الفصل الرابع

اكتشاف

– «انهض! ما الذي تفعله؟»

كانت الشمس قد غربت وأنا مستغرق في النوم منذ فترة. وقف أبي وقامته تعلوني والتجهم والسقم باديان عليه، ثم قال: «ما الذي تفعله بهذه البندقية؟»

أدركت أنه لم يدر على الإطلاق بما فعله الليلة الماضية، فقلت: «حاول شخص ما الدخول. كنت أنتظره.»

– «لِم لَم توقظني؟»

– «حاولت لكنني لم أستطع أن أجعلك تتحرك قيد أنملة.»

– «حسنًا. لا تقف مكانك طوال اليوم. اخرج لترى إن كانت السنارة قد اصطادت سمكة نفطر بها.»

فتح أبي الباب، فركضت إلى الخارج متجهًا إلى ضفة النهر. لاحظت أن بعض أفرع الأشجار والأشياء تطفو مع ماء النهر، فأدركت أن مياهه قد أخذت في الارتفاع، فلما سرت على طول ضفته رأيت قاربًا. كان قاربًا جميلًا يبلغ طوله نحو ثلاثة عشر أو أربعة عشر قدمًا، فغصت برأسي أولًا ثم بجسمي كله في الماء مرتديًا كامل ملابسي، وسبحت نحوه. خطر لي في البداية أن والدي سيسعد برؤيته، إذ سيساوي ثمنه عشرة دولارات على الأقل، لكنني عندما صعدت إلى الشاطئ لم أجد والدي، فواتتني فكرة أخرى. قررت أن أخفي القارب وأن أطفو به بالنهر خمسين ميلًا لأخيم في مكان ما إلى الأبد بدلًا من الاختباء في الغابة عندما أفر.

كنت بحلول هذا الوقت على مسافة شديدة القرب من كوخ والدي. ظل يُهيأ لي أنني أسمع صوت والدي وهو قادم، لكنني استطعت آخر الأمر أن أخبئ القارب، ثم رأيت والدي وهو في طريقه إلي، كان يصوب بندقيته نحو طيور على مسافة بعيدة. لم يكن قد رأى شيئًا.

بعد الإفطار حاولت أثناء استراحتي أنا وأبي أن أفكر في طريقة تمنعه هو والأرملة من تعقبي، سيكون هذا أفضل من الركون إلى أنني أستطيع الفرار قبل أن يلحظا غيابي. ظللت لحظة عاجزًا عن الاهتداء إلى طريقة، لكن في آخر الأمر نهض أبي من رقدته وجلس منتصبًا ليشرب بعض الماء ثم قال: «إن رأيت شخص ما يجول خلسة بالجوار ثانية أيقظني، هل فهمت؟ هذا الرجل لم ينو خيرًا. من الأفضل لك أن توقظني المرة القادمة.»

ثم تمدد وغشيه النوم. ما قاله أمدني بالفكرة التي كنت أحتاج. أمكنني الآن حل المشكلة بحيث لا يفكر أحد أبدًا في تعقبي.

نهضنا قرابة الظهيرة وسرنا على ضفاف النهر. كانت مياه النهر ترتفع بسرعة كبيرة، وقد مر بنا الكثير من الخشب الذي حمله الماء، ولم يمض وقت طويل قبل أن يأتي الماء بجزء من طوف يتكون من تسعة ألواح خشبية مربوطة بعضها إلى بعض، فاتجهنا إليه وجذبناه إلى الشاطئ. أراد أبي أن يتجه مباشرة إلى البلدة لبيع خشبه، فاحتجزني بالكوخ، وأخذ قاربنا الصغير وشرع في ربط الطوف بالقارب. أغلب الظن أن الساعة كانت الثالثة والنصف تقريبًا آنذاك. لم أحسب أنه سيعود مساء هذا اليوم. انتظرت إلى أن شعرت أنه قد ابتعد مسافة كافية، ثم ذهبت لأعاود العمل بمنشاري، وغادرت الكوخ قبل أن يبلغ الناحية الأخرى من النهر.

حملت كل المؤن التي لدينا إلى القارب: فحملت دقيق الذرة، ونصف قطعة لحم خنزير مقدد، وكل القهوة، والسكر، والذخيرة، وأخذت الدلو واليقطينة والمغرفة والكوب القصديري، ومنشاري القديم، وبطانيتين، والمقلاة، ووعاء القهوة، كما أخذت بعض صنانير الصيد، وأعواد الثقاب، وكل ما يساوي ثمنه سنتًا. بعبارة أخرى، أفرغت المكان. أردت فأسًا، لكن لم يكن بالكوخ سوى فأس واحد، وقد خططت لاستخدامه على وجه محدد، في آخر الأمر أخذت معي البندقية.

غطيت آثاري وغطيت الفتحة التي صنعتها في ظهر الكوخ، ووقفت على ضفة النهر، وراقبت الطريق؛ كان آمنًا.

ثم أخذت الفأس وحطمت الباب، وهذا كله كان جزءًا من خطتي. ضربت الباب وكسرته تكسيرًا، ثم سكبت دم خنزير قديم في جميع أرجاء المكان، ثم جررت كيسًا مملوءًا بالأحجار على الأرض نحو النهر، مخلفًا أثرًا بشع المنظر، وكأن جثة ما قد جُرت. تمنيت لو أن توم سوير معي، فأنا أعلم أنه كان سيجد هذا مشوقًا وكان سيضفي بعض اللمسات الرائعة على الأمر.

بعدئذ نتفت بعض الشعر من رأسي، وحرصت على أن تغطي دماء الخنزير الفأس، الذي ألصقت به بعض هذا الشعر، ثم ألقيته في ركن من الكوخ، وخطرت لي فكرة جديدة، فأخذت كيس دقيق الذرة وثقبته ثقبًا صغيرًا ثم تركت أثرًا في الاتجاه المعاكس لقاربي، وحملت الكيس بين الحشائش إلى بحيرة ضحلة، وألقيت الحجر الذي يستخدمه أبي في شحذ سكينه هناك، وكأنه ترك هناك صدفة، ثم أحكمت إغلاق الثقب الموجود بالكيس وأعدته إلى القارب.

كان الظلام بحلول هذا الوقت قد حل تقريبًا، من ثم أدنيت القارب من النهر تحت بعض أشجار الصفصاف التي تدلت على ضفته وانتظرت طلوع القمر، وتناولت بعض الطعام، ثم تمددت بالقارب لأضع خطة. قلت لنفسي: سيتتبعون الأثر المؤدي إلى الشاطئ ثم يتبعون أثر دقيق الذرة إلى البحيرة ويبحثون عني هناك، وسيظنون أن سارقًا ما قتلني وأخذ كل شيء، فلن يبحثوا إلا عن جثتي، فلا يمضي وقت طويل قبل أن يسأموا من ذلك، فيكفوا تمامًا عن البحث عني. قررت أن أختبئ بجزيرة جاكسون فأنا على دراية جيدة بنواحيها، ولم يقصدها أحد قط، عندها أستطيع أن أجدف بالقارب ذهابًا إلى البلدة ليلًا لأتسلل خلسة وأجلب ما أريد.

شعرت بالتعب الشديد، ولم يمض وقت طويل قبل أن يغشيني النوم، فلما نهضت لم أدر لوهلة أين أنا، فنهضت من رقدتي وجلست منتصبًا ونظرت حولي، شاعرًا بشيء من الخوف، ثم تذكرت أين أنا. بدا النهر ممتدًّا أميالًا بعيدة، وسطع ضوء القمر بقوة حتى إنه أمكنني إحصاء أحطاب الأشجار السوداء التي حملها الماء. كان كل شيء ساكنًا تمامًا. بدا الوقت متأخرًا، وتجلى هذا في رائحة النسيم، أتفهم مقصدي؟ فالأمر أكبر من أن تصفه كلمات.

تثاءبت وتمددت وكدت أن أحل القارب وأبدأ في التجديف به لكنني عندئذ سمعت صوتًا بالماء، فأرهفت السمع فلم ألبث أن تبينته. كان ذاك صوت مجاديف تتحرك في الماء؛ شق صوتها الخافت الرتيب سكون الليل. اختلست نظرة من بين أغصان أشجار الصفصاف فرأيت قاربًا صغيرًا على مسافة بعيدة بالماء، لم أستطع أن أتبين عدد راكبيه، ظل يقترب إلى أن وجدت أن به رجلًا واحدًا. حسبته أبي، مع أنني لم أكن أتوقع هذا. سرعان ما أصبح الراكب شديد القرب مني بدرجة تمكنني أن أمد ذراعي وألمسه. كان كما هو متوقع أبي.

من ثم لم أضيع أي وقت؛ وفي غضون دقيقة كنت أسير بالقارب بهدوء مع ماء النهر. ابتعدت بضعة أميال، ثم اتجهت إلى وسط النهر. لن يمضي وقت طويل قبل أن أمر بعبارة ترسو قد يراني من على متنها إن اقتربت جدًّا، فشققت طريقي بين الأخشاب الطافية على وجه الماء ثم تمددت على أرض القارب لئلا يراني أحد، وتركت القارب يطفو.

تمددت واسترحت وقتًا طويلًا وأنا أنظر إلى السماء الصافية من الغيوم التي تبدو بعيدة جدًّا عندما تتمدد على ظهرك تحت ضوء القمر، لم أعلم ذلك من قبل. بإمكانك أيضًا أن تسمع الأصوات على ظهر الماء من مكان بعيد جدًّا؛ فقد تنامى إلى مسامعي أصوات أناس يتحدثون على العبارة الراسية، وسمعت كل كلمة مما يقولون؛ قال أحدهم إن النهار في هذا الوقت يطول فيما يقصر الليل، فقال آخر إن اليوم لم يكن قصيرًا، فضحكوا، وسمعت رجلًا منهم يقول إن الساعة الثالثة صباحًا تقريبًا، بعدئذ تباعدت أصواتهم أكثر فأكثر إلى أن صرت غير قادر على تمييز كلماتهم، لكن أمكنني سماع تمتماتهم بغير وضوح، وضحكاتهم بين الحين والآخر إلا أنها بدت قادمة من مكان بعيد.

مر بعض الوقت، ونهضت من رقدتي وجلست منتصبًا، فوجدت أمامي جزيرة جاكسون، تكسوها الأشجار وتبدو شاسعة، مظلمة، ساكنة، وكأنها زورق بخاري بلا أضواء.

لم يستغرق الذهاب إلى هناك وقتًا طويلًا؛ جدفت بالقارب إلى موضع من ضفة النهر كنت أعرفه، واختبأت بين أشجار الصفصاف، فلما انتهيت لم يكن بمقدور أحد أن يرى الزورق.

قصدت الجزيرة وجلست على قطعة خشب في مقدمتها، ثم تطلعت إلى النهر الكبير والخشب الذي يطفو به. رأيت ثلاثة أو أربعة أضواء تلتمع بالبلدة على مسافة بضعة أميال ودنا طوف خشبي كبير على بعد ميل أعلى النهر في منتصفه مصباح. شاهدته وهو يقترب ببطء، فلما اقترب سمعت رجلًا يقول: «طوف هناك! اتجهوا إلى الميمنة.» سمعته بوضوح وكأنه كان يقف إلى جانبي.

كانت السماء قد شقها القليل من الضوء بحلول ذلك الوقت، فقصدت غابة الجزيرة وتمددت بها لأنام قليلًا قبل أن أفطر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤