الروح والجسد في القرآن الكريم١

الروح والجسد لفظان قرآنيان على التقابل مثل النفس والبدن، وتتعدد معاني الروح في ألفاظ أخرى مثل القلب والفؤاد واللب. كما تتعدد معاني الجسد في الجسم والبدن.

ويمكن بمنهج «تحليل المضمون» حصر معاني الروح والجسد لمعرفة تصورهما العام في إطار الديانات القديمة أو في بنية العقل ذاته بتحليل التجربة الإنسانية وإدراكها بالحدس وتطابقها مع البداهة، فمعاني الألفاظ لها ثابت ومتحول، الثابت في العقل والتجربة، والمتحول في العرف والاستعمال، ويعرف الثابت بتحليل المعنى الاشتقاقي، وهو المعنى الأول للفظ حين نشأته في علم الأصوات، والمعنى الاصطلاحي القائم عليه، ويعرف المتحول من المعنى العرفي من استعمال الناس له في الزمان والمكان.

ومع ذلك تظل ألفاظ الروح والجسد والبدن محدودة الاستعمال. في حين يكثر تردد لفظ النفس، (٢٩٥) مرة، والقلب (١٣٢)، والفؤاد (١٦)، والألباب (١٦)، من أجل تجاوز الثنائيات القديمة بين الروح والجسد والمعاني المنعرجة للروح والمعاني الهابطة للجسد، ومن أجل تحويل الثنائية المادية إلى ثنائية معنوية في علاقة الداخل بالخارج والحدس بالبرهان، والرؤية بالإدراك.

وكان الفلاسفة، قدماء ومحدثين، قد تناولوا هذين المفهومين بالتحليل والوصف في إطار الثقافات والديانات الإشراقية القديمة، وانتهوا إلى الثنائية الشهيرة بين النفس والبدن. فهما متمايزان، ولهما مصيران مختلفان، الأولى للخلود، والثانية للفناء، وقد استمرت هذه الثنائية عبر الفلسفات المثالية اليونانية عند سقراط وأفلاطون، والإسلامية عند ابن سينا، والغربية الوسطى والحديثة منذ ديكارت، ولم تعِشْ عقيدة تناسخ الأرواح طويلًا، عودة الروح إلى البدن ثوابًا لها أم عقابًا الآتية من الهند: فلا يوجد سماء في الهند، وكل شيء يحدث في الأرض.

وظن الناس أن هذه الثنائية هي الحقيقة، ووحدوا بين الاثنين مع أنها رؤية إشراقية تحدث في لحظات الضنك، والرغبة في التجاوز، تجاوز الواقع إلى المثال بلغة الفلاسفة، وإيثار الآخرة على الدنيا بلغة المتدينين. فهما أفضل من التوحيد بين النفس والبدن التي يقوم بها الماديون لصالح البدن، وهم الدهريون الذين يقولون وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ، وظل هذان التصوران في صراع بينهما، الثنائية الإشراقية، والأحادية المادية، الأولى تعبير عن الإيمان، والثانية عن الإلحاد في الثقافة الشعبية، وكلاهما يقومان على خطأين أساسيين، الأولى الفصل Dissociation، والثانية الضم Confusion.
وتمتد هذه العلاقة بين الروح والبدن إلى الصلة بين الله والعالم، الفصل بينهما في نظرية الخلق والجمع بينهما في نظرية قدم العالم أو جمع الفصل والضم معًا في نظرية الفيض. فنمط العلاقة واحد بين النفس والبدن، وبين الله والعالم، والفرق بينهما أن العلاقة الأولى تتم في العالم الأصغر Microcosm، بينما تتم الثانية في العالم الأكبر Macrocosm بتعبيرات إخوان الصفا.

وقد ورد لفظ «روح» في القرآن الكريم أربعًا وعشرين مرة في عدة صيغ، أكثرها «روح» (١٤)، وأقلها «روحنا» (٣)، مضافة إلى ضمير المتكلم الجمع، مرة بالنصب ومرتين بالجر، وأيضًا «روح» بتسكين الواو تفيد نفس المعنى، إنما الخلاف في الصوت (٣)، أو مضافة إلى ضمير المتكلم المفرد «روحي» (٢) أو الغائب (١)، وأخيرًا «روح» (١) بالنصب وبنفس المعنى.

ولم يرد اللفظ مضافًا إلى الضمير إلا ست مرات، المتكلم الجمع «روحنا» (٣) المتكلم المفرد «روحي» (٢)، الغائب المفرد «روحه» (١)، وكلها تشير إلى الله. فالروح روح الله وليس روح البشر التي هي النفس، والأغلب استعمال اللفظ بلا ضمير (١٨). فالروح جوهر مستقل، حقيقة عامة لا يمتلكها أحد.

ويوصف لفظ الروح بلفظ «القدس» أربع مرات، مرتين في سياق عيسى ابن مريم، ومرة في سياق مريم، ومرة في سياق الوحي إشارة إلى جبريل، ويعني الروح في إحدى وظائفه. فالجوهر «الروح» له وصف «القدس»؛ إذ لا تتعرى الجواهر عن الأعراض كما يقول قدماء المتكلمين.

والروح مذكر ومؤنث في آن واحد، وهو إلى المذكر أقرب لأنه روح «الله»، والمذكر أقرب إلى الفاعل منه إلى المفعول، وإلى الإيجاب منه إلى السلب، ولا يعني ذلك أية نظرة «ذكورية» للعالم تتغلب على نظرة «أنثوية» كما يقال في الكتابات الأنثوية المعاصرة. بل تعني أن الروح بلا جنس مثل الإنسان، وأن هناك ما يجمع الذكر والأنثى في الروح والجسد. فكلاهما بلا جنس.

وبالإضافة إلى الشكل اللغوي يعنى لفظ «روح» من حيث المضمون الفكري تسعة أشياء، تدل على معنى الروح ووظائفه المعنوية والمادية، تدرجًا من المعنوي إلى المادي، من المعرفي إلى الوجودي على النحو الآتي:
  • (١)
    لا يمكن معرفة جوهر الروح، الروح في ذاتها. فهي من أمر الله وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا. إنما المهم وظائفها وتجلياتها، وهو نفس التصور لله؛ إذ لا يمكن معرفته في ذاته بل في تجلياته، أفعاله وآثاره، صفاته وأسمائه، ومِن ثَم كل ما يقال عن طبيعة الروح لتعريفها عند الفلاسفة أو في «علم الأرواح» رجم بالظن، ولا فائدة منه، وخارج عن الموضوع.
  • (٢)
    الروح هو الأمل، الأمل في المستقبل والنصر والغلبة، وتحقيق الأهداف والغايات. فالإنسان يحمل الأمانة ويؤدي الرسالة، تحقيق المثال في الواقع، وكلمة الله في الأرض، ومهما صادفه من عقبات، وواجهه من أزمات فإن الأمل في النصر يظل قائمًا وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ.
  • (٣)
    يعني الروح التأييد المعنوي، والطاقة الخلاقة في الإنسان لتحقيق غاياته وأهدافه. هو القدرة على العمل والاستمرار التي تتولد من العمل نفسه أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ. هو الدافع الحيوي في الإنسان للحركة والنشاط والتحقق.
  • (٤)
    الروح هو حامل الوحي، جبريل، وملهم المعرفة وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا، وهو الذي يلقى الإنذار يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ، ويتم تجسيد هذا الاتصال المعرفي بلفظ «نزل»، وهو الأمين في حمل الرسالة والقيام بالتبليغ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، ويكون حينئذٍ الروح القدس قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الذينَ آمَنُوا، وأحيانًا يكون مقرونًا بالملائكة يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ. يحملون الأوامر تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ.
  • (٥)
    وقد أيد الروح القدس عيسى ابن مريم وأتاه بالبينات وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ.٢ فهو رسول قد خلت من قبله الرسل. أتاه الوحي والتأييد كما أتى خاتم الأنبياء.
  • (٦)
    وكما ينزل الروح والملائكة فإنه يصعد أيضًا حيث المستقرة تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وهنا تتقدم الملائكة الروح في نهاية الزمان الطويل وليس الزمان اليومي، الزمان الأبدي وليس الزمان اللحظي، ويقف الروح والملائكة صفًّا يوم الحساب، يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا دليلًا على النظام والطاعة يوم العدل المطلق، يوم الحشر والشهود.
  • (٧)
    ويرمز الروح إلى الجزاء الأوفى. فهو أعلى قيمة من الجسد كما أن النفس أعلى قيمة من البدن، والآخرة أقيم من الدنيا، والله له الأولوية على العالم، ويُقرَن مع الريحان وجنة النعيم فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ. فالروح هو المثل الأعلى.
  • (٨)
    ثم تتجسد معاني الروح شيئًا فشيئًا في عملية الخلق، الخلق الإنساني الأول، خلق آدم بنفخ الروح بعد تسويته من الطين ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وتسجد الملائكة من عظمة الخلق الإنساني فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ.٣ فالروح كمال الجسد.
  • (٩)
    وهو الروح الذي أخصب مريم العذراء وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ. الروح هنا هو الكلمة كما هو الحال في مقدمة إنجيل يوحنا، الله هو الكلمة والكلمة هي الله. تمثَّل الروح لمريم بشرًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا. فقد أحصنت مريم فرجها الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا.٤ وتسمى أحيانًا في هذه الحالة أيضًا الروح القدس، اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ. فالروح البشرية من الروح الإلهية.
وقد ورد لفظ «الجسد» أربع مرات في قصص الأنبياء بمعنيين، كلاهما سلبي:
  • (١)
    اثنتان في قصة موسى عندما بنى بنو إسرائيل من حليهم عجلًا جسدًا له خوار لعبادته وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا، وقام بصنعه واحد منهم فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ. فعبادة الجسد أسهل من عبادة الروح، صورة وصوتًا. فالجسد مرئي والروح غير مرئي، والجسد قيمة عينية والروح قيمة معنوية. الجسد قريب والروح بعيد، الجسد معلوم والروح مجهول. الجسد حس والروح عقل.
  • (٢)
    واثنتان في قصة سليمان بمعنى الغواية، غواية الجسد وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ، وسرعان ما يكتشف الإنسان الغواية وينوب، ومع ذلك الجسد ضرورة ولا تتجلى الروح إلا من خلاله وفي أفعاله وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ. فالإنسان بين الجسد والروح، بين الواقع والمثال، بين الضرورة والحرية.
  • (٣)
    كما ورد لفظ «الجسم» مرتين، الأولى بمعنى سلبي عندما يدل على الظاهر دون الباطن وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ، والثانية بمعنى إيجابي إذا ما قرنت بالعلم، جمعًا بين الجسد والروح، قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ. فالروح موطن العلم، والجسد أداة العمل.
  • (٤)
    وأخيرًا ورد لفظ «البدن» مرتين بمعنى إيجابي. الأولى مفرد فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً. فالبدن حامل الحياة، ونجاة البدن نجاة للحياة، والثانية جمع وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ. فالبدن وسيلة لأداء الشعائر وتجليات الروح. البدن أداة الشهادة بالصوت واللسان، والصلاة بالحركات، والزكاة باليد، والصيام بالمعدة، والحج بالقدمين.

    فإذا كان الروح مفارقًا والجسد حالًّا، فإن البدن يجمع بين المفارقة والحلول.

١  مقدمة كتاب «كوجيتو الجسد، دراسات في فلسفة موريس ميرلوبونتي»، إصدارات اتحاد الجمعيات الفلسفية العربية (١٠)، مركز الكتاب للنشر، القاهرة، ٢٠٠٤م، ص٨–١٤.
٢  وهذه الآية مكررة (٢: ٨٧)، (٢: ٢٥٣).
٣  وهي آية مكررة (١٥: ٢٩)، (٣٨: ٧٢).
٤  وهي أيضًا مكررة (٢١: ٩١)، (٦٦: ١٢).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤