مفاهيم العلم والعمل والتكافل الاجتماعي في الفكر العربي الإسلامي١

أولًا: المقدمة: الموضوع والمنهج

مفاهيم العلم والعمل والتكافل الاجتماعي من المفاهيم الرئيسية في التراث القديم. اللفظان الأولان العلم والعمل، لفظان قديمان وحديثان في آنٍ واحد في التراث القديم وفي الفكر الإسلامي المعاصر، ملتقى التراثين القديم والغربي. في حين أن تعبير «التكافل الاجتماعي» تعبير حديث وإن كان يدل على معنًى قديم أيضًا وهو الاشتراك في الأموال، ورد حقوق الفقراء في أموال الأغنياء، ولو أنه مشتق من لفظ قديم «كفل» بمعنى الرعاية والتعهد.

وترتبط المفاهيم الثلاثة بعضها بالبعض. فالعلم هو النظر، والعمل هو الممارسة، والتكافل الاجتماعي هو الانتقال من الفرد إلى الجماعة، ومن الوعي الفردي إلى الوعي الاجتماعي، ومن الذات إلى الموضوع، ومن الفكر إلى الواقع، ومن الشريعة إلى العالم، وبتعبير كانط العلم هو العقل النظري، والعمل هو العقل العملي، والتكافل الاجتماعي هو الغائية في التاريخ، ما يعادل ملكة الحكم.

وترتبط هذه المفاهيم الثلاثة فيما بينها من حيث تكوين الحروف وإن لم يكن من حيث الاشتقاق. فلفظ «علم» مكون من حروف ثلاثة (ع ل م) وهي نفس الحروف التي يتكون منها لفظ عمل (ع م ل) مع تبديل الحرفين الثاني والثالث تقديمًا وتأخيرًا، وإذا كان التكافل الاجتماعي يتعلق بوضع البشر في العالم فإن لفظ «عالم» من نفس الحروف الثلاثة (ع ل م) وبنفس ترتيب حروف لفظ «علم» مع إضافة المد بعد الحرف الأول دلالة على عظم العالم وكبره واتساعه وامتداده.

والفكر العربي الإسلامي له مصادره الأولى في القرآن والسنة، ثم في العلوم الإسلامية القديمة خاصة العلوم الفقهية التي تحولت إلى ثقافة شعبية متداخلة. الأمثال العامية ومكونة الوجدان العربي الإسلامي. كما أن الفكر العربي المعاصر هو نقطة الالتقاء بين التراث القديم والتراث الغربي، بين الموروث والوافد متفاعلًا مع الواقع العربي واحتياجاته، أزماته ومتطلباته.

فما أكثر الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي قرنت بين العلم والعمل، وما أكثر الإشارات إلى حق الفقراء في أموال الأغنياء، والزكاة على المال، والصدقات والكفارات، وحق الجوار، ونقد تركيز الأموال في أيدي قلة من الأغنياء وضرورة سيولته بين الناس، وحركته بين الطبقات. كما أن هذه المفاهيم لا تستمد فقط من التراث العربي الإسلامي، بل أيضًا من الأمثال العامية التي تتداخل مع التراث فيكونان معًا الرافدين الأساسيين في الثقافة الشعبية. فما يؤثر في الناس ليس تراث العلماء في بطون الكتب مباشرةً بل من خلال الثقافة الشعبية العامة التي أفرزت أيضًا حكمتها في الأمثال العامية والسير الشعبية.

ويمكن دراسة هذه المفاهيم الثلاثة بعدة مناهج شائعة وما زالت في الدراسات الإسلامية، وتتفاوت هذه المناهج بين دراسة ما ينبغي أن يكون ودراسة ما هو كائن، ولما كان الموضوع هو المفاهيم وليس الواقع فإن دراسة المفاهيم تكون أقرب إلى الدراسات المعيارية منها إلى الدراسات التجريبية، ولما كان الوعي العربي المعاصر ما زال أقرب إلى الوعي المثالي الذي يرى ما ينبغي أن يكون أكثر مما هو كائن، يعبر عن معاييره الموروثة والتي قد يكون الواقع على نقيضها، فيعبر عن أماني وتطلعات ويحلم بعالم أفضل في الماضي أو في المستقبل بعيدًا عن أزمة الحاضر، آلامه وأحزانه، غلبت عليه في دراسة المفاهيم والمناهج النصية والمعيارية.

وعادة ما تكون دراسة ما ينبغي أن يكون بالمنهج الدفاعي الذي يبين عظمة الإسلام ودعوته إلى العلم والعمل والتكافل الاجتماعي كقيم إسلامية أصيلة. فلا يوجد دين عظَّم هذه القيم كما عظَّمها الإسلام. العلم شعاره في «اقرأ» وفي تسمية كتابه المقدس «القرآن»، والعمل دليله في وَقُلِ اعْمَلُوا، والتكافل الاجتماعي جوهره «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا».

وعادةً ما يعتمد المنهج الدفاعي على النصوص الأولى في الكتاب والسُّنَّة وأقوال الصحابة والتابعين والعلماء الأوائل خاصة الصوفية. يحلل النصوص لغويًّا ويشرحها نصيًّا، ونادرًا ما يُشير إلى أسباب النزول وأثرها في التغير الاجتماعي، وقد يتجاوز تحليل النصوص الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأقوال الصحابة والتابعين وكبار الزهاد إلى كتب التراث نفسه خاصة التراث الفقهي، إما تكرارًا وشرحًا وعرضًا وتلخيصًا أو مع بعض الاجتهادات المعاصرة، تبين عصرية الإسلام، وحداثة الدين، وقدرته على حل مشاكل العصر التي يشعر بها الجميع، الجهل، والكسل، والتفاوت الشديد بين الفقراء والأغنياء، وقد يؤدي عرض إيجاب الفكر إلى إدراك سلب الواقع.

والمنهج الدفاعي بطبيعته يدافع عن الأفكار والقيم ولا ينظرها أو يحللها أو يبين مدى تفاعلها مع الواقع قبولًا أو رفضًا، تسليمًا أو اعتراضًا. كما أنه منهج انتقائي يقوم على اختيار النصوص المؤيدة وترك النصوص المعارضة مما يسمح لعالم آخر من موقف مخالف اختيار النصوص المتروكة عن قصد وعمل عرض لها مناقض للعرض الأول، ثم ينشب تراشق بالنصوص بين الموقفين الاجتماعيين المتعارضين، وكل منهما يجد شرعيته في النصوص وذريعته فيها. الموقف الاجتماعي هو الأساس والنص هو المشرع والغطاء. الأول يجعل الإسلام اشتراكية، والعلم هو العلم بالواقع، والعمل هو العمل اليدوي، والتكافل هو إعادة توزيع الدخل وقضاء على الرأسمالية، والثاني يجعله رأسمالية. فالعلم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر خيره وشره، والعمل هو العمل الصالح للآخرة، والتكافل الاجتماعي أخلاق الإسلام التي تقوم على الزكاة ومقدارها ٢٫٥٪ من مجموع الثروة تحليلًا لباقي الثروة وهي ٩٧٫٥٪ وتشريعًا للملكية، وعلى الصدقة الاختيارية، وحرية التجارة والربح مكفولة بالشرع.

وعادة ما تتم دراسة ما هو كائن بالمنهج الإحصائي والأسلوب التقريري الذي يرصد التجارب التنموية في العالم العربي في عصورها المتتالية: الليبرالية، ثم الاشتراكية العربية، ثم الرأسمالية كما هو الحال مثلًا في تاريخ مصر الحديث قبل ثورة يوليو ١٩٥٢ وبعدها، قبل الناصرية وبعدها. وغالبًا ما يقوم بذلك علماء الاجتماع والسياسة والاقتصاد. يرصد الواقع أكثر مما يصف المثال. ويقوم بذلك على مستوى الفرد أو الأسرة أو المجتمع أو الإقليم. يركز على الممارسات الفعلية أكثر مما يركز على المبادئ النظرية، على الوقائع أكثر من المفاهيم.

وإذا امتاز هذا المنهج بالقدرة على كشف الواقع الفعلي والممارسات العملية إلا أنه أيضًا محدود بعدة عوامل. فهو تجزيئي، إقليمي النزعة. كلما كانت وحدة التحليل صغيرة، الفرد أو الأسرة، كانت النتائج أكثر عملية. والمنهج التجريبي يتعامل مع وقائع وليس مع أفكار أو مفاهيم، ويحصي أشياء ولا يدرك معاني. لا يبدأ بالمفاهيم الواسعة المطلقة مثل العلم والعمل والتكافل الاجتماعي، بل يطبق ذلك على عينات محددة في بيئة واحدة أو قرية صغيرة أو مدينة معينة أو إقليم ووطن أو العالم العربي ككل، ابتداءً من عينات ممثلة. وكلما ضاقت العينة أصبحت أقل تمثيلًا وبالتالي يقع البحث في مخاطر التعميمات والأحكام المسبقة والانتقال من وصف الجزء إلى الحكم على الكل. ومِن ثَم يصبح السؤال: كيف يمكن دراسة هذه المفاهيم الثلاثة بالمنهج التجريبي الإحصائي وعلى أوسع نطاق ممكن من أجل الوصول إلى أحكام عادة تتجاوز الأفراد والجماعات والقرى والمدن والأقاليم إلى مجموع الوطن العربي أو العالم الإسلامي. كما لا يبين هذا المنهج تفاعل هذه المفاهيم الثلاثة في الواقع الاجتماعي المتغير. وقد لا يتجاوز التحليل الكمي إلى الوصف الكيفي وكأن الجداول الإحصائية قادرة على قراءة نفسها بنفسها دون تأويل أو رؤية للبواعث أو المفاهيم التي تحدد سلوك الأفراد والمجتمعات.

وكما يعتمد المنهج الدفاعي على أدبيات التراث يعتمد المنهج الإحصائي على الأدبيات المعاصرة في العلوم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، العربية والأجنبية. وبالرغم من اعتماد الأدبيات العربية على الدراسات الميدانية المباشرة إلا أن التأسيس النظري عادة ما يكون من الأدبيات الغربية التي غالبًا ما يسودها الخطاب التنموي الرسمي لهيئات ومنظمات التنمية الدولية. وغالبًا ما تقع هذه الأدبيات في وهم وجود نموذج واحد للتنمية لكل المجتمعات والشعوب والثقافات. فالتنمية واحدة، والمجتمعات نمطية، والنموذج الغربي نموذج عالمي معياري يتكرر خارجه في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. المسيح الأبيض البشرة، الإيطالي الأزرق العينين. وهو المسيح الأفريقي والآسيوي والأمريكي اللاتيني. وتغفل هذه الدراسات النمطية خصوصيات تجارب التنمية سواء في الثقافة أو في الواقع المحلي. وتقتصر على الإحصائيات المجردة وتحليلها وتحويلها أحيانًا إلى نماذج رياضية تغفل التجارب الحية التي منها نشأت، وتتعامل مع البشر كما تتعامل مع وحدات قياسية متساوية.

لذلك كان المنهج الوصفي هو أفضل المناهج لدراسة هذه المفاهيم الثلاثة ومدى تأثيرها في عمليات التنمية البشرية من أجل رؤية الأبعاد الذاتية والثقافية للتنمية وكيفية استخدامها أو استبعادها في التنمية المعاصرة. يبدأ الوصف بتحليل التنمية المعاصرة باعتبارها تجارب حية فردية واجتماعية وحضارية في شعور الباحث باعتباره مشاركًا في عملية التنمية لجيل بأكمله. وفي التجربة الحية تلتقي المفاهيم والممارسات العملية، والتراث والواقع الاجتماعي. فالتراث ما زال حيًّا في وجدان الناس يمدهم بتصوراتهم للعالم وبمعاييرهم للسلوك. والواقع الاجتماعي هو الحامل الحضاري أو السياق التاريخي الذي تتم فيه عمليات التنمية. والوصف، وإن لم يتضمن أحكامًا إلا أنه بطبيعته حكم، ولكنه حكم ضمني على التراث الحي وتفاعله مع الواقع الاجتماعي في عمليات التنمية عن طريق كشفها وبيانها وتتبع مسارها وكأن الواقع يتحدث عن نفسه. فتحليل المفاهيم باعتبارها معاني حية في الشعور تؤدي إلى العود إلى الأشياء ذاتها بعيدًا عن الإحصائيات المجردة والبيانات الإحصائية والرسوم البيانية من ناحية، وبعيدًا عن الواقع التجريبي والاستبيانات والمقابلات المباشرة. فالوصف يتم على مستوى إنساني خالص، مستوى التجربة الحية الفردية والجماعية وليس على المستوى الصوري الخالص أو المستوى المادي الساذج. ولما كان الواقع حيًّا متطورًا فإن وصف مسار هذه المفاهيم الثلاثة في مسار عمليات التنمية يكون في نفسه كشفًا عن حضور الماضي في الحاضر، ورصدًا لسيناريوهات المستقبل وتنبؤًا بمساراته. فلا فرق في الوعي بالزمان بين الحاضر والماضي والمستقبل. وقد عرف المنهج الظاهرياتي في العلوم الاجتماعية خاصة في ظاهريات الثقافة التي ترصد تجارب الماضي باعتبارها تجارب حية في الشعور. وتصف تجارب الحاضر باعتبارها مصب الماضي المعيش. بل وتتنبأ بالمستقبل باعتباره احتمالات أو توقعات بناء على قوانين التاريخ.٢
ويمكن لمنهج تحليل المضمون أن يساعد على اقتناص المعاني ابتداءً من أشكال اللغة. وهو نوع من تحليل الخطاب لا يهدف إلى معرفة تركيبه وبنيته بل يهدف إلى الخروج منه إلى عالم المعاني ثم إلى عالم الأشياء. فاللغة تكشف المعنى وتحيل إليه. والمعنى يكشف العالم باعتبارها عالمًا حيًّا في الشعور. وقد غلب المنهج «تحليل المضمون» على العلوم الاجتماعية والسياسية في تحليل خطب الرؤساء والمديرين ورؤاهم الاجتماعية والسياسية. كما يتم استعماله لتحليل الخطاب الديني والعلمي والفلسفي والأدبي والقانوني والتاريخي.٣

ويمكن دراسة هذه المفاهيم الثلاثة في عدة علوم اجتماعية حديثة مثل أنثروبولوجيا الثقافة أو علم اجتماع الثقافة السياسية لأن الموضوع على التخوم. وكان الأفضل دراستها داخل الفلسفة باعتبارها علمًا إنسانيًّا وتضم هذه العلوم السابقة فيها. ومع ذلك، يظل جوهر التحليل هو التحليل الفلسفي الخالص اعتمادًا على الجهد الفردي والاجتهاد الشخصي دون الاعتماد كثيرًا على الدراسات الثانوية والأدبيات المسهبة في الموضوع. كان الهدف هو عدم تكرار ما هو معروف سلفًا في الدراسات المشابهة والأساليب النمطية التقليدية، ومحاولة الاجتهاد من جديد حتى لو كان محفوفًا بالمخاطر المنهجية والموضوعية. ولذلك لم تتم الإحالة إلى المصادر، النصوص القديمة، دون المراجع، الدراسات الثانوية والأدبيات المعاصرة.

وقد تم استعمال الأسلوب الفلسفي العام دون المصطلحات المهنية في التخصصات الدقيقة. الغاية مخاطبة الجمهور العريض وليس النخبة العالمة. فالموضوع أقرب إلى هموم العالم والمواطن وليس العالم وحده أو المواطن وحده. ولا يعني الأسلوب الثقافي العام أي تنازل عن الدقة العلمية في العبارة أو المصطلح. بل يعني إيصال المعنى بأيسر الطرق وأسهلها. فالمعنى هو المقصود وليس اللفظ، الرسالة وليس حاملها.

ثانيًا: مفهوم العلم

لا يعني «العلم» في التراث العربي الإسلامي العلم الطبيعي كما هو شائع في الفكر الغربي وكما هو مفهوم أيضًا في الفكر العربي المعاصر تحت تأثير الفكر الغربي وإحساسًا بالنقص أمامه ورغبة في اللحاق بأهم إنجازاته. تقليدًا وتبعية ونزولًا على معايير العصر. بل يعني «العلم» كل نسق معرفي ينتظم موضوعًا ومنهجًا وغاية، لا فرق في ذلك بين العلم الطبيعي والعلم الإنساني أو كما يقول الفلاسفة الألمان بين «علوم الطبيعة» و«علوم الروح». وربما تكون أحد أسباب أزمة العلم الطبيعي في الغرب هو الفصل بين العلم الطبيعي والعلم الإنساني بدعوى الموضوعية والحياد والتفرقة بين حكم الواقع وحكم القيمة. فالواقع بلا قيمة، والقيمة بلا واقع. والموضوع بلا ذات، والذات بلا موضوع. وهي ثنائية العصر الحديث التي عرف بها الغرب في الصراع بين المثالية والواقعية، الصورية والمادية، العقلية والتجريبية والتي في داخلها تأرجحت العلوم الإنسانية بين هذا النموذج مرة وذلك النموذج مرة أخرى حتى استقرت على نموذجها الخاص في العلوم الإنسانية كما صاغتها الظاهريات.

يعني «العلم» هنا المعرفة المنظمة، المعرفة الشاملة التي تعطي تصورًا عامًّا للكون والحياة. ولما احتاج كل شيء إلى معرفة تعددت العلوم حتى في جزئيات المعارف. فكل موضوع جزئي علم: علم أسباب النزول، علم الناسخ والمنسوخ، علم المكي والمدني داخل علوم القرآن، وعلم الحروف وعلم الكتابة وعالم القراءة وعلم البيان وعلم البديع وعلم الصرف وعلم النحو داخل علوم اللغة. يشمل العلم عدة علوم. لذلك يكون اللفظ أحيانًا في صيغة المفرد مثل «علم أصول الدين» و«علم أصول الفقه». وقد يكون بصيغة الجمع مثل «علوم الحكمة» لأنها تشمل المنطق والطبيعيات والإلهيات و«علوم التصوف» لأنها تشمل المقامات والأحوال والرياضيات والمجاهدات. وفي العلوم النقلية علم التفسير، وعلم الحديث، وعلم السيرة، بالمفرد، وعلوم القرآن لأنها تشمل علم أسباب النزول وعلم الناسخ والمنسوخ وعلم المكي والمدني وعلم المحكم والمتشابه، وعلوم الفقه لأنها تشمل العبادات والمعاملات، الفرائض والسنن بالجمع. والعلوم العقلية كلها بالمفرد سواء العلوم الطبيعية مثل علم الطبيعة وعلم الكيمياء وعلم النبات وعلم الحيوان وعلم المعادن أو العلوم الرياضية مثل علم الحساب وعلم الهندسة وعلم الفلك وعلم الموسيقى أو العلوم الإنسانية مثل علم اللغة وعلم الأدب وعلم الجغرافيا وعلم التاريخ.

وتتجلى هذه المنظومة العامة للمعارف الإنسانية تحت مفهوم العلم في «مفيد العلوم ومبيد الهموم» للخوارزمي (ت ٣٨٦ﻫ)؛ إذ يضم علوم الدين مثل قواعد الدين، وأحكام النبوة، وشرح السنة، وفوائد الدين، والرد على الكفرة والغرائب، أو آداب الإسلام، والأوراد والمناظرات، ومعالجة الذنوب، وحقيقة الدنيا وآفاتها، وسلوة العقلاء والحلال والحرام، والحقوق أو المكارم والمفاخر، وغرور الإنسان، والجهاد، وفتن آخر الزمان، ونوادر العلماء، وعلوم الدنيا مثل الجواهر والأقاليم، وعشرة النساء، والسلطان، وأسرار الوزارة، والتواريخ وسير الملوك، والحروب، والتعبير وعجائب البلدان، والخواص، والباء.٤
وقد ذكرت صيغة العلم في القرآن ٨٠ مرة، وتعني العلم اللدني المُنزل من عند الله. فالله هو المعلم الذي يهب الناس العلم، وهو علَّام الغيوب. والعلم هو العلم المدون في اللوح المحفوظ، لا يقربه الخطأ أو النسيان، ويعرفه الراسخون في العلم الذين أوتوا العلم، ويؤمنون به. لذلك ارتبط العلم بالإيمان والتسليم ومعرفة الحق. وهو مضاد للجهل وعدم المعرفة. وهو أيضًا في مقابل الظن، أي العلم بلا دليل. فالعلم لا يكون إلا علمًا يقينيًّا، وطريقة البرهان لا الجدل والمراء. وهو علم لا خلاف عليه ولا تشتت فيه ولا تفرُّق حوله كما حدث مع أهل الكتاب. وهو علم شامل يضم العلم بالغيب والعلم بالشهادة، العلم بالملأ الأعلى والعلم بما تخبئ الأرض، العلم بالسماء والعلم بالأرض، ويروي تاريخ الأمم السابقة، ويتطور بتطور العصر. لذلك كان علمًا محدودًا يعرف الإنسان منه قدر ما يستطيع، مقاييس صدقه في التنزيل بمطابقته مع الواقع، وفي التأويل بمطابقته مع النفس، يجمع بين القوة المعنوية والقوة المادية. فالبسطة في العلم وفي الجسم معًا. وأخيرًا يبعث العلم على التقوى والهدى. فهو علم موجه إلى النفس لتصفيتها، وإلى الأخلاق لتأسيسها. يتأسس في العقل وفي النفس وفي الطبيعة في آنٍ واحد.٥
كما ورد لفظ «العلم» ومشتقاته في السنة ما يربو على الألف مرة مما يدل على أن الإيمان علم. وخصص له البخاري الكتاب الثاني «كتاب العلم» بعد الكتاب الأول «كتاب الإيمان». وتندرج كلها طبقًا لتحليل المضمون تحت عشرة معاني على النحو التالي:٦
  • (١)

    العلم صفة لله. فالله هو العالم، عالم الغيب والشهادة. فهو العالم والعلَّام والعليم في صيغة المبالغة للتوكيد والاستمرار.

  • (٢)

    كما أن العلم صفة للذات الإلهية فإنه صفة للذات الإنسانية. إنما الفرق بين الاثنين هو الفرق بين الثابت والمتحول. ويذهب العلم الإنساني بذهاب العالم. كلما ذهب عالم ذهب بما معه من العلم. فالله لا ينزع العلم انتزاعًا ولكنه ينتزعه بقبض العلماء. لذلك كان موت العلماء ثلمة في الإسلام. ووجب التعلم قبل أن يرفع العلم.

  • (٣)

    الناس عالم ومتعلم، وكلاهما شريكان في الأجر. القراءة على العالم وقراءته سواء. ولا يكون العالم عالمًا حتى يكون متعلمًا ومعلمًا. ومن علم علمًا فليعلمه أخاه. وإن أحب أحد أخاه فليعلمه علمه. فالعلم بالتعلم نقلًا من عالم إلى عالم. وهو العلم الموروث المسموع شفاهًا قبل التدوين أو بعده حين القراءة، وليس تأملًا في الطبيعة واستقراءً من حوادث الواقع وتعرفًا على حقائق الكون وإدراكًا لقوانين الطبيعة.

  • (٤)

    العلم أساس الوجود ووسيلة البقاء واستمرار الحياة. فمن أشراط الساعة رفع العلم وتثبيت الجهل. كما أن من أشراطها ذهاب الإيمان وسيادة الكفر. فلم تعد الحياة وقتًا للاختبار أو مكانًا للاختيار.

  • (٥)

    فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائل النجوم، وكفضل الرسول على سائر أمته. فالعلم عبادة، والدراسة صلاة. ولا يوجد عمل أفضل من العلم. ويستغفر للعالم من في السموات والأرض. كما يدخل العالم فيما بين الله وعباده وكأنه واسطة بين الحق والخلق.

  • (٦)

    والعلم فريضة على كل مسلم ومسلمة يبعث على الفهم والتقوى. وآفته النسيان وترك المذاكرة والاجتهاد. فلا خير في علم لا فهم فيه ومن يخشى الله فهو عالم، والعالم من يخاف الله. لذلك لا يجتمع العلم والفسق. ويصبح العلم في رذالة الناس إذا أصبح العلم في الفساق. ولا يكون الرجل عالمًا إذا حسد من فوقه. ومن تعلم العلم ليباهي به العلماء، ومن تعلم علمًا لغير وجه الله يطلب به الدنيا فليس بعالم.

  • (٧)

    وموضوع العلم هو العلم بأحكام الدين، وعلم الأخلاق. ويشمل العلم بالفرائض والحلال والحرام، والعلم بالشريعة وبالفروض والنوافل، والعلم بالكتاب والسنة، والعلم بالعبادات والمعاملات. وهو العلم بالإنسان الذي يشمل الفرد والجماعة، علم التربية، علم الذات قبل التوجه نحو الموضوع وهو الطبيعة. فالآيات أي الظواهر في الأرض وفي النفس، وفي الخارج وفي الداخل.

  • (٨)

    والعلم هو العلم النافع، والعوذ بالله من علم لا ينفع، ومن عالِم لا ينفع بعلمه. فالعلم علمان: علم منقول مروي، وعلم حي في القلب وهو ما ينفع الناس. وعلامة النفع العمل به. فماذا ينفع علم العالم إذا تكلم بالعلم وعمل بالفسق؟ العلم غايته العمل، والتعلم غايته الفعل. النظر والعمل واجهتان لشيء واحد. والعلم والعمل خير من العلم بلا عمل أو العمل بلا علم.

  • (٩)

    والعلم من أهل الاختصاص. والجهل بالشيء يرد إلى العالم به. ولا يعطى العلم إلا لأهله، العالم والناصح واللبيب. وإذا سئل العالم عن شيء لا يعلمه قال الله أعلم. ومن أفتى بغير علم فقد جهل.

  • (١٠)
    والعلماء هم قادة الأمم. وينتظر الناس قيام الإمام العالم. فمثل العلماء في الأرض كمثل النجوم، والعلماء ورثة الأنبياء. وتهلك الأمم إذا لم يبقَ علماؤها واتخذ الناس جهالهم علماء. وتهلك الناس إذا هلك علماؤهم أو إذا نهاهم علماؤهم فلم ينتهوا. العلماء يكثرون في زمان، ويقلون في زمان، وينعدمون في زمان. يعيش العالم في العلم، ويعيش الناس معه. ويعيش رجل في العلم، ولا يعيش معه أحد. ويعيش الناس في علم عالم فيكون وبالًا عليه لأنه أخل بالأمانة وضل الناس. فالعلماء ليسوا فقط ورثة الأنبياء بل قادة الأمم.٧
في هذا الإطار لمعاني العلم في الكتاب والسنة تصعب التفرقة بين العلم الإلهي والعلم البشري. فالعلم الإلهي صفة من صفات الله مثل القدرة والحياة والسمع والبصر والكلام والإرادة. ولا يمكن معرفتها إلا بعد الكلام أي إرسال الرسل وتبليغ الوحي بلغة معينة، العبرية أو العربية، لشعب معين، بني إسرائيل أو العرب، وفي وقت معين، وقت إرسال كل نبي، وفي مكان معين، في الشام أو الحجاز، وفي شمال شبه الجزيرة العربية أو في وسطها.٨ وقد أدى ذلك كثيرًا إلى الاتهام بالخلط بين العلمين لكل من يحاول بيان الصلة بين العلمين وتناول العلم الإلهي بعد أن ينزل في الوحي ويفهمه الناس في الزمان والمكان ويؤوِّلونه عبر العصر طبقًا لتجدد المصالح.
هذه التعينات كلها هي العلم كما يبدو في الكتاب والسنة، منها ما قبل النطق ومنها ما بعد النطق. المستوى الأول بلا لغة والمستوى الأخير بعد اللغة أي التحقق في عالم الأشياء. ومن ثم يكون مسار الوحي من المعنى إلى الشيء عبر اللغة.٩
ويستأنف الفقه معاني العلم في القرآن والحديث كما وضح في «جامع بيان العلم وفضله» ويوسع منها ويزيد عليها.١٠ ويمكن إجمال هذه المعاني في عشرة:
  • (١)

    العلم أيضًا فريضة على كل مسلم ومسلمة، وواجب شرعي مثل باقي الفرائض والواجبات الشرعية كالصلاة. فالتعلم صلاة. وقد جعل ذلك الحضارة الإسلامية عبر التاريخ حضارة علم.

  • (٢)

    لا يجوز كتمان العلم بل العلم للتعلم والتبليغ والرواية. ليس العلم علمًا سريًّا بل هو علم علني منشور من جيل إلى جيل. فالعلم مشاركة وتبليغ بالإجازة أو المناولة. ورب سامع أوعى من مبلغ. فالعلم والمتعلم شريكان. لذلك يدعو الرسول لمستمعه وحافظه ومبلغه ضد الصدفية والباطنية وأصحاب التعليم الذين يكتمون العلم ولا يبلغونه للناس، وضد قسمته إلى علم للخاصة وعلم للعامة، واعتبار علم الخاصة العلم مضمونًا به على غير أهله.

  • (٣)

    العلم يبقى في الدنيا كعمل مؤثر فيها. وهو العلم النافع الذي يتحول إلى عمل. وليس العلم الذي لا يفيد أو الذي يضر، فلا يوجد علم في ذاته، علم للعالم، ولكن يوجد علم للناس، علم يحقق المصالح العامة. العلم تحقق في الخارج وليس فقط معرفة في النفس، عمل في الخارج وليس فقط اطمئنانًا ويقينًا في الداخل، ضد الغنوصية التي تعتبر الكمال في المعرفة الباطنية، في علاقة النفس بالحقيقة خارج العالم وليس في علاقتها بالعالم. المعرفة الغنوصية وهم أو معرفة فارغة لأنها لا تحقق في العالم بل شرطها هو التجرد منه والبعد عنه والتخلي عن علائقه.

  • (٤)

    العلم مجموع من آداب السلوك. غايته وجه الله وليس التباهي به في المجالس. الصمت من آدابه. العلم والتقوى شيء واحد؛ لذلك يُذم الفاجر من العلماء. يؤدي العلم إلى اكتشاف الحقائق ويقود إلى الله. ومن هنا تنبع هيبة العلم والعلماء. في ثقافة توحد بين العلم والسلوك.

  • (٥)

    العلم عبادة إن لم يفضلها. قليل العلم خير من كثير العبادة. وخير العبادة الفقه. وفضل العالم على العابد كفضل الرسول على أمته. وفضل المؤمن العالم على المؤمن العابد سبعون درجة. وفضل العلم أفضل من العبادة. ويبعث الله العالم والعابد فيقال للعابد أدخل الجنة ويقال للعالم اشفع للناس كما أحسن أدبهم. وكل حكمة يسمعها مسلم وينطوي عليها ثم يحملها إلى أخ له تعدل عبادة سنة. ولأنْ يغدو الإنسان فيتعلم بابًا من العلم خير من أن يصلي مائة ركعة. وبين العالم والعابد مائة درجة. وفقيه واحد أشد على الشيطان من مائة عابد. وإذا جاء الموت طالب علم وهو على تلك الحالة مات شهيدًا. بل يفضل العلماء على الشهداء. ويشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء والعلماء والشهداء. ويوزن يوم القيامة مداد العلماء ودماء الشهداء. إذا كان للأنبياء على العلماء فضل درجتين فللعلماء على الشهداء فضل درجة.

  • (٦)
    العالم أمين الله في الأرض والمسئول عن رسالته؛ لذلك يسأل الله العلماء يوم القيامة عما عملوا فيما علموا. العلماء ورثة الأنبياء وأمناء الرسل. لذلك يُذم العالم إذا ما داخل السلطان الظالم. هو الذي يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة لأولي الأمر. العالم هو الذي يقوم بدور الرقابة على جهاز الدولة وتطبيق القانون كما هو معروف في نظام الحسبة، وهي الوظيفة الرئيسية للحكومة الإسلامية كما يقول ابن القيم.١١
  • (٧)

    وقد يكون العلم شفاهًا أو تدوينًا. أحيانًا يكره تدوين العلم وتخليده في الصحف حتى يظل حيًّا في القلوب، وأحيانًا يفضل تدوينه لحفظه. وفي كلتا الحالتين يحفظ العلم ويصلح اللحن والخطأ في الحديث وتتبع ألفاظه ومعانيه. والتعلم في الصغر أفضل من التعلم في الكبر. فالعلم تربية وتعليم، يتحول إلى عادة مكتسبة وسلوك يومي. فلا فرق بين العلم وتهذيب الأخلاق وإعداد المتعلم. العلم اكتساب قدرات، وتعلم مهارات، وممارسات يومية منذ أولى مراحل وعي الطفل.

  • (٨)

    ويكون العلم بالسؤال والإصرار على طلب العلم والرحلة إليه، والحرص على استدامة الطلب والصبر على النصب. ويكون العلم بمجالسة العلماء وأخذه ممن هم في رتبة أرفع ومنزلة أعلى. ويجوز للصغير أن يفتي أمام الكبير بإذنه.

  • (٩)

    العلم هو الفقه والفهم. ومن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين. وخيار الناس في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا أي إذا عرفوا التواصل والانقطاع. فحقيقة العلم وأصله الفقه، جدل بمعنى الفهم. لذلك كانت آفة النسيان أي غياب العلم من الذهن. والفقيه أو العالم حقيقة لا مجازًا. وتجوز له الفتيا. إذا سُئل أجاب. وإن لم يعرف توقف. ويكون الفقه باجتهاد الرأي، ومعرفة العموم والخصوص، والظاهر والمؤوَّل وإثبات المقايسة في الفقه. فمن ذلك القياس أو الرأي أو الظن فعل ذلك إذا كان على غير أصل. وقد يخطئ المجتهد وقد يصيب في الفتيا والأحكام. واختلاف الأئمة رحمة بينهم. ومع ذلك يكره الجدال والمراء في المناظرات دون إثبات الحجة والدليل. والتقليد ليس مصدرًا للعلم.

  • (١٠)

    ويحذر من الإكثار من الحديث دون فهم له أو منفعة منه. كما يحذر من التدافع إلى الفتيا والإسراع إليها. فهي مسئولية دنيوية وأخروية. ولا يجوز حكم العلماء على بعضهم البعض. فالكل مجتهد. وإن أخطأ أحدهم فله أجر وإن أصاب فله أجران. ولا يجوز الاقتصار على السنة دون الكتاب أو الكتاب دون السنة. فالسنة بيان وتوضيح وتفصيل للكتاب. وهي تفسير له بعيدًا عن الأهواء والبدع وأصحاب المصالح. لذلك كان المحدث على وضوء إحساسًا بالتقوى والصدق، وبعيدًا من الهوى والكتمان. ويجوز النظر في الكتب السابقة لأهل الكتاب والرواية عنهم. فالتاريخ البشري واحد، ومعرفة الديانات السابقة الصحيح منها والمنتحل جزء من معرفة علوم الأوائل وتجارب السابقين.

وانشغل القدماء بقضية تصنيف العلوم طالما أن العلم هو مجموعة المعارف الإنسانية المنظمة لا فرق في ذلك بين أنساق عقلية وأنساق خرافية، بين الرياضيات والطبيعيات من ناحية، والسحر والطلسمات والنيرنجيات والطالع والكف والأحاجي من ناحية أخرى. وتعددت المقاييس: العقل والنقل، الدراية والرواية، الرأي والأثر، العقل والذوق أو العقل والقلب أو القلب والجوارح، الباطن والظاهر أو التنزيل والتأويل، الفقه والتصوف أو الأصول والفروع، العقيدة والشريعة. وقد يكون المقياس الداخل والخارج، الموروث والوافد، علوم الأواخر وعلوم الأوائل، وعلوم المتقدمين وعلوم المتأخرين، علوم القرآن وعلوم اليونان، علوم العرب وعلوم العجم.

والقسمة الغالبة على منظومة العلوم القديمة كلها القسمة الثلاثية: العلوم العقلية النقلية، والعلوم النقلية، والعلوم العقلية. فالعلوم العقلية النقلية هي التي تجمع بين العقل والنقل كمصدر وكمنهج للعلم وهي أربعة: علم أصول الدين الذي يحاول وضع قواعد عقلية تتأسس عليها العقائد، وعلم أصول الفقه الذي يحاول وضع قواعد لاستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها اليقينية، وعلوم الحكمة التي تحاول وضع نسق للحكمة في المنطق والطبيعيات والإلهيات والإنسانيات، وعلوم التصوف التي تحاول شق طريق للسالكين إلى الله والعازفين له والسعداء به والمتحدين معه والمحبين له.١٢
والعلوم النقلية الخالصة هي العلوم التي تعتمد في مادتها وموضوعها ومنهجها على النقل وحده دون العقل، الرواية دون الدراية، الأثر دون الرأي. وهي خمسة: علوم القرآن، كيفية روايته وجمعه وتدوينه وعدد آياته وسوره وأجزائه وأول وآخر ما نزل منه وأسباب النزول والناسخ والمنسوخ والمكي والمدني والظاهر والمؤوَّل والمحكم والمتشابه والمجمل والمبين … إلخ. وعلم الحديث ويشمل علم مصطلح الحديث، وطرق السند، التواتر والآحاد، وأنواع المتن الحرفي والمعنوي، وكيفية ضبط الراوي، وعلم الجرح والتعديل، وألفاظه والرواية، واختصارات الحديث وتجميعها في أبواب، وشروحه ودرجات يقينه من الصحيح حتى غير الصحيح. وعلم التفسير يشرح القرآن مبينًا ظروفه التاريخية والإطار العام لقصصه وأحكامه، وشارحًا معاني ألفاظه أو مبينًا أسرار بلاغته وإعرابه أو واضعًا لأحكامه. وعلم السيرة يقص سيرة الرسول أسوة بقصص سائر الأنبياء: حياته قبل البعثة وبعدها، أزواجه ومغازيه، نزول الوحي عليه وأحاديثه، مرضه ووفاته. وعلم الفقه يبين كيفية ممارسة الشعائر وتطبيق الحدود اعتمادًا على القرآن والحديث وقسمته إلى عبادات ومعاملات، علاقة الإنسان بنفسه وعلاقته بربه وعلاقته بالآخرين. وهي العلوم التي لها أبلغ الأثر في الحياة اليومية والثقافة الشعبية والتي تدرس في المعاهد الدينية والمساجد ومنها تستمد الخطب الدينية والوعظ الديني.١٣
والعلوم العقلية تعتمد على العقل وحده في مواجهة الطبيعة وإن كان موجهًا بمنهج الوحي في استعمال العقل ورؤية الطبيعة دون تدخل مباشر للوحي. وتشمل العلوم الرياضية: الحساب والهندسة والموسيقى والفلك، والعلوم الطبيعية: الطبيعة والكيمياء والحيوان والمعادن، والعلوم الإنسانية بلغة العصر: اللغة والأدب والجغرافيا والتاريخ.١٤
وقد نشأت عدة محاولات لإحصاء العلوم بتعبير الفارابي أو لأقسام العلوم بتعبير ابن سينا. فقد وضع الفارابي العلوم كلها في خمسة أقسام: علم اللسان نظرًا لأهمية اللغة. فلا علم يبدأ إلا باللغة. العلم هو القضايا كما هو الحال في التيارات الوضعية والمنطقية المعاصرة. ثم علم الرياضيات يدرس الفكر ذاته، البداهة والاتساق في علوم يقينية مرانًا للفكر. ثم علم المنطق يضع قواعد الفكر وأشكال القياس وطرق التفكير السليم. ثم العلم الطبيعي والإلهي في علم واحد؛ إذ لا يمكن دراسة الطبيعة دون الإحالة إلى ما بعد الطبيعة أو دراسة ما بعد الطبيعة دون الإحالة إلى الطبيعة. فهما علمان متضايفان كالأب والابن. وربما هما علم واحد مع اختلاف الرؤية، من أدنى في علم الطبيعة أو من أعلى في علم ما بعد الطبيعة. قد يكون علم الطبيعة إلهيات مقلوبة إلى أسفل، والإلهيات، أي علم ما بعد الطبيعة، طبيعيات مقلوبة إلى أعلى. ثم علم الكلام والفقه والعلم المدني وهو ما يعادل العلوم الإنسانية. فعلم الكلام هي العقائد أسس نظرية للسلوك أو بتعبير المعاصرين أيديولوجية سياسية. والفقه ما ينتج عنها من ممارسات فردية ونظم اجتماعية وسياسية واقتصادية وهو ما يسمى بالعلم المدني أي نظم المجتمع وكما يثيره المعاصرون باسم المجتمع المدني في مقابل الدولة.١٥
أما ابن سينا فإنه قسَّم العلوم قسمة ثنائية: العلم النظري والعلم العملي. ثم قسَّم كل منهما قسمة ثلاثية؛ إذ ينقسم العلم النظري إلى رياضة وطبيعيات وإلهيات. فالأشياء إما مع الكثرة وهي الرياضيات أو بعد الكثرة وهي الطبيعيات أو قبل الكثرة وهي الإلهيات. وينقسم العلم العملي إلى أخلاق وسياسة واقتصاد (تدبير منزلي). وهي القسمة التي شاعت لاتساقها مع التصور العام للعلم في الفكر الإسلامي، العلم النظري والعلم العملي.١٦
ولما كان العلم هو مصطلحاته وكانت لغة العلم هي اللغة الاصطلاحية فقد وضعت مجموعة من القواميس للمصطلحات العلمية. وهي أقرب إلى الموسوعات العلمية الكبيرة مثل «أبجد العلوم» لحسن صديق خان، و«جامع العلوم في اصطلاحات الفنون» الملقب ﺑ «دستور العلماء» للقاضي عبد الرسول، يتجاوز المصطلحات إلى العبارات والقضايا بما في ذلك الآيات والأحاديث من أجل ضبط معاني اللغة١٧ وقد نشأ هذا النوع من التأليف عند القدماء في الحدود والتعريفات قبل أن يتحول إلى علوم.١٨

وتبدأ كل العلوم القديمة العقلية النقلية أو العقلية بتعريف العلم، موضوعًا ومنهجًا وغاية، لا فرق بين علم إلهي وعلم عقلي وعلم طبيعي وعلم إنساني. فالعلم الإلهي يستند إلى العقل الإنساني والطبيعة البشرية والواقع المادي، ويتأسس في العقل وفي الطبيعة وفي الواقع. فما قيمة علم لا يفهم، ولا يتفق مع الطبيعة البشرية، ولا يتحقق في الواقع؟ لذلك قام العلم الإسلامي على وحدة الوحي والعقل والطبيعة.

وقد حاول علم أصول الدين وضع نظرية في العلم قبل البحث في تأسيس العقيدة؛ إذ إن سؤال كيف أعلم؟ يسبق سؤال ماذا أعلم؟ العلم معرفة يقينية تطابق الواقع في مقابل الجهل والوهم والظن والشك والتقليد.١٩ وقد يكون علمًا بديهيًّا فطريًّا، وهو العلم الضروري الذي لا يحتاج إلى تعلم أو علمًا استدلاليًّا نظريًّا يحتاج إلى تعلم. وطرقه للنظر. فالنظر يفيد العلم عن طريقة التوليد. توليد النتائج من المقدمات. لذلك كان النظر واجبًا عقلًا وشرعًا. فهو أول الواجبات حتى قبل الفرائض. فبالنظر عرف وجود الله وهو مصدر الشرائع. وموضوعه العالم الطبيعة حتى يقابل العلم الصاعد العلم النازل (الوحي). وطرق النظر التعريف أو الاستدلال أو القياس. ومقدمات القياس إما يقينية أو ظنية. والأدلة عقلية أو نقلية. والدليل العقلي قطعي في حين أن الدليل النقلي ظني لاعتماده على الوضع واللغة. وكل الحجج النقلية حتى لو تضافرت لإثبات شيء على أنه صحيح ما أثبتته، ولظل ظنيًّا، ولا يتحول إلى يقين إلا بحجة عقلية ولو واحدة.٢٠

ولا تختلف نظرية العلم عن الحكماء عنها عند المتكلمين إلا أنه قد تحولت إلى منطق وهو أداة العلم وآلته. والعلم هو العلم الطبيعي والإلهي عند ابن سينا، وأضاف إخوان الصفا العلم الإنساني، العلوم الإلهية الناموسية والشرعية كقسم رابع من أقسام الحكمة. فوضعت مادة العلم، المحسوبيات والمجربات والبديهيات والأولويات كمقدمات قياسية. وأصبح البرهان قمة نظرية العلم. الألفاظ والعبارة والقياس مقدمات له، والسفسطة والجدل والخطابة والشعر نتائج له كما شرح الفارابي.

كما اختار علم أصول الفقه المنطق كنظرية للعلم كما فعل الغزالي في المستصفى. فمن لا منطق له فلا ثقة لنا بعلمه. وخصص مقدمة في المنطق باعتباره المدخل إلى علوم الاستدلال. وإذا كان قد كفَّر الفلاسفة في الإلهيات خاصة وفي الطبيعيات عامة إلا أنه لم يكفرهم في المنطق لأنه نموذج العلم اليقيني. وربما استعملوه لإيهام الناس بأن باقي علومهم في الإلهيات والطبيعيات يقينًا وصدقًا.٢١ وقد يكون المدخل هو اللغة، اللغة العربية وقسمتها إلى اسم وفعل وحرف، وقسمة الاسم إلى نكرة ومعرفة أو مفرد ومركب، والفعل إلى أزمنته الثلاثة، والحرف إلى متصل ومنفصل. فالعلم لغة. ومباحث الألفاظ تعتمد على منطق اللغة. لذلك كتب الغزالي في المنطق «معيار العلم» و«محك النظر» و«القسطاس المستقيم» لإعادة عرضه ابتداءً من الموروث، الكتاب والسنة والفقه.٢٢
وعند الصوفية العلم علمان: العلم البشري سواء كان حسيًّا تجريبيًّا أم استدلاليًّا نظريًّا، والعلم الإلهي اللدني عند الأنبياء والصوفية وحيًا أم إلهامًا. قد يخطئ الحس بدليل تخطئة العقل له. فلماذا لا يخطئ العقل إذا كانت هناك ملكة أخرى قادرة على أن تحكم عليه كما حكم هو على الحس. إذا كان علماء الحديث ينقلون علومهم من ميت عن ميت فإن ابن عربي ينقل علمه من الحي الذي لا يموت. وإذا كان الراوي ينقل من فلان عن فلان فإن ابن عربي يروي «عن قلبي عن ربي أنه قال». هذا العلم لا يأتي إلا بالعمل، بالرياضة والمجاهدة. فالعمل يورث العلم وليس العلم هو الذي يورث العمل. العمل مقدمة والعلم نتيجة عند الصوفية وليس العلم مقدمة والعمل نتيجة كما هو الحال للفلاسفة. وقد بدأ الغزالي كتابه «إحياء علوم الدين» بكتاب العلم. وهو العلم الرباني الكشفي، علم بمواطن القلوب، علم الذوق الذي لا يكتفي بعلم اليقين عند المتكلمين أو حق اليقين عند الحكماء، بل يأتي بعين اليقين عند الصوفية.٢٣ ويبدأ ببيان فضل العلم والتعليم والتعلم وشواهده من النقل والعقل. ثم يفرق بين العلم المحمود والعلم المذموم. كما يميز بين ما هو فرض عين وفرض كفاية. ويفضل علم الآخرة على علم الكلام والفقه. ثم يعرض لمفاهيم العامة للعلم وما تتصوره من علم محمود وعلم مذموم وتفضيل علوم التذكير والحكمة على علوم الفقه والكلام. ثم يبين تفضيل الخلق علم الخلاف وسبب الإقبال عليه. ويبين المناظرة والجدل وشرط صحتهما. ثم يصف آداب المتعلم والمعلم، وآفات العلم والفرق بين علماء السوء وعلماء الآخرة. وينتهي ببيان شرف العقل وحقيقته وأقسامه من أجل إفساح المجال للعقل الرباني، عين البصيرة للعلوم الكشفية. ويتعرض الغزالي أيضًا في قسم العادات للتعلم والتعليم ويجعلهما من نتائج العزلة. وفي قسم المهلكات يبين شواهد الشرع على صحة طريق أهل التصوف في اكتساب المعرفة لا من التعلم ولا من الطريق المعتاد.

ثم أصبح مفهوم العلم في الفكر العربي المعاصر أقرب إلى المفهوم الغربي، العلم الطبيعي. ونشأ التيار العلمي العلماني عند شبلي شميل وفرح أنطون ونقولا حداد وسلامة موسى وإسماعيل مظهر وزكي نجيب محمود وفؤاد زكريا. وبهذا التصور الغربي للعلم إحساسًا بأهمية العلم الطبيعي وعدم الاكتفاء بالعلوم الدينية القديمة ودون مراجعة لهذا المفهوم ووضعه في ظروف نشأته ضد العلوم الدينية الإلهية في العصر الوسيط. وبالرغم من تطور مفهوم العلم في الحضارة الغربية في العصور الحديثة إلا أن هناك ثوابت دائمة فيه.

فالعلم نوعان: رياضي وطبيعي. شرط صحة الأول اتساق النتائج مع المقدمات. وشرط صحة الثاني تطابق النتائج مع الواقع. والعلم الإنساني مذبذب بين النموذجين السابقين بالرغم من محاولات بعض المعاصرين جعل العلم الإنساني نموذجًا ثالثًا مستقلًّا بذاته كما حاولت الظاهريات وكثير من فلاسفة الحياة مثل نيتشه ودلتاي وشيلر وهوسرل وبرجسون ومونييه وبلوندل وكل الفلاسفة الوجوديين. هناك صراع بين العلم الطبيعي والعلم الإنساني، إما رد الإنساني إلى الطبيعي كما تفعل الوضعية أو رد الطبيعي إلى الإنساني كما تفعل المثالية. فظهرت أزمة العلم الغربي. وفقد مفهوم العلم وحدته وتعددت مفاهيمه بل تضاربت وتصارعت حتى وقع العلم في النسبية بدعوى التعددية في المنهج والموضوع والرؤية. ومع ذلك ظل مفهوم العلم الطبيعي هو السائد لما يمتاز به من صفتي الموضوعية والحياد، والقدرة على التخلص من الجوانب الذاتية في العلم، ومخاطر الأهواء والانفعالات. وقد تطلب ذلك التميز بين حكم الواقع وحكم القيمة، بين القضايا الخبرية والقضايا الإنشائية.

وكانت وظيفة العلم الإنساني نقدية بالضرورة تصل أحيانًا إلى حد الهدم والتدمير. فنشأ صراع بين العلم والدين، والعلم والفلسفة. وأصبح تاريخ الإنسانية كلها في مسار من الدين إلى الميتافيزيقا إلى العلم. وقد سبَّب ذلك رد فعل معاصر في العودة إلى الأشكال البدائية الأولى للفكر البشري بما في ذلك الدين والفلسفة والفن. كما ارتبط العلم بالتطبيق في التقنية حتى تحول العلم وقرينه التكنولوجيا إلى مفتاح سحري لمغاليق الأذهان والمجتمعات. وانتقلت المجتمعات التقليدية من مفتاح سحري مثل الإيمان إلى مفتاح سحري آخر مثل العلم. فلم تتغير العقلية، بل غيرت شكل السحر. كما ارتبط العلم بالاستهلاك والرفاهية والصناعة والوفرة والغنى والتقدم مما أثار بعض التساؤلات بعد إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما وناجازاكي وازدياد مخاطر الحرب النووية وأسلحة الدمار الشامل. كما ظهرت مخاطر المجتمع الصناعي في تلوث البيئة والتدخل المصطنع في مسار الطبيعة الحية في النبات والحيوان والإنسان لمزيد من الزراعة والسمنة والهندسة الوراثية. فزادت أمراض العصر خاصة السرطان ودلالته على العصر الحديث، التكاثر غير المنظم للخلايا.

وتم الإيحاء بأن العلم ظاهرة غربية أصيلة على غير منوال. فقد عرف الشرق الدين والفلسفة ولم يعرف العلم. وتم اختزال حضارات الشرق كلها في الصين والهند وفارس وما بين النهرين وكنعان ومصر القديمة في الأخلاق. مع أن العلم الشرقي كان ضمن منظور حضاري أوسع نابع من الدين والأخلاق سواء العلوم الرياضية أو الطبيعية أو الإنسانية. وتحول كل علم خارج الغرب وقبل العصور الحديثة إلى ما قبل العلم أو إلى تاريخ العلم. فاغترب الوعي العربي عن ذاته. وانحرف عن مساره التاريخي. وأصبح الغرب مصدرًا للعلم والنقل الوافد. ووقع في فخ المركز والأطراف. الغرب يبدع وهو ينقل، الغرب ينتج وهو يستهلك. وتغير مصدر النقل بدلًا من النقل عن القدماء ومفاهيم العلم الموروثة، إلى النقل عن المحدثين ومفاهيم العلم الغربية.

ونشأ صراع في الوعي العربي المعاصر بين مفهومين للعلم، المفهوم الموروث من القدماء وهو العلم الديني النقلي النصي بعد أن توارت العلوم العقلية الخالصة لصالح العلوم النقلية، وتجمدت العلوم النقلية العقلية في مرحلة نشأتها وتكوينها القديمة دون تطوير أو تغيير، والمفهوم الغربي للعلم الطبيعي الوافد من العصور الحديثة. واحتار الفكر العربي بين هذين المفهومين. ونشأ الصراع بين التيارين السلفي الذي يدافع عن المفهوم القديم، والعلماني الذي يدافع عن المفهوم الغربي. هذا ناقل من القدماء، وذلك ناقل من المحدثين. والنقل يعادل النقل وإن اختلفت مصادره. وملأ الفراغ الشاسع بين النقلين الخطاب الإنشائي السياسي الإعلامي المعاصر الذي يدافع عن الدولة، ويرسي قواعد النظام القائم، مستعملًا المفهوم السلفي للعلم مرة بمخاطبة العامة والمفهوم العلمي الغربي مرة بمخاطبة النخبة. ولم يحاول أحد حتى الآن بالرغم من الطهطاوي ومحاولته قراءة الأنا في مرآة الآخر، والآخر في مرآة الأنا إبداع مفهوم جديد للعلم، يطور علوم القدماء، وينقد علوم المحدثين.٢٤

ثالثًا: مفهوم العمل

من حيث تحليل المضمون للمعاني المختلفة من لفظ «عمل» في القرآن، فإنها تتراوح بين ثمانية معاني على النحو التالي:٢٥
  • (١)

    العمل الصالح جمعًا «الصالحات» (٦٠) أو مفرد (٣٣). وهو المعنى الأول المبدئي. هو العمل الحسن في أفعل التفضيل «أحسن ما عملوا». وهو أيضًا العمل الخير «ما عملت من خير». وذلك في مقابل السيئات «وسيئات ما عملوا»، وعمل المفسدين «والأخسرين أعمالًا».

  • (٢)

    الأعمال بالنيات الحسنة والسيئة، عن علم أو عن جهالة، فالنية شرط العمل.

  • (٣)

    المسئولية الفردية والجماعية عن الأعمال. فالأعمال تقدم بالأيادي فردًا وجماعة. ويجد كل عامل أعماله حاضرة أمامه مسائل عنها أو برئ منها. فالمسئولية أساس الجزاء.

  • (٤)

    هناك جزاء على الأعمال جزاء بحسنة مثلها أو عشرة أمثالها أو مائة مرة وجزاء سيئة مثلها. ومن همَّ بحسنة ولم يفعلها تحسب له. ومن همَّ بسيئة ولم يفعلها لا تحسب عليه. توفَّى كل نفس ما عملت، وتنبأ بأعمالها، وتجده حاضرًا أمامها.

  • (٥)

    ولما تفاوتت الأعمال تفاوت الجزاء. للأعمال درجات وللجزاء درجات إيجابًا أم سلبًا مما يتيح الفرصة للمنافسة على الأعمال الصالحة، والابتعاد عن السوء.

  • (٦)

    وهناك شهود على الأعمال كالأيادي والجوارح والقلوب وأدوات الفعل وآلاته. فالعمل مرتبط بوجود الإنسان لا يمكن التبرؤ منه أو الابتعاد عنه.

  • (٧)
    الدعوة للعمل في عدة صياغات مثل وَقُلِ اعْمَلُوا، يَا قَوْمِ اعْمَلُوا، فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ. والدعوة إلى العمل تتلو الدعوة إلى النظر والتأمل وطلب البرهان.
  • (٨)
    العمل في العالم بالكد والسعي نتيجة للاستخلاف، وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، وهو عمل في البر والبحر، السعي والكد في العالم. وهو العمل في الدنيا وفي وقت معلوم قبل أن ينقضي أجله؛ إذ لا يمكن العودة إليها بعد انقضاء العمل الصالح بعد التعلم والمشاهدة والتحقق من الجزاء. والأعمال باقية في العالم بأثرها وبعلمها. والله عالم بكل شيء. محيط به خبير وبصير دون أن يفرض إرادته على خلقه. فكل ميسر لما خلق له. وكل يعمل على شاكلته.
وقد ورد لفظ «العمل» في السنة أيضًا في عدة معانٍ مشابهة لمعاني القرآن مع تغيير التركيز على بعضها، ويمكن إجمالها أيضًا في ثمانية على النحو الآتي:
  • (١)

    العمل هو العمل الخير. وهو عمل بالطبيعة والفطرة. فكل إنسان ميسر لما خلق له. وكل عامل ميسر لعمله. وأفضل الأعمال الجهاد في سبيل الله، وامتطاء صهوة الجواد والصبر في اللقاء. وأسوأ العمل عمل قوم لوط. فهو مضاد للطبيعة البشرية، ولكل عمل سيئ كفارة بحيث تصبح الأعمال كلها أعمال خير.

  • (٢)

    الأعمال بالنيات. والنية الصادقة شرط العمل الصحيح. والنفاق نفاقان: نفاق العمل ونفاق التكذيب.

  • (٣)

    وأطهر النيات أن يكون العمل لوجه الله، دون أن يشرك العامل بعمله أحدًا غيره. فمن الناس من يعمل عمل الدنيا مدعيًا الآخرة، ومنهم من يدعي العمل لوجه الله، وهو يحب أن يحمد عليه من الناس. يعمل عمل أهل الجنة وهو من أهل النار.

  • (٤)

    ولكل عمل جزاء من نوعه كيفًا وإن زاد كمًّا. فالعمل الصالح القليل قد يكون له أجر كثير. ومن عمل حسنة فله عشر أمثالها أو أزيد. ومن همَّ بسيئة ولم يفعلها كُتبت له حسنة.

  • (٥)

    العمل تطبيق للعلم. فالعلم يؤدي إلى العمل، وقراءة القرآن تؤدي إلى العمل بما فيه. «تعلموا تعلموا فإذا علمتم فاعملوا». ولا يكون الإنسان بالعلم عالمًا حتى يكون به عاملًا.

  • (٦)

    والعمل هو العمل اليدوي. وأفضل عمل عمل العبد بالليل، يكسب قوته. وخير الكسب كسب اليدين، العامل إذا نصح، ما كسب الرجل كسبًا أطيب من عمل يده. وأن يأكل الإنسان من عمل يده خير من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه.

  • (٧)

    والعمل ضد الاتكال «اعملوا ولا تتكلوا إنما هي أعمالكم أحصيها لكم». وهو عمل وفقًا للطاقة والوسع نظرًا لاستحالة التكليف بما لا يطاق. «اكلفوا من العمل ما تطيقون». «لا تكلفوا أنفسكم من العمل ما ليس به طاقة».

  • (٨)
    وأفضل الأعمال أدومها «خياركم أطولكم أعمارًا وأحسنكم أعمالًا»، «فإن خير العمل أدومه وإن قل». وهو العمل الأفضل والأحسن والأكمل. وهو العمل الذي يصبح سنة الناس ويخلد في الأرض، وتجتمع عليه الأمة.٢٦

وفي الفقه يظهر العمل كأداة للتغير الاجتماعي والنصح والإرشاد لأولي الأمر في «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر». وهو العمل المباشر. فإن صعب فالنصيحة بالقول والتنبيه باللسان. فإن صعب فالأعمال بالقلوب وهو أضعف الإيمان طبقًا للحديث المشهور «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه، وهذا أضعف الإيمان.»

وقد أصبح موضوع «العمل» في علم أصول الدين موضوعًا رئيسيًّا مقرونًا بالإيمان في «الإيمان والعمل». وجعلهما الغزالي من الألفاظ الشرعية أقرب منهما إلى العقائد نظرًا لتضمنهما أحكامًا شرعية. لذلك كان من الموضوعات السمعية مع النبوة والمعاد والإمامة، الحجة فيها للنقل دون العقل وهناك ثلاثة مواقف:
  • (١)

    وحدة العمل والإيمان. فالإيمان بلا عمل مجرد أمنية. والعمل بلا إيمان مجرد فعل عضلي غير مقصود وغير موجه نحو غاية قصوى. وهو موقف الخوارج من أجل دفع الناس إلى المعارضة السياسية ضد الاستكانة وقبول الحكم الظالم ومن أجل الخروج عليه لأن أعماله غير مطابقة لإيمانه. وهو الموقف الجذري الذي تعرف به مواقف النضال السياسي وأحزاب المعارضة وجبهات اليسار.

  • (٢)

    انفصال العمل عن الإيمان. يكفي الإيمان الإعلان عنه باللسان ولو بتمتمة اللسان نطقًا بالشهادتين دون الشق على القلوب. وهو موقف المرجئة. وقد رأى بعض الفضلاء أن ذلك مدعاة لحقن الدماء، وتكفير المخالفين في الرأي، وتجميع الأمة مثل أبي حنيفة، وهو ما وافق هوى الأمويين أيضًا ما داموا ينطقون بالشهادتين فإن أفعال الحكام تكون خارج دائرة الأحكام الشرعية. فكل من قال لا إله إلا الله فهو مؤمن، وجزء من الأمة.

  • (٣)
    المنزلة بين المنزلتين لمن يخرج عمله عن إيمانه، فلا هو كافر كما تقول الخوارج ولا هو مؤمن كما تقول المرجئة بل هو عاصٍ عند واصل بن عطاء أو منافق عند الحسن البصري. تجب عليه التوبة والعودة إلى تطابق العمل مع الإيمان سلمًا وطواعية.٢٧

وفي علم أصول الفقه يتم تحليل الفعل وليس العمل إما في صيغ الخطاب «أفعل» أو «لا تفعل» في الأمر والنهي أو العموم والخصوص وإما في الأحكام الشرعية الخمسة: الواجب والمحرم، والمندوب والمكروه، والمباح. وبالرغم من اشتراك اللفظين في حرفين من نفس المصدر «عمل» «فعل» مع استبدال الحرف الأول مع الثاني وهو حرف العين إلا أن الفرق بينهم هو الفرق بين الخارج والداخل. فالعمل نشاط للإنسان في الخارج موجه نحو التغير الاجتماعي والإنتاج في حين أن الفعل نشاط للإنسان في الداخل. علاقته بالزمان وإتيانه على الفور أو التراخي، أداء أم قضاء من حيث شرعيته.

ولكن يظهر لفظ «العمل» في إطار تحليل خبر الآحاد الذي يورث الظن من حيث النظر واليقين من حيث العمل في مقابل خبر الآحاد الذي يورث اليقين في النظر والعمل على حد سواء. فخبر الآحاد يوجب العمل به في حالة الضرورة وتحقيق المصلحة، وإذا لم يعارض نصًّا يقينيًّا من الكتاب أو السنة المتواترة. كما يظهر العمل لاتفاقه مع النظر كشرط للمفتي في الاستفتاء وطاعة فتواه.٢٨
ويظهر العمل في علوم الحكمة، أي في الفلسفة عند مسكويه بمعنى العمل الأخلاقي، العمل الصالح، عمل الفضيلة والتقوى، وإن لم يظهر اللفظ بل استبدل به لفظ «الفضيلة». فبناءً على تحليل قوى النفس الثلاثة: الشهوية والغضبية والعاقلة، لكل قوى فضيلة. فضيلة الشهوية العفة. وفضيلة الغضبية الشجاعة. وفضيلة العاقلة الحكمة. فإذا ما تحققت هذه الفضائل الثلاث تأتي فضيلة رابعة هي العدالة. وبصرف النظر عما إذا كان هذا النموذج لأفلاطون أم لا فإنه قد تم عرضه على العقل الخالص وأصبح نتيجة حكم العقل البديهي وليس من الوافد. فالعقل هو مناط اجتماع الوافد والموروث. ومع ذلك فالفضائل النظرية أعلى من الفضائل العملية. ولما كانت الحكمة أعلى الفضائل النظرية فإنها تكون أعلى الفضائل كلها، يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا.٢٩
وبالرغم من أن «العمل» ليس من مصطلحات الصوفية المعروفة التي يتردد ذكرها في كتبهم مثل «الرسالة القشيرية»، إلا أن مضمونه شائع تحت أسماء أخرى. فالعمل عند الصوفية أكثر من مجرد العبادة والشعائر كما هو الحال في الفقه وأفعال الجوارح، بل يتضمن أيضًا أفعال القلوب وما يعتري النفس من مقامات وأحوال. وكما كتب الغزالي «معيار العلم» و«محك النظر» و«القسطاس المستقيم»، فإنه كتب أيضًا «ميزان العمل» أي قواعد السلوك الصحيح الطريق إلى السعادة وهو الجمع بين العلم والعمل طبقًا للآية الكريمة إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ. العلم مخدوم والعمل خادم مما يدل على رتبة العلم العليا. فالعلم نتيجة العمل وليس العمل نتيجة للعلم. العمل علة والعلم معلول، وليس العلم علة والعمل معلولًا. العمل مقدمة، والعلم نتيجة. العمل غرس، والعلم ثمرة. طريق النجاة العلم والعمل. ويبين الغزالي نسبة العمل من العلم وإنتاجه السعادة التي اتفق عليها المحققون من الصوفية بأكملهم. وساعدهم من النظار طوائف سواهم. ويفارق الصوفية في جانب العلم طريق غيرهم؛ إذ إن العلم العملي يبدأ من قبل العلم النظري. ويتكون العلم العملي من ثلاثة علوم: علم النفس والأخلاق، علم سياسة البدن والأسرة، علم سياسة البلد. وهذا العلم العملي يأتي عن طريق المشاركة بين الشيخ والمريد، بين المعلم والمتعلم.٣٠
وفي «إحياء علوم الدين» يمتد استعمال لفظ العمل على الأعمال الظاهرة من الصلاة والبداءة بالتكبير في الصلاة إلى الأعمال الباطنة، أعمال القلب وهي أسرار الصلاة. وكذلك في الحج هناك الأعمال الظاهرة من أول السفر إلى الرجوع عبر الوقوف من البيت والرمي والنحر والحلق إلى الآداب الدقيقة والأعمال الباطنة في أسرار الحج. ويبين هذه الأعمال الباطنة ودرجة الإخلاص في النية وطريق الاعتبار بالمشاهد الشريفة وكيفية الافتكار فيها، والتذكر لأسرارها ومعانيها من أول الحج. إلى آخره. وفي تلاوة القرآن هناك أعمال اللسان وهناك أيضًا الأعمال الباطنة خفقات القلوب. هذا في العبادات. أما في المهلكات فإن أهل العلم وأرباب العمل يقعون في الغرور المذموم. لذلك لزم في المنجيات القيام بالمراجعة والمحاسبة، محاسبة النفس بعد العمل.٣١

وقد تجاوز الفكر العربي المعاصر هذه المعاني الموروثة للعمل مثل العمل الصالح، والعمل الأخلاقي، وأعمال القلب إلى العمل اليدوي، العمل المنتج في الزراعة أو الصناعة. وأبرزت قيم العمل العضلي. وظهرت أحاديث مطوية عن اليد الخشنة، يد العامل التي يحبها الله ورسوله، وليست اليد الناعمة للحكيم، وتفضيل الياقات الزرقاء على الياقات البيضاء. فمن يحطب بيده ويأكل منها خير من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه، بل لقد امتد مفهوم العمل اليدوي ليشمل العمل الفكري في التجارب في الاشتراكية الحديثة. وأصبح المثقفون ضمن العمال، لا فرق من يعمل بيده ومن يعمل بعقله. وظهرت عدة مؤلفات عن تشريعات العمل والعمال في الإسلام وحقوق العمال في الإسلام من أجل ربط هذا المعنى الحديث للعمل بالتراث القديم حتى ينشط الناس ويدركون معنى شعارات الثورة العربية الحديثة «العمل قيمة، العمل واجب، العمل حياة».

ولقد انتشر مفهوم العلم بمعنى البراكسيس Praxis في الفكر العربي المعاصر من الماركسية في تعارضه مع اللوجوس Logos. فليس المهم فهم العالم بل تغييره. وظهر هذا التقابل في الأدبيات اليسارية العربية اقتفاءً لأثر ماركس الشاب. وفي الأدبيات اليمينية انتشرت البرجماتية عند جيمس، والذرائعية عند ديوي، ترجمة وتأليفًا. وانتسب إليها بعض المفكرين العرب المعاصرين لأنها تعطي الأولوية للعمل على النظر. وترى أن النظر ضعف في العمل ونقص في الإرادة كما هو الحال عند برجسون، على عكس أفلوطين الذي كان يرى أن العمل ضعف في النظر. كما شاعت البرجماتية المثالية عند شيللر وبيرس نظرًا لقربهما من التصور الإسلامي. كما انتشرت النزعة العملية بوجه عام عند كانط في نقد العقل العملي. كما ذاعت المثالية الترنسندنالية عند فشته لأنها تجعل الحرية الموضوع الرئيسي في «نظرية العلم»، الأنا تضع نفسها حين تقاوم. ولا يجد الفكر العربي المعاصر في مفهوم العمل نفس التناقض بين الموروث والوافد الذي يجده في مفهوم العلم نظرًا لاشتراك الموروث والوافد في النزعة العملية بصرف النظر عن اسمها مثالية نظرية كانت أم واقعية تجريبية.٣٢

رابعًا: التكافل الاجتماعي

هذان اللفظان القرينان أقرب إلى الفكر العربي المعاصر منه إلى الفكر الإسلامي القديم. ويفيدان معاني التضامن والتكامل والأخوة والتعاون المتبادل. وهي معاني موجودة في الفكر الإسلامي القديم.

ومع ذلك فلفظ «كفل» لفظ قرآني ورد حوالي عشرين مرة بمعنى الرعاية والتربية مثل أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ، هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ، وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا. وقد تعني جزءًا أو نصيبًا أو جانبًا مثل مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا، يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ. وهو اسم النبي «ذي الكفل». وهو أيضًا من صفات الله وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا.

وهي نفس المعاني الموجودة في استعمالات لفظ «كفل» في السنة. والمعنى الأكثر شيوعًا هو الرعاية. فقد كفل الرسول جده وعمه. وإبراهيم يكفل ذراري المسلمين في الجنة. ومن كان له ثلاث بنات يكفلهن دخل الجنة. والرسول كافل لليتيم، ولا ترجم ولا تقتل زانية حتى تكفل ولدها. ويعني اللفظ أيضًا التعهد، فقد تكفل الله لمن جاهد في سبيله بأن يدخله الجنة، كما يعني اللفظ أيضًا القضاء، مثل تكفل الدين عن الميت. وهو نفس المعنى السائد في كتب الفقه في باب الكفالة للأشخاص وللقروض وللديون. وهو نفس معنى التحمل لجزء من المسئولية كما أن على ابن آدم كفلًا من دم كل قتيل. أما إذا وصف الله بالكفيل فإنه يعني الوكيل.٣٣
وقد عرض الفلاسفة للتكافل الاجتماعي بمعنى الأخوة بين الأصحاب مثل إخوان الصفا. وتحدث الغزالي عن الأخوة في الألفة، وأحسن الناس أخلاقًا المؤتلفون أكنافًا الذين يألفون ويؤلفون.٣٤

ومع ذلك تبرز معاني التكافل الاجتماعي في ألفاظ أخرى مثل الملكية، ملكية المال أو الأرض أو حق الفقراء في أموال الأغنياء في مؤسسات مثل الزكاة والصدقة وبيت المال، ووسائل إعادة توزيع الثروة، وتذويب الفوارق بين الطبقات، وحقوق الإنسان، وحق الجار، والتكفير عن الذنوب سواء بتحليل ألفاظ مقاربة مثل اليتامى والمساكين وأبناء السبيل والفقراء في الكتاب والسنة أو بعرض مؤسساتها في الفقه.

ويقوم التكافل الاجتماعي على تصور عام للكون ينتج عن قواعد عامة لعلاقة الإنسان بالطبيعة وبغيره من البشر، ومنبثق عن التوحيد. فالتوحيد ليس فقط عقيدة بل شريعة، ليس فقط تصورًا بل نظام. فالله هو المالك لكل شيء وَلِلهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. والإنسان يوجد في العالم ولا يملكه، والله هو الوارث لكل شيء وَلِلهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. والميراث العام نتيجة طبيعية للملكية العامة. فلا توريث إلا لمن يملك، والإنسان مستخلف فقط فيما تركه الله وديعة بين يديه. له حق التصرف والانتفاع والاستثمار، وليس له حق الاكتناز والاحتكار والاستغلال. فالملكية وظيفة اجتماعية لتنمية الموارد وسيولة رأس المال. فإذا أساء الإنسان استخدام هذه الوديعة كان لممثل السلطة العامة الحق في انتزاع الملكية من أجل إعادة السيولة المالية والحركة الاجتماعية لها. وهو ما يسمى بلغة العصر مصادرة رأس المال المستغل أو المنهوب، وتأميم المصالح العامة، ونزع ملكية الأفراد عن الوسائل العامة للإنتاج.

والملكية العامة للأرض أحد مظاهر الملكية العامة. فالأرض مسخرة لجميع البشر. ولكل كائن حي رزقه في الأرض. ولا يستطيع أحد منعه. والإنسان مكرَّم في البر والبحر. وحرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمة الكعبة. وقد امتلك فرعون أرض مصر. وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ فهلك غرقًا. لقد خلق الإنسان من الأرض، وإليها يعود، ومنها يخرج. فهو جزء منها، وهي جزء منه. علاقتهما علاقة وجود وليست علاقة ملكية.

لذلك لا تباع الأرض ولا تشترى إلا لوضع المال في مثل ما تم بيعه من أجل إصلاحها وتنميتها وزراعتها وعمرانها. ولا يباع الماء أو الكلأ لأنهما مشاعان في الأرض، «لا تبيعوا فضل الماء ولا تحرموا الكلأ فيهزل المال ويجوع العيال». والأرض لا تباع بل فضلها يتم هبته لمن يستخدمها. «من كان له فضل أرض فليزرعها أو ليُزرعها أخاه ولا تبيعوها». بيع الأرض بالمال إتلاف له، «من باع عقدة وهو يجد بدًّا من بيعها وكل بذلك المال ما يتلفه». وكل استصلاح الأرض لا يؤجر عليه لأنه نفقة في التراب، «يؤجر العبد في نفقته إلا ما كان في التراب». ويمتد ذلك إلى العقار أيضًا أي إلى السكني في الأرض فإن بيعه يتلف المال. «فمن باع دارًا أو عقارًا فليعلم أنه مال لا يبارك الله فيه إلا أن يجعله في مثله». كذلك لا يمكن في الشريعة المضاربة في العقار لأنها تكسب بالمنافع العامة. وقد كان الرسول يحث على الاحتفاظ بملكية الأرض. «لا يبارك الله في ثمن أرض أو دار إلا أن يُجعل في أرض أو دار».

وهو ما يتفق مع تاريخ الملكية. فقد كانت ملكية الأرض عند الشعوب «البدائية» ملكية جماعية، كما لاحظ روسو وماركس وبرودون. والسارق هو أول من وضع يده على قطعة أرض وأحاطها بسياج وقال هذه لي، وليس من ينازعه إياها ويستولي عليها منه. لقد كانت نشأة الملكية جماعية وأبقاها الإسلام كذلك باعتباره فيئًا، وتوزيع الفيء على الفقراء دون الأغنياء، وشركة الناس في الماء والكلأ والنار، ووقوف بعض الأراضي، والحمى، والنهي عن كراء الأرض، وعدم إقرار الشارع بالملكية المطلقة.٣٥

وقد أوقف الرسول بعض الأرض ولم يقسمها لينفق ريعها على أمور المسلمين. والحمى ملكية جماعية «لا حمى إلا لله ورسوله»، وليس على القوة والغلبة. والحمى هي المراعي العامة التي بها ينتفع الناس جميعًا.

وجعل عمر أرض السواد ملكية عامة دون تقسيمها على الفاتحين لأن الله أشرك الذين أتوا بعدهم في هذا الفيء. فلو قسمه لم يبقَ لمن بعدهم شيء ولئن بقي لأبلغن الراعي بصنعاء نصيبه منه. وفرض الخراج على أرض الشام ومصر أسوة بأرض السواد. كانت ملكية الأرض في عهد عمر على عدة أنواع: الأرض الخراجية وهي الأرض التي تم اكتسابها عنوة أو صلحًا، الأرض العشرية في جزيرة العرب التي خراجها عشر الريع، الأرض المحمية أو أرض الحمى وهي الأرض لعامة المسلمين وفقرائهم، وأرض الإقطاع التي يقطعها الخليفة لأحد لإصلاحها والانتفاع بها وإلا أُخذت منه، والأرض الموات التي تم إحياؤها ولم تكن في يد مسلم ولا معاهد، ومدتها ثلاث سنوات، والأرض الموقوفة مثل أرض خيبر. وكلها أقرب إلى الملكية العامة من الملكية الخاصة. وقد مكَّن عمر ملكية الأرض في البلاد المفتوحة لسكانها الأصليين لأنهم أقدر على زراعتها والعناية بها. ورفض عمر تقسيم أرض السواد على الفاتحين حتى لا يخلدوا إلى الأرض بفعل الملكية وحتى تظل الأرض العامة في يد الدولة. وهي نفس قضية الأراضي المستصلحة الآن، هل تظل في يد الدولة أم يتم تفتيتها في أيدي المزارعين أم تكون ملكيات تعاونية؟٣٦

وهناك ملكية عامة لوسائل الإنتاج؛ إذ لا يجوز امتلاك إلا المواد المنقولة العينية فوق الأرض. أما ما هو في باطن الأرض مثل المعادن أو ما هو خارج الأرض مثل الفضاء الخارجي فلا يجوز أن يكون موضوعًا للملكية الخاصة. لذلك جعل الفقهاء الركاز ملكية عامة. والركاز هو كل ما في باطن الأرض. عرَّف القدماء المعادن والذهب الأبيض وعرَّف المحدثون النفط والذهب الأسود. ولا يجوز تملك المواد الضرورية لحياة الجماعة كالأنهار والمرافق العامة ومصادر الطاقة.

ولا يجوز امتلاك الماء والعشب والنار بتعبير القدماء عن حاجات البدو. فالماء حياة الصحراء، والعشب طعامها، والنار مصدر الطاقة والدفء بلغة المحدثين. والزراعة والصناعة هما أهم قطاعين للاستثمار. ولا يجوز ملكيتهما ملكية خاصة بل هما ملكية عامة نظرًا لعموم البلوى، وحاجة كل إنسان إليها. وتضيف رواية أخرى الملح مما يشير إلى الصناعة والتعدين. وقد قال أبو يوسف: «لا تمنعوا كلأً ولا ماءً ولا نارًا فإنه متاع للمقوين وقوة المستضعفين».

ولا يجوز امتلاك الفضاء الخارجي مثل الشمس والقمر والنجوم كما هو الحال في حرب الكواكب لأنها خارج التناول والنقل باليد. هي منافع عامة. كما لا يجوز امتلاك الهواء والسحاب.

القطاع العام إذن له أساس شرعي لأنه وضع الحاجات الأساسية للبشر في أيدي الجماعة وليست في أيدي الأفراد منعًا للاستغلال. وسيطرة الدولة على وسائل الإنتاج التي تمس مصالح الناس المباشرة كالكهرباء والمياه والزراعة والصناعة والمواد الغذائية والإسكان والتعليم والصحة والدفاع لها أساس شرعي.٣٧

والمال ليس فقط الذهب والفضة والأوراق النقدية بل كل ما يملك الإنسان من عقار وثمار وحيوان وآلات ومعادن. لذلك تجب حماية المال في الإسلام ممن حازه ومن غير مالكه من أجل وضع القواعد العامة للتكافل الاجتماعي، فالتكافل فريضة مشروعة. وحمايته واجب أخلاقي وشرعي. فبالإضافة إلى التحذير من فتنة المال وتخليص النفس منها وترفعها عليه تتم حماية المال ممن حازه عن طريق التصرف فيه من غير إسراف ولا تقتير. فالإسراف تبذير وسفه، وتفضيل الكماليات على الحاجيات. والتقتير اكتناز وبخل وإنكار لنعمة الله تعالى والجحود بها بعدم إظهارها.

وكذلك تتم حماية المال من مالكه عن طريق منع السفهاء من التصرف في أموالهم وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ وتبديدها على ما لا ينفع بل يضر حتى يصبح المال فاقدًا.

ولا يجوز الاحتكار وحبس السلع والتداول في الأسواق انتظارًا لغلاء الأسعار. فلا يحتكر إلا خاطئ. ومن احتكر طعامًا أربعين يومًا فقد برئ من الله وبرئ الله منه. احتكار السوق ضد حريته واستغلال للمصلحة العامة من أجل المصلحة الخاصة، وتحايل على قوانين العرض والطلب وقوانين السوق، وتحكم في الأسعار، وزيادة على قيمتها الحقيقية.

وتتم حماية المال من غير مالكه بالتحذير من أكل أموال اليتامى ظلمًا إِنَّ الذينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا، وعدم الاقتراب من مال اليتيم حتى يبلغ أشده، بل تكريمه وعدم قهره أو نهره، وإطعامه مع المسكين والأسير خاصة إذا كان اليتيم ذا مقربة. وقد سوى القرآن معاملة اليتامى بمعاملة الوالدين بالإحسان، وجعل لهم نصيبًا في الصدقات مع ذوي القربى والمساكين، وفي بيت المال.٣٨

وكما يحظر الاحتكار يحظر الترف وتداول المال في نطاق محدود أو في طبقة خاصة لا يخرج منها. فالترف مهلكة للمجتمع بفساد الطبقة، وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا، وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ. فالترف يُذهب الرؤية، ويضيع البصر، ويعمى البصيرة، وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ، الترف قريب من الكفر ويؤدي إليه وبالتالي الطريق إلى العذاب. كما يؤدي إلى الإجرام والفساد، ويدعو إلى التقليد، إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ لأن المترفين ضد التجديد وتغيير الأمر الواقع. ويحذر الإسلام من تركز المال في طبقة بعينها كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ من أجل سيولة رأس المال في المجتمع وتوظيفه في زيادة فرص العمل ونسبة الإنتاج. يكره الإسلام تكثيف الثروة، ويعطى للدولة الحق في الحد من ذلك، وضمان توزيع الثروة على أوسع مقياس، وتكافؤ الفرص. فمن يمتلك الثروة يمتلك القوة، ومن يسيطر على الاقتصاد يسيطر على السياسة.

وربما كان الغرض من قانون الميراث هو تفتيت الملكية حتى لا تبقي الثروة مركزة في يد المتوفى أو الابن الكبير بل توزع بالنصف والربع والثلث والثمن على الأقرباء حتى الدرجة الثالثة. وهو نوع من إعادة توزيع الثروة على أوسع قاعدة ممكنة.٣٩

والمال لفظ مشتق وليس اسمًا يدل على شيء موجود في العالم الخارجي، بل هو لفظ مركب من «ما». اسم الصلة، وحرف الجر، أي الشيء الذي في علاقة مع. فالملكية بين الذات والموضوع، هي وظيفة اجتماعية. ولا يلحق اللفظ في القرآن بضمير الملكية المفرد مثل «مالي» إلا مرة واحدة للدلالة على الملكية العامة. وأكثر الاقترانات لضمير الملكية الغائب الجمع مثل «أموالهم» للدلالة على الملَّاك الغائبين.

ولما كان كل رزق من الله وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ فقد جعل الله للفقراء حقًّا في أموال الأغنياء، وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الذي آتَاكُمْ، وَالذينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ. وقد فرض الله على أغنياء المسلمين في أموالهم بالقدر الذي يسع فقراءهم. ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا إلا بما يصنع أغنياؤهم. «ويحاسبهم الله حسابًا شديدًا ويعذبهم عذابًا أليمًا».٤٠
فالمجتمع وحدة واحدة، «وأيما أهل عرصة من الأرض فيها إنسان واحد جائع تبرأ ذمة الله منه»، و«من أنظر معسرًا أو صنع ميسرة أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله»، و«المؤمنون إخوة»، و«من كان عنه فضل زاد فليعد على من لا زاد له، ومن كان له فضل ظهر فليعد على من لا ظهر له». ومانع الحق باغٍ على أخيه الذي له الحق. وقد اعترف الفقهاء قديمًا وحديثًا برأي أبي ذر في عدم جواز تملك ما فضل عن القوت وسداد العيش اعتمادًا على الآية الكريمة وَالذينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ.٤١
ويضرب الله والرسول المثل بالأشعريين الذي إذا أرملوا في الغزو وقل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في قوب واحد واقتسموه بينهم بالسوية. فهم منه وهو منهم. ويشرح ابن عباس العفو في آية خُذِ الْعَفْوَ أي إنفاق الفضل. العفو ما يفضل عن الأهل. والبدء بالنفس ثم الأهل ثم الأقرباء فالأقرب. إعطاء الفضل خير وإمساكه شر. والبداية بالعيال. واليد العليا خير من اليد السفلى. فالتعاون مغروز في الطبيعة البشرية لأن الإنسان مدني بطبعه واختلاف القدرات سبب التعاون.٤٢

وهنا يبدو حق الجار كدليل على التكافل الاجتماعي، «ليس منا من بات شبعان وجاره طاوٍ». فالرزق للجميع. والجار كالأهل، «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى طننت أنه سيورثه». ويتحدث القرآن عن الجار الجنب والجار ذي القربي. وقد ذكر لفظ «الجار» ثلاث مرات. الأولى بمعنى الإحسان للجار ذي القربى مثل الإحسان بالوالدين وبذي القربى واليتامى والمساكين. والثانية بمعنى ملاصقة الجار للجار وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ مما يدل على مدى القربي. والثالثة بمعنى الدفاع عن الجار وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ.

ومن نفس اشتقاق اللفظ يذكر فعل «يجاور» في المكان لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا بمعنى القرب أو البعد. ومن نفس الاشتقاق فعل «يجير» بمعنى دفع الأذى يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. والجوار والإجارة صفات يصف الله بها نفسه. فالله يجير ولا يجار عليه. ومن يجير الكافرين من العذاب الأليم؟ قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ. فإذا أجار الرسول أو إنسان أحدًا فإنما يتشبه بالله في إنصاف المظلومين، وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ. والطبيعة نفسها تتجاور في نظام، وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ. ولفظ «الجار» من الألفاظ التي تعني نفس الشيء ونقيضه، الحماية والجور، الدفاع والتعدي. ومنه لفظ «جائر» في وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ.

وقد تأكدت هذه المعاني للجوار في الفقه تنظيرًا للقرآن والسنة. فلا يجوز أن يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره ولا يجوز أن يحبس جار من جاره الماء الجاري والعيون والآبار. فلا ضرر ولا ضرار. وهناك البيع بالشفعة نظرًا لحق الجار وأولويته في البيع. وقد ينال المجرى حقه ولو بالتنفيذ الجبري. ومن زرع في ملك غيره فله قيمة الزرع.

لذلك جعل سيد قطب التوحيد يقوم على ثلاثة مبادئ: التحرر الوجداني، والمساواة الإنسانية، والتكافل الاجتماعي. ويضم التكافل الاجتماعي، التكافل بين الفرد وذاته، والفرد وأسرته، والفرد والجماعة بل والأمة والأمم، والجيل والأجيال.٤٣

ومن مظاهر التكافل الاجتماعي رد فضول أموال الأغنياء إلى الفقراء. وهو ما يعني بلغة العصر إعادة توزيع الدخل. فعندما بدأ التفاوت الطبقي يظهر في المجتمع الإسلامي الأول قرر النبي ذلك. كما قرر عمر إعادة النظر في المؤلفة قلوبهم بعد عام الفتح، وإعادة النظر في العطاء طبقًا لمبدأ الرجل وأسبقيته في الإسلام. وهي نفس الثورة التي قادها أبو ذر ضد عثمان في بداية التفاوت الطبقي بين الأغنياء والفقراء. وعندما نزلت آية وَالذينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ سأل الناس: الزكاة؟ قال الرسول: «في المال حق غير الزكاة». وهو حق الفقراء في أموال الأغنياء.

وقد ورد لفظ الفقراء في القرآن (١٣) مرة بعدة معانٍ. فالفقر ليس صفة لله. الله هو الغني والناس الفقراء إليه. لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الذينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ. فإذا كان السلوك الفاضل يقوم على التشبه بالله كان من أهداف الإنسان محاربة الفقر «والله لو كان الفقر رجلًا لقتلته». الإنسان هو الفقير إلى الله والله هو الغني، فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ. والله هو مولى الأغنياء والفقراء، إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا. وهو الذي يؤتي الفقراء من فضله، إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ. والفقر من الشيطان أي أنه شيء مرذول مثل الفحشاء الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ. وإطعام الفقراء واجب فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ. والفقر لا يدفع إلى الجشع بل إلى التعفف، وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ.

وقد ورد لفظ الغنى ومشتقاته وتردد أكثر من لفظ الفقراء٤٤ ولا يعني ذلك تفضيل الأغنياء على الفقراء بل إن مشتقات لفظ «غني» أكثر من مشتقات لفظ «فقير» مثل يغني بمعنى ازدهر: فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ، الذينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا. ويأتي أيضًا بمعنى أغنى مثل مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ، فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ. ويعني أيضًا لفظ أغنى أثرى مثل وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى أو يستكفي لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ. ويعني لفظ استغنى عدم الحاجة، إغناء النفس بالنفس أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى. ويأتي لفظ غني مفردًا وجمعًا، ومغنون بنفس المعنى. والمغني صفة لله. أما الغني فعليه أن يستعفف وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ، يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ، فالغنى غنى النفس. وواجب الأغنياء الجهاد وإلا كانوا مع الخوالف ومن القاعدين إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الذينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ.٤٥
ومن وسائل التكافل الاجتماعي تذويب الفوارق بين الطبقات وما يتبع من وسائل حديثة بوضع حد أدنى للملكية الفردية، وفرض ضرائب تصاعدية، والدخول على الممتلكات، ووضع ضرائب الصيد والعشار (الجمارك) والحوانيت، ومراعاة إقامة التوازن المادي المعقول بين كل أفراد الجماعة، ومراعاة المصلحة العامة وتقديمها على المصلحة الخاصة حين التعارض. قد لا تكفي الزكاة. وقد لا يترك الإنفاق طوعًا. إنما نظم ذلك كله طبقًا لمبدأ المساواة والتكافل الاجتماعي. ففي المال حق غير الزكاة.٤٦
ويخطئ البعض عندما يتصورون أن الدرجات التي جعل الله الناس بعضهم فوق بعض هي درجات في الرزق والثروة والمال. بل هي درجات في التقوى والعمل الصالح. فقد ورد لفظ درجة ودرجات. وهي درجات عند الله وليس في الدنيا، في الطاعة، طاعة النساء للرجال وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ، وفي الجهاد فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً، وفي الإنفاق أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الذينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا. أما الدرجات فهي في القرب من الله والكلام معه، وفي المغفرة والرحمة، وفي تدخل المشيئة الإلهية، وفي العمل وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا، وفي العلم يَرْفَعِ اللهُ الذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالذينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ، وفي الدنيا للسخرية وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا. وهي امتحان واختبار للبشر، وَهُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ. وهي صفة إلهية رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ. وفي يوم القيامة فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا، وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا.٤٧
وفي مقابل لفظ الدرجات هناك معاني المساواة في الصلاة والحج وفي الخلق «الناس من آدم وآدم من تراب». فالإعلان عن التوحيد «الله أكبر» هدم للطبقية بين الناس. ويتساوى الجميع في الكرامة، وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ، وفي القول وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ، وفي الأخوة إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ، وفي الحقوق كما ظهرت في خطبة الوداع.٤٨

لذلك شرعت الزكاة. وقرنت بالصلاة وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ. هدفها منع الاكتناز وحبس المال عن حركة المجتمع، ووظيفته في الاستخدام. حارب أبو بكر دفاعًا عنها والتزامًا لمعاني الزكاة بها. وليس المقصود منها مجرد إعطاء ٢٫٥٪ مما يحول عليه الحول دون استخدام بل المقصود دفع الإنسان وحثه على عدم الاكتناز من أجل سيولة رأس المال للصالح العام، واستثمار الأموال وتوظيفها لتنمية المجتمع. ليس المقصود منها الصدقة بل تجميع زكاة المال من أجل استثمارها كرأسمال لإيجاد فرص للعمالة لحل مشكلة البطالة ولتشييد المصانع لزيادة الإنتاج واستصلاح الأراضي.

وقد ورد لفظ «الزكاة» في القرآن مرتبطًا بالصلاة وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ أو بمفرده. ودائمًا ترد مرتبطة بالتقوى فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ. ويتفاضل الناس فيها فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا، وتأتي مقترنة بالحنان والرحمة وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا. غايتها وجه الله وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ. لذلك ارتبطت بالإيمان بالآخرة الذينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ.٤٩
وهي على ثلاثة أنواع: زكاة الفطر؛ إذ يظل صوم رمضان معلقًا بين السماء والأرض لا يرفع إلا بها. وزكاة المال بعد حلول الحول إلا الحصاد فإن زكاته تؤتى على الفور. وما كان به الزمان قديمًا الحيوان، النعم: الإبل والبقر والغنم، والنبات والزرع والثمار، والمعادن، الذهب والفضة. ولا تجب في المسكن والثياب والأثاث والسلاح والركوب والكتب وآلات العمل لأنها أشياء للاستعمال وليست للاكتناز.٥٠
والصدقة أحد وسائل التكافل الاجتماعي. وهو أمر تطوعي على حين أن الزكاة أمر ضروري. وخير الصدقات ما كان عن ظهر غنى دون أن يتكفف الناس. ولا تعني الصدقة إعطاء كل شيء أو نصفه أو ثلثه، فالأفضل ترك الأهل ولهم الكفاية خير من أن يكونوا عالة على الناس. ولا تعني الصدقة فقط العطاء حتى اللقمة يضعها الزوج في فم زوجته صدقة. وهي طهارة للنفس من حب المال. خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا. ظاهر الإنفاق الفقد وهو في الحقيقة وجد، يوفى فيما بعد في الدنيا والآخرة. وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ. والإنفاق هو محك الإيمان وليست العبادة، لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ.٥١
والصدقة أحد أشكال الفدية مثل الصيام والنسك فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ. فهي تطهير للنفس. لذلك تبطل إذا تبعها أذًى. وفي هذه الحالة القول المعروف أفضل، قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى. وهي خير من الكلام والنجوى، لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ. وهي على نقيض الربا. الصدقة للعون على الفقر، والربا استغلال الفقر. لذلك يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ. والصدقات لا تُطلَب بل تُوهَب دون طلب بالهمز والفخر والتلميح والتصريح، وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا. ولا يستحقها إلا الفقراء. يمكن أن تبدو حتى يتنافس عليها الناس، إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ. وهي لله وليس للبشر، أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ.٥٢

وفي بيت المال تلبية لحاجات الجميع. فهو مال الله وليس مال الحكام. لكل قوم نصيب فيه، المهاجرون والأنصار والأعراب. فقد كتب عمر الدواوين، وجعل لكل واحد في هذا المال حق حتى ولو كان عبدًا مملوكًا. وعمر واحد منهم طبقًا لمنزلة كل منهم في الكتاب والسنة والبلاء والقدم والعناء والحاجة في الإسلام حتى ولو كان فوق جبال صنعاء. ولو عاش عمر لسار في الرعية لمعرفة قضاء الحوائج التي يمنعها العمال عنه ولا يصل إليه أصحابها ويقيم في كل قطر شهرين، مصر والشام والجزيرة والبحرين والكوفة، وتحريرًا للحاكم من سلطة البلاط المقيم في قصر الرياسة.

كانت وظيفة بيت المال الرئيسية، أي الخزانة العامة، الصرف على أوجه المصلحة العامة خاصة إعاشة الفقراء وتدبير المصالح العامة. وهم جماعات ستة بناء على الآية الكريمة إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. فالفقير هو المحتاج الذي تحفظ كرامته من بيت المال. والمسكين أشد حاجة من الفقير. والعاملون هم المشرفون على الصدقة ورعاة الأغنام. ويضم المؤلفة قلوبهم المسلمين والمنافقين والمشركين. والمكاتبون هم العبيد والأرقاء لتحريرهم من بيت المال. والغارمون هم المدينون المثقلون بالديون. والغزاة هم المرابطون في الثغور. وأبناء السبيل هم المسافرون الذين ليس لديهم شيء يتزودون به أو يستريحون فيه. بيت المال وسيلة الإعاشة للطبقات الفقيرة والمحتاجة.

ويشمل الضمان الاجتماعي العاجز بصرف النظر عن دينهم كما فعل لشيخ عجوز من يهود المدينة «ما أنصفناك يا شيخ. أخذنا منك الجزية شابًّا ثم ضيعناك شيخًا». فهوية الإنسان إنسانيته وليس دينه، حياته وليست عقائده، عمله وليس إيمانه. فالتكافل الاجتماعي لا يكون فقط في ذروة الحياة من أجل العمل المنتج بل في آخرها، استحقاقًا للعناية ورعاية للمسنين.

ومن مظاهر التكافل الاجتماعي إطعام الفقير تكفيرًا عن الذنوب، إطعام ستين مسكينًا تعويضًا عن الإفطار في رمضان طالما أن الصيام لم يدفع الإنسان إلى المشاركة الوجدانية مع الجوعى. وما دام قد أفطر فعليه إفطار المساكين بل وستين منهم. فإطعام النفس يساوي إطعام ستين مسكينًا آخرين. كما أن النحر أيضًا في الحج إطعام للفقراء. والإطعام ما هو إلا رمز للتوحد مع الآخر في مجتمع واحد.

وقد ورد لفظ «مسكين» في القرآن الكريم في إطار الفدية عن الصيام، وَعَلَى الذينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ، فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا. وكفارة أخرى إطعام عشرة مساكين ويحث على إطعام المساكين، وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ. بل إن الإنسان يؤثر إطعام المسكين واليتيم والأسير على إطعام نفسه. والمسكين مثل ذي القربي وابن السبيل. وهو رمز آخر على وحدة الأمة.٥٣ أما لفظ «المساكين» في صيغة الجمع فإنه يأتي مقرونًا بالوالدين، وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وبذي القربى واليتامى. كما يأتي مع من يستحق في خُمس الغنائم، وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ، ومع من يستحق الصدقات كالفقراء والعاملين عليها وفي الرقاب.

مفهوم التكافل الاجتماعي هو أوسع المفاهيم الثلاثة. وإن لم يكن واردًا لفظًا في الكتاب والسنة إلا أن المعنى حاضر في عدة مفاهيم أخرى. فبالإضافة إلى معاني الرعاية والعناية إلا أنه يقوم على تصور عام للملكية الجماعية للأرض والاشتراك في الأموال ولوسائل الإنتاج التي تعم بها البلوى، وتفتيت الثروات على أكبر قاعدة ممكنة، وحق الفقراء في أموال الأغنياء، ومن خلال الزكاة والصدقات وبيت المال والجوار والكفارة وقبل أن يلجأ الحاكم إلى التأميم والمصادرة في حالة الاستغلال أو الاحتكار.

خامسًا: مفاهيم العلم والعمل والتكافل الاجتماعي وأيديولوجيات التنمية

مما لا شك فيه أن مفاهيم العلم والعمل والتكافل الاجتماعي كما هي واردة في التراث القديم في حاجة إلى إعادة بناء من أجل صياغتها مع غيرها من المفاهيم كأيديولوجية التنمية في العصر الحاضر. وربما تحتاج إلى مجرد إبراز وبلورة وإعادة إحضار في الثقافة الشعبية ضد المفاهيم التي تعوق التنمية أكثر مما تدفع إليها.

وكما هو الحال في كثير من المذاهب السياسية المعاصرة، بدلًا من إعادة الموروث القديم المطوي في بطون الكتب القديمة كان من الأسهل استدعاء الوافد الحديث ما دام الأمر لا يتعلق بالثقافة المباشرة، بل مجرد أمور عملية إجرائية إدارية سيادية حكومية مثل التنمية بمعرفة دولية من الدول الاشتراكية أولًا، ثم من النظم الرأسمالية ثانيًا. تغلب العمل على النظر. وأعطيت الأولوية للإنجاز السريع اعتمادًا على الخارج أكثر من التطور الداخلي اعتمادًا على الداخل.

لذلك جاءت عمليات التنمية سواء من الناحية النظرية أو من ناحية السياسات العملية جزءًا من التغريب العام للمجتمعات العربية الإسلامية المعاصرة على المستوى السياسي والاقتصادي. ووجدت في الثقافة التقليدية ما يؤيد أكثر مما يعارض طبقًا لاتجاه القرار السياسي للنخبة الحاكمة. فالثقافة التقليدية مخزون ضخم به كل شيء حتى المتناقضات. وتقوم عملية الانتقاء والتأويل باختيار ما يناسب منها لتبرير القرار السياسي. فإذا ما تغير القرار إلى النقيض تغير الاختيار والتأويل إلى النقيض المماثل.

جاءت التنمية أولًا إقطاعية أو ليبرالية قبل الثورات العربية الأخيرة، ثم اشتراكية عربية بعدها بناءً على الأيديولوجيتين المعروفتين آنذاك، الرأسمالية والاشتراكية، نصًّا أحيانًا وبتصرف أحيانًا أخرى. ثم رأسمالية طفيلية ثالثًا بعد انهيار الحلم القومي وبداية التبعية للمعسكر الرأسمالي خاصة بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وتحول العالم إلى قطب واحد باسم اقتصاد السوق وحرية التجارة العالمية كما مثلتها اتفاقية «الجات».

وقد أيد الأيديولوجيتين الأخيرتين الخطاب الرسمي للهيئات الدولية. فهي التي تقوم بالتمويل الكلي أو الجزئي لمشروعات التنمية. وتمد بالخبرات البشرية. بل وتشارك. في إعداد خطط التنمية، وعادة ما يكون التخطيط بناءً على تصور الهيئات الدولية وربما تنفيذًا لأغراضها خاصة وأنها قد تخضع أو تتأثر بالقوى الكبرى وضغوطها عليها مثل البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمات التنمية التابعة للأمم المتحدة.

وعادة ما تكون النماذج التي تقدمها الهيئات والمنظمات الدولية ضحية النموذج الواحد لتنمية كل الشعوب إيمانًا بقدرة التخطيط ودقة التنفيذ وكأن تنمية الموارد مستقلة عن تنمية البشر. فلا تأخذ خصوصيات الشعوب وثقافاتها المتنوعة والمختلفة بعين الاعتبار. ولا تعرف إلى أي حد تقبل الثقافات التقليدية في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية مفاهيم التنمية أو نظمها أو غاياتها. فتتحول نقلًا للحداثة من المنظمات والهيئات الدولية إلى النخب الحاكمة دون أن تساندها حركات شعبية بالمساهمة والمشاركة والتطوير والتنفيذ.

وعادة ما يقوم بهذه الدراسات لحساب المنظمات الدولية باحثون وطنيون بلغة الهيئات الدولية وتحقيقًا لمطالبها وتبنيًا لأسلوبها وتصورها، وهو إيجاد نماذج عامة وشاملة تطبق في كل الحالات نماذج رياضية أو إحصائية أو تجريبية تقوم برد تجارب التنمية المستقلة إلى نماذج رياضية بلا زمان أو تجارب تاريخية بلا مكان. فالهندسة الإنسانية قادرة على صنع مجتمعات جديدة نقلًا للمجتمعات القديمة من بنية تقليدية إلى بنية حديثة بفعل سياسات التخطيط وأجهزة التنمية.

وبسبب كثرة الموظفين الدوليين وتنقلاتهم بين أقطار الأرض وأقاليمها السبعة يضيع الالتزام برؤية وطنية للبلاد بناءً على التعاطف المشترك بين الذات والموضوع بناءً على ولاء أو ألفة أو طول إقامة. وعادة ما تكشف خطط التنمية التي وضعها موظفو التنمية الدوليون عن مهارة علمية، وقدرات إحصائية، وتحليلات فنية. وكانت الغاية هي الأوراق المقدمة والخطط المقترحة، وليس ما يمكن تحقيقه على أرض الواقع. فالمنظر الدولي شيء والمحقق الوطني شيء آخر. الأول كسب وحرفة، والثاني رسالة وغاية.

ولما كانت التنمية تتم بين نظم دولية ونظم محلية تدعيمًا لها في سياساتها أصبحت التنمية اختيارًا من النخبة الحاكمة وجزءًا من جهاز الدولة. تقوم بها وزارة التخطيط، معهد التخطيط أو أجهزة التنمية في الوزارات المختلفة. وعلى العلاقات العامة تسويقها والإعلان عنها والترويج لها.

وطالما أن النخبة الحاكمة قائمة وثابتة في الحكم تتم عمليات التنمية. فإذا ما وقع لها سوء، موت فجائي للزعيم أو انقلاب عسكري على القائد انقلبت خطط التنمية رأسًا على عقب، وتغيرت من نموذج إلى آخر، من التخطيط إلى السوق، ومن الاشتراكية إلى الرأسمالية، ومن القطاع العام إلى القطاع الخاص، ومن حماية الصناعة الوطنية إلى حرية المنافسة في الأسواق، ومن التحالف مع الشرق إلى التحالف مع الغرب، وكما حدث في مصر بعد رحيل عبد الناصر في سبتمبر ١٩٧٠م. والناس في كلتا الحالتين تنفذ تعليمات، وتتبع التوجيهات دون أن يكون لها رأي، سواء في التجربة الأولى أو في التجربة الثانية. فإذا ما أحست بالفرق بين الاثنتين بعد فترة من الزمن، وشعرت بالفرق بين تدعيم المواد الغذائية والإيجارات المنخفضة من لجان الإسكان ومجانية التعليم وحقوق العمال من ناحية وبين الانقلاب إلى السياسات النقيضة في التجربة الثانية برفع الدعم، ونهاية الإيجار وبداية التمليك، وعدم التزام الدولة بعمالة الخريجين، وبداية التعليم الخاص، وبيع القطاع العام وتوفير العمال، قامت بعدة انتفاضات شعبية وفنية تتعلم الدولة منها وترصد مؤشرات الأزمة الاجتماعية أكثر مما تتعلم أحزاب المعارضة منها.

وعادة ما يتم التخطيط برؤية النخب الحاكمة وتنفيذ الطبقات المتوسطة باسم التوحد مع الجماهير والتعبير عن مصالحها. فيتم التركيز على الصناعات الاستهلاكية، وإقامة المراكز الصناعية بجوار المدن الكبرى (حلوان، شبرا الخيمة، العاشر من رمضان … إلخ)، صناعات العربات، والمساكن سابقة التجهيز، والتليفزيونات الملونة، وبناء الطرق السريعة.

وتكون هذه النخب الحاكمة أو المنفذة هي المستفيدة من جزء كبير من المعونات الدولية بعد اقتطاع جزء منها لدراسات الجدوى للموظفين الدوليين. فتتحول المصالح العامة إلى مصالح شخصية. ويتم استبعاد الباحثين الوطنيين المخالفين في الرأي أو المعترضين على طرق التنفيذ.

صحيح أن الطبقة المتوسطة في البلاد النامية ما زالت هي الأداة الرئيسية للتنفيذ، وهي القادرة على التحديث، وهي التي في مركز القيادة وإصدار القرارات التنفيذية. ومع ذلك تظل عيوبها عيوب الطبقة المتوسطة كما هو الحال في الأدبيات الماركسية مثل الانتهازية، والحرص على المنفعة الشخصية من النخب الحاكمة، والنفاق مع الطبقة الدنيا، واختلاف الأقوال عن الأعمال والمكسب من كلا الطبقتين، والتلون مع تغير السياسات إذا ما تغيرت النخب الحاكمة. فهي محافظة إذا كانت النخبة محافظة، وثورية مع الجماهير في لحظات الغضب. تنفذ سياسات النخب وتمتص غضب الجماهير.

ولما كانت أجهزة الدولة هي التي تقوم بالتنفيذ نشأت البيروقراطية، وانتظار التعليمات والتوجيهات من الأعلى إلى الأدنى، وتحقيق كل شيء من أهل الخبرة والاختصاص بناءً على توجيهات الرئيس وبطلب منه وبملاحظاته السديدة وأوامره الرشيدة. فغابت المبادرة الخلاقة من الأطر السياسية أو الأجهزة التنفيذية. كما غابت مشاركة الجماهير في التخطيط والتنفيذ، والنقد والتطوير. غابت المشاركة الشعبية وقل الاقتناع الشعبي العام نظرًا لأزمة الديموقراطية في نظم الحكم. وما دام الشعب لم يؤخذ رأيه في السياسات فمن الطبيعي ألا يشارك في التنفيذ.

فإذا ما قامت أطر الحزب الحاكم وقادة منظمات الشباب بمحاولات لتعبئة الجماهير لصالح مشاريع التنمية القومية مثل السد العالي في مصر أو النهر العظيم في ليبيا لم يخلُ الأمر من طابع تعبوي شعبي على مستوى الخطابة والحماس القولي دون أن يتحول ذلك إلى إنجاز فعلي حقيقي. وغالبًا ما يكون قادة التنظيمات الشعبية موظفين أيديولوجيين في الدولة. يكثرون من الكلام بينما تقل الأفعال. فيصبح الخطاب التنموي الرسمي موضع شك ودون تصديق.

وطالما أن التخطيط مركزي الاتجاه، يتم باسم الدولة ففي الذهن الشعبي أن مال الدولة حلال لأن الدولة تأخذ أكثر مما تعطي. وتنهب أكثر مما تحقق المطالب. وهي مصدر قهر وعدوان على المواطن والحقوق أكثر منها تمثيلًا لمطالب الناس، وأداة لاسترداد حقوقهم المسلوبة. فتنتهز الناس الفرص لتسترد بالسر ما أُخذ منها بالعلن. وتستعيد في الخفاء ما أُخذ منها بالقسر. فيكثر الفساد ونهب المال العام. مما أدى إلى الخسارة الباهظة في شركات القطاع العام، وأصبحت مديونة للبنوك. أصبح مجرد ستار للعمولات، وتنفيذ الخطط من الباطن من الشركات الخاصة مما أعطى الذريعة لنخبة سياسية أخرى باختيارات سياسية مناهضة وتصفيته وبيعه ودون أن يقل الفساد في القطاع الخاص بعد أن ضعفت رقابة الدولة، وزادت البنوك الأجنبية، واتسع نطاق التعامل النقدي الحر دون إشراف من البنك المركزي.

ونظرًا لغياب رقابة الدولة على مظاهر النشاط الاقتصادي الخاص تم تهريب جزء من رءوس الأموال إلى الخارج حتى أصبحت تعادل ثلاثة أضعاف الدخل القومي. وتم تأسيس شركات توظيف الأموال لنهب أموال المستثمرين في الداخل. فنهب المواطنين من المواطنين أخف وطأة من نهب المواطنين من الأجانب. والأقربون أولى بالشفعة.

ونظرًا لسيادة قيم الكسب السريع والاستهلاك، أصبح الغش سائدًا في كل شيء، في الزراعة والصناعة والتجارة دون رقابة من ضمير أو حماية من قانون، وحتى أصبح الاستثناء هو القاعدة.

وبالرغم من بعض الإنجازات الملموسة لسياسات التخطيط مثل انخفاض الأسعار والزيادة النسبية في الأجور، وتحديد إيجار المساكن، ومجانية التعليم إلا أنها اتهمت من المعارضة الدينية في الداخل والخارج بالشيوعية والإلحاد والمادية والتبعية للاتحاد السوفيتي. تنكر وجود الأديان، ولا تؤمن بالله، وتدعو إلى الصراع بين الطبقات. مما اضطر النخب الحاكمة أمام هذه الاتهامات إلى الدفاع عن نفسها باستخدام ثقافات الناس في الجدل الدائر بين النظم التقدمية والنظم الرجعية بأنها اشتراكية تؤمن بالله والسلام الاجتماعي، وتنكر العنف والصراع بين الطبقات.

وظهرت أدبيات الاستهلاك المحلي للدفاع عن سياسات التنمية وتأكيد الخصوصية الثقافية في أدبيات الاشتراكية العربية أو الاشتراكية الإسلامية تفسح أجهزة الإعلام لها مكانًا بارزًا في عصر التجربة الاشتراكية. فما يحدث في مصر وفي الشام والعراق واليمن والجزائر تطبيق عربي للاشتراكية وليس الاشتراكية العلمية، حفاظًا على خصوصيات الثقافة، وإذا كانت الاشتراكية واحدة، وهي الاشتراكية العلمية أو الماركسية فإن ما يحدث في العالم العربي هو التطبيق العربي للاشتراكية طبقًا لظروف كل قطر عربي. ثم تنتهي وتموت في قلوب رجالها وبأقلام محرريها وفي أجهزة الإعلام بمجرد التحول من التجربة الاشتراكية إلى التجربة الرأسمالية. مما يسبب مناعة عند الناس ضد مصداقية الخطاب السياسي فجعلها تتحول إلى الخطاب الإسلامي الذي ينبع من قلوب معتنقيه ومن قاع الثقافة الموروثة.

سادسًا: المعوقات الأيديولوجية في الثقافة التقليدية

نظرًا لعدم ارتباط أيديولوجيات التنمية بالتراث العربي الإسلامي وارتباطها بالمذاهب السياسية والاقتصادية الغربية واستعمال التراث العربي الإسلامي كتبرير لها ليبرالية أم اشتراكية أم رأسمالية ظلت الثقافة الدينية كما تقليدية محافظة كما ورثها الناس منذ ألف عام. منذ قضاء الغزالي على العلوم العقلية لحساب التصوف، ونقده فرق المعارضة، الشيعة والخوارج والمعتزلة لحساب الدولة، دولة نظام الملك في بغداد، ووضع حد للتعددية السياسية لحساب المذهب الواحد في العقيدة، الأشعرية، والمذهب الواحد في الشريعة الشافعية.

ومن سمات هذه المحافظة التي تحولت إلى التيار الرئيسي في الفكر الديني إبان الحكم العثماني وحتى فجر النهضة العربية منذ القرن الماضي التركيز على أهمية العقائد والشعائر والحدود والمؤسسات والغيبيات. تحولت العقائد من كونها وسائل لتحقيق غايات إلى حقائق بذاتها مستقلة عن العالم. «الله واحد» مجرد قضية عددية لا مردود لها في حياة الفرد والجماعة ومسار التاريخ، مجرد تمتمة بالشفتين لا تؤثر في حياة الشعور، ولا تعكس التوحيد في وحدة القول والعمل، الفكر والوجدان، الداخل والخارج كي يصبح توحيد الشخصية أو توحيد المجتمع بلا طبقات اجتماعية أو توحيد الأجناس، والأقوام والشعوب بلا تفرقة عنصرية، وأصبحت العقائد بديلًا عن العلم تعطي تفسيرًا لكل شيء، وحوت كل شيء. كما انغلقت على نفسها وتكلست وتحولت إلى غطاء للجهل وتستر عليه.

وتقلص العمل في أداء الشعائر، وهزل العمل الصالح، وانزوى العمل المنتج، وتحول العمل العام إلى مجرد حركات وطقوس، مجرد أداء للواجب الشكلي بلا مضمون، وغالبًا ما يصبح غطاءً وستارًا لأعمال أخرى منافية للشريعة مثل الاستغلال والغش والتحايل والتهرب من الضرائب واستيلاء على الأموال كما حدث في شركات توظيف الأموال أخيرًا في مصر.

وأصبحت الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية أداة للردع والتخويف دون معرفة لعلل الأحكام. فمن سرق عن جوع أو بطالة أو لأن السرقة أصبحت سلوكًا اجتماعيًّا عامًّا أو لأنه سرق القليل في مجتمع يسرق الكثير فلا يطبق الحد. فالحدود نتائج لا مقدمات، وواجبات بعد حقوق. فلا توضع العربة أمام الحصان.

ومن مظاهر المحافظة أيضًا تغليب عقيدة القضاء والقدر على حرية الأفعال، وتحول القضاء والقدر إلى استسلام وسلبية واستكانة مما دفع الكواكبي (ت ١٩٠٢م) إلى كتابة «أم القرى» لمعرفة أسباب الفتور في الأمة الإسلامية ولامبالاة الناس وغياب حماسهم. وقد دفع ذلك أيضًا محمد إقبال (ت ١٩٣٨م) إلى صياغة فلسفة في الحياة تقوم على الإبداع والانطلاق والتغيير والتجديد والإحساس بالرسالة والأمانة. وكان الأفغاني (ت ١٨٩٧م) رائد الحركة الإصلاحية الحديث قد عالج القضية في رسالة «القضاء والقدر»، ناقدًا سوء تأويله ومقدمًا تأويلًا جديدًا، يبعث على الحركة والنشاط ويدفع إلى الإقدام. فإذا كان لكل أجل كتاب فلماذا لا يستشهد الشهيد، ويقبل على الموت، مستشهدًا بقول الشاعر:

وإذا كان من الموت بد
فمن العجز أن تكون جبانًا
وإذا كان الأشعري قد قال بالكسب، إن الإنسان يكسب أفعاله المشروطة بقدرة الله الذي يخلق له الاستطاعة ساعة الفعل، لا قبلها ولا بعدها، فقد تحول الكسب بعد ذلك إلى عقيدة القضاء والقدر الأولى عند الجهمية. وبعدت عن خلق الأفعال وحرية الاختيار عند المعتزلة. وأصبحت الآجال والأرزاق والأسعار كلها من الله. فالله هو الذي يحدد الآجال. وكل إنسان ميت بأجله. وبالتالي قل الاهتمام بعلل الموت من الأمراض المستعصية وحوادث الطرق حيث تقع المسئولية على البشر. وجعلت تحديد الأسعار من الله. وكأن الله ينزل الأسواق، وليست قوانين العرض والطلب، والمضاربات والمزايدات، والاحتكارات ومظاهر الاستغلال. والصنعة والتسويق. وجعلت الأرزاق أيضًا من الله وليست من سياسات الأجور ومقدار النشاط والمشاركة في الأرباح، وكل ما أُتي الإنسان فهو رزق بصرف النظر عما إذا كان حلالًا أم حرامًا. وجعل الفقر والغنى من الله. فكل مولود يولد ويكتب معه رزقه، ويساء تأويل وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا. و«السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه».٥٤

وقد تحولت عقيدة القضاء والقدر إلى ثقافة شعبية تجلت في الأمثال العامية وكأنه لا توجد علاقة بين الفعل ونتائجه، بين العلة والمعلول. فالإنسان يعتمد على بركة الله دون فعل، وينتظر الفرج دون فعل، وحتى ولو وقع حريق فالله مطفئه. فلا هرب من قضاء الله. كل شيء قدر من قبل ولا يغني حذر من قدر. ونتيجة لذلك لا أمل في الحراك الاجتماعي ما دام كل شيء مقدرًا سلفًا. الفقير فقير والغني غني، والمظلوم مظلوم، والظالم ظالم، وكل رزق مقسوم، وكل حظ بخت، ورب صدفة خير من ألف ميعاد. والحقيقة أن العاجز في التدبير هو الذي يحيل على المقادير، والقادر على الفعل لا يلجأ إلى القدر. فالقدر تبرير للعجز، والقضاء غطاء للكسل.

وورثت الثقافة الشعبية من التراث العربي الإسلامي القديم التصور الهرمي للعالم الذي أفرزه الفلاسفة، خاصة الفارابي، وهو من آثار نظرية الفيض في الثقافة القديمة ظانين أنه أفضل تصور يعبر عن الإيمان بالله الفياض وصلته بالعالم. وهو تصور يرضي الإحساس الديني العام بالفرق بين الأعلى والأدنى، بين الأشرف والأخس، بين الأكمل والأنقص. تستغله السلطة كي تتوحد مع الأعلى للسيطرة على الأدنى، وتتربع على القمة لاحتواء القاعدة، ويرضي أشواق الناس وإحساسهم بالرضا والاستراحة في قاعدة الهرم متعبدة القمة ومعظمة إياها. تعرض ضنكها بالتأمل في عظمته ورفعته إلى حد التقديس ثم التأليه.

وقد انعكس هذا التصور الهرمي على المجتمع الطبقي: والطبقات أبدية لا يمكن تحريكها لا إلى أعلى ولا إلى أسفل، فالغني يظل غنيًّا، والفقير يظل فقيرًا، والقوي يبقى قويًّا، والضعيف يبقى ضعيفًا. والناس درجات، وكل فرد يعرف درجته ويعيش فيها سعيدًا، لا ينظر إلى أعلى صعودًا بل ينظر إلى أسفل حتى يرضى. ولا سبيل إلى الحركة بين الطبقات إلا بالواسطة والهدايا والمنافع المتبادلة.

وامتد هذا التصور الهرمي للعالم ليشمل كل جوانب الحياة: الله والكون، النفس والبدن، العمل والنظر، الرئيس والمدينة، فالبنية واحدة، الأعلى يسيطر على الأدنى، والأدنى يطيع الأعلى. والخطورة سيادة هذه البنية على النظام الاجتماعي والسياسي. ففي القمة يوجد الأمير. وتحته تتناقص الدرجات تباعًا حتى الوصول إلى القاعدة، من الوزراء والعلماء والقضاة والقواد وكبار رجال الدولة حتى العمال والفلاحين والصيادين. ولو خرج جزء من القاعدة على القمة فإنه يستحسن بتره حتى يبقى النظام، بتر العضو حتى يبرأ الجسد كله. فلا معارضة في المدينة. والكل ميسر لما خلق له. ولا تغير اجتماعي في النظام. فالانسجام أبقى من التنافر، والتآلف أخلد من الصراع.٥٥
وقد ظهر كثير من الأمثال العامية للإبقاء على الوضع الاجتماعي والثبات الاجتماعي (الفقير يظل فقيرًا، والغني يبقى غنيًّا)، تؤيد الفقر والقناعة والفلس والشبع والعري، وتدين الرقي الاجتماعي، وتبين أنه لا فائدة من التغير الاجتماعي. فالفلاح لا يفلح، والأوضاع أبدية لا تتغير، والمتعوس يظل متعوسًا، ولا مساواة بين الناس إلا في الموت.٥٦

وهذا هو السبب الثقافي لسيادة نظم التسلط والفرد الواحد، نظرًا لقمة الهرم وسيادة البيروقراطية في جهاز الدولة، ونظرًا للتدرج من القمة إلى القاعدة، وسيطرة الأعلى على الأدنى. وهو السبب الذي يمنع كل أحزاب المعارضة العلمانية من التأثير في الجماهير ذات الثقافة المحافظة. وهو السبب في خوف الأنظمة السياسية المحافظة، التي تجد دعامتها في الثقافة الشعبية المحافظة التي يروجها رجال الدين في الإعلام، وتفضيلها على الثقافة الدينية التحررية التي تدافع عن نفسها بنفس السلاح الذي يستعمل ضدها كأداة للقهر والسيطرة. وهذا ما أكدته بعض الأمثال العامية في التوحيد بين الله والحاكم. فكلاهما سلطة. ولا فرق بين عبادة الله والخوف من السلطان، وكلاهما يجب له السمع والطاعة، وكلاهما كامل، له صفات الكمال ومنزه عن صفات النقص، وكلاهما يعد ويتوعد، يثيب ويعاقب. مثال ذلك: «ارقص للقرد في دولته»، فالناس على دين ملوكهم، يصبح الإنسان عبدًا للسلطان إذا زاد رزقه وغمره بالمناصب والثروة، «من زادك زيده واجعل أولادك عبيده».

وقد حاولت الثقافة الدينية المحافظة وممثليها من العلماء العاملين بالسعودية الاعتماد على هذه الثقافة الموروثة للحد من النزعة الاجتماعية في مفاهيم العلم والعمل والتكافل الاجتماعي باسم العداء للاشتراكية المادية والشيوعية الملحدة معتمدين كالعادة على انتقاء النصوص المؤيدة لموقفهم وإساءة تأويلها لصالحهم واستبعاد النصوص المعارضة وإساءة تأويلها لصالحهم كذلك. فالملكية العامة للأموال خاصة الأرض ادعاء شيوعي. فقد وضع الله الأرض للأنام ومِن ثَم لا تملكها إلا الحكومة. يورثها الله لمن يشاء من عباده الصالحين وليس لعامة الناس. يسيئون تأويل النصوص المؤيدة للملكية العامة. فمثلًا يعني حديث «من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه» على أنه مجرد تشجيع وليس قاعدة في الملكية العامة ويستثنى من حديث «الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار». كما يساء تأويل حديث «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ولا نورث» بأن ذلك من خصائص النبوة وليس قاعدة تبنى عليها الملكية العامة. وقد رد أبو الأعلى المودودي على حجج القرآن في الملكية العامة. وفهم آية كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ تحت مظلة الميراث الذي يسمح بتركيز الأموال في الأسرة الواحدة. وهي كلها مواقف رأسمالية مسبقة.٥٧

وينتهي الفكر الديني المحافظ على يد ممثليه من العلماء إلى أن ملكية الأموال والأرض في الإسلام ليست مشتركة. والمبادئ الإسلامية تحقق أهدافًا اجتماعية أوسع مما تنادي به الشيوعية. ولا يدل القرآن والحديث على أن ملكية الأرض ملكية مشتركة. والغرض الذي يريد الشيوعيون الوصول إليه بتطبيق النظرية الشيوعية في الملكية المشتركة للأموال ومنها الأرض يمكن تحقيقه بالتفسير الصحيح لآيات القرآن والمبادئ العامة للإسلام. ولا فرق بين تحديد الملكية والتأميم في أن كليهما قيد على الملكية. وهو معارض للقرآن والحديث ولأفعال السلف مثل وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا. ويكفي لتحقيق مبادئ الإسلام الزكاة والتكافل الاجتماعي. لم يضع الإسلام حدًّا على نوع من أنواع الملكية من حيث الكم. وجعل الملكية الفردية للأرض الصورة الفطرية الصحيحة. ومِن ثَم فإن تحديد الملكية تعصب يحرمه الإسلام أو تحجير ما أنزل الله به من سلطان. ولم يحدث في الإسلام أن أخذ مال الغني وأعطى للفقير بغير رضاه.

وبسبب هذه الثقافة الدينية المحافظة الموروثة سادت أحادية الطرف، والاتجاه الواحد، من أعلى إلى أدنى، دون حركة مقابلة من أدنى إلى أعلى. وساد الرأي الواحد، وضاعت التعددية، وغاب التقابل بين الرأي والرأي الآخر. فعم التقليد والتبعية، وساد الخوف على الأقلية، وعم النفاق. ولم يعد حق الاختلاف وشرعيته موجودًا. وأكد على ذلك حديث الفرقة الناجية الذي يجعل الحق من جانب واحد والباطل ما عداه. الناجية فرقة واحدة، وكل ما دونها هالك. وهو ما يخالف روح الإسلام، أن لكل مجتهد نصيبًا، وأن الأمة لا تجتمع على الضلالة، وأن الكل راد ومردود عليه.

لقد انتهت التعددية في القرن الخامس الهجري عندما ظن الغزالي أن التعددية وقوع في نسبية المعرفة والتي تؤدي إلى الشك، ثم إلى إنكار الحقائق. واختار الأشعرية في العقائد، والشافعية في الفقه، أعطى الأشعرية كأيديولوجية للقوة للسلطان، وأعطى التصوف كأيديولوجية للطاعة للعامة. وكفَّر المعارضين وأخرجهم من إجماع الأمة. وهو أول من استعمل حديث الفرقة الناجية تدعيمًا للدولة، وتكفيرًا لخصوصها، وجعله في أصول العقائد، كملحق في «الاقتصاد في الاعتقاد» بعنوان «فيما يجب تكفيره من الفرق».٥٨

وقد سيطرت هذه الثقافة الآن على النظم السياسية الممثلة في حكم الفرد المطلق ونظام الحزب الواحد، وضعف المعارضة، تجريحًا ثم تجريمًا. فتشتت القوى الاجتماعية والسياسية، وتبعثرت وانعزلت. وأصبح الحاكم وحيدًا، يبحث عن أحلاف له في الخارج بعد أن فقد شعبيته في الداخل. وأصبح النظام السياسي وحيدًا بعد أن انعزلت عنه جماهيره. يعتمد على الجيش والشرطة ضد الجماعات السرية التي عادة ما تتهم بالتخطيط لتدبير انقلاب في نظام الحكم في المستقبل القريب أو البعيد.

وقد ورثت الثقافة الشعبية مفهومًا سلبيًّا للطبيعة. فقد أتت من عدم، وتنتهي إلى عدم. ليس لها قوامها من ذاتها. هي طبيعة حادثة بتعبير المتكلمين القدماء. يجوز أن يكون كل شيء فيها على خلاف ما هو عليه. وأنكر الأشاعرة وفي مقدمتهم الغزالي قانون السببية بأن الله هو الفاعل الحق وغيره فاعل بالمجاز. فهو سبب الاحتراق وليس النار. الطبيعة متلقية وليست فاعلة، فانية وليست باقية، لا قوام لها من ذاتها. فكيف تكون فيها تنمية مستدامة ولا دوام إلا لله؟ كيف يدوم شيء في الطبيعة وكل شيء معلق بأمره ومشروط بمشيئته؟ كما يُساء تأويل آية كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ في الثقافة الشعبية واستقر عبر تراث السلطة.

الطبيعة ما هي إلا مرآة تعكس ما بعد الطبيعة، وأداة لاكتشاف الوجود الإلهي. فالحادث يحيل إلى القديم، والممكن ينتهي إلى الواجب، والطبيعيات مقدمة للإلهيات أو هي إلهيات مقلوبة إلى أسفل كما أن الإلهيات طبيعيات مقلوبة إلى أعلى. الطبيعة ما هي إلا دليل على مدلول، آية على صانع، وسيلة لغاية، أداة لتحقيق شيء وليس موضوعًا يتحقق. كل شيء يأتيها من الخارج، الوجود والقانون والفاعلية والأثر. ولا فرق في الوجدان الشعبي بين أن يأتي من الله أو من الساحر أو من القاهر أو من المستعمر ما دام المصدر واحدًا.

أصبحت الطبيعة في الوجدان الشعبي معادلة للمادة التي ينبغي التطهر منها والزهد فيها. وسادت ثنائيات المادة والصورة، البدن والنفس، المتحرك والثابت، الكم والكيف، الدنيا والآخرة، تجعل السلب في طرف الدنيا، والإيجاب في طرف الآخرة. فأدار الناس ظهورهم إلى الدنيا واستقبلوا الآخرة قبل الأوان، فغلب التصوف على الثقافة الشعبية. وأوحت للناس أن الإنسان ما هو إلا عابر سبيل على راحلة في هذه الدنيا، وازدهرت مواويل مسافر، راحل، غريب الدار حتى سقط العالم وتسرب إلى أيدي الغرباء.٥٩
وقد رويت أحاديث ضعيفة تغذي هذه الثقافة السلبية تجاه التنمية، ظاهرها النهي عن الزراعة مثل «لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا». ولو كان صحيحًا لكان معناه عدم الارتكان إلى الدنيا وترك الجهاد والخوف على المال. وهو ما دفع عمر إلى جعل أرض السواد ملكية عامة دون تمليكها للفاتحين حتى لا يتخلفوا عن الجهاد. وهو نفس المعنى المقصود من حديث «جعل رزق هذه الأمة في سنابك خيلها وأزجة رماحها ما لم يزرعوا. فإن زرعوا كانوا من الناس» حرصًا على الجهاد، ويمكن الجمع بين الاثنين في المزارع الجماعية للجنود، قرى في السلم وثغور في الحرب٦٠ ويروى أيضًا أن الرسول لما رأى محراثًا قال «ما دخل هذا بيت قوم إلا زالوا». وهو حديث ضعيف بكل مقاييس العقل والنقل. فالقرآن يمدح داود لأنه استطاع تطويع الحديد وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ، ويثني على الحديد ومنافعه فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ.
وغابت مفاهيم التنمية والتغير والتقدم والتاريخ نظرًا لسيادة التصور الرأسي للعالم، وتحديد علاقة الأطراف بين الأعلى والأدنى. فالتقدم ارتفاع واستعلاء وصعود، والتأخر انهيار ونزول إما زهدًا في العالم وترفعًا عليه أو إقبالًا عليه ونهلًا منه. ولا ينشأ التقدم إلا في ثقافة تقوم على تصور أفقي للعالم. تجعل العلاقة بين الأطراف بين الأمام والخلف وليس بين الأعلى والأدنى. وتتأسس في الوعي التاريخي، وتضع الوعي في حركة الزمان والتاريخ. وقد قامت أيديولوجيات التنمية في الغرب أساسًا على مفهوم التقدم وعلى فلسفة التطور والتنمية والتغيير Developmentalism. ثم انتقلت إلى مجتمعات تخلو من هذه المفاهيم بوضوح. فسهل حصارها وعزلها ثم تهميشها وإزاحتها.

وفي نفس الوقت أصبحت الأيديولوجيات السياسية الوافدة في الذهن الشعبي أقرب إلى الدعاية إلى النخبة السياسية منها إلى معتقدات في الثقافة الشعبية. تروج لها أجهزة الإعلام وأدبيات وزارة الثقافة ومصالح الحكومة والعلاقات العامة. والشعوب بطبيعتها قد حصنت ضد الدعاية نظرًا لأنها تعلم أنها لا تقول الحقيقة. فالهزيمة العسكرية في الخطاب الإعلامي نصر معنوي للإرادة. والجوع الجسدي شبع روحي. وغلاء الأسعار إصلاح اقتصادي. والأزمة السياسية فرج قريب. وارتبط الناس بالإذاعات والصحف الأجنبية تستقي منها الأخبار، وتعرف منها ما يدور في مجتمعاتها. فالوعي الحقيقي قادر على إزاحة الوعي الزائف. وتنفذ الشائعات بين الخطاب الدعائي الرسمي المزيف والخطاب الخارجي الأجنبي الحقيقي. فتصبح الشائعة حقيقة، والحقيقة شائعة. وتتحول الثقافة إلى دعاية، والإعلام إلى إعلان. ولا يعود هناك فرق بين الثقافة والإعلام، بين كليات الجامعة وأجهزة الإعلام، بين وزارة الثقافة ووزارة الإعلام.

ويردد الشباب الشعارات، وتملأ الشوارع كالطبل الأجوف: العمل حق، العمل شرف، العمل واجب، العمل حياة، الاشتراكية كفاية وعدل، الاتحاد والنظام والعمل، الحرية والاشتراكية والوحدة، وبين الشعار والواقع مسافة كبيرة. وفي ثقافة تقوم على القدوة والأسوة والسنة والنموذج بان للناس اختلاف القول عن العمل عند النخبة السياسية. وظهر المليونير الاشتراكي، والباشا الماركسي، والدكتاتور الليبرالي. فالاشتراكية «للناس اللي فوق»، والقومية سلوك القطري، والليبرالية خطاب المتسلط. ومما ساعد الناس على إعطاء ظهورهم لعمليات التنمية هذا الإحساس بالتناقض بين الأقوال والأفعال عند النخب الحاكمة خاصة وأن الأمثال العامية مليئة بالتهكم على ذلك مثل «أسمع كلامك يعجبني أشوف أعمالك أستعجب». وهو ما عبر عنه أيضًا المصلحون بقولهم «ما أكثر القوام وأقل العمل».٦١
غاب إذن إعادة بناء الموروث الثقافي بحيث يكون سندًا لأيديولوجيات التنمية التي ظلت وافدة على السطح والثقافة الموروثة تسري في الأعماق قابعة فيها ومترصدة بالوافد لإزاحته واستبعاده بعد حصاره وعزله. فلما انهارت تجارب التنمية سواء في التجربة الاشتراكية في الستينيات أو في التجربة الرأسمالية منذ السبعينيات وحتى الآن برزت المحافظة الدينية التقليدية تعرض نفسها كبديل عن البديلين المنهارين. فظهرت شعارات: «الإسلام هو الحل»، «الإسلام هو البديل». وبدلًا من النخب الحاكمة التي لم يتغير رجالها في كلتا الحالتين ظهر شعار «الحاكمية لله». ولما كان الثأر قائمًا بين أيديولوجيات التنمية، الاشتراكية والرأسمالية، وبين الثقافة الموروثة بعد أن أزاحت أيديولوجيات التنمية مناوئها عن السلطة بدأ الصراع الدموي بين الاثنين كما هو الحال في الجزائر ومصر.٦٢

سابعًا: المقومات التراثية لأيديولوجيات التنمية

بالرغم من أن مفاهيم العلم والعمل لفظًّا ومضمونًا، والتكافل الاجتماعي مضمونًا تدخل ضمن العناصر المكونة لأيديولوجيات التنمية إلا أنها مغلقة ومطوية في الثقافة التقليدية التي تمنعها من الفاعلية والأثر. لذلك يمكن تحريرها منها وإدخالها في ثقافة عربية إسلامية أكثر تحررًا حتى يمكن أن تظهر فاعليتها مع مجموعة أخرى من المفاهيم المكونة لأيديولوجيات التنمية يمكن أن تصبح مع مزيد من الإحكام النظري والعملي أيديولوجية عربية إسلامية متكاملة للتنمية تملأ الفراغ الناشئ بين الثقافة التقليدية الموروثة والأيديولوجيات الغربية للتنمية.

فإذا كانت أيديولوجيات التنمية تقوم على مفهوم التقدم، ونظرًا لغياب هذا المفهوم بالمعنى الدقيق وعدم حضوره حضورًا مباشرًا إلا أنه يمكن البحث عن جذوره وعن عناصر مكونة له ولو بطريقة مباشرة في الموروث الثقافي. فإذا كان الوحي نزل على مراحل، وساهم في تطور الوعي الإنساني وتحريره من أسر الطبيعة وتحكم البشر، مرحلة مرحلة، فإن غاية الوحي هو التقدم، تقدم الوعي، قبل تنمية الموارد الطبيعية. وإذا كانت المرحلة الأخيرة أيضًا تضمنت التدرج في التشريع كما هو معروف في الناسخ والمنسوخ، من الأخف إلى الأثقل، أو من الأثقل إلى الأخف فإن الوحي يكون قد أخذ التطور في الاعتبار. وهذه هي الحكمة من نزول الوحي منجمًا ومفرقًا كي يقرؤه الناس على مهل لتدبر أحكامه وصلتها بالزمان، ولتثبيت الفؤاد، وبلورة الوعي بالتاريخ٦٣ بل إن الوحي يضع سننًا للكون، وقانونًا لقيام المجتمعات وانهيارها وتقدم التاريخ العام، وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ من أجل أن يعي الإنسان قانون التاريخ ويسير على هداه. وتلك هي الغاية من قصص الأنبياء التي بالرغم من تواليها الزماني تخضع لبنية واحدة، النهضة والسقوط بسبب ترك التوحيد العملي، والخوف من الحكام أو نفاقهم، والركون إلى الدنيا، وضياع القضية، فالتاريخ مسرح كبير عبر الزمان تدور فيه أفعال البشر.

هذا التقدم مرهون بصراع اجتماعي. فالتقدم معركة سياسية، وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ. والحراك الاجتماعي شرط الصلاح، وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ. فالصراع الاجتماعي وسيلة لتحقيق الخير ودفع الشر. بل إن لفظي التقدم والتأخر لفظان قرآنيان لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ من أجل المنافسة في الخير وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ.

بل إن التاريخ كله تقدم، من الخلق حتى البعث، من الماضي إلى المستقبل. والإنسان في الحاضر بالإيمان والعمل، بالفرد والجماعة، هو القادر على هذا التحول. فهو نقطة ارتكاز الوعي التاريخي من الماضي إلى الحاضر، ومن الحاضر إلى المستقبل. والأمل في حياة بعد الموت، جزءًا على العمل الصالح يعطي تفاؤلًا بالمستقبل، والتفاؤل أحد مكونات التقدم، وهو أساس الوعي الديني وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ، قُلْ يَا عِبَادِيَ الذينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ.

وإذا كانت أيديولوجية التنمية تقوم على العقلانية والترشيد كأحد مظاهر العلم في الطبيعة من أجل السيطرة عليها فإنه يمكن الاعتماد على هذا التيار في التراث القديم كما بدأ عند المعتزلة وابن رشد. وقد يساعد الاعتماد على العقل عملية التنمية في الاعتماد على المعقول دون المنقول سواء كان من القدماء أو المحدثين، من الموروث أو الوافد. ويتجلى العقل عند ابن رشد في البرهان. فالحكمة هو النظر في الأشياء كما تقتضيه طبيعة البرهان. والقول البرهاني هو القول العلمي الذي يتجاوز القول الجدلي كما هو الحال في نظريات التنمية وتضاربها بين اشتراكية ورأسمالية. كما يتجاوز القول الخطابي مثل الخطاب السياسي للجماهير والذي يعد في المستقبل أكثر مما يحقق في الحاضر. كما أن النظر واجب بالشرع. بل هو أول الواجبات.

كما وضع القدماء أصول علم الفقه بأكمله من أجل البحث عن العلل المؤثرة في الأفعال الإنسانية، وهي التي يتحقق فيها العلم والعمل، العلم عن طريق القياس الفقهي الذي يجمع بين استنباط العلة من الأصل واستقرائها في الفرع، والتمييز بين أنواع العلل، أقواها، وهي العلة المؤثرة، وأضعفها وهي العلة المناسبة أو العلة الملائمة. فبالإضافة إلى صيغ الأمر والنهي، «افعل» أو «لا تفعل» هناك المكونات المادية للفعل بما في ذلك الدوافع والغايات والإمكانيات.

ويجتمع العلم والعمل معًا في مفهوم التسخير، وهو مفهوم قرآني، تسخير الله الطبيعة لصالح الإنسان، وجعلها ميدانًا لفعله ونشاطه عن طريق البحث عن عللها والسيطرة عليها والتحكم فيها لإعمار الأرض. فقد وضع كل شيء لصالح الإنسان على نحو مبدئي من أجل إفساح المجال لتحقيق رسالة الإنسان في الطبيعة وعلى الأرض هادفًا إلى السماء. وقد ورد لفظ «سخر» في القرآن (٢٢ مرة) بمعنى تسخير الله الطبيعة لصالح الإنسان، تسخير الشمس والقمر والنجوم والسحاب، والليل والنهار، وما في السموات من طير وما في الأرض من أنهار وبحار وفلك وجبال، بل وتسخير بدن الإنسان له.٦٤

والإنسان سيد الكون، خُلق كل شيء لأجله. كُرم في البر والبحر وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وجعله الله خليفة له في الأرض، وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ. والإنسان صاحب رسالة ومحقق أمانة أخذها على عاتقه بحرية تامة. لذلك كان أعظم من السموات والأرض والجبال التي أبين يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان. رسالته إعمار الأرض هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا، ينحت في الجبال بيوتًا ويأخذ من الإظعان خيمًا، والخيل والبغال والحمير للركوب. لذلك جاءت الدعوة إلى العمل وَقُلِ اعْمَلُوا، وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ. وهي نفس الدعوى إلى الكدح والعمل في الأرض والنضال فيها، يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ.

والأرض في القرآن الكريم هي الأرض الخضراء التي ينزل عليها الماء فتهتز وتربو وتنبت من كل زوج بهيج، وليست الأرض الصفراء، الهشيم الذي تذروه الرياح. وهي الأرض المملوءة بالنبات والحيوان والطعام والشراب وكل مقومات الحياة للإنسان، وبها من المعادن للزينة والصناعة. ولكنها في نفس الوقت للسعي والكد والكدح، وللسكن والمستقر. هي فراش للإنسان وبساط له يمشي في مناكبها. لا يتثاقل فيها ولا يخلد لها، بل يسعى ويتجاوز. فهو خليفة فيها. لا يعلو ولا يستكبر بل يجاهد لتحقيق الرسالة. فهو ليس فيها عبثًا. يصلح فيها ولا يفسد، يهاجر منها ولا يعود حتى يتمكن فيها ويرثها العباد المتقون.

وهي نفس المعاني التي في السنة؛ إذ شجع الرسول على زراعة الأرض البور «من أحيا أرضًا ميتة فله رضيتها وليس لعرق ظالم حق». ولما كانت الأرض في حاجة إلى مياه تحييها فإن «من احتقر بئرًا فله حريمها أربعون ذراعًا». ومن زرع زرعًا أو غرس غرسًا فأكل منه إنسان أو سبع أو طائر فهو له صدقة الطعام. في الأرض والسماء والبحر والأنهار، حبوب وأسماك ولحم طري. فالأرض خيرة جوادة والإنسان يقابل الخير بالخير، فلاحتها وريها وزراعتها وعمارها وإصلاحها.٦٥

بل ويذكر القرآن الحديد والمعادن. فالحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ في الحرب والسلم. كما استطاع داود إذابته وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ. واستعمله الإسكندر أيضًا، وأذاب تراب الحديد آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا. والنحاس المحمي بالنار أيضًا وسيلة للعذاب يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ.

وفي نفس الوقت تزدهر صورة التجارة في القرآن بالرغم مما يعاب في التراث الفقهي القديم وعند ابن خلدون على أخلاق التجار. بل إن صورة التجارة الرابحة استعملت لضرب المثل بالعلاقة بين الدنيا والآخرة. فقد ورد لفظ «تجارة» في القرآن (٩ مرات) بمعنى إيجابي، وهي التجارة الحاضرة عن تراضٍ دون أن تلهي عن ذكر الله أو تبور. ليس القصد منها الربح بل توفير الخدمات العامة. لذلك لم يذكر لفظ «ربح» في القرآن إلا مرة واحدة وبمعنى سلبي وهو عدم الربح أُولَئِكَ الذينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ. في حين ورد لفظ «كسب» (٦٧ مرة) وتعني كسب الأفعال بناءً على المسئولية الفردية والجماعية وليس كسب المال.

ويساند هذا التصور العام للعمل في الأرض والزراعة والصناعة والتجارة كقطاعات للتنمية نظام سياسي يقوم على النصيحة لأولى الأمر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهي الرقابة الرسمية والشعبية على مظاهر النشاط الاقتصادي. كما تستطيع الشورى وعدم التفرد بالرأي وإسناد الأمر لأهله المساهمة في المشاركة الشعبية في التنمية والتقليل من مخاطر الانفراد بالرأي وإصدار القرار من غير ذوي الخبرة، وكما هو معروف من الآيات القرآنية الشهيرة عن الشورى مثل وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ، وكقول الرسول «أشيروا عليَّ أيها الناس».

إن مفاهيم العلم والعمل والتكافل الاجتماعي مفاهيم تراثية، منقولة من القدماء دون توظيفها في تجارب التنمية المعاصرة التي يغلب عليها المفاهيم الوافدة الموازية. ويظل الفكر العربي المعاصر حائرًا بين المصدرين المتصارعين، وقد تكون المعاني واحدة. إنما الصراع في حقيقته صراع على السلطة السياسية من أجل الحكم المطلق سواء من هذا الفريق أو من ذلك الفريق. وهنا تبرز أهمية الحوار الوطني من أجل توحيد الخطابين في الفكر العربي المعاصر، الإسلامي القديم والعلماني المعاصر، من أجل صياغة خطاب وطني واحد لبرنامج تنموي وطني موحد بصرف النظر عن الأطر النظرية. فقد تكون هذه الأطر متعددة نظرًا ولكنها متفقة عملًا على خطة تنموية واحدة. ففي العمل يتوحد النظر، وفي التكافل الاجتماعي تظهر وحدة الأمة، بصرف النظر عن تعدديتها النظرية.

١  نُشر هذا البحث ضمن سلسلة دراسات التنمية البشرية رقم (٩)، اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، الأمم المتحدة، نيويورك، ١٩٩٨م.
٢  قمنا من قبل بعديد من الدراسات الوصفية مستعملين هذا المنهج في «الدين والثورة في مصر» ج٣ «الدين والتنمية القومية». مدبولي، القاهرة، ١٩٨٩م. خاصة، «الدين والتنمية القومية في مصر»، ص٤٣–٤٢، «دور الدين في معارك التنمية»، ص٤٣–٢١٠، «أثر العامل الديني على توزيع الدخل القومي في مصر»، ص٢١١–٢٨٨، «معارك الدين والتنمية»، ص٢٨٩–٣١٢، «مراجعة وتقرير»، ص٢١٣–٣٢٣.
٣  انظر دراستنا «المال في القرآن»، «الجهاد»، تحليل لفظي من القرآن في «الدين والثورة في مصر»، ج٧، اليمين واليسار في الفكر الديني، ص١٢٠–١٦٢، ص١٧٨–١٨٣.
٤  جمال الدين أبو بكر الخوارزمي: مفيد العلوم ومبيد الهموم، دار الكتب العربية الكبرى، مصر، ١٣٣٠ﻫ.
٥  وقد ذكر لفظ العلم ومشتقاته في القرآن (٧٧٩ مرة) في عدة معانٍ، على النحو التالي طبقًا لتحليل المضمون من ناحية أشكال اللفظ:
• ورود اللفظ باعتباره فعلًا (٤٢٥ مرة) أكثر من وروده اسمًا (٣٥٤ مرة) مما يدل على أن العلم فعل التعليم والتعليم وليس موضوع العلم، وأنه ممارسة فعلية أكثر منه نتيجة محسوسة. فالعلم تربية وعملية ذاتية أي الوعي بالعلم. وفي استعمال اللفظ كفعل يظهر الزمن المضارع (٣٤٧ مرة) أكثر من الماضي (٣٥) في حين يرد الزمن المستقبل بصورة أقل (١٠). فالعلم زمن متصل، حقيقة ثابتة. ولذلك ورد في صيغة المضارع أكثر.
• ورد فعل العلم في الصيغة الخبرية (٧٤٨ مرة) وفي صيغة الأمر (٣١)، مما يدل على أن العلم حقيقة واقعة ولا تؤمر. وهو فعل إرادي حر من اختيار الذات أكثر منه أمر تكليف.
• بالنسبة للضمائر في الفعل الماضي يبرز ضمير المتكلم المفرد (٣) والجمع (٦) وضمير المخاطب المفرد (٤) والجمع (٦) وضمير الغائب المفرد (١٣) والجمع (٢). فالمتكلم الجمع أكثر من المفرد.
• والمخاطب الجمع أكثر من المفرد مما يدل على أن العلم فعل جماعي. أما ضمير الغائب المفرد فإنه يجمع الجميع وهم جمهور العلماء. وبالنسبة للضمائر في الأسماء فإن اللفظ لا يذكر إلا مرتين في المخاطب الجمع والغائب المفرد مما يدل على أن المهم هو العلم كفعل وليس المعلوم كشيء، وأن العلم حركة ذاتية قبل أن يتجه نحو موضوع. فالعلم هو العالم قبل أن يكون هو المعلوم.
• وبالنسبة إلى المضارع يرد المتكلم المفرد (١١) والجمع (١٣) والمخاطب المفرد (١٤) والجمع (٧٢) والغائب المفرد (١١٦) والجمع (٩٠). فالعلم للغائب أكثر مما هو للمتكلم والمخاطب، فعل جماعي كما أنه فعل فردي. وبالنسبة إلى الضمائر في المضارع فإنها قليلة (١٤) مما يدل على أن فعل العلم أهم من الشيء المعلوم.
• يرد فعل «علم» كفعل متعدٍّ (٤٣ مرة) مع كل الضمائر مما يدل على أن التعليم فعل متبادل. وفي كل الأزمنة، الماضي والمضارع، وفي المبني للمعلوم والمبني للمجهول للعالم والمتعلم.
• أما بالنسبة للأسماء فإن لفظ «عليم» هو أكثر الأسماء شيوعًا (١٦٢) ثم لفظ العلم (١٠٥) ثم أفعل التفضيل أعلم (٤٩) مما يدل على أهمية التفاضل في العلم. ثم يرد اسم فعل «عالم» (٢٠) مفردًا وجمعًا «عالمون» و«علماء». ثم يرد لفظ المعلوم مفردًا (١١) وجمعًا (٢) ثم اسم علَّام (٤) ومعلم (١). فالصفة عليم أكثر من العلم المجرد بلا صفة. العلم صفة للنفس، حالة للذات.
• وبالنسبة إلى الضمائر يذكر العلم مجردًا منها (٩٤). ولا يضاف إلا إلى الضمير الغائب المذكر (٥) والمؤنث (٤) والجمع (٨) والمتكلم المفرد (١) مما يدل على أن العلم صفة مستقلة عن العالم ويكون في هذه الحالة قيمة أو صفة لله. ولما كانت الصفة لا توجد بغير موصوف فإن صفة العلم تنتهي أيضًا إلى ذات العالم.
٦  فنسك، منسنج: المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، بريل، ليدن، ١٩٦٢م، ج٤، ص٣١٨–٣٣٩.
٧  لم نشأ أن نذكر الأحاديث النبوية بنصها لكثرتها وتكرارها وتعدد رواياتها وسندها وآثرنا التعبير عن معانيها دون ألفاظها. ولكن يكفي هذا الحديث الجامع: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبقِ عالمًا اتخذ الناس رءوسًا جهالًا فسُئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا».
٨  هناك عدة تعينات للعلم الإلهي منذ صفة العلم لله حتى قراءة القارئ له. ويمكن إجمالها في سبعة قد تكون هي المقصودة بالحديث المشهور: «أنزل القرآن على سبعة أحرف»:
• العلم كصفة أزلية ثابتة كعلم إلهي قبل التعبير عنه في كلام. وهو ما عناه القدماء بقولهم إن القرآن أزلي أو قديم قبل التعبير عنه في أحد أشكال التعبير.
• العلم المدون في اللوح المحفوظ دون معرفة كيفية التدوين وهل هو بلغة أو حروف على ألواح أم هو تدوين روحي خالص، بمعنى الحفظ والثبات والتحقق والتعين والاستقلال عن الذات العالم.
• العلم في ذهن جبريل ووعيه الذي نقله من الله أو من اللوح المحفوظ وحفظه ووعاه قبل أن يتكلم به في الأرض ويبلغه الأنبياء وهي مرحلة متوسطة بين العلم المدون في الألواح والعلم المحفوظ في الصدور، قبل أن يتحول من موضوع إلى ذات كما تحول من قبل من ذات، الذات الإلهية، إلى موضوع، اللوح المحفوظ.
• العلم الذي نطق به جبريل في الأرض بلغة معينة لنبي معين في وقت بعينه وفي مكان محدد، وهو تحول العلم إلى كلام منطوق من الذهن إلى اللوح، ومن اللوح إلى الذهن، ومن الذهن إلى اللسان.
• الكلام الذي سمعه الرسول من جبريل وبلغه بدوره إلى الناس بلهجة قومه، وبصوت يسمعه كل الناس. وهو العلم الإنساني الذي يبدأ بسماع الرسول له وتبليغه للناس بعد أن كان علمًا إلهيًّا في الذهن الإلهي وفي اللوح وفي ذهن جبريل وعلى لسانه. وقد تحول العلم هنا إلى كلام، أي إن العلم صياغة، والفكر لغة، والمعاني ألفاظ.
• العلم أو الكلام الذي يسمعه كل الناس من الرسول وبلهجة قومه، ويبلغون به كل الناس بلهجات أخرى. وهنا يصبح العلم قراءة ليست فقط بالصوت، سماعًا وأداءً بل أيضًا بالحفظ والفهم والوعي والإيحاء. لذلك نشأت علوم التفسير.
• العلم أو الكلام الذي يبلغه الناس بلهجاتهم إلى أقوام آخرين بلهجاتهم حتى اليوم والذي تختلط فيه القراءة بالتأويل، والنص بالاقتباس، والعلم بالاختيار، والقرآن بالانتقاء، والوحي بالاستعمال.
٩  انظر دراستنا «مستويات النص القرآني» أدب ونقد، القاهرة، مايو ١٩٩٣م، ص٢١–٢٢.
١٠  أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري، جامع بيان العلم وفضله، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، المكتبة السلفية، المدينة المنورة، ١٩٦٨م.
١١  الحسبة أو وظيفة الحكومة الإسلامية.
١٢  انظر نماذج من دراستنا لهذه العلوم في «من العقيدة إلى الثورة» (خمسة مجلدات)، مدبولي، القاهرة، ١٩٨٨م. أو «دراسات إسلامية» الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٨٢م.
١٣  انظر نماذج من دراستنا لهذه العلوم النقلية في «الوحي والواقع، دراسة في أسباب النزول» في «هموم الفكر والوطن»، ج١، التراث والعصر والحداثة، دار المعرفة الجامعية، القاهرة، ١٩٩٧م، ص١٧–٥٦، «مناهج التفسير ومصالح الأمة» في «الدين والثورة في مصر» (ثمانية أجزاء)، ج٧، اليمين واليسار في الفكر الديني، ص٧٧–١١٦ «من نقد السند إلى نقد المتن» مجلة الجمعية الفلسفية المصرية، العدد الخامس، القاهرة، ١٩٩٦م، ص١٣١–٢٤٣، «ابن رشد فقيهًا» مجلة ألف، الجامعة الأمريكية بالقاهرة، العدد ١٦، القاهرة، ١٩٩٦م، ص١١٦–١٤٤.
١٤  انظر نموذج دراسة العلوم الطبيعية في «الوحي والواقع والطبيعة، قراءة في كتاب «القانون» في الطب لابن سينا»، مجلة الفلسفة والعصر، العدد الأول، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ١٩٩٩م.
١٥  الفارابي: إحصاء العلوم، تحقيق عثمان أمين، دار الفكر العربي، القاهرة، ١٩٤٩م.
١٦  ابن سينا: في أقسام العلوم العقلية في «تسع رسائل في المنطق والطبيعيات»، مطبعة هندية، القاهرة، ١٩٠٨م.
١٧  حسن صديق خان: أبجد العلوم. القاضي عبد الرسول: جامع العلوم في اصطلاحات الفنون الملقب بدستور العلماء. مؤسسة الأمل للمطبوعات، بيروت، ١٩٧٥م.
١٨  ذلك مثل رسالة الكندي «في حدود الأشياء ورسومها»، ورسالة ابن سينا في «الحدود»، والآمدي «اصطلاحات المتكلمين والفلاسفة»، والجرجاني «التعريفات»، والتهانوي «كشاف اصطلاحات العلوم والفنون».
١٩  «من العقيدة إلى الثورة»، محاولة لإعادة بناء علم أصول الدين، ج١، المقدمات النظرية، الفصل الثالث، نظرية العلم.
٢٠  عضد الدين الإيجي المواقف، عالم الكتب، (بدون تاريخ).
٢١  الغزالي: المستصفى في علم أصول الفقه (جزءان)، المطبعة الأميرية، القاهرة، ١٣٢٢ﻫ.
٢٢  انظر دراستنا «علم أصول الفقه» في: «دراسات إسلامية»، الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٨٢م، ص٦٥–١٠٣.
٢٣  الغزالي: إحياء علوم الدين، مصطفى الحلبي، القاهرة، ١٩٣٩م، ج١،  ١١–٩٥، ٢٣٦–٢٣٨، ٢٢٣–٢٢٥ علم الكلام والفقه.
٢٤  انظر دراستنا «جدل الأنا والآخر»، دراسة في تلخيص الإبريز للطهطاوي في: «هموم الفكر والوطن»، ج٢، الفكر العربي المعاصر، دار المعرفة الجامعية، القاهرة، ١٩٩٧م، ص٢١٩–٢٤٩.
٢٥  إذا كان لفظ «العلم» قد ورد في القرآن (٧٧٩) مرة، فإن لفظ «العمل» ورد (٣٥٩) مرة أي حوالي النصف، مما يدل على أهمية العلم أولًا. وطبقًا لأشكال تحليل المضمون يتضح الآتي:
  • تردد الفعل (٢٧٥) أكثر من الاسم (٨٤) بحوالي ثلاثة أضعاف مما يدل على أن العمل فعل أكثر منه اسمًا، عملية أكثر منه شيئًا.

  • ورود صيغة المضارع (١٦٥) أكثر من صيغة الماضي (٩٩) مما يدل على أن العمل حقيقة مستمرة أكثر منه فعلًا تم في الماضي وانقطع.

  • وفي صيغة المضارع يتردد المخاطب الجمع (٨٣) أكثر من الغائب الجمع (٥٦) مما يدل على أن العمل نداء للآخر وطلب منه.

  • في صيغة الماضي الشخص الثالث أكثر ترددًا (٧٣) بحيث تصل إلى ثلاثة أرباع صيغ الماضي كلها مما يدل على انتهاء عمل الفرد وتوقع نتائجه إيجابًا أم سلبًا.

  • تتردد صيغة الأمر قليلًا (١١) لأن الفعل ليس أمرًا بل طبيعة، ويتردد الأمر الجمعي (٩) أكثر من الأمر المفرد، فالعمل جماعي، عمل الأمة أكثر من عمل الأفراد.

  • لا تضاف الضمائر للأفعال إلا مرة واحدة في صيغة «عملته» مما يدل على أن العمل في ذاته أهم من الشيء المعمول أي ارتباط العمل بنشاط الذات أكثر من عالم الأشياء.

  • بالنسبة للأسماء يرد لفظ «العمل» جمعًا في صيغة أعمال (٤١) أكثر منه في صيغة المفرد «عمل» (٣٠) مما يدل على أن العمل جمعي. أما بالنسبة لاسم الفاعل «عامل» فيرد (١٣) مرة والجمع (٨) أكثر من المفرد (٥) مما يدل أيضًا على أولوية الفعل الجماعي على الفعل الفردي.

  • وبالنسبة للضمائر يرد الفرد المتكلم (١)، والجمع (٣)، والمخاطب المفرد (١)، والجمع (١٣)، والغائب المفرد (٥)، والجمع (٢٩) مما يدل على أهمية أعمال الجماعة خاصة الغائبين منهم.

٢٦  فنسك، منسنج: معجم ألفاظ السنة، ج٤، ص٣٦٩–٣٨٧.
٢٧  «من العقيدة إلى الثورة»، ج٥، الإيمان والعمل والإمامة. وأيضًا الغزالي: «الاقتصاد في الاعتقاد»، مكتبة صبيح، القاهرة، ١٩٦٢م.
٢٨  الغزالي: المستصفى، ج١،  ١٤٧–١٤٨، ج٢،  ٣٨٣–٣٨٤.
٢٩  مسكويه: تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، مطبعة الترقي، القاهرة، ١٨٩٩م.
٣٠  الغزالي: ميزان العمل، صبيح، القاهرة، ١٩٦٦م، ص١١–١٣،  ٢٣–٢٩،  ٣١–٣٤،  ٩٦.
٣١  الغزالي: إحياء علوم الدين، مصطفى الحلبي، القاهرة، ١٩٣٩م، ج١،  ١٥٨–١٦٠،  ٢٥٣–٢٧٩،  ٢٨٧–٢٩٦، ج٣،  ٣٨٩–٣٩٢، ج٤،  ٣٩١–٣٩٣.
٣٢  وقد عُرف عثمان أمين بالدفاع عن هذا التيار.
٣٣  فنسك، منسنج: نفس المصدر، ج٦، ص٤٤–٤٥.
٣٤  الغزالي: إحياء علوم الدين، ج٢، ص١٥٤–٢٢١، ميزان العمل ص٢٣.
٣٥  أبو الفرج بن رجب الحنبلي: الاستخراج لأحكام الخراج، دار الحداثة، بيروت ١٩٨٢.
٣٦  أبو الفرج بن رجب الحنبلي: الاستخراج لأحكام الخراج، دار الحداثة، بيروت، ١٩٨٢م.
٣٧  د. ثروت أنيس الأسيوطي: الإسلام والملكية، الكتاب والتوزيع والإعلان والمطابع – طرابلس، ليبيا، ١٩٧٩م.
٣٨  د. محمد الدسوقي: المال في الإسلام، وزارة الأوقاف، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، العدد ٢٠٥، القاهرة، ١٩٧٨م.
٣٩  محمد البهي الخولي: الثروة في ظل الإسلام، الناشرون العرب، ص١–٢، القاهرة، بيروت، ١٩٧١م.
٤٠  محمد بديع الشريف: المساواة في الإسلام، دار المعارف، كتابك، العدد ٢٧، القاهرة، ١٩٧٧م.
٤١  لقد ذُكر «المال» في القرآن (٨٦ مرة) غير مضاف للضمائر (٣٢) أو مضافًا إلى الضمائر (٥٤) مما يدل على أن المال قد يكون له وضع مستقل في العالم خارج نطاق الملكية. ويذكر غير مضاف مفردًا وجمعًا مرة نكرة (١٧) ومرة معرفة (٢٥). فهو ليس المال المجهول المصدر بل المعروف المصدر أيضًا. ولا يأتي اللفظ مرفوعًا إلا فيما ندر. بل الأغلب منصوبًا (١٧) أو مجرورًا (١٣) مما يدل على أن المال مفعول به وليس فاعلًا. ولا يكون مضافًا إلى ضمير المتكلم إلا فيما ندر (مرة واحدة). ولا يضاف إلى ضمير المخاطب على الإطلاق، بل يضاف دائمًا إلى ضمير الغائب مشيرًا إلى الملاك الغائبين، فقراء أم أغنياء أم طبقة متوسطة.
٤٢  الماوردي: أدب الدنيا والدين، مصطفى الحلبي، القاهرة، ١٩٧٣م، ص١٣٢–١٦٢.
٤٣  سيد قطب: العدالة الاجتماعية في الإسلام، لجنة النشر للجامعيين، مكتبة مصر (بدون تاريخ).
٤٤  ورد اللفظ في القرآن ٧٣ مرة.
٤٥  ترددت مشتقات لفظ غنى ٤٧ مرة: بمعنى ازدهر ٤ مرات، وعدم الاحتياج ٤ مرات، ومفردًا ٢٠ مرة، وجمعًا ٤ مرات، ومغنون مرتين، وصفة لله ١٨ مرة.
٤٦  محمد بديع شريف: المساواة في الإسلام.
٤٧  تردد لفظ درجة (٤) مرات، ولفظ درجات (١٤) مرة.
٤٨  د. محمد شوقي الفنجري: المذهب الاقتصادي في الإسلام، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ١٩٨٦م.
٤٩  يرد لفظ الزكاة (٣٢) مرة: مرتبطًا بالصلاة ٢٧ مرة، وبمفرده خمس مرات.
٥٠  عبد الرازق نوفل: الزكاة، وزارة الأوقاف، المجلس الأعلى للشئون الاجتماعية، العدد ٣، القاهرة، ١٩٦١م.
٥١  ابن تيمية: السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، القاهرة، ١٩٧١م، ص٤٠–٧٦.
٥٢  ورد لفظ الصدقة في القرآن الكريم بالمعنى الدقيق خمس مرات، والصدقات سبع مرات، وصدقاتكم مع ضمير المخاطب مرة واحدة، وبمعنى مجازي عن صدقات النساء: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً مرة واحدة.
٥٣  تردد لفظ «مسكين» في القرآن ١١ مرة، وجمعًا «مساكين» ١٢ مرة.
٥٤  «من العقيدة إلى الثورة»، ج٣ العدل، ص٣٣٩–٣٧٠.
٥٥  الفارابي: آراء أهل المدينة الفاضلة، صبيح، القاهرة، (بدون تاريخ).
٥٦  وذلك مثل: الفقر حشمة والعز بهدلة، القناعة مال وبضاعة، المفلس في أمان الله، المفلس يغلب الشيطان، من كرهه ربه سلط عليه بطنه، من طلب الزيادة وقع في النقصان، المركب اللي تودي أحسن من اللي تجيب، ربنا ريح العريان من غسيل الصابون، ربك رب العطا يدي البرد على قد الغطا. وأمثلة الثبات الاجتماعي مثل: عمر الفلاح إن فلح، من يومك يا خالة وإنت على دي الحالة، ربنا ما يقطع بك يا متعوس، يروح البرد ويجي الناموس، ربنا ما سوانا إلا بالموت.
٥٧  د. محمد عبد الجواد محمد: ملكية الأرض في الإسلام، ص١٩٩–٢٦٨. وأيضًا مقالنا «الإسلام على الطريقة الرأسمالية» في الدين والثورة في مصر، ج٧، اليمين واليسار في الفكر الديني، ص٤٥–٦٨.
٥٨  الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد، صبيح، القاهرة (٩)، ص١٢٣–١٢٩.
٥٩  “Ideology and Development”, “Mysticism and Development”. Islam in the Modern World, Vo; I. pp. 11–57.
٦٠  د. محمد عبد الجواد: ملكية الأرض في الإسلام، ص٤٣–٤٦.
٦١  جمال الدين الأفغاني: العروة الوثقى، المركز العربي للبحث والنشر، القاهرة، ١٩٨٤م.
٦٢  «الحاكمية تتحدى»، «هموم الفكر والوطن»، ج١، التراث والعصر والحداثة، ص٤٢٩–٤٥٠.
٦٣  «هل غاب مفهوم التقدم في تراثنا القديم؟» «هموم الفكر والوطن»، ج١، التراث والعصر والحداثة، دار المعرفة الجامعية، القاهرة، ١٩٩٧م، ص٤٠٣–٤١٢.
٦٤  انظر دراستنا:
Human Subservience of Nature, Islam in the Modern World, Vol. I, Religion, Ideology and Development, pp. 267–335.
٦٥  انظر دراستنا: «الأخضر والأصفر في القرآن الكريم»، هموم الفكر والوطن، ج١، ص٥٧–٩٨. وأيضًا:
The Greenery between Islamic Tradition and the Necessities of Life in Egypt Today, Islam in the Modern World, Vol. I, p. 355–65.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤