هل هناك منهج موحد لفهم الدين؟١

لا يوجد منهج موحد لفهم الدين، فالدين ظاهرة اجتماعية متعددة الجوانب، النفسية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية والقانونية واللغوية والتاريخية، ومِن ثَم ارتبط فهمه بالعلوم الإنسانية. وكل الظواهر الاجتماعية ظواهر متغيرة وليست ثابتة ومرتبطة بتغير المجتمع وتطوره. فلا الموضوع ثابت، وهو الدين، ولا المنهج ثابت وهي مناهج العلوم الاجتماعية. لذلك تناولته العلوم الاجتماعية كل منها بمنهجها الخاص. طبق تاريخ الأديان المقارن المنهج التاريخي لدراسة الدين كظاهرة تاريخية متطورة وللمقارنة بين أبنيتها ومساراتها. وطبق علم الاجتماع الديني المنهج الاجتماعي لمعرفة كيفية نشأة الدين في المجتمع كأحد الظواهر «الفوقية» كالأدب والفن والفلسفة. وطبقت علوم اللسانيات المنهج اللغوي لتحليل الخطاب الديني ومعرفة إلى أي حد هو خطاب خبري أم خطاب إنشائي. وطبق علم النفس الديني المنهج النفسي بكل أبعاده لدراسة الدين كظاهرة نفسية مرتبطة بأزمات الفرد، نجاحاته وإحباطاته. وارتبط به أيضًا ظاهريات الدين لوصف الدين كظاهرة شعورية. وطبقت أنثروبولوجيا الدين المناهج الأنثروبولوجية لدراسة الدين كظاهرة إنسانية متطورة بتطور الإنسان. ثم أدمج ذلك كله في علوم التأويل أو علوم النص التي تجمع بين كل هذه المناهج لفهم ظاهرة الدين في كل أبعادها التاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية والنفسية واللغوية والجمالية. فلا يوجد منهج موحد لدراسة الدين بل تتعدد المناهج بتعدد جوانب الظاهرة الدينية. فالدين ليس ظاهرة أحادية الجانب بل متعددة الجوانب ومتعددة المناهج، ومتعددة الرؤى ومتعددة النتائج. وتعدد المناهج طريق إلى تكاملها.

أولًا: عيوب المنهج الموحد في فهم الدين

تطبيق منهج موحد لفهم الدين له عدة عيوب. كل منها يقوم على تصور محافظ سلطوي عقائدي نصي للدين. وأهمها:
  • (١)

    المنهج الموحد لفهم الدين هو تبرير لوجود السلطة الدينية التي تحتكر التفسير فتخطئ أكثر مما تصيب. لذلك قامت حركات الإصلاح الديني مثل البروتستانتية ضد السلطة الدينية، سلطة الكنيسة، وعصمة البابوات. كما حاولت السلطة الدينية في اليهودية، سلطة «السنهادرين» تكفير كل المفكرين الأحرار في اليهودية مثل اسبينوزا ومحاولة اغتياله. كما حكم الفقهاء بصلب الحلاج اتهامًا له بالكفر والخروج على الدين. وذبح الجعد بن درهم بعد صلاة العيد بدلًا عن النحر وهو من أوائل المعتزلة. وقُطع ابن المقفع إربًا إربًا اتهامًا له بالزندقة. وفي العصر الحديث حرق جيوردانو برونو في روما بقرار من الكنيسة ومحاكم التفتيش لأنه قال بنظرية جديدة في الكون. وسُجن جاليليو لأنه قال بدوران الأرض حول الشمس. فالسلطة الدينية هي التي ترى أن هناك منهجًا موحدًا لفهم الدين هو فهمها هي دون غيرها، احتكارًا للتفسير وطلبًا للسلطة. وهي في ظاهرها دينية وفي حقيقتها سياسية. هي الفرق الناجية وسواها الفرق الضالة الهالكة. ولم يفترق الدين الشرقي عن الدين في الغرب، فقد هرب بوذا من سلطة رجال الدين. وهام على وجهه في الصحراء بحثًا عن الحقيقة الطبيعية بدلًا من الحقيقة المؤسسية. فلا يوجد في الدين «مرجعيات». ولا عصمة لإمام. بل يتعدد المنظور، وتختلف الاتجاهات. فالحق النظري متعدد، والحق العملي واحد، هو تحقيق مصالح الناس. وللمخطئ أجر وللمصيب أجران. وكان الأنبياء يمثلون سلطة دينية بديلة وفهمًا دينيًّا جديدًا غير سلطة الأحبار. فثار السيد المسيح على الفهم الحرفي الشعائري الخارجي الذي انتهى إلى نفاق الفرسيين وأعطى فهمًا روحيًّا أخلاقيًّا إنسانيًّا للدين بدل أن يتحول معبد الله إلى دكان.

  • (٢)
    ونظرًا لتداخل السلطتين الدينية والسياسية فإن من صالح السلطة السياسية أيضًا فرض فهم موحد للدين لمنع المعارضة السياسية. كما أن من صالح السلطة الدينية فرض فهم موحد للدين لصالح السلطة الدينية ضد المعارضة الدينية والرأي الآخر، والفهم البديل. فالدين خير وسيلة للتحكم السياسي. كلاهما يدعو إلى الطاعة أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ. وكلاهما يعتبر عصيان الأمر، الإلهي أو السياسي، كفرًا وتمردًا، ردة وقلب لنظام الحكم. كانت الكنيسة في العصر الوسيط تمثل السلطتين معًا، الدينية والسياسية، لا فرق بين البابا والإمبراطور. ثم حدث النزاع بين السلطتين، ونشأت العصور الحديثة بالفصل بينهما تنفيذًا لوصايا المسيح «أعطِ ما لقيصر لقيصر وما لله لله». وما زال في الوطن العربي يستخدم رجال الدين كفقهاء للسلطان إذا أراد حربًا فسرعان ما تأتي آية وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ. وإن أراد سلامًا تخرج آية أخرى وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا. إذا أرادها اشتراكية يخرج حديث «الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار». وإذا أرادها رأسمالية فالتجارة مصدر للربح إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ. ويتحكم النظام السياسي في الناس من خلال البرامج الدينية التي تحث على الصبر والخوف والخشية والرضا والتوكل والزهد، وكل القيم السلبية التي تدعو إلى الاستكانة والرضوخ والاستسلام لقوى الغيب، وقبول كل شيء، والإعراض عن الاعتراض، وقد أفرز هذا الوضع عددًا من الأمثال العامية في نفس الاتجاه «المكتوب مامنوش مهروب»، «العين صابتني ورب العرش نجاني»، «الصبر مفتاح الفرج»، «الباب اللي يجيلك منه الريح سده واستريح»، «إن كان ليك عند الكلب حاجة قول له يا سيد» … إلخ. ومنذ الحكم الأموي أفرزت السلطة السياسية عقائد القضاء والقدر وشرع الغزالي الاستيلاء على السلطة بالشوكة. وتكفير من خرج على الإمام أو الجماعة.
  • (٣)
    هناك أيضًا سلطة التراث الذي تكلس وخرج من المجتمع والتاريخ والزمان والمكان إلى مطلق خارج التاريخ، صالح لكل مجتمع في كل زمان ومكان. فالتراث من صنع البشر، ومن خلق الرجال. يتم إبداعه في لحظات الانتصار، وتقليده في أوقات الهزيمة. ويصبح هو والمقدس شيئًا واحدًا. بل يصبح هو المصدر الأول للدين كما حدث في العصر الوسيط عندما تحولت أقوال الآباء إلى مصدر سلطة. بل إن الكتاب نفسه خرج من التراث كما هو الحال في الأناجيل التي تعبر عن إيمان الجماعة المسيحية الأولى. لذلك ثارت البروتستانتية على ازدواجية المصدر، الكتاب والتراث. وقالت بأحادية المصدر «الكتاب وحده». وأنكرت عصمة البابوات، وسلطة الكنيسة والآباء. وتوقف الاجتهاد من العصر العثماني وعم التقليد. ولم تنفع دعوات المصلحين لنبذ التقليد وإعمال النظر والاجتهاد كما هو الحال عند الشوكاني في «أدلة الاجتهاد والتقليد»، والطهطاوي في «القول السديد في الاجتهاد والتقليد». فإيمان المقلد لا يجوز. وهو ليس مصدرًا من مصادر العلم. والقرآن يهاجم التقليد والمقلدين إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ. وتحول ذلك إلى أمثال عامية مثل «إن فاتك الميري اتمرغ في ترابه». وأصبحت صفة القديم قيمة مثل الجبن «القديم»، والخمر «المعتقة». بل وصف الله بصفة «القديم» مع أنه أيضًا الخالق والمبدع والمصور. مع أن لفظ «قدم» قد يعني القديم في الماضي والتقدم نحو المستقبل.
  • (٤)

    وتحول التراث القديم كمصدر سلطة إلى تقاليد وممارسات شعبية وأمثال عامية، تحدد للناس تصوراتهم للعالم، وتعطيهم قيمهم للسلوك. واختلطت قيم الدين مع قيم التراث مع قيم العادات والتقاليد مثل احترام القدماء، وتعظيم كبار السن، وتفضيل رب الأسرة على جميع أعضاء الأسرة، والأخ الكبير على الأخ الصغير. فنشأ مجتمع «سي السيد» الذي سماه علماء الاجتماع المجتمع الأبوي أو «البطريركي». الطاعة خير من العصيان، والقديم أفضل من الجديد، والمألوف أقل مخاطرة من غير المألوف، وللموروث الأولوية على الوافد. وقد تتعارض قيم التقاليد مع قيم الدين مثل جرائم الشرف والثأر والانتقام. تحول الدين إلى أعراف اجتماعية وتقاليد شعبية لا فرق بين الدين الرسمي والدين الشعبي مثل زيارة أضرحة الأولياء، والقديسين، وعرائس المولد، وأطعمة رمضان، وكعك العيد، والإنشاد الديني، والأدعية والابتهالات النبوية، وإنارة المآذن، وتشييد المساجد، وتقبيل الأضرحة، والتوسط بالأولياء، والتسبيح بالحصا، وإطالة اللحى، ولبس الجلباب الأبيض والخف الأصفر، ووضع العقال على الرأس، وتجليد المصاحف بالقطيفة والحرير، وتطعيمه بالذهب، وتهادي الناس به، وتعليق «الله أكبر» أو «لا إله إلا الله» كتعاويذ من البلاستيك في العربات أو على قارعة الطريق كإرشادات للمرور تحديد المسافات بالكيلومترات واسم المدن والطرق وإعلانات الشركات وأسماء القرى السياحية.

  • (٥)

    وتفهم العقائد بطريقة واحدة. وعادة ما تكون حقائق مطلقة مستقلة بذاتها عن العالم، وثابتة منذ صياغاتها الأولى، غايات في ذاتها وليست وسائل لتحقيق الحياة الفاضلة. وأحيانًا أخرى يتم تصور العقائد على أنها أشياء، وقائع تاريخية مادية حدثت بالفعل كالتجسد والخلاص. يكفي الإيمان بها كي يصبح الإنسان مؤمنًا كاملًا. والحقيقة أن العقائد بواعث على السلوك الفاضل وفي مقدمتها التوحيد، توحيدًا للشخصية الإنسانية، قواها، وطاقاتها القولية والفعلية، التوحيد بين النظر والعمل، بين القول والفعل، بين الداخل والخارج. والمعاد يعطي الإنسان بعد المستقبل والإعداد له. والبعض منها يثير الخيال ويقوم على التصوير الفني لإخراج الإنسان من العالم الحسي الملموس، والعالم الصوري المجرد مثل أمور المعاد من جنة ونار، ونعيم وعذاب، وثواب وعقاب، وميزان وصراط. وقد تعددت المناهج في دراسة العقائد وخرجت تيارات «لاهوتية» متعددة مثل اللاهوت التاريخي الذي يبين نشأة العقائد في التاريخ، واللاهوت العقائدي الذي يبين تماسك العقائد كبنية منطقية داخلية خارج التاريخ، واللاهوت السلبي الذي يبين استحالة إطلاق أحكام إيجابية على الله خشية من التجسيم والتشبيه، وتكفي الأحكام السلبية دفاعًا عن التنزيه، واللاهوت الجدلي الذي يبين علاقة الله بالعالم والطبيعة والكون والإنسان، واللاهوت الليبرالي الذي يدافع عن حرية الإنسان ومسئوليته في الفعل، وعقل الإنسان وقدرته على الفهم، واللاهوت الأخلاقي الرعوي الذي يبين الدلالة الأخلاقية للعقائد والشرائع والطقوس والعبادات، واللاهوت العلماني أو لاهوت «موت الإله» الذي يهتم بشئون العالم والدنيا وحياة الناس دون أن يستأثر بذلك العلمانيون وحدهم. وأخيرًا لاهوت التحرير الذي يبين كيف تتحرر الشعوب باسم الله ضد الطغيان، القهر في الداخل والاحتلال والهيمنة من الخارج.

  • (٦)

    وعادة ما يفهم النص بمنهج واحد هو المنهج النصي الحرفي بدعوى المحافظة على معنى النص وكأن المعنى في اللفظ وليس مستقلًّا عنه، في الذهن والواقع، في العقل والتاريخ. الفهم الحرفي تضييق نظري وإنكار للنص وإنكار للعقل والواقع. وهو الذي أدى إلى تكفير الخصوم. كما أنه تشديد في السلوك، وتضييق الخناق على الطبيعة، وجعل كل شيء حرامًا أو مكروهًا مع أن الأشياء في الأصل على الإباحة. وهو إيثار لبعد واحد فقط في اللغة وهو اللفظ. مع أن اللغة لفظ ومعنًى وشيء. لفظ في اللسان، يفيد معنًى في العقل، والمعنى يحيل إلى شيء في الواقع من خلال قصد وفعل في السلوك. والوحي نفسه ليس مجرد كلام خارج الزمان والمكان بل له مكان في «أسباب النزول»، وزمان في «الناسخ والمنسوخ». وروح الأئمة تسري في التاريخ. وفي المسيحية تجسَّدت الكلمة وأصبح الروح جسدًا، واللغة ليست فقط حرفًا بل هي أيضًا صورة فنية في المجاز، تحتاج إلى تأويل. لذلك ازدوجت ألفاظ اللغة في التفسير عند الأصوليين في: الحقيقة والمجاز، الظاهر والمؤوَّل، المجمل والمبين، المحكم والمتشابه، المطلق والمقيد، والعام والخاص. لا يفهم النص الديني فقط عن طريق قواميس اللغة بل أيضًا بما يثيره النص في النفس، ويحرك الخيال. فالمنهج الموحد في التفسير يوقع في التفسير الحرفي أو التفسير الباطني كرد فعل على التفسير الأول. لذلك نشأ الصراع بين الفقهاء والصوفية، بين «التنزيل» و«التأويل». ونشأت في الفلسفة العامة وفلسفة الدين وفلسفة القانون وفي الشعر قضية «الروح والحرف».

  • (٧)
    والمنهج الموحد في فهم الدين يبعث على الخوف ويعطي الإحساس بالدونية وبأن الإنسان العادي غير قادر على فهم الدين إلا باستشارة أهل الفتيا وسؤال أهل العلم، والاسترشاد برأي أهل الاختصاص. ويجعل الإنسان البسيط منكرًا لعقله، ومتخليًا عن إحساسه، وتاركًا بداهته من أجل استشارة أهل الخبرة. فالتفسير مهنة وليس رسالة، حرفة وليس قضية، صنعة وليس طبيعة. وكتب التفاسير أجزاء ومجلدات بالعشرات، يقضي العلماء حياتهم في إنجازها. وكيف للإنسان العامي أن يعي كل ذلك أو يفهمه؟ ونتيجة لذلك سرعان ما يلجأ إلى التفسير المغاير، والفهم البديل الذي يستهويه، ويخاطب مشاعره ووجدانه، ويلبي مصالحه حتى ولو كان دعوة إلى الانخراط في تنظيم سري تحت الأرض. فمعنى النص قد وصل إلى القلب، وأثار الذهن، وحرك المشاعر، واستثار الفعل، وغير الواقع إلى واقع أفضل عندما تندلع الثورات الشعبية أو تقع الانقلابات الدينية المضادة. المنهج الموحد لتفسير الدين يلمس السطح وينسى العمق. يهتم بالكل وليس الأجزاء. ويتعامل مع المطلق وليس النسبي. هو فهم عام وشامل وكلي وأبدي والناس تجوع وتعطش وتعرى وتقتل وتموت. هو تغطية وتعمية وتستر أكثر منه كشفًا وفتحًا وبيانًا. هو فهم شمولي «توليتاري» كما هو الحال في الأنظمة الشمولية والأنساق العامة، والمذاهب والأيديولوجيات السياسية، تقهر أكثر مما تحرر، وتلغي الفردية والتفرد والوحي يقول وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا.

ثانيًا: تعدد المناهج في فهم الدين

  • (١)

    لا يوجد إذن منهج موحد في فهم الدين لأن الدين ظاهرة متطورة نشأ بنشأة الإنسان على الأرض كما نشأ الفن ونشأت الفلسفة، وكلها مظاهر للعمران البشري. تغيرت تصورات الآلهة في الديانات الشرقية بتوحيد الله والطبيعة عنها في الديانات الإبراهيمية في الشرق والغرب التي تقوم على ثنائية الخالق والمخلوق. كما تطور تصور الألوهية من الآلهة المتعددة إلى الإله الواحد، ومن التجسيم والتشبيه إلى التنزيه. وتغيرت أولوية الصفات، المنتقم الجبار في اليهودية، والرحيم الغفور في المسيحية، والعادل المقسط في الإسلام. وتتغير الشرائع بكثرة السؤال عن الحلال والحرام مرة من التخفيف إلى التشدد كما هو الحال في الشرائع اليهودية، ومرة ثانية من التشدد إلى التخفيف كما هو الحال في الشريعة المسيحية، ومرة ثالثة على الوسطية كما هو الحال في الشريعة الإسلامية.

  • (٢)
    وتختلف العصور والأزمان كما يقرر التاريخ الشامل: العصر الجليدي، والعصر الحجري، والعصر البرونزي. كما تختلف العادات والتقاليد والنظم الاجتماعية مثلًا من العصر الأموي إلى العصر الأبوي. وتختلف روح الحضارات، روح الحضارة القديمة، وروح الحضارة الحديثة. ولكل حضارة بؤرتها، الطبيعة في حضارات الشرق القديم، والعقل في حضارة اليونان، والقانون في الحضارة اليهودية، والمحبة في الحضارة المسيحية، والعدل في الحضارة الإسلامية. وتختلف المشارب والمناهج والاختيارات لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا. وتتعدد القبائل والشعوب والأقوام. فالوحدة في التنوع، والتنوع في الوحدة. والمنهج الموحد لفهم الدين يقضي على التنوع ولا يبقى إلا على الوحدة، والوحدة بلا تنوع صورة بلا مضمون. والتنوع بلا وحدة مضمون بلا صورة. وهو ما يسمى الآن في لغة المنظمات الثقافية الدولية «التنوع الخلاق». وهو تعبير عن الآية الكريمة وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا.
  • (٣)

    وتختلف اللغات والألسنة كما هو معروف في أسطورة برج بابل وسقوطه رمزًا لتعدد اللغات. ولكل لغة منطقها وبنيتها وأساليبها وتراكيبها وطرق تعبيرها وبلاغتها. ومِن ثَم لا يمكن وضع منهج محدد لفهم الدين لأن النص الديني مدون بلغات عديدة، الديانات الشرقية بالسنسكريتية والصينية والفارسية والبابلية والآشورية. وديانات إبراهيم مدونة بالعبرانية والآرامية واليونانية واللاتينية. والإسلام نزل بلسان عربي مبين. ومنطق اللغة يفرض نفسه على منهج التفسير. فقد تكلم السيد المسيح الآرامية ودُوِّنت أقواله باليونانية ثم ترجمت إلى اللاتينية. ولم تحفظ الأقوال في لغتها الأصلية. والقرآن لا يفسر إلا باللغة العربية، ولا يتعبد به إلا باللغة العربية. ولا يمكن للترجمة أن تفيد معاني الألفاظ الثانوية وإن أفادت المعاني الرئيسية. لذلك نشأ علم تحليل النص الديني، وتحليل الخطاب الديني، وعلم اللسانيات الديني.

  • (٤)
    وتختلف العقول بين البشر في درجات الفهم والتفسير والتأويل إما بالفطرة أو بالاكتساب، بالطبيعة أو بالتعليم. ويساعد هذا الاختلاف على سبر أغوار النص واستكشاف أبعاده والتعرف على مستوياته طبقًا لأعماق الشعور المرتبطة بالحدس والتعلم. واختلاف العقول والأفهام رحمة حتى يتكامل المنظور بعد أن يجتهد كل فرد، ويحدث إجماع على رؤية متكاملة تغطي الجوانب المتعددة للشيء الواحد. المنهج الموحد لفهم الدين فرض عقل على باقي العقول، ووضع وصايا لفرد على باقي الأفراد. ولا يمكن توحيد العقول لأن الاختلاف رحمة حتى تتعدد الرؤى وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ. ولا يوجد خطأ وصواب في الفهم بل يتعدد الصواب. فالحق النظري متعدد أي أساليب الاجتهاد وطرق القياس وإن كان الحق العملي واحدًا أي تحقيق المصالح العامة. والكل إلى رسول الله منتسب.
  • (٥)

    وتختلف الأهواء والميول والرغبات. فكل إنسان فرد له شخصية مستقلة. فإبراهيم أواه حليم، وموسى غاضب، ونوح منتقم، وعيسى رحيم، ومحمد صادق أمين. فالأنبياء شخصيات متفردة. لكل منهم طبعه ومزاجه. فهم بشر مثل باقي البشر يتلقون وحيًا، والصحابة أيضًا كانوا أفرادًا. لكل منهم رؤيته وتقديره للرسول وللرسالة. وقد وصف ذلك العقاد في «العبقريات» فيما يسمى بمفتاح الشخصية إيمان أبي بكر، وعدل عمر. وعلم علي وابن عباس، وشجاعة حمزة وخالد، وأمانة ابن الجراح. وقد انعكست الشخصية في المذهب الفقهي، في واقعية مالك بن نبي، وعقلانية أبي حنيفة، ووسطية الشافعي، ونصية ابن حنبل. كما انعكس لدى الفلاسفة، في علمية الكندي والرازي، وإشراقية الفارابي وابن سينا، وعقلانية ابن رشد. وتعددت شخصيات الصوفية بين زهد رابعة والبصري، وخوف البصري، ومحبة رابعة.

  • (٦)

    ولما كان الفرد جزءًا في جماعة أو فئة أو قبيلة أو عشيرة أو طائفة أو طبقة اجتماعية تعددت المصالح طبقًا للانتماءات الاجتماعية والعرقية والطائفية والأسرية. بل نشأ صراع اجتماعي داخل كل مجتمع طبقًا لتعدد المصالح، ولكل جماعة أو طبقة تفسيرها للدين، وتأويلها للنص، بل ورؤيتها للعالم طبقًا للصراع الطبقي بين الحاكم والمحكوم، والأغنياء والفقراء، والموسرين والمحرومين، والأقوياء والضعفاء، والشرفاء والحقراء. كما تختلف المصالح والمنافع طبقًا للجماعات والأقوام والقبائل والشعوب. فمصالح الشعوب متعارضة. لذلك تنشأ الحروب. وطالما كانت الحروب على السيادة على البحار والأراضي والثروات. ولكل شعب فهمه للدين والثقافة والحضارة. فالاختيار في اليهودية، والتفوق في الحضارة اليونانية والرومانية، والعنصرية والمركزية الأوروبية في الحضارة الغربية. وتتعدد مصالح التكتلات والأحلاف بل وجهات الأرض. مصالح الشرق غير مصالح الغرب ومصالح الاشتراكية غير مصالح الرأسمالية. وأهداف حلف شمال الأطلنطي غير أهداف حلف وارسو القديم.

  • (٧)

    والطبيعة مختلفة متعددة الألوان، في النبات والحيوان والطير، والجبال والسهول والصحارى بين الأسود والأبيض والأصفر والأخضر والأحمر. فالاختلاف أساسًا في الطبيعة قبل أن يكون في البشر. هناك اختلاف الليل والنهار، واختلاف الألوان، واختلاف الأكل. فالاختلاف سنة الطبيعة والكون، انعكس على البشر في اختلاف الأقوام والشعوب والألسنة والمشارب والمناهج والديانات والمذاهب والاعتقادات. جذع الشجرة واحد في الأرض وفروعها متشعبة في السماء. والتعدد سنة الكون، وقانون الطبيعة. وتنشأ الحياة من خلية واحدة تتكاثر حتى تصبح كائنًا حيًّا طبقًا لما يسمى «مشروع الجينوم البشري».

ثالثًا: هل هناك ثوابت في فهم الدين؟

ولا يعني نفي وجود منهج موحد لفهم الدين أنه لا توجد ثوابت يتم الفهم طبقًا لها وإلا تم الوقوع في النسبية والشك واللاأدرية بل والعدمية المطلقة. الاختلاف في المنهج وليس في الموضوع، والتعدد في المنظور وليس في الشيء، والاختلاف في الصياغات وليس في القصد.

  • (١)
    الثابت في الدين روح العقيدة، التوحيد. وليس التوحيد شهادة باللسان عن عدد الآلهة «لا إله إلا الله» بل هو شعور بالوجدان وعمل بالأركان. يبدأ بتوحيد الشخصية، بين الداخل والخارج، بين الفكر والوجدان من ناحية، والقول والفعل من ناحية أخرى منعًا من الخوف والجبن. ثم يتوحد الداخل بين الفكر والوجدان حتى يكون للقول رصيد في الوجدان، ويكون للوجدان دليل في الفكر. ثم يتوحد الخارج بين القول والفعل وإلا كان الكلام مجانيًّا بلا سلوك يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ. ثم يأتي توحيد المجتمع بلا طبقات متصارعة أو جماعات ضاغطة أو فئات متضاربة أو طوائف وأعراق يستبعد بعضها بعضًا، ويعلو بعضها فوق بعض. والمجتمع الصغير هو بداية الأمة الأكبر، والأمة واحدة انعكاس للإله الواحد بلا تمييز بين الأجناس والألوان والأعراق، إنسانية واحدة تتساوى فيها الشعوب، وتساهم في صنع حضارتها.
  • (٢)

    من الثوابت أيضًا، الشريعة وليس أعمالها وطقوسها وشرائعها وفرائضها ومحرماتها. وتتمثل روح الشريعة في التقوى والعمل الصالح. لذلك كان أهم نواقض الشريعة النفاق دون تقوى باطنية، وقول الإنسان ما لا يعتقد، وفعل ما لا يؤمن به. القول للتزلف، والفعل للتقرب، والحياة للمداهنة. التقوى الباطنية هي الإيمان الفعلي بلا إلزام ولا جزاء، ولا طقوس ولا شعائر. الإنفاق باليمين مما لا يعلمه اليسار، والصلاة في مكان مغلق وليس أمام الناس حتى ينال ثواب الناس ومديحهم. والعمل الصالح هو العمل النافع للناس، تخفيف المضار، وزيادة المنافع. هذا ثابت وراء تعدد الأديان والملل والنحل. لا يتطلب إيمانًا بالعقائد أو الشرائع بل يتم فقط بدافع حب الخير للناس وقضاء مصالحهم. الثابت هو أن الأعمال بالنيات وأن شرط صحة الفعل هو صدق النية.

  • (٣)

    والثابت هي مقاصد الشريعة كما حددها الأصوليون، خاصة وضع الشريعة ابتداءً دفاعًا عن المصالح العامة. تحقيق المصالح العامة ثابت لا يتغير وهي خمس: الأولى الدفاع عن الحياة ضد كل المخاطر التي تهدد استمرارها كالجوع والمرض والعري والعطش والقتل والفتك والتلوث. والحياة صفة من صفات الذات الإلهية ومن قتل نفسًا فكأنما قتل الناس جميعًا، ومن أحيا نفسًا فكأنما أحيا الناس جميعًا. والثانية الدفاع عن العقل. فالحياة بلا عقل حياة البهائم. وأول ما خلق الله خلق العقل. والعقل مناط التكليف، وشرط المسئولية وأداة البرهان. ويشارك فيه الناس جميعًا. واتفاق جمهور العقلاء يؤدي إلى التصديق. والثالثة القيمة أو المعيار أو القاعدة العامة التي يشارك الناس فيها جميعًا. سماها الأصوليون الدين. وهي مجموع القيم البديهية الأشبه بالمصادرات والأوليات مثل «عامل الناس بمثل ما تحب أن يعاملوك به» والتي سميت في تاريخ الفكر «القاعدة الذهبية». والرابعة الكرامة والشرف وحقوق الإنسان، والتي سماها القدماء العِرض. ولا يعني الشرف بالمعنى الشعبي في علاقة الرجل بالمرأة، بل العِرض هي الأرض عند الفلاح، وهو الاستقلال عند المواطن، وهو النزاهة عند القاضي، والأمانة عند العالم، والإتقان عند العامل، والتحصيل عند الطالب. والخامسة المال. ولا يعني فقط المال الخاص بل المال العام، والثروة الوطنية، وحقوق الشعوب في السيادة على ثرواتها واستثمارها ضد الاستغلال والاحتكار والنهب. هذه هي مقاصد الشريعة الثابتة التي يتوحد عليها فهم النص حتى ولو تعددت المشارب، وتضاربت الأهواء، واختلفت المصالح الخاصة.

  • (٤)
    والثابت أيضًا قيمتان أساسيتان في حياة البشر: الحرية والعدل. الحرية للفرد، والعدل للجماعة. والفرد بلا حرية جماد. الحرية هي التي تجعل الفرد يقول «لا» ويعترض، ويقدم البديل. هي التي تجعله يراجع ويصحح ويكمل الناقص الحرية هي إثبات الوجود. «أنا حر فأنا إذن موجود»، وليس فقط «أنا أفكر فأنا إذن موجود». الكوجيتو الإسلامي عملي، والكوجيتو الغربي نظري. الحرية هي أساس التفرد من الوجود الإلهي. الله موجود ولا شيء موجود سواه. ثم يتفرد الإنسان بالوجود بفعل الحرية والاختيار الحر حتى ولو كان خاطئًا في صورة اعتراض ورفض وقياس خاطئ كما فعل إبليس في رفضه السجود لآدم خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ. بل إن التاريخ كله في رأي بعض الفلاسفة مثل كروتشه هو قصة الحرية. الحرية هبة طبيعية في البشر يثورون لها، ويتحركون بسببها. والحرية بلا عدل قد تؤدي إلى طغيان، وسيطرة القوي على الضعيف، واستغلال الغني للفقير، وهيمنة السيد على العبد. وهنا تأتي العدالة والمساواة لتعميم الحرية على جميع الأفراد، في القول والعمل والرزق واقتسام الثروة. وقد ظهرت قيمتا الحرية والعدل في جميع الديانات والمذاهب والفلسفات بصيغ عديدة مثل المحبة والإحسان، الفرد والجماعة، الأثرة والإيثار، الأنا والآخر، الهوية والاختلاف.
  • (٥)

    والثابت أيضًا في حياة البشر حقوق الإنسان وحقوق الشعوب وهو تنويع آخر على الحرية والعدل. فأول حق للإنسان هو الحرية: حرية الإيمان، وحرية الفكر، وحرية التعبير، وحرية الحركة، وحرية العمل، وحرية المواطنة، وباختصار جميع الحريات المدنية ومنها حق الدفاع عن النفس. فالمواطن بريء حتى تثبت إدانته، والمساواة في الحقوق والواجبات أمام القانون، ولا تشمل العقوبات التعذيب والإكراه البدني أو النفسي. وحتى لا يبقى مفهوم الحق على أساس فردي مطلق تتحول حقوق الإنسان إلى حقوق الشعوب، حق كل شعب في تقرير مصيره، وحقه في الاستقلال والسيطرة على ثرواته القومية، وحقه في المساواة مع باقي الشعوب في المنظمات الدولية، وحقه العيش في سلام مع الشعوب الأخرى دون عدوان أو تهديد، وإذا كان الغرب قد أعطى العالم حقوق الإنسان فإن العالم الثالث قد أعطى العالم حقوق الشعب. ثم توالت الحقوق مثل حقوق الطفل، وحقوق المرأة، وحقوق المسنين، وحقوق اللاجئين، وحقوق الملونين، وحقوق الأقليات، وحقوق العاطلين، وحقوق المهمَّشين. ثم انتقل مفهوم الحق من الإنسان، فردًا وجماعة، إلى البيئة والطبيعة، حماية البيئة من التلوث والطبيعة من سوء الاستغلال كالتصحر.

  • (٦)

    والثابت في عصرنا تحديات العصر ومتطلباته. ويتفق عليها الجميع كمشروع عملي وأهداف قومية حتى ولو اختلفت المناهج في تفسير النص وتعددت المداخل في فهم الدين. الأول تحرير الأرض، واستكمال حركة التحرر العربي من الاحتلال المباشر في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير وسبتة ومليلية، وإخلاء الوطن العربي والعالم الإسلامي من القواعد العسكرية والأحلاف وأسلحة الدمار الشامل. والثاني حرية المواطن ضد صنوف القهر والمنع والرقابة والأحكام العرفية والقوانين الاستثنائية وزوار الليل، وحقه في التعددية السياسية وسماع الرأي والرأي الآخر، واختيار ممثليه في المجالس النيابية وتداول السلطة. والثالث العدالة الاجتماعية وتذويب الفوارق بين الطبقات وتقريب المسافة بين الأغنياء والفقراء. فأغنى أغنياء العالم منا، وأفقر فقراء العالم فينا. ويكون العمل وحده مصدر القيمة بدليل تحريم الربا، الكسب بلا عمل بل باستغلال حاجة الآخرين، في كل الأديان «ليس منا من بات شبعان وجاره طاوٍ». والرابع وحدة الأمة ضد مخاطر التجزئة والتفتيت إلى فسيفساء عرقية وطائفية. فقد تفككت دولة الخلافة إلى قوميات بعد هزيمة الدولة العثمانية في ١٩١٨م، ومنها القومية العربية. ثم انهارت القومية العربية بعد هزيمة ١٩٦٧م لحساب الدولة القطرية. والآن تتفتت الدولة القطرية إلى أعراق وطوائف، عرب وبربر، وأكراد وتركمان، وسنة وشيعة أمام إمبراطوريات جديدة، الإمبراطورية الأمريكية وإسرائيل الكبرى. والخامس التنمية المستقلة، والتجمعات الإقليمية، والاعتماد المتبادل في مواجهة العولمة وقوانين السوق وقيم الاستهلاك لحماية الصناعات الوطنية، وتدعيم الاستقلال الوطني. والسادس الدفاع عن الهوية ضد مظاهر التغريب، وسيادة القيم الرأسمالية من خلال القنوات الفضائية بدعوى ثورة المعلومات، والعالم قرية واحدة. والسابع والأخير حشد الجماهير وتجنيد الناس، وتحويل الكم السكاني الهائل إلى كيف سياسي ونزول الجماهير بثقلها في المعترك السياسي والاجتماعي وأخذ حقوقها بأيديها بدلًا من أن تنزل الجماهير الأوروبية في العواصم الغربية نيابة عنها، تحمل أعلام أوطانها. وتدافع عن قضاياها.

  • (٧)
    والثابت أيضًا هو روح العصر وروح التاريخ وروح البشر أو الإنسانية. فلكل عصر روح تلتف حوله كل الفرق المذهبية والأحزاب السياسية والقوى الوطنية كنوع من الإجماع الوطني حول القضايا الأساسية. فالدين تعبير عن روح العصر ومتطلبات المرحلة التاريخية. وكل نبي كان تعبيرًا عن روح عصره، نوح وقلة المؤمنين، وإبراهيم وضرورة إعمال العقل ضد عبادة الأصنام، وموسى وقوة الشريعة والخلاص من فرعون، وعيسى وضرورة اكتشاف ملكوت السموات، والإسلام وضرورة العدل. وكل مذهب أو فرقة أو طائفة إنما كانت تعبيرًا عن روح عصرها. ومع روح العصر يأتي روح التاريخ. فالتاريخ يمر بمراحل. وكل مرحلة لها روحها، إحياء الآداب القديمة في القرن الرابع عشر، والإصلاح في الخامس عشر، والنهضة في السادس عشر، والعقلانية في السابع عشر، والتنوير في الثامن عشر، والوضعية في التاسع عشر، والوجودية والبرجماتية والأزمة، وبداية النهاية في التفكيكية وما بعد الحداثة في القرن العشرين. روح التاريخ هو التقدم المستمر الذي قد ينكص ثم يعود للتقدم من جديد. وهناك أيضًا روح الإنسانية وهي الروح التي تسري عبر العصور ومراحل التاريخ. هي الثوابت التي اجتمعت عليها الإنسانية عبر العصور والتي خلدتها الأمثال العامية وسير الأبطال، وقصص الحب. ففي كل حضارة هناك سقراط، وسبارتاكوس، وروميو وجولييت، والمسيح. في كل حضارة هناك شهيد للحرية، وشهيد للحب الرومانسي، وشهيد للإنسانية جمعاء. فالنضال هو روح الإنسانية، والمقاومة أداته. فقد خلق الإنسان ليكد في الأرض ويسعى فيها يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ. وذلك لتحقيق رسالة في الأرض تعميرها وإكمالها أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ. فالغائية في الإنسان مثل الغائية في الطبيعة والغائية في الكون لذلك جعل الفلاسفة مثل كانط الدليل الغائي هو الدليل الوحيد على وجود الله.
١  «نحو فهم موحد لفهم الدين»، ١–٢ أكتوبر ٢٠٠٤م، معهد المعارف الحكمية، بيروت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤