توظيف ابن رشد بين الثقافتين العربية والغربية١

أولًا: صور ابن رشد

تعددت صور ابن رشد بل وتناقضت في الثقافتين العربية والغربية. وربما يرجع ذلك إلى ابن رشد نفسه، الشارح والمتكلم والفيلسوف والأصولي والفقيه واللغوي. تم توظيفه بطرق مختلفة ولأهداف متضاربة حتى ضاع ابن رشد على ما هو عليه. وتجاذبته التيارات والمواقف والغايات من الخارج وليست القراءات من الداخل. فهي جذب لابن رشد خارجًا عنه وليس الدخول إلى ابن رشد لاستنطاقه. الطريقة الأولى جذب الموضوع إلى الذات، والثانية إدخال الذات في الموضوع لإنارته ومعرفة مستوياته ومراتبه. الأولى إسقاط، والثانية كشف.

الطريقة الأولى نفي للعلم والاتجار به في سوق السياسة. ونفي العلم نتيجة للعجز عن ممارسته للنقص في الإمكانات المنهجية ثم إخفاء ذلك بالإسراع إلى سوق العصر والذي تتغير قوانينه طبقًا لتغير الأنظمة السياسية وحاجتها إلى شرعية تراثية. فإذا كان العصر ضد حركات المعارضة الإسلامية كان ابن رشد تنويريًّا في الفكر والفن. وإذا كان النظام سلفيًّا كان الرائد هو ابن تيمية وابن القيم. وإذا كان النظام تقدميًّا اشتراكيًّا قوميًّا كما كان الحال في الخمسينيات والستينيات كان ابن رشد وابن خلدون هما النموذجان، ابن رشد لعدائه للأشعرية قديمًا وتوظيف ذلك في العداء للإخوان المسلمين خصوم النظام حديثًا، وابن خلدون المادي الاجتماعي الذي يحلل الظواهر الاجتماعية. وروَّج بعض المستشرقين أن النظام الاشتراكي العربي في ذلك الوقت يستطيع أن يجد جذورًا له في عقلانية ابن رشد وتاريخيًّا ابن خلدون.٢ فابن رشد تم توظيفه مرتين في نظامين نقيضين، العربي الاشتراكي في الجمهورية الأولى، والرأسمالي الغربي في الجمهوريتين الثانية والثالثة.
ولا يهم في عرض هذه الصور المختلفة الإشارة إليها كلها في إحصاء شامل بل يكفي وصف نماذج منها. ولا تعني المراجعة أي مساس بأشخاص المؤلفين والباحثين والكتاب. ففي مصر والعالم العربي ما زال النقد والمراجعة للأعمال والدراسات مشوبًا بالحساسية دون تمييز بين العمل والشخص. فللجميع الاحترام الكامل كأشخاص مبجلين، ولكن العمل مستقل عن المؤلف. يموت المؤلف ويعيش النص.٣ الهدف من النقد والمراجعة التجاوز من أجل الاقتراب أكثر من الكمال جيلًا وراء جيل في حوار يقوم على النفي والإثبات، والسلب والإيجاب في جدل التاريخ.٤ كان يمكن عدم الإحالة إلى الأعمال المراجعة اكتفاءً بالنموذج، ولكنها تقية لا لزوم لها حتى نتعود على المراجعات الفلسفية التي بدأ بها معظم الفلاسفة مثل كانط مراجعًا هردر، وهيجل مقارنًا فشته وشلنج، وماركس مراجعًا العائلة المقدسة، فيورباخ وشترنر وباور، وبرجسون مراجعًا عديدًا من الأعمال الرياضية والبيولوجية والنفسية بين الأعمال التكوينية الرئيسية. المراجعة تواصل وانقطاع. وهي أفضل من الدوائر المنعزلة التي لا رابط بينها مثل قطرات المياه التي تتسرب إلى باطن الأرض دون أن تكون نهرًا.
  • (١)
    هناك ابن رشد العقلاني الملحد الذي يروج له الرشديون اللاتين مثل سيجر البرابنتي والذي عرضه رينان في كتابه الشهير «ابن رشد والرشدية». وأعاد عرضه فرح أنطون في كتابه «ابن رشد وفلسفته».٥ وهي قراءة لاتينية غربية في العصر الوسيط المتأخر ضد اللاهوت العقائدي الكنسي والسلطة الدينية البابوية. وهي الصورة التي ما زالت شائعة عند بعض المستشرقين المعاصرين والتي روَّج لها جارودي في مرحلته الماركسية. يجعلون ابن رشد يقول بقدم العالم وخلود النفس الكلية مع أن ابن رشد كان يعرض بقول جدلي ضعف أدلة المتكلمين على خلق العالم، دليل الجوهر والأعراض، ودليل الجزء الذي لا يتجزأ، ودليل القدم والحدوث، ودليل الممكن والواجب، ويبين أن افتراض قدم العالم له ما يبرره في الشواهد النقلية والحجج العقلية. فهو قول جدلي وليس قولًا برهانيًّا. وهي نفس حجة الفارابي دفاعًا عن أرسطو ضد تهمة تقويله بقدم العالم بأنها كانت قضية جدلية منطقية وليست قضية طبيعية ميتافيزيقية.٦ كما أن خلود العقل الكلي هو خلود الحضارة والفكر الجمعي، خلود الإنسانية في الأرض والسماء من خلال العمل الصالح الذي يبقي أثره في الأرض وله الجزاء الأخروي في السماء طبقًا لقانون الاستحقاق. وهو ابن رشد الذي يدافع عن قانون السببية ضد إنكار الغزالي للعلية.
    وقامت عدة دراسات في هذا الاتجاه، أثر ابن خلدون في العالم اللاتيني أسوة برينان دون تأويل أو قراءة أو شد لابن رشد نحو المادية والإلحاد أي نحو الطبيعة والعقل. مثال ذلك «نظرية المعرفة عند ابن رشد وتأويلها عند توما الإكويني». يبدأ بعرض نظرية الكون والمعرفة ونظرية الاتصال عند توما الإكويني وتحريف مذهب ابن رشد وضرورة تصحيح صورته. ثم تبين الدراسة كيف عرف توما الإكويني فلسفة ابن رشد وكيف حرفت عند مونك ورينان بالرغم من رفض ابن رشد لها. ثم تقارن بين العلم الإلهي عند كل من الفيلسوفين دفاعًا عن ابن رشد المفترى عليه.٧
    وتواصلت الدراسات العربية في هذا الاتجاه مثل «أثر ابن رشد في فلسفة العصور الوسطى» خاصة على البير الكبير وتوما الإكويني وسيجر البرابنتي من المسيحيين، وموسى بن ميمون وإسحاق البلاغ من اليهود. وبعد استعراض حياتهم وأعمالهم ومراكز الترجمة في إسبانيا تم عرض ثلاث مشاكل رئيسية، الصلة بين الفلسفة والدين، وقدم العالم، وخلود النفس. وهي دراسة موضوعية تاريخية شاملة تتجنب القراءات والتأويلات التي قام بها رينان.٨
    وقد أثارت هذه الصورة الدوائر المحافظة لسببين. الأول دفاعًا عن الإسلام، والفقيه أبي الوليد، وإدخاله زمرة المفكرين الإسلاميين، وأنه أشعري كالأشاعرة، سلفي كالسلفيين، مؤمن في زمرة المؤمنين. لم يقل بقدم العالم ولا بخلود النفس الكلية، ولم ينكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة. فهو مادي مؤمن في «المادية والمثالية في فلسفة ابن رشد».٩ والثاني هو السبب النقيض إخراجه من زمرة المؤمنين لو ثبتت التهمة عليه وكان الفيلسوف موضع اتهام وتكفير. فالإسلام بريء منه. والفيلسوف تابع لليونان، غواه أرسطو، ورجح منطق اليونان على أساليب القرآن.
  • (٢)
    وهناك ابن رشد الأشعري بالرغم من نقده للأشعرية في «تهافت التهافت» وفي «مناهج الأدلة» بل وفي شروحه على أرسطو. فقد تسربت الأشعرية إليه خاصةً في علم الكلام البديل الذي يقترحه سواء فيما يتعلق بالذات والصفات والأفعال أو في الأدلة على وجود الله أو في السمعيات. وقد ضخَّم بعض السلفيين المعاصرين هذه الصورة فجعل ابن رشد أصوليًّا كرد فعل على التنوير الحكومي، لا فرق بينه وبين ابن تيمية، يعطي أدلة بديلة على وجود الله، دليل العناية ودليل الاختراع، لا يفترقان عن أدلة الأشاعرة، دليل الجوهر والأعراض، ودليل الجزء الذي لا يتجزأ، ودليل القدم والحدوث، ودليل الممكن والواجب من حيث البنية والمسار الطولي التراجعي من أجل الوصول إلى معتنٍ، ومخترع، وقديم وواجب. وبها نفس القفز المنطقي الذي يحتاج إلى خطوة استدلالية جديدة لإثبات أن المعتني بالعالم ومخترعه هو الله، وأن له وجودًا خارج الذهن، في عالم الأعيان وليس في عالم الأذهان وحده. وهو أيضًا يقيم نسق عقائده طبقًا لنسق الأشاعرة في العقليات والسمعيات، في نظرية الذات والصفات، والأسماء والأفعال، وفي النبوة والمعاد، والإيمان والعمل، والإمامة.١٠
    وهناك ابن رشد المتشابه الذي يمكن قراءته قراءتين مختلفتين بين الأشعرية والظاهرية. فمن الشائع أن ابن رشد يقول بالتأويل ويضع قانونًا له، وينكر على الأشاعرة تأويلاتهم الفاسدة. ويؤوِّل بعض الآيات القرآنية التي تثبت احتمال قدم العالم الذي نسبه البعض إلى الحكماء. يبدو أيضًا أنه يلجأ في نفس الوقت إلى ظاهر النص ضد تأويلات الأشاعرة وإلى ظاهر نص أرسطو ضد تأويلات الشراح اليونان والمسلمين. فالتأويل انحراف عن ظاهر النص. وفي قانون التأويل الذي وضعه في آخر «مناهج الأدلة» يجعل المعاني في قسمين: الأول في ظاهر النص كالظاهرية، والثاني ليس مصرحًا به في النص وهو الخاضع للتأويل. وهو على أربعة أصناف: الأول ما يحتاج إلى فطرة فائقة ولا يدركه إلا الراسخون في العلم. والثاني ما يكون فيه المثل والممثول قريبًا للأفهام وهو الظاهر الذي لا يحتاج إلى تأويل. والثالث ما يكون فيه المثال بعيدًا والممثول قريبًا لتحريك النفوس، ويجوز تأويله ولا يجوز. والرابع ما يكون فيه المثال قريبًا والممثول بعيدًا ولا يجوز تأويله كما تفعل الصوفية. فمن خمسة أصناف واحد يجوز تأويله، وثلاثة يجوز ولا يجوز وإلى عدم الجواز أقرب، وواحد فقط يجوز تأويله من الراسخين في العلم. وهو أيضًا أشعري. فدليل الوحدانية المستمد من آية لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا هو ما فعله الأشعري من قبل. ولا يختلف دليلا العناية والاختراع عن بنية أدلة الأشاعرة على إثبات وجود الله. ولا تختلف صفات الله عند ابن رشد والأشاعرة. وفي العلية الله هو سبب الأسباب وابن رشد على التوسط في الجور والعدل كالأشاعرة، ويثبت النبوة بالإعجاز. وفي المعاد على التوسط بين المعاد الجسماني والمعاد الروماني.١١
    ابن رشد فيلسوف متشابه، توتر بين قطبين كلاهما صحيح، وبين طرفين كلاهما ضروري. يجمع بين مطلبين كلاهما أصل، أفلاطون وأرسطو، ديكارت وبيكون، هيجل وماركس. يضم معًا المثالية والواقعية، الصورة والمادة، النفس والبدن، العقل والحس. هذا الاشتباه هو الذي يسمح بقراءات متعددة لابن رشد. فهو في نفس الوقت تأويلي ظاهري يؤوَّل طبقًا لظاهر النص. وهو تقدمي سلفي، يريد التقدم إلى الأمام عن طريق العود إلى الأصل. وهو مالكي حنبلي، يقول المصالح المرسلة طبقًا للنص. وهو عقلاني نصي، يعتمد على العقل ويحتكم إلى النص في آن واحد. وهو شارح ومؤلف، يعلق على نص ويبدع نصًّا. وهو فيلسوف ومتكلم يدافع عن الفلسفة في «تهافت التهافت»، ويؤسس علم كلام جديد أقرب إلى العقل الصريح في «مناهج الأدلة». وهو معتزلي أشعري، العقل أساس النقل والنقل أساس العقل في آنٍ واحد. وهو متكلم وقاضٍ، يحكم بين المعتزلة والأشاعرة كما يحكم بين الغزالي والفلاسفة. وهو قاضٍ وعالم، يكتب «بداية المجتهد ونهاية المقتصد» وفي نفس الوقت «الكليات» في الطب. وهو مؤمن وملحد، يعتبره البعض نموذج الإيمان الصحيح، ويعتبره آخرون نموذج الكفر الصحيح. وهو سلطاني ومعارض، يعمل تحت أمر السلطان عبد المؤمن، وفي نفس الوقت صاحب نكبة من السلاطين، سلطان الدين وسلطان السياسة، نهاية وبداية، نهاية الفلسفة القديمة في العالم الإسلامي عند البعض، وبداية الفلسفة الحديثة في الغرب عند البعض الآخر.١٢
  • (٣)
    وهناك ابن رشد صاحب «المتن الرشدي» و«الخطاب الرشدي» المغلق على ذاته الذي لا شأن له بالناس وبالواقع، وهو الفقيه المالكي. خطابه له بنيته الداخلية، وتركيبه الذاتي، ويقوم على منطق في الاستدلال. هو ابن رشد الذي صنعه أساتذة الجامعات الشبان في المغرب العربي تحت أثر البنيوية أو المغالاة في النزعة العقلية. فابن رشد مغربي، تراث وطني، أقرب إلى المغرب منه إلى المشرق، وإلى العقلانية منه إلى الإشراقية. فهو وحده الذي استطاع أن يقوم بقطيعة معرفية بين العقل والإشراق، بين البرهان من ناحية والخطابة والجدل من ناحية أخرى بالرغم من تراجع أصحابها أحيانًا ولوعًا أيضًا بالصياغات اللغوية «لقد تمشرق المغرب، وتمغرب المشرق».١٣

    ومع ذلك يمتاز التركيز على «المتن الرشدي» بالتعرف على أنواعه الأدبية بعد إيراد ثبت بأسماء كتبه المذكورة في كتب التاريخ، ثم محاولة تصنيفها زمانيًّا في أصولها العربية ومحاولة قراءتها قراءة جديدة ثم وصف مسار المشروع الرشدي. وهي دراسة علمية دقيقة فاحصة تركز على النص، من حيث الشكل والموضوع دون تحديث أو قراءة أو تأويل أو حتى وضع النص في سياقه التاريخي الأول الذي نشأ فيه. ولا تتعدى القراءة الجديدة وصف المتن الرشدي كأنواع أدبية بين المؤلفات والمقالات والتفاسير والتلاخيص والجوامع والمختصرات.

    وقد يتحول المتن الرشدي من نوع أدبي إلى موضوع داخلي مغلق، إلى جزء فيه دون الكل مثل «إشكالية العقل عند ابن رشد» مع مصطلحات مستحدثة من الفلسفة الغربية مثل «أنطولوجيا العقل» و«تاريخية العقل» إذا كان الآخرون قد استنفذوا «ابستمولوجيا العقل». وتدرس «أنطولوجيا طبيعة العقل الهيولاني (المادي) وهو جزء من جزء من كل. فالعقل الهيولاني له علاقة مع العقل بالقوة قبل أن يتحول إلى الفعل، وله علاقة بالنفس»، وهو عقل واحد. وتبين «تاريخية العقل» دور الحس والعقل والخيال. وتقارن بين العقل الهيولاني والعقل النظري والعقل الفعَّال. وأخيرًا تعرض نظرية الانعكاس أيضًا بألفاظ مستحدثة «من البيولوجيا إلى الميتافيزيقا».١٤
  • (٤)

    وعلى النقيض من هذا الخطاب المنغلق على ذاته الذي يعتني بالبنية الداخلية هناك الخطاب الشارع الذي يكرر المعنى الظاهري للنص، يعرض أكثر مما يحلل، ويردد أكثر مما يجدد. وهو ما يعيبه المغاربة على المشارقة من أنهم لا يقولون شيئًا، يجترون ابن رشد ويعيدون نصوصه كالفقهاء دون تأويل أو قراءة أو تجاوز، وإن عاب المشارقة على المغاربة الإغراق في التنظير بحيث يتبخر الواقع، ويغيب القصد. وتضيع الطاقة. ويتم اختيار موضوعات لرسائل علمية بلا قصد ولا هدف بناءً على قسمة مدرسية لموضوعات الفلسفة، الله، والطبيعة، والإنسان.

ولما كان القول الشارح لا يهدف إلى شيء، يسير في مكانه وليس له هدف، لا يثبت قضية ولا ينفي حكمًا كان من الضروري تغطية ذلك بالعبارات الإنشائية والمواقف الخطابية والمقالات الصحفية بأن ابن رشد أعظم الفلاسفة إن انتهت الفلسفة بعده. وغاب الفلاسفة على مدى ثمانمائة عام. وأن ورثته فقط هم وعاظه، وحملة قميصه، والمتاجرون باسمه، والمتكسبون من ورائه. فهم العقلانيون النقديون التنويريون.

ويرجع السبب في ذلك إلى غياب المنهج والموقف، والأداة والرؤية، الآلة والقصد. وذلك ناتج عن أن الباحث ذو ثقافة واحدة، هو الموروث القديم، دون معرفة غيرها من الثقافات مثل الوافد الغربي، لعدم المعرفة باللغات الأجنبية. فأصبحت الدراسات الرشدية عوراء تقرأ النصوص بعين واحدة أو عرجاء يقوم فيها ابن رشد على ساق واحدة.

وغاية هذا التأليف الكتب الجامعية التي أصبحت أشبه بالكتب المدرسية المقررة الهدف منها جمع المعلومات، مجرد المعلومات عن ابن رشد وفلسفته عرضًا «موضوعيًّا» إخباريًّا صرفًا. ينقل بعضها من بعض، ويكرر بعضها بعضًا، أشبه بمقالات دوائر المعارف والموسوعات. تقدم ابن رشد الميت وليس ابن رشد الحي. المؤلفات خارج السياق، السياق القديم دون نقلها إلى السياق الجديد. وهو ليس ابن رشد التاريخي لأن التاريخ حركة وحياة وجدل وتفاعل بين الوعي الفردي والوعي الاجتماعي.

وحتى لا يبدو التأليف جامعيًّا مدرسيًّا توضع عناوين براقة لا صلة لها بالموضوع مثل «ثورة العقل»، «المنهج النقدي»، «النزعة العقلية». فلفظ «ثورة» أكثر مما يتحمله ابن رشد. ولفظ «نزعة» وكأن إعمال العقل اتجاه، والعقل أساس النقل. ويكاد يعتمد عليه معظم المفكرين الإسلاميين. ومِن ثَم يكون تخصيص ابن رشد بالنزعة العقلية عمن سواه لا أساس له. ولا تتجاوز النزعة العقلية عرض «مناهج الأدلة» أو «تهافت التهافت» بنفس التبويب وعرض قضايا قدم العالم تحت عنوان براق «العقل والوجود» أو الخير والشر والقضاء والقدر تحت عنوان «العقل والله». وتتكرر نفس المادة، نقد ابن رشد لعلم الكلام في «مناهج الأدلة» تحت عنوان آخر «المنهج النقدي في فلسفة ابن رشد» دون عرض للمنهج ولا للنقد. والبداية شكر لجميع مكتبات العالم في المشرق والمغرب لما أمدته بنفائسها من مطبوع ومخطوط. والنهاية ثبت بالمراجع الأجنبية الألمانية والفرنسية والإنجليزية المنقولة عن الكتب الأخرى العربية والأجنبية.١٥
وتتكرر نفس المادة وبنفس الطريقة الشارحة من «مناهج الأدلة» إلى «فصل المقال» إلى «تهافت التهافت» اعتمادًا على الدراسات السابقة بعنوان أكثر إغراءً مثل «تأملات في فلسفة ابن رشد». فالتأملات نوع أدبي، وأسلوب فلسفي، وفعل تأملي منذ تأملات ديكارت للإيحاء بالمدخل الفلسفي للمادة المكررة. ولا فرق هنا بين معنى «تأملات» و«دراسات» و«بحوث» و«مدخل إلى» أو «مقدمة في»، بالرغم من أن هذه العناوين في التراث الفلسفي لا توحي بالتكرار والشرح للنصوص بل بالقراءة والتأويل والرؤية الجديدة.١٦ وغالبًا ما تبدأ مثل هذه الدراسات بفصول تمهيدية عن حياة ابن رشد وفلسفته يكرر بعضها بعضًا. فهي مادة موضوعية لا اجتهاد فيها. ويتم تفصيل نكبته ويقصد بها المؤلف حتى يضع نفسه في زمرة المفكرين الأحرار والمواقف التي تتجاوز الكتاب المقرر والتأليف الجامعي.
ولا يختلف جيل عن جيل في هذا التأليف الجامعي الذي يهدف إلى توفير المادة الاستذكارية للطلاب. بدأه الجيل الثاني من الأساتذة إذا اعتُبر مصطفى عبد الرازق هو ممثل الجيل الأول. وقد يكون الدافع المادي أحد أسباب التأليف. مثال ذلك «ابن رشد وفلسفته الدينية» الذي يعرض حياته وتلاميذه ومحنته وأثره على أوروبا كتمهيد تاريخي. ثم يعرض «مناهج الأدلة» موضوعًا موضوعًا بالقول الشارح مثل الأدلة على وجود الله وصفاته، والعالم والإنسان. وهي نفس المقدمة الشارحة لإحدى طبعات «مناهج الأدلة» والتي هي في الأصل مقدمة بالفرنسية لترجمة «مناهج الأدلة» إلى الفرنسية كجزء من رسالة لدكتوراه الدولة في السربون.١٧
ولا تتجاوز الندوات عرض كتبه الكلامية مثل «مناهج الأدلة» وتقسيمة موضوعاته أو «فصل المقال» لعرض الصلة بين الدين والفلسفة إلى الحكمة والشريعة بمصطلحات ابن رشد أو «تهافت التهافت» في نقده للغزالي كلًّا أو جزءًا في موضوع النفس والعقل. كما تعرضه مشائيًّا شارحًا لأرسطو مع أن أرسطو هو الشارح لابن رشد أو طبيبًا أو تبين أثر الغزالي السلبي على العالم الإسلامي، وأثر ابن رشد الإيجابي على الحضارة الغربية أو تعطي عموميات عن الثقافة الإسلامية والفكر المعاصر.١٨
وتدور معظم المؤتمرات والندوات عن ابن رشد في هذا النوع الأدبي، الكل ولا شيء، العموم والخصوص، تكرار الشعارات البراقة، رائد التنوير، آخر الفلاسفة، العقلاني. فمثلًا في الحلقة الدراسية عن «العطاء الفكري لأبي الوليد بن رشد» جمع بين الفقه والفلسفة والكلام مع دراسة عامة عن «المشروع التجديدي الفكري لابن رشد». وفي الندوة عن «الفيلسوف ابن رشد مفكرًا عربيًّا ورائدًا للاتجاه العقلي» جمع بين الخطابة والشعار. فهو عميد الفلسفة العقلية في بلدان العالم العربي شرقًا وغربًا، وباعث الاتجاه العقلي، ورائد حركة التنوير، وهرمنا الفكري الشامخ، وعملاق الفلسفة العربية الذي يقف على قمة الفلسفة العربية، رائد حركة التنوير في العالم العربي، الفيلسوف عميق التفكير، لم يقل ما قال إلا ليبقى، خالد بفلسفته، خالد بفكره، من يحاول أن يتخطى الدور الرائد الذي قام به فيلسوفنا الرائد العملاق فوقته ضائع عبثًا، ومن يحاول تزييف آرائه فستلحق به لعنة الفلاسفة في كل زمان ومكان، مما يدل على عمق آرائه وثراء فكره الخالد، خالد بكتاباته، خالد بأثره العميق. لقد دخل عن طريق أعماله الفكرية الكبرى تاريخ الفلسفة من أوسع الأبواب وأرحبها. الفيلسوف العربي العظيم أعظم من أنجبتهم أمتنا العربية، ومن واجبنا أن ندرس أفكاره وما أعمقها وأروعها.١٩

ثانيًا: ابن رشد على ما هو عليه

فمن هو ابن رشد؟ هل يمكن معرفته على ما هو عليه في دوره الحضاري؟ هل يمكن أن يتحدث ابن رشد عن نفسه ويحدد مقاصده وأساليبه وأنواع أقواله؟ كيف يصنع ابن رشد نفسه في إطار عصره ويحدد رسالته، فالفلسفة رسالة قبل أن تكون مهنة؟ وكيف يمكن استئنافه في هذا العصر إذا أرادت الرشدية أن تعيش بدلًا من توظيفه في غايات سياسية وقتية تبريرًا لنظم سياسية ونقدًا لخصومها؟ كيف يمكن رد الاعتبار لابن رشد، وإنقاذه من أيدي المتكسبين به المدعين عليه، الطالبين الشهرة والمنصب، الصدارة والوجاهة، والمتاجرين به في الأسواق؟

ابن رشد صاحب موقف حضاري مثل كل فيلسوف. إنه ابن عصره يدرك أزمته، ويحاول إيجاد حل لها، يقبل تحدياته، ويحاول الاستجابة لها. كل فيلسوف «ملتزم» بالضرورة وإن اختلفت أشكال الالتزام حتى ولو كان أكثر الفلاسفة تجريدًا. وهو موقف ثلاثي بناءً على الموقف الحضاري الذي يجد كل فيلسوف فيه نفسه. الموقف ثابت والفلاسفة متغيرون والاختيارات محددة. ويمكن معرفته قبليًّا بناءً على بنية العقل الخالص قبل معرفته بعديًّا من تحليل أعمال الفلاسفة.

الموقف الأول: إعادة بناء الموروث القديم، وتجاوز علم الكلام إلى الفلسفة، وتجاوز الفلسفة الإشراقية إلى الفلسفة العقلية الطبيعية تحولًا من الأشعرية إلى الاعتزال بعد أن جعل الغزالي الأشعرية هي الفرقة الناجية وخصوم الدولة هي الفرقة الهالكة، المعارضة العلنية في الداخل وهم المعتزلة كما عبر عن ذلك في «الاقتصاد في الاعتقاد»، والمعارضة السرية في الداخل في «المستظهري أو فضائح الباطنية». ففي «الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، والتعريف بما وقع فيها من الزيغ والشُّبه المضلة» ينقد ابن رشد علم الكلام ويبين أنه تأرجح بين الدين والفلسفة. لا هو أفاد الدين بتعقيله، ولا هو أفاد الفلسفة بالبرهان. والأشاعرة نموذج على ذلك. فعلم الكلام لا يفيد الذكي ولا ينتفع به البليد. أدلته على وجود الله قاصرة، دليل القدم والحدوث، ودليل الجوهر الفرد، ودليل الممكن والواجب، ودليل التمانع لإثبات الوحدانية. وينفي الجسمية والجهة والرؤية ضد الأشاعرة.٢٠

ثم يدافع ابن رشد عن الفلسفة في «تهافت التهافت» ضد هجوم الغزالي عليها وتكفيره الفلاسفة في «تهافت الفلاسفة»، مبينًا أن افتراضات الفلاسفة في قدم العالم، وعلم الله بالكليات، وخلود النفس الكلية لها ما يؤيدها في العقل والنقل. فقد نقد الغزالي الفلسفة باعتباره متكلمًا لا فيلسوفًا. والكلام له حدوده في موضوعه المتعالي ومنهجه الجدلي، ونتائجه المحتملة.

ثم يثبت ابن رشد اتفاق الحكمة والشريعة، الفلسفة والدين في «فصل المقال»، وأن النظر واجب بالشرع ردًّا على سؤال: هل النظر واجب أم مندوب أم مكروه أو محرم أو مباح طبقًا لأحكام التكليف الخمسة. وليست الفلسفة إلا النظر. وهي القول البرهاني وليس الجدلي أو الخطابي من أقوال المتكلمين.

ويؤسس ابن رشد الفقه في «بداية المجتهد ونهاية المقتصد» في الفلسفة والكلام علوم نظرية، والفقه والطب علوم علمية. يبحث في الفقه عن بنية الفعل الشرعي، ويوحد بين المذاهب، ويدرأ تعارض الأدلة النقلية والعقلية، والجمع بينهما بطريقة الأصوليين، العام والخاص، والمطلق والمقيد أو العودة إلى البراءة الأصلية. والغالب الترجيح والجمع ثم النسخ والجمع. وأحيانًا يكون الحل هو مذهب التخيير. وأحيانًا يكون الحل عن طريق مبحث الألفاظ عند الأصوليين، الحقيقة والمجاز، الظاهر والمؤوَّل، المحكم والمتشابه، المجمل والمبين … إلخ؛ لأن الخلاف قد يرجع إلى اشتراك الاسم. ولا يؤسس ابن رشد الفقه فقط على العقل والطبيعة أي القياس والتجربة بل أيضًا على الأخلاق والحاسة الخلقية والذوق البديهي. فالطهارة المقصود بها النظافة، وهي من محاسن الأخلاق. والأحكام الشرعية قسمان. قسم يقضي به السلطان. ويعادل السياسة الشرعية، وأقرب إلى الفرض. وقسم لا يقضي به السلطان، وهو الحياة الفردية وأقرب إلى المندوب. الأول قانون موضوعي، والثاني قانون ذاتي. ويضع ابن رشد نسقًا أخلاقيًّا خماسيًّا يستنبط منه الفقه كله ويقوم على خمس فضائل: الأولى الشكر ومنها تستنبط العبادات. والثانية العفة ومنها تستنبط آداب الطعام والشراب والمناكح. والثالثة العدل في الأبدان والأموال، وعليه يقوم فقه الحروب والقصاص والعقوبات. والرابعة السخاء وعليها تقوم الزكاة والصدقات، والخامسة الشجاعة وعليها تقوم الرياسة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.٢١
ويعرض ابن رشد علم الطب في «الكليات»، مركزًا على الأصول النظرية وطالب ابن زهر تأليف كتاب عن الطب يعنى بالمسائل العملية، ويدخل في التأليف كنوع أدبي عندما يكون تمثل الوافد قبل تنظير الموروث.٢٢ يتقدم الوافد عند جالينوس ثم بقراط ثم أرسطو ثم أركيغانس ثم بولس وأرسطراطس ثم يأتي بالموروث بداية بالرازي ثم ابن مروان بن زهر، ثم بنو زهر، ثم الكندي وابن سينا، ثم أبو وافد وأبو نصر. ينتقد الكندي طبيبًا لأنه ربط الطب بالعدد والموسيقى، ويثني على ابن سينا وابن زهر.
الموقف الثاني: إعادة تمثل الوافد على ما هو عليه واستعماله لنقد الأشعرية وليس تقليدًا له أو إغراقه في الفلسفة الإشراقية، وتخليصه من براثن الشرَّاح اليونان والمسلمين، اليونان الذين أرادوا جعله إشراقيًّا أفلاطونيًّا أو مسيحيًّا شرقيًّا، والمسلمين الذين أرادوا جعله عربيًّا إسلاميًّا، أخلاقيًّا إلهيًّا.

لم يشأ نقله والترويج له وطلب الشهرة منه حتى ولو سماه اللاتين «الشارح الأعظم» بل تمثل ثقافة العصر، واحتوى الوافد داخل الموروث. فالوافد علوم وسائل، والموروث علوم غايات.

وأعاد عرض الوافد طبقًا لجدل اللفظ والمعنى والشيء في تحليل الخطاب، «التفسير» الكبير من اللفظ، و«التلخيص» من المعنى، و«الجوامع» من الشيء. شرح ابن رشد البرهان. من الوافد يتقدم أرسطو ولكن من الموروث يتقدم الفارابي ثم ابن سينا ثم ابن ماجه ثم متى بن يونس والمتكلمون من أهل ملتنا. يبدأ بالمعنى اليوناني ثم يخلصه من حضارته ومن أجل تعميمه ثم يركبه على الحضارة العربية الإسلامية كما هو الحال في القياس، الأصل والفرع والعلة والحكم. يثني على الفارابي وينقد ابن سينا. وفسر ما بعد الطبيعة معتمدًا على أرسطو ثم الإسكندر وثامسطيوس ونيقولاوش وثافرسطس، ثم بطليموس وأبرخس وانكساجوراس وانكسمندريس، ثم سقراط والسفسطائيين. ومن الموروث يتقدم ابن سينا لخلطه بين العلمين الطبيعي والإلهي. وشرح النفس والأرجوزة في الطب لابن سينا. فالشرح للموروث كما للوافد.

ولخص كل أعمال أرسطو تقريبًا، المقولات والعبارة والقياس والبرهان والجدل والسفسطة والخطابة والشعر، ويحيل إلى الموروث كالفارابي ثم المتنبي وكثير من شعراء العرب مثل امرئ القيس وأبي تمام وجرير وابن المعتز وأبي نواس والفرزدق والمعري والنابغة الذبياني. ويزيد تلخيص الشعر ذا الرمة والنابغة والأعشى والبحتري والخنساء وزهير وعنترة وأبا فراس والكميت. ويلخص الطبيعيات، السماء العالم والكون والفساد والآثار العلوية والنفس والحاس والمحسوس. كما لخص كتاب السياسة لأفلاطون مشيرًا إلى الفارابي وأبي تمام وإلى كثير من موضوعات الشرع مثل شريعتنا والشريعة القرآنية. واختصر «المستصفى» للغزالي فالتلخيص للوافد والموروث أيضًا. وقدم جوامع للمنطق، الجدل والخطابة والشعر، وللطبيعيات، السماع الطبيعي، والسماء والعالم، والكون والفساد، والآثار العلوية، والنفس. ولما بعد الطبيعة ينقد فيها ابن سينا ثم الغزالي والفارابي.٢٣
لذلك لا يجوز دراسة السياسة أو «المدينة الفاضلة» عند ابن رشد لأنه لم يكتب نصًّا في الموضوع مثل الفارابي. والشروح والتلخيصات والجوامع ليس القصد منها دراسة موضوعات بل تمثُّل وافد، واحتواء ترجمات وافدة، وإعادة قراءتها داخل الموروث تأكيدًا لوحدة الثقافة ووحدة المعرفة. إنما يدرس «تلخيص نواميس أفلاطون» بمنهج مقارن لمعرفة مضمون النص اليوناني وكيفية توظيفه لنقد الحياة السياسية في الأندلس، وطريقة وضع المصطلحات تعريبًا أم نقلًا مثل وحدانية التسلط.٢٤
لا يُدرس الموضوع عبر الشروح، تفاسير أو تلخيصات أو جوامع، بل يدرس الشرح كنوع أدبي، وموقف حضاري. يدرس طوليًّا وليس عرضيًّا، عبر نوع أدبي واحد وليس عبر عدة أنواع. ولا يدرس «ابن رشد طبيبًا» عبر المؤلفات مثل الكليات والتلاخيص مثل تلخيصه لمقالات جالينوس وأبقراط. فكل نوع أدبي له هدف وقصد، التأليف شيء، والتلخيص شيء آخر.٢٥
ولا يُدرس «التصور الفلكي عند ابن رشد» لأن ابن رشد ليس له تأليف في الموضوع بل له تلاخيص للسماء والعالم وجوامع له. وهو نوع أدبي له وظيفة خاصة في تمثل الوافد واستعماله لتأصيل الموروث أو لمراجعته طبقًا لعلم القراءة.٢٦ ولا تدرس أيضًا «العلوم الطبيعية في فلسفة ابن رشد»، بداية بتعريف الجسم الطبيعي، مجالًا وتعريفًا ثم الهيولى ثم الصورة ثم العدم، وكل منها مفهومًا وأحكامًا ولواحق لأن ابن رشد لم يكتب مؤلفًا عن العلوم الطبيعية بل له تلاخيص وجوامع على طبيعيات أرسطو. وله مقالات أيضًا في العلم الطبيعي. وهما نوعان أدبيان مختلفان، التلخيص والتأليف.٢٧
والموقف الثالث: التوجه إلى الواقع المباشر، وتنظيره تنظيرًا مباشرًا، وتحويله إلى نص إضافة إلى نصوص القدماء وحتى لا يكتفي الفيلسوف بمهمة التأويل، تأويل النصوص القديمة من أجل إعادة بنائها أو تأويل النصوص الجديدة من أجل تمثلها حفاظًا على وحدة المعرفة. اكتفى ابن رشد بالتعامل مع النصوص القديمة الكلامية (مناهج الأدلة)، والفلسفية (تهافت التهافت)، والفقهية (بداية المجتهد) أو بتمثُّل النصوص الفلسفية الجديدة، في الشروح والتلخيصات والجوامع لأرسطو والطبية مثل شروحه على جالينوس وعروضه له، حتى ولو بدا هم الواقع من وراء النص. ويبدو أن ضربة الغزالي كانت قوية في المشرق، وامتدت إلى المغرب. فلم تستطع بارقة ابن رشد التخفف من سيطرة الأشعرية ورد الاعتبار إلى الفلسفة. اختارت آسيا الوسطى طريق العلوم الرياضية. واختارت أوروبا طريق العقل والطبيعة عند ابن رشد. وظل وسط العالم الإسلامي بين آسيا وأوروبا تحت سطوة الغزالي حتى بعد محاولة حركات الإصلاح خاصةً محمد عبده، التحول من الأشعرية إلى الاعتزال في وسط الطريق فانتهت إلى الماتريدية.
ولا يكفي في التنظير المباشر للواقع الحديث عن نكبة ابن رشد مثل «ابن رشد، الإنسان والنكبة». فهذا اللون من الكتابات أقرب إلى الدراما والإعلان والتشبه بالرواد، ويعبر عن الوجود المأزوم. وهو خلط بين السيرة الذاتية وبين الموقف الحياتي. بين ابن رشد في طور الصبا ثم في عهد السلطان عبد المؤمن وابنه يوسف ثم في عهد السلطان المنصور، وبين أسباب محنته أو دراسة نكبته في الخطاب العربي المعاصر وعند أحد رواده.٢٨

والسؤال هو: هل يغني التأويل عن التنظير المباشر للواقع؟ هل يغني تلخيص جمهورية أفلاطون لنقد وحدانية التسلط عن التنظير المباشر للتسلط كواقع وليس كنص، وصف مظاهره، وتحليل أسبابه، واقتراح طرق لمواجهته؟ هل من الضروري وضع نظارة النص القديم أو النص الجديد لرؤية الواقع؟ هل تقتصر مهمة الفيلسوف على التأويل دون التنظير؟

إن التحدي أمام الفلاسفة الآن ليس فقط لإعادة النظر في نصوص القدماء عرضًا وتحليلًا وشرحًا وتلخيصًا بل قراءة وتجاوزًا أو عرض نصوص المحدثين ترجمة وتعليقًا وشرحًا وتأليفًا. ففي كلتا الحالتين الفلسفة ما زالت نصًّا يرى الواقع من خلاله. وتعرض الحضارة العربية الإسلامية نفسها إلى الاتهام بأنها حضارة نص. إنما التحدي هو أن يتحول الفيلسوف العربي الإسلامي إلى تحويل الواقع إلى نص إضافة إلى نصوص القدماء والمحدثين حتى يمارس عملية التفلسف. ويتعامل مع الواقع العربي الإسلامي مباشرة دون الاستناد إلى العكازين، الموروث القديم والوافد الجديد. ومِن ثَم يمكن نقل المرحلة التاريخية كلها من تقريظ لابن رشد الموروث من القدماء أو لابن رشد الوافد من المحدثين إلى ابن رشد عصري جديد يتخفف من علم الكلام، ويرد الاعتبار إلى الفلسفة، ويحمي الفكر من الانجذاب نحو الوافد الغربي الجديد بشرح أرسطو العصر، هيجل. فابن رشد هي الرشدية. والرشديون ليسوا هم الذين يتكسبون بابن رشد بل الذين يستأنفون الرشدية كحركة في التاريخ.

١  المجلس الأعلى للثقافة، ندوة، ٢٠٠٢م.
٢  انظر دراستنا: جارودي في مصر قضايا معاصرة، ج١ في فكرنا المعاصر، دار الفكر العربي، القاهرة، ١٩٧٦م، ص١٤٧–١٦٥.
٣  وهذا ما قمنا به في «حوار الأجيال»، دار قباء، القاهرة، ١٩٨٨م.
٤  وهذا هو معنى فعل Aufheben عند هيجل.
٥  رينان: ابن رشد والرشدية، ترجمة عادل زعيتر، بيروت. فرح أنطون: ابن رشد وفلسفته، مع نصوص المناظرة بين محمد عبده وفرح أنطون، قدم لها أدونيس العكرة، دار الطليعة، بيروت، ١٩٨١م.
٦  الفارابي: التوفيق بين رأيي الحكيمين أفلاطون الإلهي وأرسطوطاليس الحكيم.
٧  د. محمود قاسم: نظرية المعرفة عند ابن رشد وتأويلها لدى توماس الإكويني، الطبعة الثانية، الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٦٩م.
٨  د. زينب محمود الخضيري: أثر ابن رشد في فلسفة العصور الوسطى، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، ١٩٨٣م.
٩  د. محمد عمارة: المادية المثالية في فلسفة ابن رشد، دار المعارف، القاهرة، ١٩٧١م.
١٠  د. حسن حنفي: ابن رشد بين الأشعرية والظاهرية، المعهد العالي للدراسات الإسلامية، جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية، بيروت، يناير ٢٠٠٠م.
١١  د. حسن حنفي: الاشتباه في فكر ابن رشد، عالم الفكر، الكويت، ٢٠٠١–٢٠٠٢م.
١٢  د. حسن حنفي: السابق.
١٣  جمال الدين العلوي: المتن الرشدي، مدخل لقراءة جديدة، دار توبقال للنشر، الدار، البيضاء ١٩٨٦م.
١٤  محمد المصباحي: إشكالية العقل عند ابن رشد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ١٩٨٨م.
١٥  محمد عاطف العراقي: النزعة العقلية في فلسفة ابن رشد، دار المعارف، القاهرة، ١٩٦٨م، وأيضًا: المنهج النقدي في فلسفة ابن رشد، دار المعارف، القاهرة، ١٩٨٠م.
١٦  د. بركات محمد مراد: تأملات في فلسفة ابن رشد، المصدر لخدمات الطباعة، القاهرة، ١٩٨٨م.
١٧  د. محمود قاسم: ابن رشد وفلسفته الدينية، الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٦٩م.
١٨  العطاء الفكري لأبي الوليد بن رشد. حلقة دراسية تحرير د. فتحي حسن ملكاوي، د. عزمي طه السيد، المعهد العالي للفكر الإسلامي، عمان، ١٩٩٩م.
١٩  الفيلسوف ابن رشد، مفكرًا عربيًّا ورائدًا للاتجاه العقلي، المجلس الأعلى للثقافة، إشراف وتصدير د. عاطف العراقي، القاهرة، ١٩٩٣م.
٢٠  من النقل إلى الإبداع، المجلد الثالث: الإبداع، الجزء الأول: تكوين الحكمة، الفصل الأول: نقد علم الكلام. رابعًا: نقد ابن رشد. دار قباء، القاهرة، ٢٠٠١م، ص٨١–١٧٨.
٢١  ابن رشد فقيهًا، ألف، مجلة البلاغة المقارنة، ابن رشد والتراث العقلاني في الشرق والغرب، العدد ١٦، القاهرة، ١٩٦٦م، ص١١٦.
٢٢  من النقل إلى الإبداع، المجلد الثاني: التحول، الفصل الثاني: تمثل الوافد قبل تنظير الموروث، ص١٨٥–١٨٨.
٢٣  السابق، المجلد الأول: النقل.
٢٤  د. منى أحمد أبو زيد: المدينة الفاضلة عند ابن رشد، منشأة المعارف، الإسكندرية، ١٩٩٩م.
٢٥  د. أبو شادي الروبي: ابن رشد طبيبًا، المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، الكويت، ١٩٩٥م.
٢٦  د. دولت عبد الرحيم: التصور الفلكي عند ابن رشد، مطابع الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، ١٩٩٧م.
٢٧  د. حسن مجيد العبيدي: العلوم الطبيعية في فلسفة ابن رشد، دار الطليعة، بيروت، ١٩٩٥م.
٢٨  د. محمد أحمد عواد: ابن رشد، الإنسان والنكبة، مركز الأصدقاء، عمان، ٢٠٠٠م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤