غريب بلا بَسْطَبُورزُو

في الصباح الباكر، نهضت حائرًا فيما ينتظرنا، وماذا عساي أن أفعل؟ أحقًّا أن الجيش الياباني الفاتح الذي أذاع بالراديو دعوةً للأجانب المقيمين في مانيلا عام ١٩٤٢ أن يأتوا إلى الفندق الكبير يريد منا أن نسجل أسماءنا فقط، أم أن في الأمر خديعةً، وأننا سائرون إلى القتل، أو السجن، أو التشريد؟

أمر سمعناه، ولم نجسر أن نطيعه، ولا أن نعصاه، ولكنني أخيرًا بلغت اللوكندة الكبرى في نحو الساعة العاشرة من الصباح، ووجدت الأجانب من مختلف أجناس البشر، ألمانًا، وإسبانيين، وفرنسيين، وأكثر ما أنتجته أوروبا وأميركا، مئات وقف بعضهم في صف بلغ طوله نحوًا من نصف كيلومتر، وانتشر الباقون في الساحة.

يقولون في الصامتين: «كأن على رءوسهم الطير.» إن صح هذا التشبيه؛ فقد كان على رأس كل واحد من الأجانب بومة وغراب. صحيح القول أنه ليس من شيء يدخل الخوف على القلب مثل رؤية جمع من الناس يعدون بالمئات، وهم صامتون واجمون، بل كل واحد وقف منفردًا كأنه خشي أن يؤذيه اختلاطه بسواه. ورأيت في الجمهور كثيرين من أصحاب العروش أصبحوا عوامَّ من بني البشر: أغنياء وصيارفة وقادة مجتمع، وطغاة بذخ، وطهاة الصفقات المالية، راكبي السيارات اللماعة، وساكني القصور، صاروا مثل سواهم، ممتقعةً وجوههم لا يدرون المصير، وقد لبسوا كلهم الأثواب العتيقة، لما اشتهر عن اليابانيين من التقشف، ومن بغضهم للمتأنقين، وكان من الواضح على وجوه هؤلاء المذعورين أنهم تعمَّدوا إهمال أمر الحلاقة في ذلك الصباح.

ورأيت في بعض الأيدي وريقات صغيرة، ولاحظت الناس يحيون بعضهم بعضًا بابتسامة مغتصبة مقتضبة.

لم أعرف ماذا يجب أن أفعل: هل أبقى في الباحة؟ أم أنتظم في الصف الطويل؟

وفيما أنا أفكر، إذا بصوت عربي يدوي ويصيح — أقول يدوي ويصيح — من بعيد: «يا هلا بأبي السعد!» وهرع إليَّ من كنا ندعوه «عودة أبو تاية»، واسمه الحقيقي عودة الحداد من السلط، ابنه اليوم جندي في الجيش الأردني.

قال عودة: «أنا في انتظارك يا ابن أخي، جئت باكرًا، وأخذت نمرةً (فيشةً) حفظتها لك كي لا يطول انتظارك في الصف.» ودفع إليَّ وريقةً مثل التي رأيتها في أيدي الكثيرين، وقرأت عدد «٦٨».

وعاد «عودة» يشرح بألفاظه البدوية، ولهجته الصحراوية المرتفعة: «الياباني ملعون الوالدين، ستنتهي الحرب قبل أن ينتهي من تسجيل الأجانب، صار لهم يشتغلون منذ الصباح الباكر، ولم يسجلوا خمسين شخصًا بعد.»

وفيما نحن في الحديث اقترب مني سلطي آخر، اسمه جاد الله؛ فتًى قصير، ولكنه عتل، لم أَرَ في حياتي صدرًا في ضخامة صدره، كان يروي لنا، ويروي عنه أبناء بلدته، أنه فيما مضى، احتال على ضبع حتى أدخله قن الدجاجات في السلط، فأهوى عليه جاد الله بالعصا، وما زال يضربه حتى قتله. ذكرني أن أخبرك كيف ودعت جاد الله عشية سفري من الفلبين، في مستشفى الأمراض السارية، وكيف فتك به السل.

أما «عودة» — وكان، شأن البدو، ينادي أصدقاءه ﺑ «يا ابن أخي» — فهو مثل السبعة أو الثمانية السلطيين الذين عرفتهم في الفلبين؛ رجل قاسٍ، فقير، كريم الخلق، ساذج، ذو مروءة وود، ولعل أبناء السلط بحكم جغرافية بلدتهم — بين قبائل شرق الأردن — كان عليهم أن يهلكوا، أو يكونوا شجعانًا، فاختاروا أن لا يهلكوا، و«عودة» يعرف جبل الدروز، ولم يكن غريبًا عنه في ثورة سنة ١٩٢٥؛ إذ كان يهرِّب الأسلحة من فلسطين إلى حوران، وكثيرًا ما تغنَّى بالدروز، وافتخر بأنه ضاف سلطان الأطرش ليلتين.

وعودة على ضعة حاله لا يتورَّع عن الدعاب، وتوهمت أن عودة كان فرحًا بالحالة الطارئة، يتطلَّع فيمن حوله فيراهم غنمًا مذعورةً — هؤلاء الذين كانوا بالأمس ذئابًا كاسرةً، ثم يجس عضلاته، فيتحقق أنها صلبة، ويوقن أنه في هذا اليوم ارتفع عمن كانوا محلقين، وأنه لم يعد في وادي المسكنة، وأدار عينيه بالجمهور هازئًا، ول، ول، ول، ول. لم يعد في مانيلا لا مستر ولا سنيور، كلهم رعيان غنم يا ابن أخي.

وحملت الورقة، ويدي تنوء بها، وكذلك قدماي، وتسكعت خائفًا نحو اللوكندة؛ فإذا بي أسمع عودة من خلفي يخاطبني مقهقهًا: «والله يا ابن أخي، لو أن تحتك حصانًا لكنت تشبه سلطان الأطرش قاحمًا قلعة السويداء.»

ضحكت ملء رئتيَّ، لأول مرة، منذ أن أُعلِنَت الحرب، وانتصبت في الصف الطويل، وليس أمامي إلا نحو من عشرة أشخاص، فلما جاء دوري دخلت إلى غرفة ضابط ياباني، وضع سيفه الطويل أمامه على الطاولة، وحفَّ به ضابطان آخران، ويابانيان في لباس المدنيين.

وانحنيت باحترام من الوسط شأن من يحيي أي جندي ياباني.

أكثر الناس يُبغِضون ما لا يمتلكون، والياباني قصير، دميم، صفراوي، سحنته عكر وتعقد، وأنا طويل، سمين، أبيض، وفي وجهي صفاء وشموخ؛ لذلك لم أستغرب إذ صوَّب إليَّ الخمسة عيونًا لهابةً تتدفَّق بغضًا، نظرات يابانية معادية كاسحة استمرَّت تلطمني وتحرقني كل يوم خلال ما يقارب سنوات أربعة تلت. وفهمت فورًا، من غير أن أنظر إلى ما تكوَّم على الطاولة، حيث سمعت أحد اليابانيين يصيح: «بسطبورزو!» أنه يريد الباسبورت؛ ذلك أن من عاهات الياباني أن لسانه لاصق في فمه يرتطم بالألفاظ ارتطامًا، ويقذفها من بلعومه، وهو يزيد «الزاي»، و«الواو» أبدًا على الكلمات؛ فكلمة بيروت مثلًا تصبح «بيروتزو»، وربما جاءت بيطرزو، أو طبورزو، فلا عجب أن تقمص الباسبورت إلى بسطبورزو.

واشرأب الخمسة مدمدمين حين لم أضع بين يدي الضابط باسبورتًا عاديًّا شأن سائر الأجانب، بل ورقة هوية؛ ذلك أنني حين وصلت الفلبين في كانون الثاني سنة ١٩٢٦ أبى القنصل الفرنسي أن يسجل اسمي؛ لأن لفظة «درزي» ظهرت على باسبورتي، وكانت الثورة في أوج شدتها، والقنصل الفرنسي في «مانيلا» في ذروة لؤمه؛ فاستعضت عن التسجيل في القنصلية الفرنسية بورقة هوية من الحكومة الفلبينية أعلنت فيها عن جنسيتي بلفظة «عربي».

وتماوج بحر الكلام مدًّا وجزرًا بين الصفر الخمسة، ولم أفهم من الحديث إلا لفظة آرابيان (عربي)، ولحظت أن عيونهم بدأت ترمقني بشيء من الود والاحترام.

الياباني حيوان ليس فيه من العاطفة إلا بهيمية الكواسر، هو لا يقبل زوجته، ولا يداعب حبيبته، ولا يطرب للغناء إلا متى سكر، ليس له صديق، ولاؤه لإمبراطوره وإمبراطوريته هو ولاء العبد لسيده، وليس ولاء الإنسان لعقيدة أو مثالية. علمه، واختراعاته، وثقافته، كلها تبرج سطحي وتسلح. تأدبه، ودعته، وكياسته، هي بعض أساليبه الدفاعية. نفسه وحشية لا تجد نشوةً إلا في القتل والتدمير والقهر والفتوحات؛ إذن فحين أقول لك إن اليابانيين الخمسة الصفر أظهروا «الود والاحترام» لشيء اسمه «العروبة» فمعناه أنهم أخفوا المخالب والنواجذ، ولم يبطشوا.

أما عطفهم على «العروبة»، فلسببين؛ أولهما — وهذا استنتاج وتخمين — أنهم حين أراد قادتهم تقوية الفروسية في نفوسهم، وترسيخ عقيدة البأس — ويسمونها «بوشيدو» — عمدوا إلى تدريسهم تاريخ البطولات القديمة، ومنها البطولة العربية. أما السبب الثاني، فكان أن ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق، وإذاعات بعض تجارنا في اليابان، أوهمت الكثيرين من اليابانيين أن العرب موالون لدول المحور.

وخفتت دمدمتهم شيئًا ما، ورحت أملأ ورقةً أسجِّل فيها سيرتي، وأجبت على سؤال: «ما هي اللغات التي تعرفها؟» بجواب: «العربية، الإفرنسية، الإسبنيولية، الإنكليزية»، ودارت عيونهم المزججة تحدِّق بأجوبتي، كأنما هي طلاسم، وعلت الهمهمة من جديد، وشعرت كأنهم في مرح، وهم يرددون لفظة «مورا كامي، مورا كامي». وأفهمني الترجمان أنني ما دمت أتكلم الفرنسية فمن الضروري أن أجتمع بالكولونيل «مورا كامي»، وهو يجيد الفرنسية كأحد أبنائها؛ إذ إنه سكن الهند الصينية سنوات عديدةً، ونهض أحد اليابانيين مشيرًا إليَّ أن أتبعه إلى الكولونيل «مورا كامي». وقد ذكرت أن الياباني شليل اللسان، يتكلم من بلعومه؛ لذلك هو يزدهي بكل مواطن له يجيد لغة أجنبية.

أما أنا فمشيت نحو هذا الكولونيل الذي يتكلَّم الفرنسية كأحد أبنائها خائفًا أن يفتضح أمري؛ فإن معرفتي للغة الفرنسية هي من مخلَّفات دراسة قروية شرَّدها الإهمال، وهدمتها وبعثرتها الأعوام، ومثلت أمام الكولونيل «مورا كامي» حتى انتهى الترجمان من همدرته وطنينه، وكنت أسمع لفظة «آرابيان، آرابيان، آرابيان» وانصرف. وأقبل الكولونيل نحوي — وهذا تكريم غير عادي — وانحنى، وهش بأنفاسه نحو رئتيه — وهذا نهاية التكريم الياباني — ومغزاه أنني أَقْدَسُ من أن تطالني أنفاسه، ثم احتقن وجهه، واهتزت نظارتاه، وأحسست أن طابةً من الكلام تنتفخ، وتتسلق زلعومه، متضخمةً، فلما بلغت فمه انفجرت منه قنبلة سمعتها: «جبرونزو»، وأرهف الله في تلك اللمحة ذهني، فعلمت من فوري أن الكولونيل يريد أن يقول بونجور، وأنه لا يملك من اللغة الفرنسية أكثر مما يملك سعيد فريحة من أسهم الكوكا كولا، فأجبته بطلاقة وفصاحة: «بونجور مون كولونيل.» وشعرت إذ رحت أتكلم الفرنسية بثقة في النفس، كأني تلك الأرتيست التي تقدم «النومرو» على مذياع البيسين في عالية.

وجلسنا متلذذين نمسخ اللغة الإفرنسية، وننهشها ونقطعها، ونمرِّغها بالحصى والتراب.

غير أني لم أخرج إلا وفي جيبي باص يوصي بي خيرًا، سطره بخط يده، ومهره بختمه على الشمع الأحمر الكولونيل مورا كامي.

باص في مانيلا في أيام الاحتلال الياباني الأولى، كان أفعلَ من كارت شمدص جهجاه في دوائر الحكومة اللبنانية.

ذلك الباص دفع عني الخوف والجوع، كما سأحدثك، وقرَّبني إلى كثيرين من الناس، منهم يهودي حلبي اسمه عزرا ديان.

وقد رد لي الجميل عزرا ديان في لباقة وإهانة؛ إذ رجع أحد مهاجرينا من الفلبين في العام الماضي، وبلَّغني أن عزرا يُهديني السلام، وأنه إن كان يلزمني باص ثانٍ ليحميني في تجوالي، فإن عزرا يستحصل لي على مثل هذا الإذن من ابن عمه الجنرال ديان، وهو في الجيش الإسرائيلي اليوم، وكان — كما تذكر — قائد حامية القدس في أيام حرب فلسطين.

أغرب من الخيال، ولكنها وقائع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤