يا شهيد المالكية

النقيب محمد زغيب، أحد الذين استُشهِدوا من أجل فلسطين قبل دخول الجيوش العربية، أقيمت لهذا البطل حفلة تكريم ألقيت فيها هذا الخطاب:

منكسة بيارقنا جئنا نُحيِّيك لا نرثيك.

يا شهيد المالكية، علم اليهود فوق المالكية، والأمة التي استردت من عروقك وديعة الدم، ما زالت جبهات قتالها في أرضها لا على تخومها، ونخوة الحياة — وهي الأصيلة في نفسها — ما زالت كما كانت برسم الهدر لا وقفًا على يوم النصر. والمقاتلون المصارعون من مواطنيك يفتقدون ولا يجدون، كما افتقدت أنت ولم تجد رديفًا من غير المقاتلين يشدُّ ويعطي ويهتف ويكدح، ويعد القذيفة يلتقمها المدفع بدلًا من القذيفة أطلقها المدفع.

أكثرنا يا محمد زغيب لا يعرفك ولا يذكرك ولا يمجِّدك، ولا يجد في حكايتك إلا حكاية.

أكثرنا يدخل وزارة الدفاع فلا يرى إلى يمينه الرخامة البيضاء مشرقةً بالأسود من أسماء رفقائك في السلاح وفي الشهادة، ولئن رآها فليس في قلبه رعشة، ولا هي تقنص من فكره وعاطفته إلا بأقل مما كانت تظفر به لوحة لشلال، أو صورة لحسناء عارية.

لعل الذي اختار للرخامة البياض لونًا ذكر أن الرومان كانوا يرمزون للأيام السعيدة من أيام السنة بحجر أبيض.

الموت فجيعة، ولكن في الشهادة سعادة.

وحجارتنا البيضاء هي قليلة في مبانينا؛ لذلك صغرت قلاعنا، وضخمت وكثرت مقاهينا.

لقد كومت أجيال الضعف الأوساخ على حجارتنا، فجهل أكثرنا أن المقلع عاجي ناصع البياض، وما فطن أكثرنا إلى أن علينا نحن أن نجلو بأيدينا حجارتنا، ولو حفيت أكفنا حتى العظام، أو تكسَّرت العظام.

أتخيلك يا شهيد المالكية، وقد ثقبت فوهة في سطح بيت، وركزت عليه رشاشك تطلق منه الرصاص على العدو المهاجم المغتصب، أتخيلك والدم يسيل من جراحك والعدو يتكاثر ويدنو، ورفقاء لك يناولونك العتاد، ثم ينصحونك — بعد أن رأوا دمك يسيل — أن تكف عن إطلاق النار، وأن تنسحب.

في المعركة التي خضتها لم تعد الأعداء، ولا عادلت بين قواك وقواهم، وما همك كيف تنتهي المعركة، الواجب فرض القتال حتى النهاية، وقد نفذت الواجب.

البطولة ليست معادلةً حسابيةً، ومعارك الحرية لا يكسبها إلا من تزيَّن بشيء من الجنون.

ما كنت وحدك في المالكية، ولا في جيش الإنقاذ. رفقاء لك جاءوا يجاهدون من بغداد، ودمشق، وحوران، وسائر أنحاء بلادنا، أكثرهم لا نعرفهم ولا نذكرهم، وهم ما وجدوا حتى اليوم من يكرمهم، أو يسأل كيف حالهم وما حلَّ بعيالهم.

وأنت لم يغمر اسمك، وما أهمل أمرك؛ لأنك أحد أفراد الجيش الذي يعرف كيف يكافئ ويقدر.

فباسم الذين يريدون الدفاع عن هذه الأمة بجيش الحق والنظام والواجب والحرية.

وباسم الذين يرون في أمثالك شرارات من نيران كامنة يريدون أن يثقبوا عنها السطح لتنفجر في وجوه أعداء هذه الأمة.

باسم الذين يدخلون المعارك، ولا يعدون أعداءهم، ولا يأبهون كيف تنتهي المعركة، بل يصمدون لا تؤلمهم الجراح.

باسم الذين يقدرون البطولة بأن يمارسوها.

جئنا نحييك لا نَرْثِيك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤