إلى سعادة

في ٨ تموز ١٩٤٩ أعدم الزعيم سعادة

ألوف من رفقاء لك اليوم — هنا وعبر الحدود — يغتصبون لحظةً ليرفعوا الأكف بالتحية، لا دمعة في عين، ولا حسرة، ولا زفرة، فأنت علمت الإيمان بالقوة، وحقرت الضعف، ولولة وآهات.

هي لحظة مختصرة، يبرر قصرها أن رفقاءك يمارسون فضيلة الصراع، فيومهم لحظات تحتشد جهودًا، وصفاء الذهن لا يرتفع في صعيد الأدب إلى حيث يطمئن أحدهم أنه قام بما هو فوق طاقته، وأنت الذي بشرت بالنبل أنه ما يبذله الفرد عبر واجبه وأكثر من مقدرته.

إن الذين اغتالوك عرفوك، وفهموك، وأدركوا أي خطر كنت عليهم.

ولقد اتهموك أمس بما هم يتهمون به تلامذتك اليوم، فقالوا إنك عدو لبنان. أنت الذي استُشهد ليحرر لبنان من أوهام الخرافات، واستبداد الإقطاعية، وعاهة الطائفية، ومن تلاميذك كان سعيد فخر الدين، شهيد الاستقلال، قالوا إنك عدو لبنان، أولئك الذين خرَّبُوا لبنان، ونهبوا كنوزه، واستعبدوا مواطنيه، ومجدوا السخف والشعوذة.

اتهمك بالخيانة أولئك الذين أثروا على حساب لبنان، ووصلوا إلى مركز النفوذ، وكانوا أبدًا عمالًا للدول الأجنبية، يحملون أرقامًا في دوائر استخباراتها، ويتربَّعُون على أرائك سفاراتها ومفوضياتها.

قالوا إنك حليف اليهود، أولئك الذين باعوا فلسطين، وضيعوا فلسطين، وتلاميذك ورفقاؤك — عشرات منهم — قاتلوا في فرقة «الزوبعة»، فكان من قتلاهم سعيد العاص، ومن جرحاهم جورج عبد المسيح.

ولقد اتهمك بالإلحاد من جعل الدين متجرًا وسوق بورصة، وأنت الذي جوهرت عقيدتك نفس معتنقها، فهو يمارس تعاليم الله إذ يمارسها، ويقترب من الخالق كلما اقترب عملًا وحياةً من القومي الاجتماعي الأمثل.

وشيعوا عنك أنك عدو العروبة، وأنت أنت الذي بشر بالجبهة العربية وبالعالم العربي، تفولذه رصانة المصلحة والعلم والتاريخ، وتقوده أمة جهزها لقيادته تفاعل الحياة فيها.

نقف اليوم، وفي نفوسنا نقمة على نفوسنا، فأنت الذي أوضحت لنا مسئولية المواطن نحو أمته، فتحسسنا بالأخطار التي تحيط بنا من الداخل والخارج، فإذا بأرجلنا دامية على طريق الحياة التي اختططت، وإذا بنا نلهث تعبًا، وإذا بنا نعنف أنفسنا صائحين: «قليل ما فعلنا.»

بناتك «صفية»، و«اليسار»، و«راغدة»، ما هن بيتيمات منتحبات، بل رفيقات ضاحكات.

وعرزالك لا يزال يتوج المتن الشمالي في وقفة عز تطلُّ على قصور في بيروت، طوابق شادتها «طوابق».

وتلك الحفنة من الرمال جبلها دمك، صارت لبنةً صلبةً تتكاثر وترتفع أسوارها وتصطف متاريس.

بلى بلى، إن الذين اغتالوك فهموك، وعرفوا الخطر منك عليهم.

وأما المعرضون والخائفون والمبغضون، فإنهم رفقاؤك في غد حين يفهمونك ويعرفونك، ويدركون أن عقيدتك هي وسيلة الإنقاذ، وحزبك هو جهازه.

لقد آمنت بمواطنيك، ونحن نؤمن بكل مواطن، وسيؤمن بمبادئك كل مواطن؛ لأنك — هكذا علمتنا — قلت إن في كل مواطن خيرًا. إني أيها الزعيم أراك في كل يوم النظرة الواثقة المتحررة الجريئة في الرفيق الذي كان بالأمس لا يستشعر الكبر في نفسه وقوتها، أحسك في القوة التي تتوثب في نفسي التي انصهرت فانتصرت، في هذه النهضة، في الكبر الحقيقي وقد كان بالأمس انتفاضًا وغرورًا.

أحس القوة في عزة الحرمان، في جمال التضحية، في الثقافة أتلقاها عن تلاميذ لك، حرمهم المجتمع الدراسة، في مبادئ العقيدة التي اعتنقت، يؤيدها العلم وتزكيها الوقائع في كل يوم.

رفقاؤك اليوم هم أصفى لبنانيةً، وأصدق عروبةً، وأعمق إنسانيةً؛ لأنهم يمارسون عقيدتك.

من رفيق لك أيها الزعيم الخالد، تقبل «شكرًا» يا من خلد «شكرًا».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤