زلزال الفلبين

هل النفس — كالأرض — أحشاؤها نيران فوارة، وقشرتها جماد تصلب، فلا يحسُّ الجاهل — ولا يرى — إلا ما طفا عليها من حياة، حتى تشق النار بعض هذا الجماد فتثب بركانًا، أو تخمد بعض تلك النار، متقلصةً، فتهتز في رعشة أو زلزلة معيدةً تكوُّم الأحشاء والأشياء بترتيب جديد، مدمرةً بعض تلك القشرة، باطشة ببعض تلك الحياة الطافية؟

وهل الأرض كالنفس ذات أَثَرَة وطلاسم لم تكشف بعدُ عن أسرارها؟

وهل نحن بعض هذي الحياة، بعض هذه القشرة، لا ننفعل إلا إذا جرحنا، أو ذعرنا، أو هالنا في أنانية الدفاع عن النفس، ولو حيال خطر موهوم، قتل ودمار، أو خشينا بعثرةً تنتهي بترتيب جديد؟

هذه القشرة في نفسي حسبتها تتكثَّف، كنت أتوهم أنني أصبحت كجذع شجرة، كل سنة تطوق أحداثها بدائرة تشطرها عن الدائرة السابقة.

في العام الماضي قرأت نبأ ثورة بركان في جزيرة «مامباهو» في الفلبين، أشغل الخبر قراء الصحف أسبوعًا، ثم تطوق وجمد، وانتهى.

ورجعت إلى نفسي أعد أطواق السنين — خمسة وعشرين — فإذا أنا عام ١٩٢٩ في قارب بخاري صغير أقصد من شمال جزيرة «مندناو» في سفرة قصيرة إلى جزيرة البركان في «مامباهو».

ها أنا منبطح على كيس جوز الهند، وإلى جانبي فتًى هندي يده في يد خطيبته.

هو ذا الجو اغبرَّ من بعد وكشر، ونفخ كأنه كبير في السراي يقابل طالب وظيفة.

هو ذا ربان القارب يحاول قدح الشرارة في عقله فيحكُّ قفاه، وينزع من فمه سيكارًا كأنه كرباج، ثم يبصق مطمئنًّا أنها ليست زوبعةً بحريةً (باغيو) بل اضطراب عابر (شوبسكو).

وثار الاضطراب، وما عبر، بل استقر أمواجًا وطوفانًا، وكانت الستائر محكمةً على جوانب القارب.

وكنت قد تعلمت من ربابنة السفن إبان الأعاصير أنهم يرفعون السجف كي يخففوا المقاومة المعترضة للرياح؛ فأمرت برفع تلك الستائر؛ لا لأني عليهم، بل لأن ربان القارب غبي، وراحت الفتاة في هلع تصيح، وكأن الأمر الذي أصدرته برفع الستائر والرعب الذي سيطر عليها خلقا لأوهامها أني منقذ بطل، فتعلَّقتْ بي تستغيث، ورحت أشجِّعها متكلِّفًا البطولة، فلما نجحت جرأتي بتطمينها — وهي الخائفة — انتهى الأمر بجرأتي؛ فنجحت بتطميني أنا الأكثر خوفًا.

هو ذا قاربنا يصل إلى الشاطئ — شاطئ «مامباهو» — فنربط على أقدام البركان الهادئ، ونقصد إلى المدينة ملتجئين في فندق جديد أيامًا ثلاثةً.

وتشتد الأنواء والأعاصير، ونحن في الفندق.

إني اليوم أنشق رائحة خشب الحيطان، وقد فاحت بعد أن انتفخت بالأمطار.

إني أسمع «الدوار»؛ أي البلاسيه المتجول، وهو أحد نزلاء الفندق، يغنِّي الأنشودة الرائجة الجديدة «رامونا»: Ramona I hear the mission bells above.

إني أرى البارومتر يسجِّل سرعة الإعصار ١١٤ ميل في الساعة.

هذه الجزيرة «مامباهو»، والنساء فيها تسعة لكل رجل، وكلنا دون الثلاثين، وكلنا يغني «رامونا»، والويسكي كالنساء متعدد الأنواع كثير ورخيص.

هي ذي صحف الصباح أمامي تقصُّ أنباء البركان الثائر الذي دمَّر الجزيرة والفندق الجديد، ترى بمن تعلقت الفتاة، وهي قد أصبحت أمًّا أو جدةً؟ ورماد البركان وسيوله النارية تنهال عليها؟

أية أغنية شائعة كان ينشدها الناس حين أحرقهم البركان؟

أحسست برعشة، ولكن … أقلب الصفحة من الجريدة أقرأ خبرًا ثانيًا، وتطلع إليَّ صورة جديدة.

قشرة الحياة صلبت، وحلقات الجذع جمدت.

إنها لا تصلح لغير العد.

ومنذ أيام جاءت التلغرافات العالمية تنبئ بزلزال في جزيرة «مندناو» قتلاه مئتان … ومصائب الزلزال تبدأ صغيرةً ثم تكبر؛ ففي يوم الكارثة لا يستطيعون أن يعدوا إلا بعض الضحايا، أقلب الجريدة من جديد؛ خالد العظم يسافر إلى مصر، حنا الكسواني يفوز بانتخابات الغوطة، جبران حايك يرد على شارل مالك، مئتا قتيل زادوا في اليوم الثالث إلى ٣٥٠، دمار لا يقدر الآن. سامي بك يمدح الأتراك، مدينة أوسامس أكثر الأمكنة إصابةً، المدن الواقعة على البحيرة، تقديراتنا في سباق الخيل.

هل هي مدينة أوسامس أم ميسامس؟ الأرض انشقَّت في أماكن كثيرة.

في «ميسامس» صديق لي حميم، هو نصري جريديني، رجع منذ سنتين إلى لبنان، وحضرنا معًا حفلةً راقصةً. آخر رسالة لأهله يهدي بها إليَّ سلامه، ويسأل هل تغيَّر قانون الجمارك؟ هل يسمحون بأن يأتي بأكثر من ثلاث صناديق سيكار هديةً؟ هل الكارثة في ميسامس أم أوسامس؟

أوسامس اسم لفتًى فلبيني له أخوات ست، كان هو وكانت أخواته الست في صداقة حميمة مع نصري جريديني، وكنا نحسب أن نصري سيتزوَّج إحداهن أو كلهن، وانتخب أوسامس عضوًا في مجلس الشيوخ، وفي زمن الحرب ناهَضَ المستعمرين اليابانيين فقتلوه. وعند انتهاء الحرب أعلنته حكومة الفلبين شهيدًا قوميًّا، وأطلقوا اسمه أوسامس على بلدة قرب مدينة ميسامس حيث يقطن صديقه نصري جريديني.

انشقت الأرض في أماكن كثيرة، وانشقت القشرة عن ذكرياتي في أماكن كثيرة بعد أن جاءت التلغرافات العالمية تذكر اسم ميسامس، ولم تعد الهزة في نفسي رعشةً، بل صارت زلزالًا.

إني أعرف بالضبط المقاطعة حيث نزل الدمار. لقد جلت مزارعها وقراها، وتفيأت أشجارها، واتَّجَرت في حوانيتها، ولا شك أني بتُّ في إحدى البيوت التي ضربها الزلزال.

أطللت عليها في أوائل سنة ١٩٢٧، وكنت «دوارا» أصحب ثماني شنتات هائلة كلها مساطر بضائع، وتنكة مستديرة كبرى فيها مساطر البرانيط، وكان — حتى يتم زي «الدوار» — على وسطي مسدس كولت ٣٨ (نمرو سبعة في لغة بيروت).

شككته في زناري الجلدي بحيث يراه الناس؛ لأن القانون يحرم نقل السلاح المخفي.

جئت إلى جزيرة «مندناو» في باخرة قبطانها إسباني، وقد أخذت السفرة يومين وثلاثة ليالٍ، وكان على الباخرة تاجر صيني، يتجر في كل ثغر ترمي الباخرة فيها مرساتها. وكان هذا الصيني طوال السفرة مرتميًا على سريره يهزُّ ساقه، وعيناه عالقتان بلا شيء بعيد، لا يأكل ولا ينام ولا يتكلم، حتى إذا وصلنا إلى مرفأ كان الصيني أول من ركب الزورق إلى اليابسة، وحين يرجع أراه محمرَّ الوجه برَّاق العينين ثرثارًا يضحك ويداعب. وقد صادقته وفهمت منه أنه ينشق الكوكايين حين ينزل من الباخرة، وكاد يقنعني بتجربة.

وحين نزلت في أول بلدة شمالي جزيرة «المندناو»، واسمها إيليغين، عرفني أحدهم على «التركو» هناك، فإذا هو «ميجال»، أو نخلة شاكر من دير القمر، وكان نخلة هرمًا أخبرني حالًا أنه مدين، وأنه فقير، وأنه يملك خمسة آلاف شجرة جوز هند لن تثمر إلا بعد ثلاث سنوات، وحينئذ تصبح غلتها ثروة، قلت: «وهل ترجع إلى «البلاد» حين تبدأ بقطاف الشجر؟»

أجاب: «لا أدري»، ولكن الذي سأعمله حين أرى الجوز على الأشجار هو أن أتعرى وأرقص بينها.

وحين أثمرت الأشجار لم يتعرَّ شاكر ولم يرقص؛ لأنه كان قد مات.

على كل حال لم أقع بغرام نخلة شاكر عند أول نظرة، ولكني عشقت أخاه الذي أتى بعد قليل، واسمه شكري، وهو لقصره واعوجاجه، وللكاسكت الذي يلبسه كأنه «جوكي» يتحدَّب على غير حصان، ولولا بعض الشتائم، لما عرفت أنه يتكلم العربية. وفغر فاه يتحدث لي ففهمت منه أنه خسر أمواله وأسنانه منذ سنين، وأنه سيصبح مليونارًا بعد قليل. «طول بالك على شكري.» ثم انهال عليَّ بنصائح أبوية خلاصتها أن كل الناس كلاب غشاشون. ولما أردت أن أستودعه لأذهب إلى «دانسالان»، وهي بلدة جبلية على ضفاف البحيرة — حيث ابتلع الزلزال قريتين — نصحني بقوله: «السفرة بعيدة، ساعتين بالأوتوموبيل، الناس كلاب قد يسرقون شنتاتك، انتظرني عند بائع البوظه هناك. في يدك كتاب، هيئتك تحب القراءة، كل المؤلفين كلاب، خذ بوظة، واقرأ ربع ساعة أعود إليك. عندي أعظم بوسطة ركاب ماركة «هوايت» أعظم ماركة في الدنيا. أركب أنا وأنت قرب الشوفير كالملوك، وندير قفانا إلى الركاب — الكلاب — بنصف ساعة نصل إلى «دانسالان»، انتظرني عند الكلب بائع البوظة، رايح شوف الكلاب.»

وكان الوقت صباحًا، وقد استهوتني شخصية شكري، فدخلت إلى دكان البوظة، ولم يطل الأمر حتى أقلعت الباخرة متابعةً سفرتها، وتفرقت السيارات، وخلا الشاطئ من الكلاب، وبقيت أنا وبائع البوظة وكتابي وشنتاتي.

وحوالي الساعة الرابعة من بعد الظهر سمعت هديرًا وخشيشًا وصفيرًا، ودويًّا وحرتقةً، وسط غيمة من غبار وبخار زيوت، فإذا شكري يبرز من الغيمة متبوِّئًا شيئًا سماه بوسطة، احتشد فيها نحو من ستين راكبًا أكثرهم «موروز» — مسلمو الفلبين — فوق أكياس من الرز — لا أذكر عددها — ودعاني، من غير أن يعتذر عن تأخره، إلى الجلوس قربه في المقدمة إلى جانب الشوفير حيث احتشد ثلاثة سواي. لا أعلم إن كان ذلك الكميون «هوايت»، ولكن أكبر ظني أنه أول كميون أنتجه أول مصنع، وكان ذلك على سبيل التجربة.

على أننا لم نخرج من البلدة ونبدأ بالصعود حتى شعرت بزهو كثير؛ إذ بدأت وشكري بأغنية «هيهات يا بو الزلف»، وكان الركاب يردون علينا بأغانيهم الحربية.

ورحنا نصعد على طريق واسعة من «الباتون» بين أحراش كثيفة، وقد اعترض سبيلنا مرتين قطيع من القرود، يعبرون إلى الغابة غير مذعورين، وكنا نرى على جانب الطريق بعضَ القردة متعلقةً بأذيالها تتأرجح، تتطلع بنا وتهذر.

واستمر سيرنا نحوًا من ساعة، وإذ ﺑ «أعظم بوسطة في الدنيا» تقف وتأبى المسير، وراح الشوفير يستثير تفكيره، فيحك قفاه ويبصق.

ووجدت أن شكري لم يصطحب آلات التصليح، فلم يعدَّ لهذه الأزمة إلا الصراخ والشتائم، فكأنه أحد قادة الشعب عندنا يبحث في الأحلاف. وطال وقوفنا، وعلا الشجار بين شكري والركاب، وانتهينا إلى تدبير، فمشى الركاب إلى المزارع المجاورة، وبقي الشوفير في البوسطة يحرسها، ومضيت أنا وشكري إلى مزرعة قريبة يملكها أميركي اسمه «روجرز» فضفناه، وحصلنا منه على طلبية بثمانمائة ريال.

وفي الصباح أرسلنا في طلب سيارة، وودعت شكري، ومضيت إلى «دانسالان» البلدة الأخَّاذة على البحيرة.

تسألني: ماذا جرى لشكري؟ قبل الحرب تعين حارسًا ليليًّا لإحدى البنايات في مدينة «سيبو»، في الصباح وجدوه ميتًا على كرسي في بوابة البناية! تسألني كيف يذوب مهاجرونا «طول بالك على شكري».

وفي «دانسالان» تعرَّفت إلى فؤاد أخي نخلة وشكري، وهو غير الأخوين، وأصغرهما، فصيح الكلام، روى لي شيئًا من شعره؛ قصيدةً حفظتها في زمن الدراسة من نظم حافظ إبراهيم. وفؤاد لا يعمل شيئًا، ولا يملك شيئًا، ولكنه أكَّد لي أن نفوذه يسهل لي أعمالي التجارية، وهو قد اجتمع فيما مضى إلى مكآرثر الأب وإلى روزفلت «ثيودور» وإلى «الجنرال وود»، وكلهم كان حاكمًا للفلبين، وله صداقة حميمة معهم جميعًا، وانتهى الأمر بأن اقترض مني خمسة ريالات.

وكثر ترددي على مقاطعة «لاناو»، فقد كانت بلاد خير فيها جوز الهند وقصب السكر والتبغ، وحوالي «دانسالان» بدءوا يزرعون أشجار القهوة، وهي تصلح لذلك بسبب علوها.

وكانت بحيرة «دانسالان» ومناخها البارد ملجأً لنا من حر الأسفار — والفلبين بلاد حارة — وكان أكثر ما يجذبنا إلى «دانسالان» نادي ضباط الدرك، وهو جنة عمران في ضيعة بدائية.

وطابت الحياة في ذلك النادي من لهو وأكل وشراب، وسبب وجود النادي هنالك أن قوة كبرى من الدرك كانت مرابطةً على ضفاف البحيرة، وهي أبدًا مستعدة لقتال «الموروز» — مسلمي الفلبين — وما أنا بثقة تاريخ، ولكن المؤلفين العلميين اللذين يعتمدان على تاريخ الدعوة الإسلامية في الفلبين ألَّفهُما المرحوم الدكتور نجيب الصليبي الذي كان «الموروز» يحبونه ويحترمونه جدًّا.

غير أني عرفت أن في «الفلبين» نحوًا من مليونيْ مسلم يقطنون جزيرة «المندناو»، وجزيرة «الهولو» في الجنوب. وهم ثلاث قبائل أو عناصر، فأما الذين يسكنون حوالي البحيرة، فهو أشدهم بأسًا، وهم جماعة قتال لم يستطع الإسبانيون التغلب عليهم، ولحد ما عجز الأميركيون عن إخضاعهم، ولكنهم صادقوهم.

أعتقد أنهم اليوم ما عادوا بمتمردين، وصاروا — بعد أن تثقفوا — يتحسَّسُون قوميتهم «الفلبينية». ولكنهم في العهد الذي أتكلم عنه كثرت ثوراتهم، فكان أحد رؤسائهم، ويسمى «الداتو» يعلن الحرب، ويتم ذلك بعد أن يعد للأمر عدته، فيبني حصنًا يسمى «كوتا» في إحدى الغابات، أو على «رأس تلة»، ويحيط هذا الحصن بقنال يطوفه بالمياه، ويتزنر القنال، أو يقع فيه، ثم يجمع «الداتو» رجاله داخل الحصن، ويحفر أنفاقًا للهرب إلى مختلف الجهات، ويرفع على الحصن رايةً حمراء، فإن لم يفهم الدرك أن «الداتو» أعلن الحرب على الحكومة أرسل لهم كتابًا رسميًّا يعلمهم بذلك.

وقد أخبرني الضباط الأميركان أن عصف تلك الحصون هي من أخطر عمليات القتال، وأن لا مفرَّ لاقتحام الحصن من استعمال المدافع.

و«الموروز» لا يفهمون من الإسلام شيئًا، ويعلِّقون في منازلهم صورة محمد رشاد على أنه لا يزال خليفة المسلمين، وهم حين يريدون أن يقسموا يصيحون «لا إله» فقط، وفي كثير من الأحيان يصيب بعضَهم شيءٌ من الهوس، فيعكف يرتل آيات القرآن الكريم من غير أن يفهمها، ثم يحلق شعر رأسه وحاجبيه، ويأخذ سيفه مهاجمًا أيًّا لقيه فيقتله، واثقًا من أنه بفعلته هذه يدخل الجنة.

وقد حاول بعض المشايخ في دمشق وغيرها — الذين قصدوا إلى الفلبين — أن يعلِّموهم الدين فلم يفلحوا، واتهموا المشايخ بالكفر، ونعتوهم بأنهم يهود.

وحدث في إحدى السنوات أن متعهد أسفار جاء بباخرة للحجاج من الفلبين، فأوصلهم إلى «سنغافورة»، وقال لهم هذه مكة المكرمة، ثم أرجعهم إلى الفلبين حجاجًا.

أما القبيلة الثانية من مسلمي الفلبين، فهي تتمركز حول مدينة «كوتباتو». وفي بيروت اليوم تاجر مكتبه على البور هو عمر القيسي. إن سألت عن عمر القيسي فلا أحد يعرفه، أما إن سألت عن «أبو سمير» فهو معروف، هو ونسيبه عبد الرحمن الجارودي، وقريبه الثاني سعد الدين الجارودي، عاشوا واتجروا في «كوتباتو» سنينَ.

وكان بعض «الموروز» — وأخصهم المتقدمون بالسن — يتقدمون إليهم بعض الأحيان يطلبون منهم الأدعية والرقى.

وكان أكثر الثلاثة تبرُّمًا بهذه الطلبات عبد الرحمن الجارودي، ومرةً جاءته امرأة تقبِّل يديه وتطلب إليه أن يعطيها رقية ترجع إليها زوجها الذي غاب عنها منذ سنوات. وكان عبد الرحمن الجارودي يصرف المرأة وينتهرها فتعود إليه تتضرع. وأخيرًا، وجد أن أحسن وسيلة للتخلص منها أن يكتب لها ما تريد، فتناول قلمًا وورقةً، وكتب بالعربية:

هذه فلانة زوجة فلان، غاب عنها زوجها منذ سنوات، إن رجع كان به، وإلا فللقرد …

أو ألفاظًا بهذا المعنى وأفصح. وفي اليوم التالي عادت المرأة باكيةً تخبر عبد الرحمن أن زوجها عاد، فكيف تقدر أن تكافئ حضرة الإمام؟

وفي «كوتباتو» كذلك عاش رجل من دير قوبل اسمه نعيم أبو علي، اشتغل بتجارة صيد التماسيح من نهر كوتباتو الكبير حيث تكثر التماسيح، و«الموروز» يصطادون التماسيح بأن يقاتلوها في النهر وفي يد الصياد مدية حادة فيحتال القانص على التمساح حتى يغطس إلى تحته، ويتناول بطن التمساح — وبطنه هو القسم الوحيد من جسده الذي ينفذ فيه السكين — فيطعنه بالمدية، أو قد ينصبون على ضفاف النهر فخًّا من قصب يربطون فيه معزاةً، فإذا جاء التمساح ليأكلها تخبط وعلق، فيداهمه الصيادون بحرابهم ويقتلونه.

إن كنت يا قارئي متبرمًا بعملك فاذكر أنه أفضل من طلب الرزق بصيد التماسيح.

نعيم أبو علي قتله اليابانيون، وكان قد باع تجارته إلى ابن عمتي عارف تقي الدين، وهذا مات منذ سنين. بالأمس تسلَّمَت أمه عوضًا عن ابنها رصيد غربته النهائية: أربعة آلاف ليرة.

حين تقف على المرفأ — أو على المطار — تنظر إلى فتياننا المهاجرين، اذكر كل هذا.

وفي كوتباتو عاش وتاجر عم لي؛ فؤاد تقي الدين، هو الآخر دفن هناك قرب أخيه الدكتور نجيب. وفي جزيرة «المندناو» حيث الزلزال، مدينة «داقاو» عشت فيها سنوات هناك، ولدت ابنتي ديانا، وفي تلك المدينة عائلة أبو رجيلي أصابوا ثروة، كبيرهم سليم هنا في زحلة، وأخواه رشيد ويوسف، لا يزالان هناك، يوسف شخصية فكهة فريدة، هو أحد قلائل المهاجرين الذين يعترفون أنهم ما كانوا في «البلاد» من الوجهاء. يوسف يحدثك بفخر أنه جاء من قرية «كفر زبد» من البقاع، وكان فيها أكَّارًا، وهو حين يذكر البلاد لا يتشوق إلا إلى حماره، وفي تلك المدينة بعض أولاد المرحوم رشيد عواد. في الأسبوع الماضي زارني من الفلبين عضو مجلس الشيوخ وزوجته، اسمه «فلسبرتو قيرانو». مررنا بمقهى شتورا الكبير الذي يملكه ورثة المرحوم رشيد عواد، وتحدث السناتور إلى الفتى ابن رشيد عواد بإحدى اللهجات الفلبينية بطلاقة.

وكان فيما مضى حنا عواد كبير العائلة قد سكن «داقاو»، وهو الذي استورد العمال اليابانيين إليها، وكان ذا وجاهة وشأن، كبير الجسم، ضخم الشاربين، يشبه شبلي الملاط في شبابه. وقد أسَّسَ في المدينة شركة الكهرباء فيها، ولكن وجاهته وبرمكيته أنهكتا ماليته فأفلس. وقد أخبرنا الفتى عواد في شتورة أنهم اليوم حين يحضرون حفلات قتال الديكة في «داقاو»، ويخسر أحدهم الرهان يصيح «عواد»؛ أي إنه أفلس. وحفلات قتال الديوك تقام في الأعياد والآحاد، وبالطبع أنت تعرف كيف تتقاتل الديوك، وكيف يربطون في رجلي الديك شفرتين حادتين يضرب بهما خصمه، فالقتيل والمراهن عليه خاسران، ولكن المدهش في هذه اللعبة هو الشخص الذي يسمونه في الفلبين «هيسوس»؛ أي يسوع، يجلس هذا الرجل في زاوية الملعب في مكان مرتفع يراه الحضور ويراهم، وقبل كل معركة يبدأ الرهان، فيصيح كل مراهن في الملعب — وهم مئات — بالمبلغ الذي يراهن عليه، ويسمي الديك، فيسجل «هيسوس» كلَّ هذا في دماغه من غير ورقة، وحين تنتهي المعركة يخبر كلَّ مراهن المبلغ الذي ربحه بعد أن يحسب في عقله النسبة حسب معدل الرهان على الديك الرابح، يفعل كل هذا بسرعة ودقة، ومن غير ورقة ولا قلم، ولا يذكر أحد في الفلبين أن نشأ خلاف، أو ثارت شبهة أو وقع خطأ بسبب تقسيم الأرباح. و«هيسوس» هذا لا يمسُّ النقد لا قبضًا ولا دفعًا.

ولقد فاتني أن أحدثك — على ذكر قتال الديوك — أنني في سنة ١٩٣١ كنت أول من استورد إلى الفلبين السينما الناطقة النقالة. وكنا نطوف بها في الضياع من بلد إلى بلد نعرض الأفلام في باحات المدارس، أو في ملاعب قتال الديوك. ولما وصلنا إلى «دانسالان» بدأنا العرض في الفلاة في ملعب الديوك على جمهور «الموروز»، وكانت الصورة فيلم رعاة البقر حيث يكثر العراك وإطلاق الرصاص والقتال الفروسي على ظهور الخيول. ولقد أصاب الموروز — وهم رجال قتال — هوس، فكنا كلما انتهى عرض الصورة أرغمونا على إعادتها صائحين: «دوغما! دوغما!» أي «حرب! حرب!» ولم نستطع أن نتوقَّف حتى طلع الصباح، واستحالت رؤية الفيلم على الشاشة.

وفي «داقاو» تَلْفَنَ لي يومًا المرحوم رشيد عواد يسألني: «هل تعرف عبد الرحيم قليلات؟» قلت: «نعم، هو مدير البوليس في بيروت، هذه كانت وظيفته سنة ١٩٢٥حين هاجرت.» فهمس رشيد في التليفون: «ترى هل له علاقة بمقتل أسعد خورشيد؟ إنه هنا، وقد ارتبتُ به واليابانيون يشكون به.» فهرعت إلى عبد الرحيم، وكان في خسفة نفسية محزنة، وهو في طريقه إلى اليابان من إندونيسيا مسافر على باخرة يابانية، يصطحب نحوًا من خمسماية كتاب، وكان اليابانيون — وهم يرتابون بجداتهم — قد شغل بالهم هذا المسافر يحمل كتبًا كذا عدها. وكانت جرائد بيروت التي تأتينا تحفل بأنباء مقتل أسعد خورشيد؛ فربط صديقنا رشيد عواد كلَّ هذا بمديرية البوليس واستفهمني.

وسافر عبد الرحيم قليلات إلى اليابان بعد أن قضى بيننا يومين في ذكريات بيروت ومجالسها.

لماذا نسيت أن أخبرك أن الموروز يلفون رءوسهم بحطاطات ملونة، إلا أن وجهاءهم وأغنياءهم يعتمرون الطربوش الصغير، وشرابته مرتكزة إلى الأمام فوق المرآة مدورة صغيرة.

وفي جزيرة «المندناو» رجل من الشويفات اسمه وديع صعب. كان له أخ اسمه فائز من أذكى من عرفت، مات فقيرًا. وديع بعد أن تقلَّب في الأعمال التجارية انعزل في الجبال مع قطيع من البقر وقطعة أرض زرعها «أناناس»، وأطلق لحيته، ونسي اللغة العربية، ونسي الذين يتكلمونها، رأيته لآخر مرة سنة ١٩٣٤.

ومن المدن التي تعربست في أخبار وكالات الأنباء عن زلزال الفلبين قرية اسمها «كولمبوغن»، عرفت هذه القرية، وكانت مرفأً ومدينة عمال، فيها منشرة للخشب تملكها الشركة البريطانية العالمية «فتلي ملر»، أعتقد أن عدد العمال الذين يشتغلون في المنشرة في الأحراش ألف عامل، وكانت السوق فيها عبارة عن ثلاثة حوانيت أحدها لجرجي التبشراني من الشويفات ابنه فؤاد هو اليوم في بيروت، كنت أتردد على هذه القرية «دوارا»، وكان زبائني ثلاثة فقط، وكان عليَّ أن أقضي نحوًا من يومين؛ لذلك كانت تطول ساعات الفراغ، وبالطبع كنت أقتل الوقت عند المرحوم جرجي وابنه فؤاد، وأذكر أن ليلةً طال أرقها بسبب شدة الحر، وطال تقلُّبنا على الأسرة، وطالت أحاديثنا حتى سمعت من قصص أبي فؤاد أنه كان في البرازيل.

سألته عن توفيق قربان هناك، وقد كنت منذ أيام الدراسة معجبًا بأبحاثه وكتاباته، وكانت سيرته المدرسية العلمية أسطورةً، فقعد العم جرجي في سريره، وراح يقهقه، قلت: «ما الخبر؟» قال: «بتزعل؟» قلت: «لا.» قال: «توفيق قربان فتًى مثقف، فيلسوف، كتلة نار، فصيح، كثير الحركة، مفقوع، طفران؛ يعني نسخةً طبق الأصل عنك!»

تترسَّخ في أذهاننا صور عما لا نرى هي ظل لما نرى؛ فحين نقول جزيرة نحسب أنها «أرواد»، أو منشرة تخيلنا مناشر الخشب في بور «بيروت»، ولكن جزيرة «المندناو» هي أكبر من فرنسا، سكانها أربع ملايين، وهي تتَّسِع لخمسين مليونًا. أما الأشجار فقد كنت أرى في «كولمبوغن» حين سافرت على قطار الحديد جذوعًا قطرها يتراوح في ما بين المتر والثلاثة أمتار.

مدينة «هيمانس» مَحَتْهَا الزلزلة. ترى ما حلَّ بأحد تجارها وعائلته؛ رجل صغير أعرج اسمه «نوينس»! كانت أولى سفراتي إلى تلك المدينة لا أذكر في أية سنة، ولكني أؤرِّخها في العام الذي أدخلوا فيه على السيارات «الفرام الهيدروليكي»؛ لأني أذكر أني كنت أسوق سيارةً، وحاولت إيقافها، وراحت قدمي تشد على «الفرام»، ولكن السيارة استمرت مسرعةً نزولًا فهلعت، وفتحت الباب أبغي القفز، فلما نزعت قدمي عن «الفرام» الهيدروليكي وقفت السيارة. وفي أول مرة جئت «هيمانس» نزلت ضيفًا — ضيفًا يدفع أجرة النوم وثمن الأكل — عند «نوينس»، وهو صاحب دكان بعقد فاتورة، وجلست في حانوته حتى أقفله في المساء بعد أن نظف جاروره من النقود: غلة البيع في ذلك النهار.

وبعد العشاء طوف الحديث إلى مختلف الشئون الهامة حتى وقف عند لعبة البوكر فشكا مضيفي من أننا اثنان فقط، والبوكر يلعبونها في الفلبين ستة لاعبين وأكثر. واقترح لعبة «البلاك جاك»، وهي لعبة اﻟ ٢١، قلت إني أجهلها، ولكنك إن علمتني إياها فإني ألاعبك، فشرحها خلال دقائق، وأقبلنا نلعب وزوجته تراقبنا، وجاءني حظ غريب؛ فكانت الورقة التي أسحب عليها تأتيني، حتى طارت غلة النهار من بين يدي «نوينس»، وفتح صندوقه، ولم يطل الوقت حتى انتقلت محتوياته إلى التحصينات الأمامية التي تمترست خلفها، وثارت بين الزوج والزوجة عاصفة كلامية بلغة لا أفهمها، واحتقنت الدماء في وجهيهما، ثم استأذن الزوج وانصرف؛ ليقترض مالًا من جار له، وعاد يواكبه ثلاثة لا يصلحون أن يكونوا أعضاءً في جمعية العناية بالطفل، وجرى ما تتوقع؛ إذ وجهت القدر أن يفقدني أرباحي، وقليلًا من رأسمالي، وانتهت السهرة على سلام. وقد صادقت «نوينس» بعد هذا، وأصبحت عرابًا لأحد أطفاله؛ فاعترف لي أنه توهَّم أني تظاهرت بجهل تلك اللعبة حتى أنهبه أمواله بمهارة المحترف، وأن الثلاثة جاءوا كي يتفاهموا معي على إسكاني بئرًا في ضواحي البلدة. في الصباح حملت شنتاتي على جاموس، والجاموس أكبر من ثور البقر، وأقوى وأطوع قيادةً، يستعمل للحراثة والركوب، وتحميله الأثقال، ولكنه بطيء. وجاءوا إليَّ بحصان أصغر من حمار، فما إن علوته حتى وقع إلى الأرض معلنًا إضرابًا شاملًا، حينئذ ركبت الجاموس، بين الشنتات، وانطلقنا إلى دسكرة لقنص الريالات.

هل هدمت الزلزلة «ميسامس»، أو «أوسامس»؟ لقد دفنا في الفلبين أكثر مهاجرينا، وآخرون كثر اختفوا أو تطايروا: بشارة جريديني، وعبدالله الحداد (أخوه وليم في البنك السوري) أصابتهما قنبلة مزقتهما شظايا، نقولا القدسي قتل في فراشه واختفت جثته، إيليا أخرس اغتالوه والحرب لم تنتهِ، أربعة مشوا في جنازته؛ ديب عواد اختطفه اليابانيون وأهلكوه، وديع غبريل قتلوه، ومعروف شهاب الدين آخِرُ من رآه قال إنه كان مربوطًا إلى عمود، صموئيل عوض تحققوا أن العظام عظامه بعد أن كشف طبيب الأسنان على فكيه، وتعرف إلى جسر البلاتين الذي بناه هناك، موسى كيروز سحقته في الميدان قنبلة من طائرة، ميشال كنعان غرق مع بابور مسَّه لغم بحري. إنها قائمة طويلة فاجعة.

هل الفاجعة في «ميسامس»؟ إن نصري جريديني يجب أن يعود حيًّا، فنحن على موعد لليلة راقصة، ما كان نصري من أصدقائي، ولا عشرائي. خلال الثلاثة وعشرين سنةً التي قضيناها معًا في الفلبين كانت علاقتنا سطحيةً إلى درجة أني لم أقترض منه مالًا ولا هو اقترض مني، ولكنَّ في سلامته وعودته شيئًا جميلًا.

إن الظفر جميل، نصري كان في الشويفات سنة ١٩١٨حين خرج، وبعض الأهالي، وقاتلوا شرذمةً من فلول الجيش التركي، كانت حصة نصري من الغنائم جملًا، نصري شقي كثيرًا، عرفته ودكانه محشوة بما يمتلئ به دولاب السيارة. سمعته إذ ذاك يتبجَّح ويتحدَّى أكبر شركة مواصلات أميركية، ويعد مديرها بأنه سيخرجه، بالمنافسة التجارية، من جزيرة «بوهول». رأيته ينمو إلى حيث احتكر المواصلات في جزيرة «بوهول»، وشمالي «المندناو» يسير فيهما مئتي بوسطة.

لقد رأيت الخراب، إن كان نصري جريديني قد نجا من الكارثة؛ ففي نجاته من النصر ما يمحو الكثير من البشاعة.

هل الزلزال شقَّ هذه القشرة الصلبة من الذكريات؟ أحقًّا أن قلقي على نصري جريديني أملى عليَّ هذه الذكريات؟ أم أني اليوم وحيطان الدنيا تنهدم عليَّ، وسقفها يتواقع حول أذني، أستنجد بهذا الذي تهدَّمت الدنيا من حوله، فأرى نصره ظلًّا لنصري في غد؟ سامي بك يعود في الأسبوع القادم، قتيل وثلاثة جرحى في جونية، مظاهرة شيوعية في بيروت، صورة حفلة كوكتيل، انفجارات في نيقوسيا، اقلب الصفحة، اقلب الجريدة، اقلب الدنيا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤