مقدمة

كتبنا هذا النقد منذ عام ونشرناه تباعًا في عكاظ ولم يكن الباعث لنا عليه كما حسب بعضهم ضغينة نحملها للرجل أو عداوة بيننا وبينه، وكيف يكون شيء من ذلك ولا علم لنا به ولا صداقة ولا صحبة، ولا نحن نرتزق من الكتابة والشعر، أو نزاحمه على الشهرة؛ لأن ما بيننا من تباين المذهب واختلاف المنزع لا يدع مجالًا لذلك، ولكني لسوء الحظ أحد من يمثلون المذهب الجديد الذي يدعو إلى الإقلاع عن التقليد والتنكيب عن احتذاء الأولين فيما طال عليه القدم ولم يعد يصلح لنا أو نصلح له، أقول: لسوء الحظ لأنه لو كان الناس كلهم يرون رأينا في ضرورة ذلك وفي وجوب الرجوع عن خطأ التقليد لربحنا من الوقت ما نخسره اليوم في الدعوة إلى مذهبنا ومحاولة رد جمهور الناس عن عادة إذا مضوا عليها أفقدتهم فضلية الصدق ومزية النظر وهما عماد الأدب وقوام الشعر والكتابة.

ولو كان الناس اعتادوا النقد وألِفوا الصراحة في القول وتوخي الصدق في العبارة عن الرأي لما كانت بي حاجة إلى هذه المقدمة أو ضرورة إلى تبرئة نفسي ودفع ما يرموني به، ولكنت أنشر النقد على ثقة من حسن ظن القراء بي وبخلوص نيتي وبراءة سريرتي مما تصفه الأوهام ويصوره الجهل، ولكننا لسوء الحظ مضطرون أن نثبت حسن القصد في كل ما ننقد كأن المرء لا يمكن أن يفعل شيئًا إلا ودافِعه الضغائن والأحقاد، ومن سوء حظ الناقد في مصر أنه يكتب لقوم لا يستطيع أن يركن إلى إنصافهم أو يعول على صحة رأيهم، وليسامحني القراء في ذلك فقد رأيت عجبًا أيام كنت أنشر هذا النقد: من ذلك أني كنت إذا قلت: إن حافظًا أخطأ في هذا المعنى أو ذاك قال بعضهم: لم يخطئ حافظ وإنما اتبع العرب وقد ورد في شعرهم أشباه ذلك كأن كل ما قال العرب لا ينبغي أن يأتيه الباطل ولا يجوز أن يكون إلا صحيحًا مبرءًا من كل عيب، إلى غير ذلك مما يغري المرء باليأس ويحمله على القنوط من صلاح هذه العقول.

وإذا فرضنا أن العرب أصابوا في كل ما قالوا أفترى ذلك يستدعي أن نقصد قصدهم ونحتذي مثالهم في كل شيء ونحن لا نحيا حياتهم، ألسنا الوراثين لغتهم وللوارث حق التصرف فيما يرث؟ هل تقليدك العرب وجريك على أسلوبهم يشفع لك في خطأ نحوي أو منطقي؟ كلا! إذًا فكيف يشفع لك في غير ذلك مما لا يصح في العقول ولا يتفق مع الحق، وكيف نتحاكم إلى العقل في الأولى ولا نستقضيه في الثانية؟

لا ننكر ما لدراسة الأدب القديم من النفع والعائدة وما للخبرة ببراعات العظماء قديمهم وحديثهم من الفائدة والأثر الجليل في تربية الروح ولكنه لا يخفى عنا أن ذلك ربما كان مدعاة لفناء الشخصية والذهول عن الغاية التي يسعى إليها الأديب، والغرض الذي يعالجه الشاعر، والأصل في الكتابة بوجه عام، على أنه مهما يكن فضل القدماء ومزيتهم فليس ثَم مساغ للشك في أنك لا تستطيع أن تبلغ مبلغهم من طريق الحكاية والتقليد فإن الفقير لا يغني بالاقتراض من الموسرين، ولست أقصد إلى نبذ الكتَّاب والشعراء الأولين جملة وعدم الاحتفال بهم فإن ذلك سخف وجهل، ولكني أقول: إنه ينبغي أن يدرس المرء في كتاباتهم الأصول الأدبية العامة التي لا ينبغي لكاتب أن يحيد عنها أو يغفلها بحال من الأحوال — كالصدق والإخلاص في العبارة عن الرأي أو الإحساس — وهذا وحده كفيل بالقضاء على فكرة التقليد.

وبعد، فإنه لا يسع من ورد شرعة الأدب، وعلم أنه يحتاج إلى مواهب وملكات غير الكد الدؤوب والاحتيال في حكاية السلف والضرب على قالبهم والاقتياس بهم فيما سلكوه من مناهجهم، ومن تبسط في شعر الأولين لا ليسرق منه ما يبتني به بيوتًا كبيوت العنكبوت، ولكن ليستضيء بنوره ويستعين به على استجلاء غوامض الطبيعة وأسرارها ومعانيها، وليهتدي بنجوم العبقرية في ظلمة الحياة وحلوكة العيش، وليتعقب بنظرة شعاعها المتغلغلة إلى ما لم يتمثل في خاطر ولم يحلم به حالم. أقول: لا يسع مَن هذا شأنه وتلك حاله إلَّا أن ينظر إلى حال الأدب العصري نظرة في طيها الأسف والخيبة واليأس، وكأنما شاءت الأقدار أن يذيب أحدنا نفسه ويعصر قلبه وينسج آماله ومخاوفه التي هي آمال الإنسانية ومخاوفها ويستوري من رفات آلامه شهابًا يضيء للناس وهو يحترق، ثم لا يجد من الناس أخًا حنانًا يؤازره ويعينه على الكشف عن نفسه وإزاحة حجب الغموض عن إحساسات خياله التي ربما التبست على القارئ لفرط حدتها أو غابت في مطاوي اللفظ واستسرت في مثاني الكلام.

أليس أحدنا بمعذور إن هو صرح — وبه من سائح اليأس خاطر: «يا ضيعة العمر! أقص على الناس حديث النفس وأبثهم وجد القلب ونجوى الفؤاد فيقولون: ما أجود لفظه أو أسخفه كأني إلى اللفظ قصدت! وأنصب قبل عيونهم مرآة للحياة تريهم لو تأملوها نفوسهم بادية في صقالها فلا ينظرون إلا إلى زخرفها وإطارها وهل هو مفضض أم مُذَهَّب وهل هو مستملح في الذوق أم مستهجن! وأفضي إليهم بما يعيي أحدهم التماسه من حقائق الحياة فيقولون: لو قلت كذا بدل كذا لأعيا الناس مكان ندك! ما لهم لا يعيبون البحر اعوجاج شطئانه وكثرة صخوره! يا ضيعة العمر!»

سيقولون: ما فضل مذهبكم الجديد على مذهبنا القديم وماذا فيه من المزية والحُسن حتى تدعوننا إليه؟ وبأي معنى رائع جئتم؟ وما ابتكرتم من المعاني الشريفة والأعراض النبيهة؟ فتقول: قد لا يكون في شعرنا شيء من هذه المعاني الشريفة والأعراض النبيهة التي تطلبونها وتبحثون فيه عنها ولا تألون أنتم جهدًا في الغوص عليها وفتح أغلاقها والتكلف لها! وقد لا نكون أحسنا في صوغ القريض ورياضة القوافي ولكن خيبتنا لا يصح أن تكون دليلًا على فساد مذهبنا وعمقه إذا صح أننا خبنا فيما تكلفناه وهو ما لا نظنه، بل هي دليل على تخلف الطبع لا أكثر من ذلك، وعلى فرض ذلك كله فإن لنا فضل الصدق وعليكم عار الكذب ودنيئة الافتراء على نفوسكم وعلى الناس جميعًا وحسبنا ذلك فخرًا لنا وخزيًا لكم.

ليس أقطع في الدلالة على أنكم لا تفهمون الشعر ولا تعرفون غاياته وأغراضه من قولكم: إن فلانًا ليس في شعره معانٍ رائعة شريفة؛ لأن الشاعر المطبوع لا يعنت ذهنه ولا يكد خاطره في التنقيب على معنى لأن هذا تكلف لا ضرورة له، أو ليس يكفيكم أن يكون على الشعر طابع ناظمه وميسمه، وفيه روحه وإحساساته وخواطره ومظاهر نفسه سواء أكانت جليلة أم دقيقة شريفة أم وضيعة؟ وهل الشعر إلا صورة للحياة؟ وهل كل مظاهر الحياة والعيش جليلة شريفة رفيعة حتى لا يتوخى الشاعر في شعره إلا كل جليل من المعاني ورفيع من الأغراض، وكيف يكون معنى شريف وآخر غير شريف، أليس شرف المعنى وجلالته في صدقه، فكل معنى صادق شريف جليل، ألا إن مزية المعاني وحسنها ليسا في ما زعمتم من الشرف فإن هذا سخف كما أظهرنا في ما مر؛ ولكن في صحة الصلة أو الحقيقة التي أراد الشاعر أن يجلوها عليك في البيت مفردًا أو في القصيدة جملة، وقد يتاح له الإعراب عن هذه الحقيقة في بيت أو بيتين وقد لا يتأتى له ذلك إلا في قصيدة طويلة وهذا يستوجب أن ينظر القارئ في القصيدة جملة لا بيتًا بيتًا كما هي العادة فإن ما في الأبيات من المعاني إذا تدبرتها واحدًا واحدًا ليس إلا ذريعة للكشف عن الغرض الذي إليه قصد الشاعر وشرحًا له وتبيينًا.

وأنتم فما فضل هذا الشعر السياسي الغث الذي تأتوننا به الحين بعد الحين وأي مزية له؟ وهل تؤمنون به؟ وهل إذا خلوتم إلى شياطينكم تحمدون من أنفسكم أن صرتم أصداء تردد ما تكتبه الصحف؟ وهل كل فخركم أنكم تمدحون هذا وترثون ذاك؟ وأنتم لا تفرحون بحياة الواحد ولا تألمون موت الآخر؟ ما أضيع حياتكم؟!

ليس أدل على سوء حال الأدب عندنا من هذا الشك الذي يتجاذب النفوس في أولى المسائل وأكبرها ولقد كتب نقادة العرب في الشعر على قدر ما وصل إليه علمهم وفهمهم ولكنهم لم يجيئوا بشيء يصلح أن يُتخذ دليلًا على إدراكهم لحقيقته، ولسنا ننكر أن كتَّاب الغرب متخالفون في ذلك ولكن تخالفهم دليل على نفاذ بصائرهم وبعد مطارح أذهانهم ودقة تنقيبهم وشدة رغبتهم في الوصول إلى حقيقة يأنس بها العقل ويرتاح إليها الفكر، كما أن إجماع كتَّاب العرب وتوافقهم دليل على تقصيرهم وتفريطهم وأنهم كانوا يقلد بعضهم بعضًا إن لم يكن دليلًا على ما هو أشين من ذلك وأعين، غير أن هذا القلق والشك المستحوذين على النفوس لعهدنا هذا هما الكفيلان بأن يفسحا رقعة الأمل ويطيلا عنان الرجاء لأن القلق دليل الحياة والشم آية الفطنة وما يدرينا لعلنا في غد نجني من رياض هذا القلق أزاهير السكينة والطمأنينة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤