الفصل الثاني

هل المادة واقع؟

عندما التقى نيو ومورفيوس لأول مرة في واقع محاكًى يطلق عليه «البناء»، اقترح مورفيوس طريقة لتعريف الواقع:

ما «الواقع»؟ كيف تُعَرِّف «الواقع»؟ إذا كنتَ تعني ما نستطيع تذوقه وشمه وسماعه والإحساس به؛ إذن الواقع ليس سوى إشارات كهربية يترجمها دماغك.

بعبارة أخرى، الواقع هو ما يَظهَر لحواسك. هذا التعريف، والذي سنطلق عليه «تعريف فيلم ماتريكس»، هو تعريف عجيب في عدة مَنَاحٍ؛ فالإلكترونات، ورقم ٥، والركود الاقتصادي الأخير؛ كلها أشياء لا نستطيع تذوقها أو شمها أو سماعها أو الإحساس بها، ولكن معظم الناس متفقون على أنها واقع. من ناحية أخرى، الحشرات الوهمية التي تَظهَر أمام مُدمِني الكحول أثناء الهذيان الارتعاشي، والأصدقاء الوهميون الذين يتحدث معهم الأطفال، والروائح الوهمية التي يشمها المرضى المصابون بألزهايمر؛ كلها أشياء مرئية ومسموعة ومشمومة، ولكنها ليست واقع؛ من ثم فنحن في حاجة لتعريف أفضل للواقع.

إن مجرد ظهور الشيء لحواسنا ليس دليلًا كافيًا على واقع وجود هذا الشيء؛ فالهلاوس والظواهر المرتبطة بها كلها ليست من الواقع، وفقًا لما نقوله، لأنها غير مرئية أو ملموسة أو مشمومة من قِبَل أي شخص آخر؛ فهي ليست ظاهرة لحواس أي شخص آخر بخلاف الشخص الذي تراوده الهلاوس. على هذا يمكننا تعريف «الواقع» ليعني أي شيء ظاهر لحواس عدد كبير كافٍ من المشاهدين. وسيتيح لنا ذلك التفرقة بين خيالاتنا الخاصة وهلاوسنا وبين شكل العالم الذي يشترك الجميع في رؤيته. إن علامة الواقع ليس أنه يَظهَر لبعض الناس بعض الوقت، وإنما أنه يَظهَر لمعظم الناس معظم الوقت. وهذه الفكرة، التي ترى أن الواقع لا يصل إليه إلا أغلبية من العقول تعمل معًا في انسجام، حدث لها بعض التشويه والتحريف في رواية جورج أورويل «١٩٨٤» عندما قال عضو الحزب الداخلي أوبرين:

أقول لك يا وينستون، الواقع ليس خارجيًا، الواقع موجود في العقل البشري وليس في أي مكان آخر. ليس في عقل الفرد، الذي يمكن أن يرتكب أخطاءً، وفي كل الحالات سرعان ما يذهب في طي النسيان؛ وإنما في عقل الحزب، وهو عقل جمعي وخالد.

فلْنُطْلِقْ على هذا «تعريف رواية «١٩٨٤»». وعلى الرغم من أنه أكثر إرضاءً من «تعريف فيلم ماتريكس»، فإنه تعريف شديد الضعف أيضًا؛ فهو سينظر إلى الواجهات الواهية لسيناريوهات الديستوبيا مثل سيناريو رواية «١٩٨٤» أو سيناريو فيلم ذا ماتريكس بوصفها الحقيقة، وسوف يُنتج نتائج غريبة في السيناريوهات الأقل خيالًا. فلتنظر مثلًا إلى مرض كورو، وهو مرض عجيب موجود أساسًا في جنوب شرق آسيا. تشمل أعراضُ المرضِ القلقَ الشديد المفاجئ من نكوص الأعضاء التناسلية إلى داخل الجسم؛ ومن ثم التسبب في الموت. وكثيرًا ما ينتشر المرض على هيئة وباء في منطقة معينة؛ على سبيل المثال ظهر المرض في سنغافورة عام ١٩٦٧، فأدَّى إلى دخول ٩٧ مريضًا إلى مستشفًى واحد في يوم واحد. وما يؤدِّي لتعقيد المرض أن المصابين به قد يَلْجئون من فرط القلق إلى اللجوء للكُلَّابات والمَلازم وغيرها من الأدوات الميكانيكية لإيقاف نكوص أعضائهم التناسلية المحسوس إلى داخل أجسامهم، وغالبًا ما تتسبب هذه الأفعال في أضرار جسيمة. وغنيٌّ عن القول، أنه ليس ثمة نكوص فعليٌّ ملحوظ يحدث للأعضاء التناسلية؛ فالكورو ليس مرضًا جسديًّا وإنما مرض عقلي. ولكن وفقًا لتعريف رواية «١٩٨٤»، إذا اعتقد عدد كافٍ من الأشخاص في تقلص القضيب، فتقلص القضيب أمر واقعي. إن الصعوبة التي يواجهها المهلوسون، والأطفال ذوو الأصدقاء الخياليين، وغيرهم، ليست في أنهم مخطئون في الطريقة التي يَرَوْن بها العالم، وإنما في أنهم أقلية. وبمجرد أن يؤمن عدد كافٍ من الأشخاص بشيء غير واقعي، فإن هذا الشيء، أيًّا كان، لا بد من اعتباره واقعًا.

سيكون من الطيب أن نستخلص تعريفًا أكثر موضوعية لكلمة «الواقع» من ذلك التعريف المرتبط بالاتفاق الجمعي. وتمنحنا الحكاية التالية حول المعجمي صامويل جونسون فكرةً عما ينبغي أن نبحث عنه:

بعد أن خرجنا من الكنيسة، وقفنا نتحدث لبعض الوقت معًا حول سفسطائية الأسقف بيركلي المبتكرة لإثبات عدم وجود المادة، وأن كل ما في الكون لا يعدو أن يكون محض أفكار موجودة في العقل. ولاحظتُ أننا رغم تيقُّننا من أن مذهبه غير صحيح، فإنه من المستحيل دحضه. ولن أنسى ما حييتُ الحماسةَ التي ردَّ بها جونسون وهو يضرب بقدمه بمنتهى القوة حجرًا كبيرًا قائلًا: «مع ذلك، أنا أدحضه.»

بالنسبة لجونسون، علامة الواقع هي المقاومة التي تبذلها أجسام معينة؛ فأنا أستطيع تخيل مقعد موضوع أمامي بكل تفاصيله وشكله ولونه وملمسه، إلى أن يصبح لديَّ صورة شديدة الوضوح له في عقلي. مع ذلك، إذا حاولتُ الجلوس على هذا المقعد، فإن جسمي سيقع على الأرض، في حين أن المقعد الواقعي الحقيقي سوف يدعم جسمي. «المقاومة» في هذا السياق، لا تعني اللانفاذية، وإنما إحجام الأشياء الواقعية عن التأثر برغباتنا وأمانينا. وكما يصوغها فيليب كيه ديك، فإن الشيء الواقعي هو الشيء الذي لا يختفي عندما تكف عن الإيمان بوجوده.

بمجرد أن يتوقف طفلك عن الإيمان بوجود صديقه الخيالي، فإن هذا الصديق يختفي، وإذا توقفتَ أنت عن تصور المقعد، فسوف يختفي هذا المقعد الوهمي من الوجود؛ ولهذا فإن هذا الصديق وهذا المقعد (على عكس الأصدقاء والمقاعد العادية) غير واقعيين. وسوف نطلق على تعريف الواقع بأنه الشيء الذي لا نختلقه «تعريف جونسون». ورغم الطابع المنطقي العقلاني الذي يتسم به هذا التعريف، فإن له بعض النتائج الغريبة. بشكل عام، نحن نعتقد أن البورصة واقع، وأن الأحلام ليست واقعًا، ولكن وفقًا لتعريف جونسون، العكس هو الصحيح. فنحن لا نختلق أحلامنا؛ لأننا لا نستطيع اتخاذ قرار بما نريد أن نحلم به (اسأل أي شخص يعاني من كوابيس متكررة). والأحلام تبذل بعض المقاومة لرغباتنا وأمانينا، فإذا راوَدَك حلم بأن القطار يفوتك، فإن القطار لن يتأخَّر عن موعده خمس دقائق لتلحق به، بل سيرحل في وقته بالضبط في الحلم، وسوف يفوتك. أما البورصة، فهي شيء نختلقه جميعًا. إذا توقف الجميع عن الإيمان بها، بمعنى أن يتوقف الجميع عن الشراء والبيع فيها، فإن الأسهم وأسعارها وتقلباتها سوف تختفي من الوجود، تمامًا كما يختفي الصديق الوهمي الذي توقف الطفل عن الإيمان به.

لكن ربما نستطيع حل مشكلة تعريف جونسون؛ فالأحلام والبورصة هما في النهاية أشياء يختلقها العقل البشري. ولكنْ تَخيَّلْ عالَمًا ليس به بشر، أو ربما ليس به عقول؛ ألا يمكننا اعتبار كل ما في هذا العالم واقعيًا؟ كيف سيصبح عالمنا دون عقول واعية؟ سيظل القمر يدور حول الأرض والأرض تدور حول الشمس؛ والإلكترونات تدور حول نواة الذرة. لن يكون هناك ألوان، ولكن سيظل هناك ضوء بأطوال موجية مختلفة؛ لن يكون هناك روائح، ولكن ستظل هناك جزيئات عالقة في الهواء؛ لن يكون هناك قصص، ولكن ستظل هناك علامات على الورق. وهذا التعريف للواقع بأنه ما يتبقى في عالم نحن غير موجودين فيه، عالم انتُزِعَ منه كل البشر، سوف نطلق عليه «تعريف نهاية العالم». وفي حين أن هذا التعريف يتسبب في جعل مجموعة الأشياء الواقعية صغيرة نسبيًّا (فاقتصاد العالم واللغات والحروب وغيرها لن تُعَد أشياء واقعية)، فإنه التعريف الأكثر تماسكًا الذي قابلناه حتى الآن؛ فهو يعادل ما هو واقعي بما هو موجود بغض النظر عن أي شيء، بالعالم الذي لم تمسه العقول البشرية، العالَم الذي نُزعت منه كل أماني البشر ورغباتهم واهتماماتهم.

مع ذلك، قد يكون من الممكن أن نجعل هذا التعريف أكثر تماسكًا. ذَكَرَ جون لوك في كتابه «مقالة حول الفهم البشري» هنديًّا:

قال إن العالم يرتكز على فيل ضخم، وعندما سئل عما يرتكز عليه الفيل نفسه، كانت إجابته: سلحفاة ضخمة. ولكن عندما ضُغط عليه لمعرفة ما ترتكز عليه السلحفاة ذات الظهر العريض، أجاب بأنه شيء لا يدري كنهه.

عندما نحلِّل كل ما يحيط بنا من أشياء مادية، سنجد أن الأحذية والسفن وشمع الختم، وكل الأشياء التي نستخدمها يوميًّا مكونة من جزيئات، وهذه الجزيئات تتكون بدورها من ذرات، وتتكون كل ذرة من نواة صغيرة تُحيط بها إلكترونات. أما النواة فهي تتكون من بروتونات ونيوترونات، التي يمكن تحليلها إلى مجموعة متنوعة من الجسيمات دون الذرية. وكل هذه الجسيمات يمكن تفسيرها في ضوء أوتار، والتي يمكن تحليلها إلى كيانات أساسية أكثر «لا ندري كنهها». في هذا التسلسل الهرمي، كل مستوًى يعتمد على المستوى الأدنى منه مباشرة، وفي هذه الحالة يكون الشيء الواقعي هو الموجود في المستوى الذي يعتمد عليه الآخرون، ولكن دون أن يعتمد هو نفسه على شيء؛ أيِ السلحفاة الأساسية — أيًّا كانت — التي يعتمد عليها الكون كله. ويختلف «تعريف السلحفاة» عن تعريف نهاية العالم للواقع لأنه لا ينظر إلى كل ملامح العالم التي تفتقد إلى العقل على أنها واقعية: جبل إفرست، على سبيل المثال، رغم أنه مستقل عن العقل، فلا يزال يعتمد في وجوده على وجود أجسام أخرى مادية أصغر وأكثر جوهرية. الواقع هو فقط الشيء أو الأشياء التي تنتهي عندها أدنى حدود الميتافيزيقا؛ أي الأجسام التي تشكِّل المستوى السفلي من سلسلة الاعتماد التي تمتد من البضائع المتوسطة الحجم إلى الجزيئات والذرات والجسيمات دون الذرية إلى وجهةٍ ما زلنا لا نعرفها.

التعريفات الخمسة للواقع

  • تعريف فيلم ماتريكس: الواقع هو ما يَظهَر لحواسِّنا.
  • تعريف رواية «١٩٨٤»: الواقع هو ما يَظهَر لمعظم الناس.
  • تعريف جونسون: الواقع هو ما لا نختلقه.
  • تعريف نهاية العالم: الواقع هو ما هو موجود بغض النظر عن أي شيء.
  • تعريف السلحفاة: الواقع هو المستوى الأدنى في سلسلة الاعتماد.
fig7
شكل ٢-١: تَظهَر في الصورة لافتة على مكتب هاري ترومان ومكتوب عليها: THE BUCK STOPS HERE بمعنى «هنا نهاية المطاف.»

من بين تعريفات الواقع الخمسة التي ذكرت حتى الآن، يبدو التعريفان الأخيران للواقع (أنه ما هو موجود بغض النظر عن أي شيء، أو هو المستوى الأساسي لكل ما عداه من أشياء) هما التعريفين الأكثر تماسكًا وموضوعية؛ لذلك عندما نبحث فيما إذا كان شيءٌ ما واقعيًا أم لا، يجب أن نضع في ذهننا هاتين الفكرتين. سوف نبدأ بالنظر إلى حقيقةِ ما يبدو أنه أحد الأشياء الشديدة الجوهرية: المادة. والسؤال الحاسم الذي يجب أن نطرحه هو إذا ما كان أدنى مستوًى للمادة يشبه برطمانًا من الجيلي أو علبة مليئة بقِطَع الحلوى. بعبارة أخرى، إذا أخذنا جسمًا ماديًّا وقسمناه إلى نصفين، ثم قطعنا النصف إلى نصفين، وتابعنا بهذه الطريقة، فهل سينتهي بنا الأمر بأجسام بسيطة ممتدة مستمرة مثل الجيلي يمكن تقسيمها ولكن ليس لها أجزاء واقعية؟ أم إن كل شيء يتكون من ذرات دقيقة غير ممتدة، مثل قطع الحلوى الشديدة الصغر غير القابلة للتقسيم؟

يبدو أن تشبيه الجيلي يواجه صعوبات إذا ما فكرنا في جسمين، فلنَقُلْ، برتقالتين بحجمين مختلفين. من البديهي أننا سنرغب في قول إن إحداهما أكبر من الأخرى لأنها تحتوي على أجزاء أكثر. ولكن إذا كانت المادة مثل الجيلي، فلدينا فقط جزيئات محتملة؛ إذ يمكننا تقسيم ما لدينا إلى جزأين مرة أخرى، ولكن العالم لا يأتي في أجزاء ذرية منفصلة متمايزة معبأة سابقًا. في هذه الحالة، كل برتقالة تحتوي على عدد لا نهائي من الأجزاء المحتملة. وإذا افترضنا أيضًا أن الترتيب الداخلي لثمرتَي الفاكهة متشابه إلى حد ما، فمن الصعب إذن أن نفهم السبب وراء كون برتقالة أكبر من الأخرى.

إذا كان العالم لا يشبه برطمان الجيلي، فهل هناك قِطَع صغيرة لا نهائية من المادة؟ ظاهريًّا، تُعَدُّ هذه النظرية أكثر معقولية. عندَما نستمرُّ في تقسيم الأشياء، سنَصِل إلى مرحلة لا نَستطيع فيها الاستمرار في التقسيم. والأشياء غير القابلة للتقسيم التي نصل إليها في النهاية هي المكونات الذرية الأساسية من المادة، والتي يتكون منها كل شيء. ولكنَّ كيفية تكوُّن كل شيء من ذرات غير قابلة للتقسيم أمر أكثر تعقيدًا مما يبدو، ولنضربْ مثلًا بشيء معقد يتكون من ثلاث ذرات، إحداها في المنتصف وواحدة على اليمين وأخرى على اليسار.

fig8
شكل ٢-٢: الفيلسوف الهندي فاسوباندو (القرن الرابع الميلادي).

ولنطلقْ على الجزء الذي تلمس فيه الذرةُ اليسرى الذرةَ الوسطى (أ)، والجزء الذي تلمس فيه الوسطى اليمنى (ب). لا يمكن أن يكون (أ) و(ب) هما الجزء عينه، وإلا فإن الذرة اليسرى والذرة اليمنى ستتلامسان بشكل مباشر، وسيكون هناك ذرتان فقط، وليس ثلاث ذرات. لكن إذا لم يكونا الجزء عينه، فإن الذرة الوسطى تتكون على الأقل من جزأين، (أ) و(ب). ولكن كيف يمكن هذا، إذا لم تكن مجزَّأة أساسًا؟ يبدو أنه إما أن الذرات (على عكس افتراضاتنا) يجب أن تحتوي على أجزاء؛ ومن ثم فهي ليست ذرات حقيقية؛ أو أن عدة ذرات لا يمكن أن تملأ حيزًا أكبر من الذرة الواحدة، وفي هذه الحالة فإن الأجسام الممتدة لا يمكن أن تتكون من ذرات.

تسببت صعوبات شرح ماهية المادة بالضبط في أن يستنتج الفيلسوف الهندي فاسوباندو، الذي عاش في القرن الرابع، أن المادة غير موجودة على الإطلاق؛ فبالنسبة لفاسوباندو، كل ما هو موجود عقلي بطبيعته، وما ننظر إليه باعتباره مادة هو في الحقيقة مجرد أجسام عقلية مُدرَكة على نحو خاطئ؛ فالمادة واقع فقط في تعريفَي الواقع الضعيفين «فيلم ماتريكس» و«رواية «١٩٨٤»»، ولكن ليس في أيٍّ مِن التعريفات الأكثر موضوعية.

لكن ما مدى شدة هذه الصعوبات؟ تبنَّى العلم الغربي الحديث نظرية «قطع الحلوى» للمادة؛ إذن كيف نستطيع أن نفهم الذرات التي يفترضها؟ قد نرغب في الرد على نقد فاسوباندو بقول إنه على الرغم من وجود ذرات ممتدة تملأ مساحة من الفراغ، فإن هذه الذرات لا تتجزأ. يمكننا تخيل كل ذرة من هذه الذرات باعتبارها محاطة بمجال من القوة الطاردة يمنع أي شيء من الدخول إليها؛ لذا فإن تجمُّع هذه المجالات من القوى، التي يرتكز كلٌّ منها حول ذرة غير ممتدة، قد يؤدي إلى ملء حيز من الفراغ، مانعًا أي أجسام أخرى من شَغْل الحيز في الوقت نفسه. بعبارة أخرى (وبغضِّ النظر عن التصور الكلاسيكي)، يمكننا أن نقول إن الجسيم النقطي يمكن أن يملأ حيزًا نظرًا لوجود احتمال غير صفري لملء كل نقطة داخل هذا الحيز.

مع ذلك، ليس من الواضح إذا ما كان أيٌّ من هذا يمكن أن يمدنا بتفسير مُرضٍ لملء المادة الفراغَ. إذا بحثنا أي جزء من هذا الفراغ، فسنلاحظ أنه غير مملوء؛ سنجد ذرة غير ممتدة (والتي وفقًا لتعريفها لا تملأ فراغًا) أو مجال قوة (وهو الخاصية السلبية المحضة التي تمنع أي شيء من الاقتراب منه) أو «احتمالية» وجود شيء في هذه النقطة؛ لذلك كل ما ننتهي إليه هو «مظهر» المادة وهي تملأ حيزًا من الفراغ، دون وجود شيء فعلي يملؤه. ولا يمكن الجزم بأن منتقدي فاسوباندو سيكونون أكثر تقبلًا لهذا الخيار.

بعد فترة طويلة، نجد جورج بيركلي (١٦٨٥–١٧٥٣) ينكر واقعية المادة، وإن كان لأسباب مختلفة عن تلك التي ساقها فاسوباندو. يشير بيركلي إلى أننا لا نتواصل على نحو مباشر مع المادة، فعندما نلتقط برتقالة ونقشرها ونتذوقها ونشمها، فنحن نستكشف مجموعة من المُدْرَكات: الشكل الدائري واللون البرتقالي والمذاق الحلو الحامض. ونحن نفترض وجود هذا الجسم المادي، البرتقالة، بسبب هذه المُدْرَكات. ولكننا لا نستطيع الخروج من حيز عقلنا لنتأكد من وجود هذا الجسم في الحقيقة، بغض النظر عن كل المدركات؛ لذلك يبدو أن فكرة المادة لا تلعب دورًا مهمًّا في تفاعلاتنا المباشرة مع العالم. في النهاية تعتمد كل نظرياتنا على مُدرَكاتنا، وهذه المُدرَكات ليست مادية؛ من ثَمَّ فإن كل ما نستكشفه هو في طبيعته عقلي، في حين أن العالم المادي (إذا كان ثمة شيء يحمل هذا الاسم) لا يمكن الوصول إليه إطلاقًا. وكل العلم الذي نتوصل إليه الآن يمكن أن نتوصل إليه، ربما بطريقة أصعب قليلًا، عن طريق التوقف تمامًا عن الحديث عن المادة، والاستعاضة عنه بالحديث عن المُدرَكات. كذلك يرى بيركلي أن المادة ليست شيئًا خارج حدود إدراكنا، سواء في الحياة اليومية أو في ممارستنا للعلوم الطبيعية، كما أن افتراض أن المادة موجودة أيضًا لا يفسر أي شيء على الإطلاق. نحن نستطيع أن نحكي قصة طويلة معقدة عن كيفية ارتداد الضوء على البرتقالة ليصطدم بأعيننا ويثير الخلايا الحساسة للضوء في الشبكية؛ مما يتسبب في حدوث نبضات تنتقل عبر العصب البصري لتصل إلى المخ؛ حيث تتم معالجتها في القشرة البصرية. ولكن هذه القصة لن تفسر لنا أبدًا كيف يتأتَّى «إدراك البرتقالة»، وهي عملية عقلية. ويبدو أن كل هذا الحديث عن المادة لا يُثِير إلا مزيدًا من الحديث عن المادة دون الوصول إلى تفسير ولو تقريبيًّا للأشياء الوحيدة التي نعرفها بشكل مباشر، وهي تحديدًا المُدْرَكات. إن واقعية المادة افتراض نستطيع الاستغناء عنه.

جدير بالذكر أن فاسوباندو وبيركلي حين ينكران واقعية المادة لا ينكران ظهورها لنا أو لمعظم الناس، ولكنهما ينكران واقعيتها بالرجوع إلى تعريف نهاية العالم وتعريف السلحفاة للواقع؛ ففي عالم دون عقول، لن يكون ثمة مادة؛ بالإضافة إلى ذلك، الأشياء المادية ليست هي الأكثر جوهرية في العالم. (أيضًا فاسوباندو وبيركلي لن يعتبرا المادة واقع وفقًا لتعريف جونسون؛ فبالنسبة لهما، إذا تخلصنا جميعًا من اعتقادنا الخاطئ بوجود أجسام مادية، فلن يكون هناك مادة؛ ومن ثم فإن المادة شيء نختلقه جميعًا.)

تَشْغَل البراهين التي ساقها فاسوباندو وبيركلي مكانة مهمة في تاريخ الفلسفة، إلا أن بعض الأفكار المعاصِرة الأكثر روعة حول واقعية المادة لا تَنبَثِق عن التأمل الفلسفي المحض، وإنما عن مجموعة من التجارب الفيزيائية البسيطة نسبيًّا. وقد أدَّت محاولات تفسير ما يحدث في هذه التجارب إلى بعض النظريات الشديدة الغرابة وغير المتوقعة في العالم من حولنا.

ويمكن تجهيز إحدى هذه التجارب بسهولة في المنزل؛ كل ما تحتاجه هو مصباح ومجموعة من قِطَع الورق المقوَّى بها ثقوب ذات أحجام متناقصة، وشاشة عرض من نوعٍ ما، مثل حائط أبيض اللون. إذا وضعتَ قطعة من الورق المقوى بين المصباح والحائط، سوف ترى بقعة مضيئة في مكان اختراق الضوء للورق المقوَّى. وكلما استبدلتَ بقطعة الورق المقوى قِطَعًا أخرى ذات ثقوب أصغر فأصغر، فسوف يَقِلُّ حجم بقعة الضوء. وبمجرد أن نتجاوز حجمًا معينًا، سوف يتغير النمط على الحائط من نقطة صغيرة إلى سلسلة من الحلقات المتَّحِدة المَركَز من الضوء والظلام، تمامًا مثل هدف الرماية. يمكننا ملاحظة نمط الحلقات المتداخلة المتحدة المركز بسهولة عن طريق عمل ثقب شديد الصغر (نحو واحد على عشرة ملِّيمتر) في قطعة من ورق الألومنيوم والنظر عبر هذا الثقب نحو مصدر ضوء يشبه النقطة، مثل مصباح شارع بعيد. نمط الحلقات المتداخلة المتحدة المركز سمة مميزة للموجات، سواء أكانت صوتية أو مائية أو أي نوع آخر من الموجات، عند تمريرها عبر ثقب. وهذا ليس مدهشًا بطبيعته؛ فنحن نعرف رغم كل شيء أن الضوء مَوْجَة؛ ومن ثَم فإنه سيسلك سلوك الموجات.

fig9
شكل ٢-٣: نمط الحلقات المتداخلة المتحدة المركز.
والآن فكِّر فيما يمكن أن يحدث عند تغيير إعدادات التجربة تغييرًا بسيطًا. بدلًا من المصباح، سنستخدم جهازًا يطلق إلكترونات (مثل ذلك الموجود في أجهزة التليفزيون القديمة)، وبدلًا من الحائط، سنستخدم طبقًا من الزجاج مطليًّا بالفسفور. عندما يصطدم إلكترون بقطعة من الفسفور، فإنه يومض؛ ومن ثَم فإننا نستطيع استخدام هذه الشاشة لتتبع أماكن اصطدام الإلكترونات غير المرئية. تتفق النتائج مع نتائج التجربة السابقة؛ مع الثقوب الكبيرة بما فيه الكفاية، سنحصل على بقعة واضحة إلى حد ما في مكان اصطدام الإلكترونات بالشاشة؛ ومع الثقوب الأصغر، سنحصل على نمط حلقي. وهذا يبدو شيئًا غريبًا؛ فالإلكترونات عبارة عن جسيمات تقع في نقاط محددة لا يمكن تقسيمها. ومع ذلك، فهي تسلك سلوك الموجات المنتشرة عبر الفضاء، ويمكن تقسيمها، وتندمج في موجة واحدة عندما تقابل موجة أخرى. ولكن ربما لم يكن الأمر بهذه الغرابة رغم كل شيء؛ فالماء يتكون من جزيئات صغيرة أيضًا يطلق عليها ذرات وتتجمع في جزيئات H2O، ومع ذلك يسلك سلوك الموجات. من الممكن أن نرى ظهور النمط الحلقي كشيء يحدث عندما يتجمع عدد كافٍ من الجزيئات فحسب، سواء أكانت جزيئات ماء أو إلكترونات. إلا أن إحداث تغيير بسيط في التجارب السابقة يُبين لنا أن هذا الرأي لا يمكن أن يكون صحيحًا. في هذا التغيير، سنقلِّل عدد الإلكترونات التي نُطلِقها من مدفع الإلكترونات بالتدريج حتى نصل في النهاية إلى إطلاق إلكترون واحد كل دقيقة. سيختفي النمط، وكل ما نراه الآن هو وميض بسيط كل دقيقة. والآن نترك هذا الإعداد يعمل كما هو لبعض الوقت، ولكن مع الاستمرار في تسجيل المكان الذي يحدث فيه الوميض البسيط على الشاشة. بعد ذلك، نقوم بتخطيط مواقع ألوف الومضات التي حدثت على الشاشة. الغريب أننا لن نحصل على ترتيب عشوائي من النقاط، وإنما على نمط حلقي مرة أخرى! هذه النتيجة شديدة الغرابة، فكل إلكترون مفرد لا يعرف أماكن اصطدام الإلكترونات السابقة واللاحقة له؛ ومن ثم فالإلكترونات لا تستطيع التواصل بعضها مع بعض لإنتاج نمط الحلقات المتداخلة المتحدة المركز، وإنما لا بد أن كل إلكترون قد انتقل مثل موجة عبر الثقب لإنتاج النمط الحلقي المميز، ثم تحوَّل مرة أخرى إلى جزيء لإنتاج النمط النقطي على الشاشة. ويشترك في هذا السلوك الغريب أي جزء صغير من المادة مثل الإلكترونات والنيوترونات والفوتونات والكواركات وغيرها من الجسيمات الأساسية، ولكن لا يشترك فيه هذه الأشياء فحسب؛ فقد لوحظت تأثيرات مشابهة للأجسام الأكبر حجمًا بما فيه الكفاية بحيث تُرى تحت الميكروسكوب، مثل شبكة من ستين ذرة كربون تكوِّن شكل كرة القدم.

من أجل تفسير سلوك هذه الأجسام، يربط الفيزيائيون «دالة موجية» بكل جسم منها. على الرغم من حقيقة أن مثل هذه الموجة تتمتع بالخصائص المعتادة للموجات العادية (مثل موجات الصوت والماء)، وفي ذلك السعة (مدى انحرافها لأعلى أو لأسفل عن حالة الراحة) والطور (في أي نقطة في الحلقة توجد الموجة في الوقت الحالي)، والتداخل (بحيث يلغي الطوران «العلوي» و«السفلي» للموجتين المتلاقيتين أحدهما الآخر)، فإن الوسط الذي توجد فيه هذه الموجات ليس واضحًا بالمرة. تَحدَّث أينشتاين عن «الحقل الطيفي» باعتباره وسطها. بالنسبة لموجة في وسط عادي مثل الماء، يمكننا أن نحسب طاقتها عند أي نقطة عن طريق أخذ مربع سعتها عند هذه النقطة. إلا أن الدوال الموجية لا تحمل أي طاقة؛ ولذا يعطينا مربع سعتها في نقطة معينة «احتمالية» رصد الجسيم في حالة وضع مكشاف هناك (مثل الشاشة المطلية بالفسفور). من الواضح أن النقطة التي يتحول فيها الجسم من الوجود باعتباره محض موجة احتمالية، ينتشر وجوده المحتمل عبر الفضاء، إلى الوجود باعتباره جسمًا فعليًّا محدد الموقع في الفضاء، مثل إلكترون يصطدم بشاشة فسفورية، ذات أهمية حاسمة في هذا السياق. ماذا يحدث بالضبط عندما تنهار الدالة الموجية، أو بعبارة أخرى، عندما يتم اختيار موضع واحد فقط من بين الاحتمالات اللانهائية لمواضع وجود الجسيم في أي لحظة، في حين ترفض كل المواضع الأخرى؟

أولًا: علينا أن نسأل أنفسنا: «متى» يتم هذا الاختيار؟ في المثال الموضح أعلاه، يبدو أن هذا يحدث قبل حدوث الوميض على الشاشة الفسفورية، في هذه اللحظة، تم قياس موضع الإلكترون عن طريق بدء قطعة من الفسفور في الوميض بسبب اصطدام هذا الإلكترون بها، لذلك لا بد أن الإلكترون نفسه كان موجودًا هناك، وليس مجرد موجة احتمالية. ولكن لنفترض أننا لا نستطيع فعليًّا الوجود في المختبر لملاحظة التجربة، عندئذٍ يجب أن نوجِّه كاميرا إلى الشاشة الفسفورية ونرسل النتيجة عبر وصلة قمر صناعي للكمبيوتر الخاص بنا. في هذه الحالة، يجب أن ينتقل الضوء المنبعث من الشاشة إلى الكاميرا لتسجيله، وتَحدث الدورة نفسها مرة أخرى: على غرار الإلكترونات، ينتقل الضوء أيضًا كموجة ويصل كجسيم (فوتون في هذه الحالة). إذن ما السبب الذي يدعونا لأن نعتقد أن انهيار الدالة الموجية والتحول من الموجة الاحتمالية إلى جسيم قد حدثا فعليًّا على الشاشة الفسفورية، وليس في الكاميرا؟ في البداية، يبدو أن الشاشة الفسفورية كانت هي جهاز القياس، والإلكترون هو ما يُقاس. ولكن الآن، أصبح ما يُقاس هو الشاشة وجهاز القياس هو الكاميرا. وباعتبار أن أي جسم مادي ينقل القياس ويمكننا إضافته إلى هذه السلسلة (الكاميرا، القمر الصناعي، الكمبيوتر، أعيننا، دماغنا) يتكون من جسيمات لها الخصائص نفسها للإلكترون الذي نحن بصدده، فكيف نستطيع تحديد أي خطوة نستطيع عندها التمييز بين ما يُقَاس وما يقوم بالقياس؟

هذه السلسلة دائمة الاتساع للظواهر المقيسة وأجهزة القياس يطلق عليها «سلسلة فون نيومان» تيمُّنًا بالرياضي والفيزيائي جون فون نيومان.

اقترح يوجين ويجنر، زميل فون نيومان في جامعة برينستون، المَجَريُّ المولد أيضًا، الخطوةَ التي يمكن التمييز عندها، بتتبعنا لسلسلة فون نيومان صعودًا، فإن أول كيان نقابله لا يتألف بأي حال من الأحوال من أجزاء من المادة هو وعي الراصد الذي يقوم بالقياس. قد نرغب إذن في قول إن الوعي عندما يدخل للصورة، تنهار الدالة الموجية وتتحول الموجة الاحتمالية إلى جسيم. هذا الاحتمال يعني ضمنًا أننا إذا وضعنا معدات التجربة بالكامل — من مدفع إلكترونات وورقة مثقوبة وشاشة فسفورية — في صندوق مغلق بإحكام، فإن الدالة الموجية لن تنهار، نظرًا لعدم وجود راصد واعٍ يراقب وميض الضوء الصادر عن الشاشة الفسفورية؛ فالأنظمة التي تنطوي على راصِدِين واعِين يمكن أن تُحدث انهيارًا في الدالَّة المَوْجية؛ أما مجرد وجود أجهزة قياس غير واعية فلا يُحدِث هذا الانهيار.

إذا لم يتسبب وعي الراصد في انهيار الدالة الموجية؛ فسوف يستتبع ذلك نتائج طريفة. كما ذكرنا أعلاه، مع زيادة الأجسام التي يمكن أن تسقط في دوامة سلسلة فون نيومان بالتغيير من كونها أداة قياس إلى كونها جزءًا مما يُقاس، يصبح الهيكل «المنتشر» للموجة الاحتمالية خاصية من خواص هذه الأجسام أيضًا. وتؤثر طبيعة التطابق الخاصة بالإلكترون — الذي يبدو أنه يظهر في أماكن متعددة في الوقت نفسه — على أدوات القياس سالفة الذكر. وقد تم التحقق بالتجربة من أن الأجسام الكبيرة بما يكفي لِتُرى تحت الميكروسكوب (مثل شريط معدني يبلغ طوله ٦٠ ميكرومترًا) — وليس فقط الأجسام التي لا تُرَى من فرط صغرها — يمكن أن تُظهِر سلوك التطابق نفسه. بالطبع، لا يمكننا أن ننظر بالميكروسكوب ونشاهد القطعة المعدنية في مكانين في الوقت نفسه؛ لأنه من شأن عملية الرصد أن تتسبب فورًا في انهيار الدالة الموجية. ومع ذلك، من الواضح أن عدم التحديد الذي نجده في المستوى الدقيق يمكن أن ينتشر إلى المستوى الكبير.

إذا سَلبْنا الآن وعي الراصد، فإنه يتحول إلى مجرد أداة قياس معقَّدة إلى حدٍّ ما، مثل الشاشة الفسفورية، والكاميرا، وغيرها. فلنفترضْ أننا وضعْنا فيزيائيًّا في حاوية محكمة الغلق، كبيرة بما يكفي ليجعلها مختبرًا ولكن معزولة تمامًا عن كل التأثيرات الخارجية. مهمة الفيزيائي هي رصد إذا ما كان الإلكترون الذي يُطلَق في اتجاه الشاشة الفسفورية في وقت الظهيرة تمامًا يوم الإثنين سيصطدم بالشاشة في مركز نمط الحلقات المتداخلة المتحدة المركز الناتج أم في أطرافه، يرصد الفيزيائي النتيجة ويستأنف تجارب أخرى، يوم الإثنين التالي، نفتح باب الحاوية ويخبرنا الفيزيائي أن الإلكترون قد اصطدم بالشاشة عند المركز. إذا افترضنا أن وعي الفيزيائي لم يتسبب في انهيار الدالة الموجية، فإنه سيندمج في سلسلة فون نيومان كجزء آخر من أجزاء النظام المقيس (الذي تعدى الآن كونه الإلكترون فحسب وأصبح كل شيء يحدث داخل الصندوق). ولكن هذا النظام لم يتم قياسه إلا وقت فتح الباب والتساؤل عن المكان الذي اصطدم فيه الإلكترون بالشاشة. ولكن هذا يعني أن نفترض أن الفيزيائي كان في حالة تطابُق طوال الأسبوع، في حالة «حركة معلقة» بحيث يعتقد أن الإلكترون قد اصطدم في المركز، وفي الوقت نفسه أنه لم يصطدم. ولا تنهار الدالة الاحتمالية إلا بتدخلنا، وتصبح إحدى الحالتين هي الحالة الحقيقية. هذه نتيجة منافية للحدس تمامًا؛ لأننا يجب أن نفترض أن الفيزيائي لم يوجد مثل باقي الناس خلال الأسبوع الماضي، وأنه بلا شك لم يتمكن من الاعتقاد مثلما يفعل الناس. ومن الصعوبة بمكان أن نتخيل ما سيحدث في مثل هذه الحالة؛ لأنه من الظاهر أننا ليس لدينا فكرة عما يكون عليه الحال إذا وُجدنا في حالتين اعتقاديتين متناقضتين في الوقت نفسه.

ولكن الأمور تزداد سوءًا. إذا لم يكن الفيزيائي قادرًا على التسبب في انهيار الدالة الموجية، فكيف لنا، نحن البشر الذين نشبهه في كل شيء، أن نحقق ذلك؟ ألَا يعني فتح باب المختبر أننا الآن جزء من أداة القياس أيضًا؟ هل يمكننا أن نكون في حالتين في الوقت نفسه ولا نعرف، تمامًا مثل الفيزيائي وهو في حاويته؟ أو إذا كنا في حالة محددة، فمَن المسئول عن هذه الملاحظة؟

من المفترض أن تدعم الملامح المتناقضة ظاهريًّا لهذا السيناريو (الذي يوصف عادة ﺑ «حالة صديق ويجنر») فكرة انهيار الدالة الموجية بمجرد أن يدخل الوعي الأول موقف القياس. ومع ذلك، إذا قررنا كسر السلسلة في هذه النقطة، فبناءً عليه لا يمكننا اعتبار المادة واقع وفقًا لتعريف نهاية العالم. ومن المعقول أن نفترض أن التأثيرات الواردة أعلاه لا تنطبق فقط على الأجسام الشديدة الصغر (مثل الإلكترونات والفوتونات والكيانات المشابهة)، وإنما على كل الأجسام، كل ما هنالك أنه في حالة الأجسام الكبيرة، تكون النتائج شديدةَ الصغر بحيث لا يمكن ملاحظتها. ولكن إذا كان مطلوبًا من الوعي أن يحوِّل الموجات الاحتمالية الطيفية إلى أشياء تُشبِه من قَرِيب أو بَعِيد الأجسامَ التي نُقَابِلها في حياتنا اليومية، فإننا لن نتمكن من قول إن المادة هي كل ما هو موجود بغضِّ النظر عن أي شيء، سواء أكانت عقول البشر موجودة أم لا (على الأقل إذا افترضنا أن العقول البشرية هي كل العقول الموجودة).

ولكن ربما كان هذا المنطق متسرِّعًا بعض الشيء؛ فبادئ ذي بدء، ألَا يمكننا أن نتجنب الاضطرار إلى التسليم بالعقول غير المادية عن طريق قول إنها مَلمح من ملامح العملية «الفيزيائية» التي تقوم عليها العقول البشرية، والتي تكسر سلسلة فون نيومان؟ في الواقع، اقترح روجر بنروز، أستاذ الرياضيات بجامعة أكسفورد، طريقةً يمكن من خلالها أن تنهار الدالة الموجية لجسم بنفسها دون التفاعل مع أداة قياس. الفكرة الأساسية هي أن الأنظمة التي يزيد حجمها عن كتلة حرجة معينة تنهار تحت وطأة وزنها (إذا جاز لنا قول ذلك) محوِّلةً أحد الاحتمالات المطابقة إلى واقع. يخمن بنروز أن هذا «الاختزال الموضوعي» يحدث في أجزاء معينة من الخلايا العصبية التي تشكل الدماغ (والتي يطلق عليها الأنيبيبات). إذا كانت تلك هي الحالة، فإننا لن نحتاج إلى مادة غامضة غير مادية لتحويل الموجة الاحتمالية إلى جسيم؛ فمِن شأن عملية فيزيائية عادية داخل أدمغتنا أن تكون كافية.

fig10
شكل ٢-٤: رسم توضيحي لكون جون ويلر التشاركي؛ ملاحظة الراصد تنتج الكون الذي هو جزء منه.

عندئذٍ سيكون العقل الواعي هو النتيجة، وليس السبب، لهذه العمليات على المستوى الكمي. يزعم بنروز أن هذه العمليات تَهَبُ العقلَ قوةً تَفُوق قوة الكمبيوتر العادي، وهذا يستتبع أنه لن يكون من الممكن أبدًا أن نبني آلة تعمل مثل أجهزة الكمبيوتر التي نعرفها وتستطيع تشغيل عقل كعقل الإنسان مثل برنامج. وبقدرِ ما قد نرى هذه الأفكار رائعة، فهي أيضًا أفكار تستند إلى التخمين. فلا مفهوم «الاختزال الموضوعي»، ولا فكرة حدوث هذا في أنيبيبات حَظِيَا بقبول واسع حتى الآن.

ثانيًا: حتى إذا اتفقنا مع الفكرة السابقة التي تَرَى أن بعض الوعي غير المادي مطلوب لكسر السلسلة، فكل ما يتبع ذلك هو أن الخصائص الديناميكية للمادة (مثل الموقع والزخم واتجاه الدوران) كلها تعتمد على العقل. ولكن لا يتبع ذلك أن خصائصها الاستاتيكية (مثل الكتلة والشحنة وقوة الدوران) تعتمد على الشيء نفسه؛ فالخصائص الاستاتيكية موجودة سواء بحَثْنا عنها أم لم نَبحَث؛ ومن ثَم فإننا نستطيع القول إنها واقعية وفقًا لتعريف نهاية العالم للواقع.

مع ذلك، علينا أن نسأل أنفسنا إنْ كانت إعادة تعريف «المادة» بوصفها «مجموعة من الخصائص الاستاتيكية» تحافظ على ما يكفي من محتواها بحيث تسمح لنا أن نرى المادة واقعية. في عالم خالٍ من العقول، ستظل هناك خصائص كالكتلة والشحنة، ولكن الأشياء لن تقع في موقع محدد ولن تنتقل في اتجاه محدد. مثل هذا العالم لا يُشبِه فعليًّا العالم كما يبدو لنا. يقول فيرنر هايزنبرج:

يستند وجود المادة إلى وَهْمِ أن نوع الوجود، والوجود «الفعلي» للعالم من حولنا، يمكن استنباطهما في النطاق الذري، إلا أن هذا الاستنباط مستحيل. […] فالذرات ليست أشياء.

يبدو أن أفضل ما يمكننا الوصول إليه في هذه المرحلة هو الزعم بأن بعض الأشياء واقعية وفقًا لتعريف نهاية العالم، رغم أنها لا تمتُّ بصلة لفهمنا العادي للمادة.

فما مدى واقعية المادة إذا ما فهمنا «الواقع»، ليس وفق تعريف نهاية العالم، وإنما وفق تعريف السلحفاة الأخيرة، مفترضِين أن الواقع هو أساس كل شيء آخر؟ للجواب عن هذا السؤال، علينا أن نُلقِي نظرة على فكرة علمية أساسية؛ وهي فكرة التفسير الاختزالي. ينبثق كثير من قوة النظريات العلمية من فكرة أننا نستطيع استخدام نظرية واحدة، تنطبق على مجموعة معينة من الكائنات، لتفسير حقائق تتعلق بمجموعة مختلفة تمامًا من الكائنات؛ ومن ثَم فإننا لا نحتاج لمجموعة منفَصِلة من القوانين والمبادئ لتفسير المجموعة الثانية من الكائنات، ولكننا نستطيع افتراض أن سلوكها يمكن اختزاله في عبارات حول النوع الأول من الكائنات، التي يمكن تفسيرها بعد ذلك بنظرية تتناول هذه الكائنات. وثمة مثال طَيِّب على ذلك يتمثل في الطريقة التي يمكن بها استخدام نظريات من الفيزياء والكيمياء تتعامل مع المادة غير الحية، لتفسير عمليات تقوم بها الكائنات الحية (الكائنات البيولوجية).

ليس ثمة حاجة لافتراض فيزياء خاصة أو كيمياء خاصة لتفسير أيض كائن حي، وطريقة توالده، وطريقة تمرير معلوماته الوراثية، وطريقة تقدمه في العمر وموته. يمكن تفسير سلوك الخلايا الحية التي يتشكل منها الكائن من منظور النواة والميتوكوندريا وغيرها من الكيانات دون الخلوية، التي يمكن تفسيرها بدورها من منظور الاستجابات الكيميائية بناءً على سلوك الجزيئات والذرات التي تكوِّنها؛ لهذا السبب، يمكن القول إن تفسيرات العمليات البيولوجية يمكن اختزالها إلى عمليات كيميائية فيزيائية في نهاية المطاف.

إذا سَعَيْنا خلف هدف إيجاد تفسير اختزالي للظواهر المحيطة بنا، فالخطوة الأولى هي اختزال العبارات حول الأجسام المتوسطة الحجم التي تحيط بنا — حول الطوب والأدمغة والنحل والفواتير والبكتيريا — إلى عبارات حول الكائنات المادية الأساسية، مثل الجزيئات. سنكتشف حينها أن كل ما يتعلق بهذه الكائنات يمكن تفسيره في ضوء مكوناتها الأساسية، تحديدًا الذرات. وتنطوي الذرات، بالطبع، على أجزاء هي الأخرى، وقد قطعنا الآن شوطًا في سبيل معرفة العالم الرائع للجسيمات دون الذرية الأصغر فالأصغر. ولم نصل حتى الآن للكائنات الأكثر جوهرية؛ بل لا يوجد اتفاق على وجود مثل هذه الكائنات. إلا أن هذا ليس سببًا وجيهًا لإيقاف تفسيراتنا هنا؛ لأننا نستطيع دومًا فهم الكائنات الفيزيائية الأكثر جوهرية في ظل الأجزاء التي تشغلها هذه الكائنات من المكان والزمان؛ لذا بدلًا من جعل تفسيرنا يتحدث عن جسيم معين يوجد في مكانٍ ما لمدةٍ ما، يمكننا ببساطة اختزال هذا إلى حديث عن منطقة مكانية معينة بإحداثيات محددة يتم شغلها بين زمنين مختلفين.

إلا إننا نستطيع أن ندخل في تفاصيل أكثر جوهرية، فإذا أخذنا نقطة عشوائية معينة في المكان، ووحدة ثابتة من المسافة المكانية، يمكننا تحديد أي نقطة أخرى في المكان بثلاثة إحداثيات. وهذه الإحداثيات تخبرنا بالتوجه لعدد معين من الوحدات لأعلى أو لأسفل، وعدد من الوحدات لليسار أو اليمين، وعدد من الوحدات للأمام أو للخلف. ويمكننا أن نفعل الشيء نفسه في النقاط الزمنية، محدِّدِين كل نقطة زمنية بعدد الوحدات الزمنية قبل أو بعد نقطة زمنية معينة. لدينا الآن طريقة للتعبير عن النقاط المكانية-الزمانية (الزمكانية) كمجموعات من أربعة أرقام موجبة أو سالبة هي: x وy وz وt؛ حيث x وy وz تمثل الأبعاد المكانية الثلاثة، وt يمثل البعد الزمني، وقد عثر الرياضيون على طريقة لاختزال الأرقام إلى شيء أكثر جوهرية؛ المجموعات. وللقيام بذلك، يستعيضون عن الرقم صفر بالمجموعة الخالية (مجموعة خالية من العناصر)، وعن الرقم ١ بالمجموعة التي تحتوي على المجموعة الخالية فقط، ورقم ٢ بالمجموعة التي تحتوي على المجموعة التي تحتوي على المجموعة الخالية، وهكذا. وعندئذٍ نستطيع أن نبيِّن أن كل خصائص الأرقام تنطبق على هذه الأرقام البديلة المصنوعة من مجموعات.

يبدو الأمر كأننا قد اختزلنا العالم المادي المحيط بنا كله في مصفوفة معقدة من المجموعات؛ لهذا السبب، من الأهمية بمكان أن نعرف الماهية الواقعية لهذه الكائنات الرياضية التي يُطلَق عليها «المجموعات». هناك رؤيتان للكائنات الرياضية المهمة في هذا السياق؛ أولًا: هناك الرؤية التي تعتبرها كائنات أفلاطونية؛ وهذا يعني أن الكائنات الرياضية ليست كغيرها من الكائنات الأخرى التي نقابلها؛ فهي ليست مصنوعة من المادة، ولا توجد في المكان أو الزمان، ولا تتغير، ولا يمكن إنشاؤها أو تدميرها، ولا يمكن إلا أن تكون موجودة. ووفقًا للفهم الأفلاطوني، توجد الكائنات الرياضية في «عالم ثالث»؛ عالم منفصل عن عالم المادة، من ناحية، ومنفصل عن عالم الكيانات العقلية، كالمدركات والأفكار والمشاعر، من ناحية أخرى.

ثانيًا: لدينا رؤية للكائنات الرياضية ككائنات عقلية بطبيعتها في الأساس، فهي من النوع نفسه للأشياء الأخرى التي تمر عبر عقولنا؛ الأفكار والخطط والمفاهيم والآراء. إلا أنها ليست ذاتية بالكامل؛ إذ إنها موجودة في عقول الأشخاص الآخرين تمامًا كما هي موجودة في عقولنا؛ ولذا إذا ما تحدثنا عن نظرية فيثاغورس، فنحن جميعًا نتحدث عن الشيء نفسه. ولكن الكائنات الرياضية ليس لها وجود خارج العقول التي تنشأ فيها.

ونخلص في كلتا الرؤيتين إلى نتيجة طريفة، فإذا كان العالم يتكون في الأساس من مجموعات، وإذا كانت المجموعات ليست مادية، وإنما كيانات أفلاطونية غريبة، فإن الكائنات المادية قد اختَفَتْ تمامًا من المَشهَد ولا يمكن أن تكون واقعية وفقًا لتعريف السلحفاة. وإذا ما تتبعنا الاختزال العلمي إلى النهاية، فسوف ينتهي بنا الأمر بأشياء لا تشبه الحصوات الصغيرة أو كرات البلياردو بالتأكيد، ولا حتى تشبه الأوتار المهتزة في المكان المتعدد الأبعاد، وإنما تشبه ما تتعامل معه الرياضيات البحتة.

هذه الفكرة مشروحة بتفصيل معقول في النظرية التي تقضي بأن العالم المادي نفسه هو نتاج أحد أجهزة الكمبيوتر العملاقة. وتستند بعض الآراء في هذا الصدد إلى فكرة أنه على الرغم من أن سلوك الجسيمات على المستوى الكمي من الصعب جدًّا فهمه في ظل الأجسام المتوسطة الحجم مثل البلي وكرات البلياردو، فإن فهمها بوصفها نتاج برنامجٍ ما أسهل بكثير من نَواحٍ عديدة.

والكائنات المتعددة التي تدرسها ميكانيكا الكم لا يمكن تمييز بعضها عن بعض؛ فكل إلكترون يشبه تمامًا كل الإلكترونات الأخرى سواء كان أحد إلكترونَي ذرة الهيليوم، أو واحدًا من تسعة وسبعين إلكترونًا في ذرة الذهب. ومثل هذا التشابه لا يَحدث عادة في عالمنا اليومي. وقد تحدَّى لايبنيتس جمهورَه في حدائق الأميرة صوفي تشارلوت أن يَجِدوا أيَّ ورقتَيْ شجر متشابهتَيْن تمام التشابه، ولم يستَطِع أحدٌ من الجمهور الفوزَ في هذا التحدِّي. ومع ذلك، إذا كتبت اسم «لايبنيتس» على الكمبيوتر الخاص بك، فستجد حرفَيْ «ياء» متشابهين تمام التشابه سواء وقَعَا بين الألف والباء أو بين النون والتاء. يرجع هذا إلى أن كل حروف «الياء» يتم إنتاجها بواسطة الإجراء نفسه في برنامج الكمبيوتر؛ ومِن ثَم يمكن للمرء أن يقول إن الإلكترونات وما يشابهها من أشياء يمكن صنعها بالطريقة نفسها بالكمبيوتر، الذي تقوم عملياته الحسابية بإنتاج العالم.

ثمة حقيقة أخرى مُرْبِكة؛ وهي أنه على الرغم من أن شكلية ميكانيكا الكم تربط دالة موجية بكل كائن، فإن هذه الموجات مختلفة عن الموجات العادية؛ إذ إنها لا تسري في وسط معين. يمكن فهم الموجات التي تسري في الماء أو الهواء في ظل الإزاحة المؤقتة لأجزاء وسطها (أي جزيئات الماء والهواء). لكن بالنسبة للموجات من منظور ميكانيكا الكم، هذا التفسير غير ممكن؛ نظرًا لعدم وجود كائنات جوهرية أساسية لإظهار السلوك الموجي. ولكننا إذا فهمنا الموجة كشيء مشفَّر في ذاكرة الكمبيوتر، أو بعبارة أخرى كسلسلة من أرقام الصفر والواحد، فليس هناك داعٍ أن نفترض أنها لن تنتقل إلا بواسطة شيء يتموج.

على سبيل المثال، الموجات الصوتية التي ينتجها الكمبيوتر لا تتطلب وسطًا موجيًّا؛ لأنها لا توجد إلا في ذاكرة الكمبيوتر. ولكن هذا لا يَمْنَعها من أن تؤدي وظيفتها تمامًا كما تؤدي أي موجات صوتية أخرى نعرفها وظيفتها.

إن وجهة النظر القائلة بأن العالم المادي هو نتاج عملية حسابية عملاقة تعيدنا مرة أخرى لفكرة الكون باعتباره محاكاة حاسوبية، هذه المرة ليس عن طريق المحاكاة التاريخية، ولكن كمحاولة لفهم سلوك العالم في مناطق صغيرة جدًّا وخلال فترات زمنية قصيرة جدًّا. والفكرة الأساسية هي أننا على الرغم من أننا لا نستطيع مطلقًا رؤية طريقة برمجة الكمبيوتر (لأن الكود، كقطعة من المعلومات المجردة، ليس شيئًا ماديًّا)، فإننا ما زلنا نستطيع استنتاج طريقة برمجته، بالفحص الدقيق لتفاصيل البرنامج الذي يشغِّله. وعالم الكائنات المادية الذي نراه حولنا، بالإضافة إلى المكان والزمان الذي يبدو أن هذه الكائنات موجودة فيهما، كل هذا ما هو إلا نتاج هذا البرنامج؛ فهذه الأشياء غير موجودة على مستوى الكود الحاسوبي، تمامًا كما أنه لا يوجد شيء على شكل سهم في مكانٍ ما في مركز الكمبيوتر يستجيب لمؤشر فَأْرَتِك.

على الرغم من أن برنامج الكمبيوتر يمكن أن يتجلَّى لنا في عدة تمثيلات مادية، مثل نص يَظهَر على الشاشة أو في مطبوعة أو يُخزَّن في القرص الصلب للكمبيوتر، فإنه ليس في حدِّ ذاته شيئًا ماديًّا، وإنما كائن مجرد، شيء موجود بالضرورة، وهو غير مصنوع ولا يمكن تغييره ويقع خارج المكان والزمان. إذا كان عالم المادة الذي نُدرِكه هو نتيجة تشغيل مثل هذا البرنامج، إذن فالكائنات المادية لا تشكل جزءًا من الطبيعة الأساسية للواقع وفقًا لتعريف السلحفاة. وإذا ما توغَّلنا في التفاصيل، فسنُدرِك أن العالم المادي لا يتكون من أشياء مادية دقيقة، وإنما من نوع خاص من الكائنات الرياضية.

بطبيعة الحال، الرؤية الأفلاطونية للكائنات الرياضية من الصعب ألَّا تُثِير الجدل، والكثيرون يجدون من الصعب الوصول إلى فكرة واضحة إزاء كيفية وجود الكائنات خارج الزمان والمكان، وكيفية معرفتنا بها، وكيفية إنتاجها لأشياء لها بالفعل مواقع مكانية وزمانية (زمكانية). ولكننا إذا ما أخذنا الكائنات الرياضية بوصفها عقلية في طبيعتها، فسينتهي بنا الأمر بسيناريو ربما يكون أغرب من ذلك الذي يتخيله الأفلاطونيون؛ وذلك نظرًا لأن مؤيدي الاختزال العلمي يقومون باختزال العقل البشري إلى نشاط الدماغ البشري، ثم يختزلون الدماغ إلى مجموعة من الخلايا المتشابكة، والخلايا إلى جزيئات، والجزيئات إلى ذرات، والذرات إلى جسيمات دون ذرية، والجسيمات دون الذرية إلى مجموعات من النقاط الزمكانية، ومجموعات النقاط الزمكانية إلى مجموعات الأرقام، ومجموعات الأرقام إلى مجموعات خالصة. ولكن في نهاية هذا الاختزال، يبدو أننا الآن نرجع مرة أخرى إلى نقطة البداية؛ الكيانات العقلية.

تَنتج دائرة مماثلة عند أي محاولة لتوحيد علم النفس والأحياء والفيزياء إذا ما افترضنا أن الوعي يلعب دورًا في اختزال الدالة الموجية؛ فلعمل ذلك، سنحاول اختزال العقل البشري إلى نشاط الجهاز العصبي المركزي، الذي يُعَدُّ بِنْية بيولوجية. ويمكن تفسير البِنَى البيولوجية من منظور العمليات الكيميائية، المتمثلة في تفاعل الكربون والنيتروجين والأكسجين، وما إلى ذلك، والتي يمكن تحليلها إلى مكونات أصغر، إلى أن نَصِل إلى المستوى الذي تُصبح فيه الظواهر الكَمِّية ملائِمة تجريبيًّا، ولكي نفسر هذه الظواهر، يبدو أننا يجب أن نستعين بظاهرة من أعلى السلسلة؛ ألا وهي العقل البشري.

في كلتا الحالتين، ما ظَنَنَّا أننا يجب أن نعتبره الأكثر جوهرية اتضح أنه ينطوي في الأساس على ما كنا نعتبره الأقل جوهرية، وفي بحثنا عن الأساسيات، سرنا في دائرة؛ ابتداءً من العقل، عبر مكونات عديدة من المادة، وانتهاءً بالعقل مرة أخرى؛ ولكن هذا يعني أنه «لا شيء» جوهري تمامًا، كما أنه ليس هناك محطة أولى أو أخيرة على خط مترو أنفاق لندن الدائري. والدرس الذي نتعلمه من سيناريو الاختزال الموضح أعلاه هو أنه إما أن الأشياء الجوهرية ليست مادية، وإما أنه لا شيء جوهري على الإطلاق.

كما أننا نواجه دائرة أخرى مماثلة في طريقة فهم ميكانيكا الكم الأكثر تأثيرًا، والمختلفة عما وضحنا أعلاه، والتي يُطلَق عليها «تفسير كوبنهاجن» (سُمِّيت بهذا الاسم تيمُّنًا بالمدينة التي يقع فيها معهد مفسِّرها الأساسي نيلز بور). فعلى عكس تفسير ويجنر المستند إلى الوعي، هذا التفسير لا يفترض انهيار الدالة الموجية بسبب رصد العقل الواعي لنتيجة تجربةٍ ما، وإنما يحدث عندما يتفاعل النظام المراد قياسه (الإلكترون في مثالنا) مع جهاز القياس (الشاشة الفسفورية)؛ لهذا السبب، ينبغي أن نفترض أن الشاشة الفسفورية ستتصرف بطريقة تقليدية، ولن يصدر عنها السلوك الكمي الخاص الذي صدر عن الإلكترون.

بالنسبة لتفسير كوبنهاجن، الأشياء والعمليات التي يمكن وصفها في ضوء المفاهيم التقليدية المألوفة هي أساس أي تفسير مادي. ومِن هنا تأتي الدائرة المُفرغة؛ فنحن نحلِّل العالم اليومي للأحذية والسفن وشمع الختم (الذي يتضمن الشاشات الفسفورية والكاميرات وأجهزة الكمبيوتر وأعيننا وكل الأشياء المادية متوسطة الحجم) في ضوء مكونات أصغر فأصغر؛ جزيئات وذرات وجسيمات دون ذرية، إلى أن نتعامل مع أجزاء شديدة الصغر بحيث يصبح من الممكن أن تَصِفَها التأثيرات الكمية. ولكن عندما يصل الأمر إلى التعبير عما تعنيه حقًّا نظرياتنا عن التأثيرات الكمية، فإننا لا نؤسسها على بعض البنى الأكثر دقة على المستوى المجهري، وكما أشار بور نفسه: «ليس هناك عالم كمي، هناك فقط وصف فيزيائي كمي.» وما يعنيه هذا هو أنه بدلًا من الانخراط في التفاصيل، فإننا نقفز مرة أخرى إلى مستوى نظريات الإدراك الحسي الملموسة، أو أجهزة القياس الماكروفيزيائية — مثل الشاشات الفسفورية والكاميرات — زاعمين أن نظريتنا تدور حول القراءات التي تصل إليها هذه الأجهزة. مرة أخرى، لسنا في موضع يسمح لنا بقول إن العالَم الميكروفيزيائي للكائنات الكمية جوهري (نظرًا لأن الحديث عنها ليس سوى جسر تصوري يتيح لنا الربط بين عبارات معينة تصف ما يحدث وبين أجهزة القياس العادية الحجم)، ولا بقول إن العالَم الماكروفيزيائي لأجهزة القياس جوهري (نظرًا لأن هذه الأجهزة ليست هي أنفسها سوى تكتلات كبيرة من الكائنات الكمية)؛ ومن ثَم فإن لدينا دائرة من الأشياء التي يعتمد بعضها على بعض، رغم أنه — على عكس الحالة السابقة — لم تَعُدِ الكائنات العقلية جزءًا من هذه الدائرة؛ نتيجة لذلك، لا يمكن اعتبار الشاشة الفسفورية المتوسطة الحجم ولا الإلكترون الدقيق واقعيين وفقًا لتعريف السلحفاة؛ لأن كليهما لا يشكلان طبقة من الكائنات بحيث يعتمد عليهما كل شيء، رغم أنهما لا يعتمدان على شيء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤