كلمات هزتني

ليس أسهل من الاهتزاز … ونحن شعب عاطفي تهزُّنا الكلمة، غير أنه لا قيمة للانفعال إن لم يترسخ منهجًا، أو يذكر عن الحياة موقفًا. وأخطار الرعشة النفسية كثيرة، منها أن يُمسِي الإنسان رجفةً مستمرةً، أو أن يألف بليغ العبارات، فلا تعود تفعل فيه، بل تصبح الألفاظ أداة طرب وترفيه؛ لذلك في نفسي أبدًا ريبة من حفظة الشعر والأمثال. وفي رأيي أن مرددي هذه يستعيضون بالمحفوظات عن التفكير الأصيل. ولو أن أحدنا أراد أن يؤلف كاتالوك الأقوال التي يعجب بها لجاءت كتابًا ضخمًا، ولجاءت كتابًا متناقضًا؛ ففي مختلف الحالات تطفو على الذاكرة أقوال متضاربة؛ ففي حالات الفقر يعيد أحدنا «القناعة كنز لا يفنى.» وقد يوفق إلى ضرب بورصة رابح، فيستمع إلى نفسه معجبًا بنفسه: «ما فاز باللذات إلا الجسور.» وقد تأتي الأقوال التي تهز بعد التجربة أو قبلها، أو قد توحي التجربة قولًا.

والفكر الإنساني — لحد كبير — هو موحد الحصاد؛ لأن البشر يمرون في اختبارات متماثلة، فلا عجب والحياة تنكشف خلال مختلف العصور عن وحدة في التجارب أن تأتي هذه مجسدةً في وحدة من الأقوال. وإن تصفحنا كتاب الأمثال اللبنانية للأستاذ أنيس فريحة — وقد جمع منها نحوًا من خمسة آلاف — نجد أنها تبدو معربةً تقريبًا عن الأمثال الصينية القديمة أو اللاتينية، وغير مستغرب أن يكون لبعض القبائل التي لا تزال تسكن الغابات أمثال وأقوال.

من غريب الصدف أنني كنت في أمسية أقرأ قصيدة رثاء بالشاعر وديع عقل نظمها صديقه أمين تقي الدين، جاء في عجز آخر بيت فيها:

يمضي الغناء ويبقى السمع نشوانا

وبعد قليل رحت ألاعب القاموس الضخم ﻟ «وبستر»، وفي آخره مجموعة الأمثال العالمية، فوقعت في اللغة اللاتينية على نفس القول منسوبًا لشاعر عاش في سنة ١٢٠٠ قبل المسيح.

كنت في نحو السادسة من العمر؛ إذ توجهت برفقة أبي إلى زيارة قرية لبنانية، ولسبب ما — أظنه كان سياسيًّا — ثار اضطراب، وتجمهر أهل القرية، وكاد يحصل ما اصطلح الناس أن يسموه ما لا تحمد عقباه. وفي ذروة الصياح سمعنا من يصرخ أن رجلًا فوق الخمسين اسمه مجيد طلع إلى سطح البيت وبارودته في يده؛ فساد الذعر، واشتدَّ الهياج، ولكن شيخًا من الحاضرين ضحك، وقال: «مجيد طلع على السطح؟ مجيد وفي يده بارودة؟ مجيد في شبابو ما قوس!» لا أعلم فيما قرأت وسمعت تحقيرًا مضمنًا أفصح من هذا التحقير:

النبت الصالح ينمو بالعناية، أما الشوك فينمو بالإهمال.

هذه عبارة هزتني حين وخزتني شوكة في أرض مهملة تحت «عالية»، ونحن في طريقنا إلى سيران في بستان تفاح دعانا إليه صديق في الصيف الماضي.

رجعت إلى بلادي بعد غياب في «الفلبين» استمر نحوًا من ثلاثة وعشرين سنةً. كتبت الكثير عن عودتي، ولكن الهزة الكبرى أطلقها الشاعر إيليا أبو ماضي حين عاد منذ ثلاث سنوات فأنشدني:

وطن النجوم أنا هنا
حدِّقْ أتذكر من أنا؟
كان لي صديق بولوني في الفلبين، وقد اجتيحت بلاده سنة ١٩٣٩، ونحن في الشرق الأقصى من ١٩٣٩ إلى ١٩٤١ ما طالتنا الحرب بعد، وكنا في رخاء وحرية وازدهار أعمال. أما صديقي فكان أبدًا كئيبًا، لم أفهم سر حزنه إلا حين قرأت بعد عشر سنوات:

إن لم تكونوا أحرارًا من أمة حرة، فحريات الأمم عار عليكم.

منذ أيام، وقفتْ في الطريق أمام بيتنا جوقة نَوَر، فيها المنشد، وفيها ضارب الصنج، وصبية ترقص. ولا أدري لماذا استوقفني ذلك المشهد التافه، ورحت أحس أن في ذاكرتي شيئًا يشرئبُّ ويموج. في اليوم الثاني استعدت بيتين من الزجل كنت نسيتهما، واستثارتهما النورية الصبية الراقصة:

لا تكذبي شو سارقه ومنين
زغاليل حمام اثنين بعبابك
رح يفطسوا، فكيلهم زرين
مناقيدهم رح يخزقوا ثيابك

وكلمات ثارت الفتن الطائفية أردد: «اقتتالنا على السماء أفقدنا الأرض.»

وفي كل يوم يكتسب بيت شوقي معنًى جديدًا:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا

إن أفصح كلمة سمعتها في حياتي جاءت على لسان قروي من ضيعتي، كان يصف معركةً بينه وبين أبناء عمه، كان وحيدًا، وكانوا — على روايته — كثرة، فلما أراد أن ينزل إليهم لينازلهم وصف عمله بقوله: «تجمهرت»، ونزلت إليهم.

حين يقول الفرد عن نفسه أنه «تجمهر» يعطي سامعه معنى الإعداد، والاعتداد، والشجاعة، والبأس، ووحشة الفرد، كلها في لفظة واحدة.

واليوم، وأحاديث السلم، ومؤتمرات السلم، وعرائض السلم تملأ الدنيا أجد: «أن الأمة التي تسلِّم نفسها للسلم تسلم نفسها للعبودية.» هي عبارة تهزني، وتمثل أمام عيني، وتملأ نفسي وتفكيري.

كثيرًا ما تقرأ عن الجمال أنه تضاد. وفي الأدب — كما في الحياة — التضاد في الألوان والمواقف والأشخاص يعطي معنًى للجمال وللفكاهة وللمسرحية، بل إن هناك من يعتقد أن الفن كله تضاد. هذه الصورة — صورة التضاد — لم يصورها في مشهد كلامي أروع مما صورها فلاح قصدت إليه وهو يشتغل في حقله يوم الانتخابات النيابية، وكان قد اعتزم أن لا يقترع. ورحت أسأله أن يأتي إلى قلم الاقتراع فيرمي بصوته، والظاهر أن سواي كان قد سبقني إليه، وانتزع منه وعدًا أن يمتنع عن التصويت، قال لي الفلاح فيما هو يضرب بمعوله: «لا تواخذني! أجا فلان قنعني. قوبز على هالحجر، ومد حديث.» قوبز على الحجر، ومد حديث، فكرة القرفصة، وما فيها من ركود وسكون، يقابلها بتضاد عنيف فكرة «مد» الحديث.

طاغور مارس فن التضاد حين وصف الحبيبة بقوله:

أنت السماء وأنت كذلك العش

ثم أوضح:

أيتها الجميلة، العش يغلف فيه حبك الروح بالألوان والعطور والأصداء، ولكن هناك حيث تمتد وتعمق السماء إلى ما لا نهاية، حيث تطوف الروح، وتسود في بياض طاهر مشع.

شخصيًّا أفضل: «قوبز ومد».

ومذهب التضاد في موسيقى أبيات شعرية هزتني إذ وضحت في قصيدة «نذير العظمة»، وعنوانها «سلام على سوريا». وفي هذه القصيدة تجد الزرع والحصاد والطفولة والرجولة، والسلام والحرب والمواسم، أختار منها المقطع الأخير:

لعينيك يا سورية
حماتك، لا لن تبور الحماة
ستزرعنا الأمهات
غنى من طفولة
كصحو الينابيع كالزنبق
مواسم من قوة ورجولة
غدًا نلتقي
غدًا في حصاد البطولة
ويهتف كل مع المشرق:
سلام على سورية.

هل من المستطاع، هل من الحق أن أسرد حكاية الكلمات والعبارات والأمثال التي هزتني من غير أن أنهيها وأتوِّجها بعبارة لسعيد تقي الدين: «ليس من الضروري أن تعلق على قفص الأسد لافتة «ممنوع الدخول».»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤