدةً.

ويا طالما حاسبت نفسي هل وقعت تحت سحر هذا الرجل، أو أن خيباتنا القومية جسدت لي في هذا الشخص أحلامًا لم تتحقق؟ فإذا أنا صريع خداع عقلي، واصفًا من وجب أن يكون لا من هو كائن. وقسوت على نفسي بالنقد، وأنا لا أسمع من أكثر الذين أتحدث إليهم عن القاوقجي إلا الشتائم والطعن والتجريح؛ فهو جبان كان خلال حملة فلسطين يقضي وقته بين مرابع عالية وصوفر، وهو سكير يستحمُّ في الوسكي، وهو نهَّاب أطلق جيش الإنقاذ في فلسطين ليبطش بالأهلين، ويعري بيوتهم من رياشها، وهو المطواع لزوجته الألمانية لا يحجم عن شيء في سبيل تزيينها بالجواهر، وهو جاسوس الإنكليز، وحليف الفرنسيين، وهو الضابط الصغير قد يَصلُح لرئاسة عصابة لا لقيادة جيش.

كل هذا سمعته من الكثيرين، وذات مساء خرجت معه تصحبه زوجته إلى نادٍ، وقبل أن ننصرف من النادي تقدَّم مني أحدهم، وهمس مستغربًا: «كيف تمشي مع هذا اﻟ …؟» من الفاجعة أن يقف بطل أمة ليدافع عن نفسه كي يردَّ تهمًا كل رأسمالها أنها اتهامات، ولا أعرف أن شخصًا في بلاد ما خرج إلى المسرح العام ونجا من تهجُّمات، ولكن القاوقجي أمسى ضحيةً لأسباب إضافية، هي غير الأسباب التي يتعرَّض لها كل رجل شهير في كل البلاد.

فنحن اليوم في فترة انحناءة الضعف، تهرَّأَتْ أخلاقنا حتى ليشوقنا أن نقدح أو نهدم، وفوزي القاوقجي كانت آخر معاركه معركة فلسطين التي استحالت كارثةً؛ لذلك ما عاد من الصعب أن تقرن اسمه بكل ما رافقنا من فشل. ستكشف الأجزاء القادمة أي «جيش» هذا الجيش «جيش الإنقاذ»، هذه المجموعة من الشبان، وأكثرهم لا يعرف القتال، ولا النظام، ولا الدربة، وبعضهم انطلق ليجاهد ولينهب، هذا الجيش الذي عُبِّئَ بطرفة عين، وسُلِّحَ بالوعود، وجُهِّزَ بالدعاء والإطراء، وقيل له انطلق وأنقذ فلسطين، وقائدك القاوقجي. هذا الجيش قهر اليهود في كل معركة إلا حين دخل مستعمرات اليهود.

هذا الجيش الذي حبس عنه العتاد يسخون اليوم على قائده بالبذاءة والتحقير والنكران؛ لأننا اليوم في خسفة خلقية، ولأننا ناقمون على كل شيء وكل شخص.

وإن معارك جيش الإنقاذ ستأتي مفصلةً في الجزء الأخير من هذه المذكرات، وكنت أوثِرُ أن لا أشير إلى جيش الإنقاذ بكلمة لولا أن هذا الرجل قد لبسته تهم هو منها براء؛ إذ إنه قد حظر عليه — وهو قائد الجيش — أن يزور المعسكرات حيث كانت تدرب وحدات هذا الجيش حتى يمشي بها إلى فلسطين. وقد ثارت الخصومات، ونشأ القتال بين أفراده، فوقع القتلى، وجُرِح الكثيرون قبل أن يزحف الجيش إلى فلسطين. وخلال الجهاد ارتكب بعض الضباط والمجاهدين جرائم من نهب وعدوان حيالَ الأهلين، وكان القائد أعجز من أن يؤدب، وفي بعض المواقف حيث استطاع أن يعاقب أحجم عن فعل ذلك مخافة أن يأتي عقاب المجرم من ضابط أو جندي سببًا في إثارة فوضى تمسي أشأم على الأهلين من الجريمة التي منها يشكون.

وبعد، فمن الذي ينتقد القاوقجي وجيش الإنقاذ؟ أكثرهم من الناقمين يجرفون في حسرتهم كل من «اشتغل» في فلسطين، ومنهم القاوقجي وجيش الإنقاذ، وهم بهذا التجنِّي يطمسون ذكرى شهدائنا الأموات وشهدائنا الأحياء.

وينتقد القاوقجيَّ محترفو السياسة ممن يعيشون على هامش الحركات. لقيت في بيروت منذ شهور بعض هؤلاء المشتغلين بفلسطين، وراح يفصح الحديث عن نقائص فوزي القاوقجي مثبتًا عيوبه بالحوادث. وإن حضرة هذا المشتغل عرفته في القاهرة خلال شهر آذار ١٩٤٨ يعدُّ للجهاد طوال النهار بلعب الطاولة في مقهى «بديعة»، وهو نفس الرجل الذي أمر بإحراق مستودع بنزين تركه البريطانيون حين خرجوا من فلسطين مخافة أن يستولي على هذا الوقود جيش القاوقجي الذي كان يحارب اليهود في فلسطين!

هنالك «مجاهد» آخر لا يزال يشغل حتى اليوم مسئوليةً حكوميةً كبرى، خاض معارك فلسطين كلها في أوتيل كونتيننتال في القاهرة.

هذا كان يفتِّش عن سهرة حين كان يفتش القاوقجي عن معركة، وهو اليوم من كبار المتهجمين على القاوقجي.

لقد بدأت الشائعات تهدم من صيت هذا الجندي منذ الساعة التي بدأت فيها أنباء بطولاته تملأ صحف الدنيا في الشرق وفي الغرب؛ إذ إنه بأعماله كسف أسماء فلسطينية كانت تحسب أن الله أقطعها هذا الجزء من بلادنا، فعزَّ عليها أن يأتي هذا «الغريب» فيقضي بالدم والحديد والجهاد على أسطورة التزعمات في فلسطين، وهو لو عمل على رد الاتهامات لما بقي لديه وقت للنضال.

أما أنه سكير فهذا «علاك بعلاك»، وزوجته الألمانية ما هي من طراز الزوجات الأميركيات اللواتي يتبهننَّ ويسيطرن على أزواجهن، بل هي الزوجة الألمانية «هوس فراد» تهتم بأولادها وبزوجها وبيتها، وتكاد تجهل ما حياة زوجها خارج البيت، غير أنه ليس لها مَيَعَان الزوجة الشرقية، فهي شريكة زوجها في كل أزمة.

ولكني، وأنا ما خضت الحرب في فلسطين، وليس لي مستندات كتبية عن حياة هذا الرجل، فكيف أتيح لي أن أكون القاضي العادل في ترجمة حياته؟ هل إنه رجل فوق البشر؟ أمن المعقول أن تأتي أحاديثه إلا تغنيًا بنفسه وتمجيدًا لمواقفه؟ إذن فأية قيمة لهذه المقدمة؟

لقد اعتمدت — أكثر ما اعتمدت — المصدر الوحيد الذي احترمه — رجاله — فإني أومن أن هنالك بغضاء أبدًا تنشأ بين الرئيس والمرءوس، ورجال القاوقجي ما نالوا أجر جهادهم لا مالًا ولا تقديرًا؛ فإن كان هنالك من نقمة، فيجب أن تكون في نفوسهم قبل سواهم. ورجال القاوقجي — كما سبق وقلنا — هم من مختلف الأديان والبيئات والطبقات، وما كانوا رجال تجارة، بل رجال قتال، غامروا بأثمن ما يملكون — أرواحهم — وهم اليوم بين موظف صغير يقنص الرزق، وبين بائع خضار، أو «معلم عمار»، أو كل معدم. سألت القاوقجي: من أشجع من عرفت؟ قال: «من استخفَّ بالموت تساوى مع أي سواه استخف بالموت.» ولكن بطولة ثلاثة رجال في «معركة» «قباطية»، طبعت نفسي بذكرى لن أنساها؛ هؤلاء الثلاثة هم: «أبو أنور» وهو دمشقي، «وقاسم محمد» وهو بغدادي، «وقاسم زهر الدين» من قرية كفر فاقود «الشوف، لبنان». ولما جاءني قاسم زهر الدين، وجدت أن الأملاك التي ورثها عن أبيه باعها، أو هي مهملة، ولم يكسب غرشًا خلال السنوات الثلاث الماضية إلا مئتي ليرة حين عينوه بعد ألف وساطة رئيس ورشة على طريق.

من حق هؤلاء — لو لم يكونوا أبطالًا — أن ينقصوا من القاوقجي، وأن يشتموه؛ فهم ما نالوا بسببه جاهًا ولا مالًا حتى ولا تقديرًا. ولكن هؤلاء — وإني تحدثت مع عشرات منهم — وقد رافقوه في الغوطة والعراق، وفي فلسطين مرتين خلال ١٩٣٦، و١٩٤٨، لا يقولون لك إن فوزي القاوقجي سكير أو نهاب أو جبان، هؤلاء الذين «حضروا الشرور»، وهم واثقون أنه «مش مضروب على رسنه»؛ أي إنه أصيل، يقولون: «وصلنا حقنا»، و«استغزينا». في يقيني أن أكثرهم يهرعون إليه اليوم إن استنفرهم من جديد. هم يذكرون من قائدهم جنديًّا مثلهم يلبس مثل ما يلبسون، آخر من يتناول الطعام، آخر من ينسحب، «منظاره أبدًا في رقبته»، «دائمًا قدامنا»، أبدًا في قلب المعمعة، وفي ذروة الأزمات وحمى القتال، باسم رصين، غير مستعجل. القيادة في جوهرها هي إيحاء الثقة بالقدوة، وهؤلاء المغمورون اليوم أبطال الأمس الذين خاطروا بأرواحهم في رفقة القاوقجي، يقدِّسون اسمه.

هؤلاء يعرفونه عفَّ اليدين أبدًا يتغنى برفقائه، وعند الحاجة يبيع من حاجاته ليقضي حاجاتهم.

ولم أتحدث إلى أي ممن عرفوا حقائق القتال في فلسطين من مواطنينا — أبناء فلسطين — إلا وأثنى على القائد فوزي معتزًّا به. أما ثرثرة سواهم فهي «علاك بعلاك».

وما دمنا قد أتينا على ذكر ضحايا التقولات، فإنه ليسرني أن أثبت هنا شهادة فوزي القاوقجي بأحمد شراباتي، وقد كان هذا وزيرًا للدفاع في الجمهورية السورية إبَّان حرب فلسطين، قال فوزي: لقد عرفت أحمد شراباتي في بغداد في ثورة ١٩٣٦ الفلسطينية، وسنة ١٩٤٨. وإني أسجل أن هذا الرجل — أحمد شراباتي — هو مثال الوطني المندفع لخدمة بلاده، وقد أسعف جيش الإنقاذ في فلسطين، كما أعاننا من قبل في بغداد بنخوة عزَّ نظيرها.

صانع التاريخ يجب أن يفهم التاريخ، وفوزي القاوقجي يفهم التاريخ الذي ساهم بصنعه، ولا «يتفهم» هذا التاريخ الذي أهمله وأهمل رجاله. السياسة تخرب الجيوش، والجيوش التي لا يساندها سياسيون حكماء مخلصون تُصبِح تضحياتها هدرًا. القاوقجي يعلن نفسه أنه عربي، وكل ما هو عربي يهزه، ولكنه يعتقد أن الهلال الخصيب، بل بلاد الشام هي قلب العروبة وسيفها وترسها؛ فإن أنت خرجت من هذا الهلال الخصيب، أحسست بأن القاوقجي معجب بقبيلة هنا وقطر هناك، ولكن قلبه في قلب العروبة — الهلال الخصيب — وهو مؤمن أن شرط قوة هذا العالم مرتبطة بوحدة الهلال الخصيب، تضعف وتقوى بقدر ما هي هذه البلاد موحدة أو مجزأة. وهو يعتقد أن من يسيطر على «شرق الأردن» يسيطر على العالم العربي، وأن استرجاع فلسطين المغتصبة أهون من استرجاع الأردن المفقود.

وأردد القول — لأنه هو أبدًا يردده — أن هذه الأمة أقوى أمم الأرض قاطبةً على القتال، وكل ما تحتاج إليه قضية عامة تصهرها وتفولذها، وزعيم يقودها.

والقتال مهنة احترفها، فهو يمارسها من غير عاطفية، فأحب الساعات إليه ساعة تنتهي المعركة، فيشعل النار يغلي عليها القهوة، وحوله القتلى والجرحى، وحطام المعمعة، ومثل هذا «السيران» لا يجده متعةً إلا الذي نذر نفسه للدم والرصاص. لعل أقرب الناس إلى قلبه مقاتل اسمه حمد صعب قتل إلى جانبه، وسارت في الناس إشاعة أن حمد صعب لقي حتفه إذ هو يحمي القاوقجي بجسده. سألته عن حقيقة هذا الخبر فنفاه؛ إذ إن مصرع حمد صعب وجرح القاوقجي — وهذا ما سيجيء تفصيله في جزء مقبل — كان مفاجأةً ما أتاحت لأحد أن يحمي أحدًا. وقد سَرَدَ لي هذا الحادث بتفصيل طويل، وأعاد القول بأن حمد صعب أثمن رفيق عرفه.

ولكنه فاه بهذا القول من غير آه ولا زفرة ولا حسرة، بل زاد: «أشعر أنني لو نزلت إلى الميدان من جديد، فإن في غياب حمد صعب فقدان إحدى ركائز القتال الهامة.» وانساب الحديث إلى مواضيع ثانية.

وتبيَّن لي من معاشرته التضارب في المسلك الذي يكاد يكون ميزةً لكل عظيم؛ فهذا الذي بزَّ أعداءه بخداعه الحربي، ومفاجآته، وتضليله لهم، عاش حذرًا في الميدان وخارجه، يُسِيءُ الظن حتى ببعض رجاله. هو نفس القاوقجي الذي لقيته في السراي إبان حرب فلسطين، وراح يقصُّ عليَّ أنباء أزمات القتال من غير أن يعرفني. وهو هو الرجل الذي يعيش اليوم على ألف ليرة في الشهر، خصصتها له الحكومة اللبنانية بناءً على توصية اللواء فؤاد شهاب في عهد بشارة الخوري، ولا يشغل باله أن هذه الألف ليرة لا تكفيه، ولا تؤمِّن معيشة الثمانية الذين ينفق عليهم. وعلَّمته التجارب القاسية التي لقيها مع الذين اتجروا باسمه في الكويت واليمن، وهو الذي دفع إليَّ بمذكراته، وهي كل ما يملكه في الحياة من مادة، ووقع عقدًا بيننا أعتقد أنه لم يقرأه. فعل ذلك بعد أن رفض العروض الكثيرة المغرية، وبعضها من صحافة عالمية؛ ذلك لأن إيمانه الأصيل العميق ببني قومه ما قطع عليه طريق الثقة بهم أن بعضهم غدر به، ولغير سبب افترى عليه وحقره. إنه يبيع من أثاث بيته باسمًا قطعةً بعد قطعة من غير خجل ولا آه!

فوزي «باشا» جاءه اللقب من الملك عبد الله، وأصدقاؤه وروَّاد بيئته القلائل ينادونه «باشا»، و«بك»، وينادونه «فوزي». إنه لا يهزأ باللقب الذي يحمله شأن من هو حقيقة يعشقه ويتظاهر بالسخرية منه.

ولكنه لا ينتفخ به غرورًا، فيقول مثلًا: «وصلنا بغداد»، ولكن رفقاءه هم الذين قالوا لي إن السيارات التي استقبلته في بغداد امتدت نحوًا من عشرين كيلومترًا. إنه لا يذكر الاستقبالات، ولا مظاهر الإجلال، ولا المظاهرات التي أقيمت له في الماضي؛ لأن كل ذلك لا يهمه، ولو أن في نفس هذا الرجل وحلًا من حقارة، أو كفرًا بأمته، لأشغلت باله الرصاصة في رأسه؛ فأذنه اليمنى لا تسمع، وعينه اليسرى لا ترى، ولكان تطلَّع إلى أولاده وأكثرهم أطفال، وإلى أفق مسودٍّ يتقلَّص حوله، وإلى أثاث بيت ينقص شهرًا بعد شهر؛ لأنه يباع شيئًا فشيئًا، وإلى وطن رش عليه دماءه فكافأه كما كافأ رفقاءه بالإهمال والاتهامات. إنه لكان تطلَّع إلى كل هذا فجنَّ أو انتحر. ولكن العظمة الحقيقية تشيع في النفس الطمأنينة والرضا بما فعلت، فلا تعود متحرقةً متشوِّقةً إلى مظاهر التقدير والتعظيم، وتغرس في النفس حصانةً تزلق عنها سهام الانتقاد والتجريح. إنه واثق بمستقبله ومستقبل أولاده؛ لأنه واثق بمستقبل أمته. صانع التاريخ يفهم التاريخ، وهذه الانحناءة في ضعف أمتنا هي حال عابرة ولا ريب؛ ذلك إيمان هذا الجندي الذي هو في نظري أعظم جندي أنجبته بلادنا بعد «هاني بعل».

وتلك الكمية المجهولة، الإكس x في هذا الجندي، ما هي؟ نحن لا نقدر أن نفهمها ولا هو «يفتهمها» بعد أن استبدل دمه بسبب كثرة العمليات ثارت في رأسه وجسده الآلام المبرحة، فراح الأطباء يعطونه المسكنات. سألهم ذات يوم: «هل هذه الأدوية تشفي؟» أجابوا: «لا، بل هي تطرد الأوجاع.» قال: «إذن، فأنا لا أريدها.» ورمى بها وبالأوجاع. «وعملنا خمس ست معارك.» يلفظها كسكير يردد: «وشربنا كم كأس.»

أفاق على الحياة فتًى في مدرسة عسكرية في إسطنبول لا يحس قوميةً ولا وطنًا، حتى حدث وانقسم فتيان المدرسة إلى معسكرين، بعضهم قال: «نحن أتراك.» وراحوا يتغنون بجدهم الأعلى «طوران»، وآخرون صاحوا: «نحن عرب.» وطفقوا يفاخرون بجدهم الأعلى «قحطان»، هذا القحطان الذي سمع به فوزي القاوقجي لأول مرة لم يكن في نظره إلا رمزًا للاعتزاز والخصومة مع الأتراك.

ولكن بقي في نظره — حتى بدأ أن يعي حقيقته — فروسية، فالحرب للحرب. وبعد، فأكثر الرصاص لا يقتل. واستهوته الأوسمة كشهادة للبطولة، وأصيب بهوس جنوني يحمله على تحدي الأخطار رجاء أن يجرح؛ فكثرت جراحه، وهذه الجراح في نظره — وهي بعض الموت — كانت له مصلًا وقاه من الموت. «رفيقك يا فوزي ما يعود.» هكذا كان البدو يقولون له، لعل نظرية «هكسلي» صحيحة، فهذا رجل طلب البطولة بشهاداتها من أوسمة وجراح، ولكنه — والموت ما كان شرطًا لانتصار قضيته — لم يطلب الموت.

فكان له ما أراد؛ كانت له الأوسمة والجراح؛ لأنه هكذا شاء وعزم وأراد.

وكانت غلطته الكبرى أنه ما أراد الموت، فلم تعترف بعظمته أمة لا تكرم الأحياء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤