الطبع والتقليد في الشعر العصري
للشاعر الكاتب العبقري الجليل عباس محمود العقاد
حسب بعض الشعراء اليوم أنه ليس على أحدهم إن أراد أن يكون شاعرًا عصريًّا إلا أن يرجع إلى شعر العرب بالتحدي والمعارضة، فإن كانت العرب تصف الإبل والخيام والبقاع، وَصَفَ هو البخار والمعاهد والأمصار، وإن كانوا يشببون في أشعارهم بدعد ولبنى والرباب، ذكر هو اسمًا من أسماء نساء اليوم، ثم حور من تشبيهاتهم، وغير من مجازاتهم بما يناسب هذا التحدي؛ فيقال حينئذٍ: إن الشاعر مبتدع عصري، وليس بمقلد قديم.
وهذا حسبان خطأ؛ فما أبعدَ هذا الشعر عن الابتداع! والأخلق به أن يسمى الابتداع التقليدي؛ لأنه ضرب من ضروب التقليد، فلولا أن شاعرًا سبق هؤلاء الشعراء لما استطاعوا أن يعارضوه، وإن شئت فارفع النموذج من أمام أعينهم تقف الأقلام في أيديهم ولا يخطون خطًّا، فلو أن الشاعر منهم كان نقاشًا لَمَا عرَف كيف يَطلي جداره بالدهان الأبيض، ما لم يرَ أمامه جدارًا أسود الدهان.
وليس المبتدع كمن يبتني له حوضًا تجاه ينابيع المطبوعين، يرصفه بحجارتها وحصبائها، ويملؤه بطينها ومائها، ثم يدعوه بغير أسمائها، ولكن المبتدع من يكون له ينبوع يستقي منه كما استقوا، ولا قبل بذلك إلا لمن كان له سائق من سليقة تهديه إلى مواقع الماء، وبصر كبصر الهدهد يزعمون أنه يرى مجاريَ الماء تحت أديم الأرض وهو طائر في الهواء.
كان شعر العرب مطبوعًا لا تصنُّع فيه، وكانوا يصفون ما وصفوا في أشعارهم ويذكرون ما ذكروا؛ لأنهم لو لم ينطقوا به شعرًا، لجاشت به صدورهم زفيرًا، وجرت به عيونهم دمعًا، واشتغلت به أفئدتهم فكرًا، وأمَّا نحن فلا موضع لتلك الأشياء من أنفسنا؛ فهي لا تهتاجنا كما اهتاجتهم، ولا تُصبينا كما أصبَتهم، وإذا سكتنا عن النَّظْم فيها لا تخطر لنا إلا كما تمر الذكرى بالذهن، والمرء إذا تذكر لا يقلد من يتذكرهم، ولكنه يتحدث بهم، ويصف ما عنده من الأسف عليهم، أو الشوق إليهم.
والشعر العصري كهذا الشعر في أنه شعر الطبع، وأنه أثر من آثار روح العصر في نفوس أبنائه، فمن كان يعيش بفكره ونفسه في غير هذا العصر، فما هو من أبنائه، وليس خواطر نفسه من خواطره.
تمر على صفحة الزمن عصور خابية، لا تسمع لها حسًّا، ولا تختلج العين من جانبها بقبس، ويكاد يكون الفلك قد قذف بها من جوفه ميتة، فهي من لحدها في مهد، ومن مهدها في لحد.
هذه عصور لا ترى لأحدها ملامح ينماز بها عما قبله أو ما بعده، وهي عصور الغفلة التي تعقب إدبار الدول، تنعدم فيها مَلَكة الابتكار، وينشر التقليد رواقه على كل مزاولات الحياة؛ فلا ترى عالمًا ولا أديبًا ولا حاكمًا ولا تاجرًا ولا صانعًا إلا وهو مقلد في عمله، ويكل الناس أمرهم إلى فئات تصوغ لهم الأفكار والعقائد والأذواق، وتُخرجها إليهم متشابهة، كما تُخرج المعامل مصنوعاتها إلى الشُّراة من طراز واحد.
وقد أصاب الأدبَ العربيَّ هذه الآفةُ، فقتلت فيه روح البراعة والصدق، وقصرته زمانًا على التقليد والمحاكاة، حتى لقد بلغ بهم الولوع بما سمَّيناه الابتداع التقليدي، أنهم وصفوا الدمع الأحمر، والدمع الأصفر، والدمع الأزرق، والدمع الأخضر، والدمع البنفسجي، وحسبوا ذلك من بدائع الافتنان، وأنهم جاءوا بطائل كبير.
على هذه الوتيرة من الكذب في الإحساس، والتقارب في سياق النظم، ومعاني الشعر، كان غالب شعراء اليتيمة، حتى لتحسب الكِتاب — لولا قليل من الشعر الجيد الحي فيه — ديوانًا لشاعر واحد.
وأخذ ينقه الأدب من هذه الآفة منذ نحو العشرين سنة، أي حين بلغت دعوة الحرية الفكرية مسامع الشرقيين فراغوا إلى أنفسهم يسألونها عن سالفهم ومؤتنفهم، ويستفسرونها عن حياتهم ومماتهم، كما يسأل الناشئ نفسه إذا وُكل إليه أمره، وانفصل عن رعاية أبيه أو ولِيِّه؛ وكانت علامة ذلك أن ظهر التفاوت في الأساليب، وانفرد كل كاتب أو شاعر بطريقة في كتابته أو نظمه، والتفاوت في الأساليب دليل الاستقلال، والاستقلال دليل الطبع والحياة، وهل يتفق التشابه والتماثل إلا فيما له قوالب وأنماط؟ وأين القوالب والأنماط إلا في صيغ الألفاظ وتراكيبها؟
وكما يكون التفاوت في الأساليب بين شعراء الأمة دليلًا على حياتها، وتنبُّه الطباع في أبنائها، يكون التفاوت في شعر الشاعر دليلًا أيضًا على حياته وطبعه، ولقد سمعت أديبًا يعيب شاعرية المتنبي ويصغرها لبعد ما بين جيده ورديئه، وهو الآية على شاعريته عندي، إن لم تكن آية سواه؛ لأن الشاعر قد يحكم قلمه، ويدعو الألفاظ فتسعفه، ولكنه لا يحكم طبعه، ولن يكون الطبع عند دعوته، بل إنما الإنسان عند دعوة طبعه، وهو رهن مما توحي إليه سجيته.
ولسنا نعني بذلك أن كل شاعر له في شعره الجيد والرديء، هو شاعر مطبوع، فإن لكل ذهن خامد جلوة، ولكل طبع بارد سورة، والريشة الميتة قد ترفعها الريح إلى حيث تحوم أجنحة الكواسر، وقد يسمو الطبع الكليل إذا استفزته العاطفة، فيسترق السمع من منازل الإلهام، ثم لا يكاد يلتفت إلى نفسه حتى يهوي إلى مقره، ويروقني في هذا المعنى قول لويس مترجم جيتي شاعر الألمان، وذلك إذ يقول في عرض كلامه عن رواية فوست: «ربما كانت مقدرة العقل الكبير لا تظهر إلا في مثل هذه الصغائر، وأما الكُتَّاب الأصاغر فإنهم يبالغون في هذه الأغراض أو يقصرون عنها، ولكنهم لا يعطونها حقها، انظر إلى الأجسام فإنها تضيء كلها على درجات مختلفة من الحرارة، وكذلك صاحب العقل الخافت قد يأتي بالفلق، وينطق بالحكمة، وهو مضطرم النفس، محتدم الطبع، ولكن من تلك الأجسام ما يعود إلى المألوف من حاله، فينم عن غلظه وكثافته، والعقل الخافت إذا فترت حرارته، عاودته ضآلته، وفارقته تلك القوة التي اقتسرها على الخروج ضغط الأفكار المزدحمة عليه، ولذع العاطفة المتأججة فيه، وفي ذلك مصداق المثل السائر القائل: إن الكبائر تظهرها الصغائر، والريح إذا هبت على الماء تشابه الغمر بالضحضاح، حتى إذا استقرت الأمواج رأينا قاع الضحضاح قريبًا، وعلمنا أن غور الغمر أبعد مما يصل إليه مسبارنا.»
وربما تشدد بعض النقاد فجعلوا شعور الشاعر بنفسه، حدًّا بين الطبع والتكلف، فإذا خُيِّل للناقد وهو يقرأ القصيدة أنه نسي الشاعر، ولا يذكر إلا شعره، فالشاعر مطبوع، وإن كان يلوح له وجه الشاعر من حين إلى حين بين أبيات القصيدة، فهو عنده متكلف صناع. ولست أنا ممن يميلون إلى هذا الرأي؛ لأنه يُخرج كثيرًا من الشعراء المجيدين من عداد الشعراء المطبوعين، ولا فرق عندي بين شاعر يشعر بنفسه في كلامه، وشاعر يغيب في عاطفته، إلا كالفرق بين المليح المزهو بجماله، والمليح الذي يوهمك كأنه قد نسي أنه جميل، على أن لكلٍّ منهما جماله، ونحن عَسِيُّون أن ننظر إلى ذلك الشعر، فإن كان صادقًا مؤثرًا فهو من شعر الطبع، وإلا فهو من شعر التكلُّف، وهو إذنْ لا بالمليح المزهو، ولا بالمليح الغافل عن جماله، وإنما هو دميم يتحالى بالطلاء والزينة.
ويختلف شعر الطبع في لغة الأمة بين عصر وعصر، كما يختلف منهاجه في العصر الواحد بين شاعر وشاعر، وكما تختلف درجته من الإجادة في شعر الشاعر الواحد بين قصيدة وقصيدة.
فالشعر العربي قد اتخذ له في كل عصر طريقة تناسب روح ذلك العصر، وهذه الطريقة العصرية لا تشبه طريقة البداوة، ولا هي في شيء من طريقة الدولة العربية، ولكنها طريقة يمليها عصرٌ تغيَّر فيه محل الإنسان من بيئته ومجتمعه، وخلعت فيه الطبيعة أمام عينيه ثوبًا بعد ثوب، حتى وقفت بالمجسد بين يديه؛ فظهر له ما كان خافيًا، وازداد توقه إلى استطلاع ما لم يبدُ، وكان فيما بدا له مقابح ومحاسن، كان سابق ظنه بها غير ما عاينه منها، فلو أن شعراء المذهبات بُعثوا اليوم من أرماسهم، لما نظموا حرفًا واحدًا من مذهباتهم، ولكانوا في المذهب العصري أشد من أشد دعاتنا غلوًّا في الدعوة إليه.
قلنا: إن الشعر العربي نشأ منشأً جديدًا من نحو العشرين سنة، ونقول: إنه كان نضالًا نزع فيه الظافر أسلاب المخذول، ولكنه لبسها؛ فكان ظافرهم ومخذولهم أقرب الناس زيًّا، وأشبههم بزة، ونحن اليوم غيرنا قبل عشرين سنة؛ لقد تبوأ منابرَ الأدب فتيةٌ لا عهد لهم بالجيل الماضي، ونقلتهم التربية والمطالعة أجيالًا بعد جيلهم، فهم يشعرون شعور الشرقي، ويتمثلون العالم كما يتمثله الغربي، وهذا مزاجٌ أول ما ظهر من ثمراته أن نزعت الأقلام إلى الاستقلال، ورفع غشاوة الرياء، والتحرر من القيود الصناعية، هذا من جهة الأغراض والأنساق، وأما من جهة الروح والهوى، فلا يعسر على الندس البصير أن يلمح مسحة القطوب للحياة في أسرة الشاعر العصري الحديث، ويتفرس هذا القطوب حتى في الابتسامة المستكرهة التي تتردد أحيانًا بين شفتيه.
وحسب الأدب العصري الحديث من روح الاستقلال في شعرائه أنهم رفعوه من مراغة الامتهان التي عفرت جبينه زمنًا، فلن تجد اليوم شاعرًا حديثًا يهنئ بالمولود، وما نفض يديه من تراب الميت، ولن تراه يطري من هو أول ذاميه في خلوته، ويقذع في هجو من يكبره في سريرته، ولا واقفًا على المرافئ يودع الذاهب ويستقبل الآيب، وما بالقليل من هذه الروح الشماء في الأدب أنها استطاعت أن تُجهِز على آداب المواربة والتزلف بيننا، أو تردها إلى وراء الأستار، بعد إذ كانت تنشد في الأشعار، وينادى بها في ضحوة النهار.
ولا مكان للريب في أن القيود الصناعية التي أشرنا إليها ستجري عليها أحكام التغيير والتنقيح، فإن أوزاننا وقوافيَنا أضيق من أن تنفسح لأغراض شاعر تفتحت مغالق نفسه، وقرأ الشعر الغربي، فرأى كيف ترحب أوزانهم بالأقاصيص المطولة والمقاصد المختلفة، وكيف تلين في أيديهم القوالب الشعرية، فيودعونها ما لا قدرة لشاعر عربي على وضعه في غير النثر، ألا يرى القارئ كيف سهل على العامة نظم القصص المسهبة، والملاحم الضافية الصعبة، في قوافيهم المطلقة؟ وليت شعري بم يفضل الشعر العامي الفصيح إلا بمثل هذه المزية؟
ولقد رأى القراء بالأمس في ديوان شكري مثالًا من القوافي المرسلة والمزدوجة، والمتقابلة، وهم يقرءون اليوم في ديوان المازني مثالًا من القافيتين المزدوجة والمتقابلة، ولا نقول إن هذا هو غاية المنظور من وراء تعديل الأوزان والقوافي وتنقيحها، ولكنا نعده بمثابة تهييء المكان لاستقبال المذهب الجديد؛ إذ ليس بين الشعر العربي وبين التفرع والنماء إلا هذا الحائل، فإذا اتسعت القوافي لشتى المعاني والمقاصد، وانفرج مجال القول، بزغت المواهب الشعرية على اختلافها، ورأينا بيننا شعراء الرواية، وشعراء الوصف، وشعراء التمثيل، ولا تطول نفرة الآذان من هذه القوافي، ولا سيما في الشعر الذي يناجي الروح والخيال أكثر مما يخاطب الحس والآذان.
وما كانت العرب تنكر القافية المرسلة، فقد كان شعراؤهم يتساهلون في التزام القافية، كما في قول الشاعر:
وكقول غيره:
وكقول الآخر:
وبعض هذه القوافي — كما تراها — قريبة مخارج الرَّوِيِّ، وبعضها تتباعد مخارجه، ولكنهم كانوا على حالة من البداوة والفطرة لا تسمح لغير الشعر الغنائي بالظهور والانتشار، وكانوا لا يعانون مشقة في صوغ هذه الأشعار في قوالبهم، فلم يلجَئُوا إلى إطلاق القافية، ولا سيما في شعر يعتمد في تأثيره على رنته الموسيقية، وجاء العُروضيون فعدوا ذلك عيبًا، وسموه تارة بالإكفاء، وتارة بالإجازة أو الإجارة؛ لقلة ما وجدوا منه في شعر العرب، فلما انتقلت اللغة العربية إلى أقوامٍ سلائقهم وحالهم أميل إلى ضروب الشعر الأخرى، اعتسروا القوافي على أداء أغراضهم، ولم تشعر آذانهم بهذا الذي عده العروضيون عيبًا في القافية، فاحتملت لغتهم المحرفة وقوافيهم المتقاربة ما لم تحتمله أوزان الجاهلية وقوافيها.
على أن مراعاة القافية والنغمة الموسيقية — في غير الشعر المعروف عند الإفرنج بشعر الغناء — فضول وتقيُّد لا فائدة منه، ولا بد أن ينقسم الشعر إلى أقسام، يكون الشعر في بعضها أكثر من الموسيقى، ومن بقايا الموسيقى الأولى في الشعر هذه القيود اللفظية، وقد ذهب سبنسر في مقاله عن الرقي إلى أن الشعر والموسيقى والرقص، كانت كلها أصلًا واحدًا، ثم انشق كلٌّ منها فنًّا على حدته، ومن قوله في ذلك: «إن الروي في الكلام، والروي في الصوت، والروي في الحركة، كانت في مبدئها أجزاءً من شيء واحد، ثم انشعبت واستقلت بعد توالي الزمن، ولا تزال ثلاثتها مرتبطة عند بعض القبائل الوحشية؛ فالرقص عند المتوحشين يصحبه دائمًا غناء من نغم واحد، وتصفيق بالأيدي، وقرع على الطبول، فهناك حركات موزونة، وكلمات موزونة، وأنغام موزونة … وفي الكتب العبرية أنهم كانوا يرتلون القصيدة التي نظمها موسى بعد قهر المصريين، وهم يرقصون على نقر الدفوف، وكان الإسرائيليون يرقصون ويتغنون بالشعر في وقت معًا عند الاحتفال بالعجل الذهبي …
على أن الشعر وإن لم ينفصل بعدُ عن الموسيقى، إلا أنهما قد انفصل كلاهما عن الرقص، فقد كانت قصائد الإغريق الدينية القديمة ترتَّل ولا تُتلى تلاوة، وكان ترتيل الشاعر مقرونًا برقص السامعين، فلما انقسم الشعر أخيرًا إلى شعر غنائي، وشعر قصصي، وأصبحوا يتلون الشعر القصصي، ولا يرتلون إلا الشعر الغنائي، وُلد الشعر المحض، وأصبح فنًّا مستقلًّا.»
ونحن لا نريد أن نفصل الشعر عن النغمة الموسيقية بتاتًا، ولكنا نريد أن يكون نصيب الشعر المحض في غير شعر الغناء أكبرَ من نصيب النغم، وأن نبقي أثر دقة الرجل — ونعني به القافية — في الشعر الذي كانوا يدقون الأرض بأرجلهم عند إنشاده، أي شعر النزوات النفسية، والعواطف المهتاجة.
والآن وقد أتينا على طرفٍ من رأْينا في تأثير العصر على أنساق الشعر وأغراضه نرى من تمام الكلام أن نقول كلمة عن تأثيره في روح الشعر، ونفوس الشعراء فنقول:
إن كان هذا العصر قد هز رواكد النفوس، وفتح أغلاقها كما قلنا، فلقد فتحها على ساحة من الألم تلفح المطل عليها بشواظها، فلا يملك نفسه من التراجع حينًا، والتوجع أحيانًا، وهو العصر، طبيعته القلق والتردد بين ماض عتيق، ومستقبل مريب، وقد بعدت المسافة فيه بين اعتقاد الناس فيما يجب أن يكون، وبين ما هو كائن، فغشِيَتهم الغاشية، ووجد كل ذي نظر فيما حوله عالمًا غير الذي صورتْه لنفسه حداثة العصر وتقدمه، والشاعر بجبلته أوسع من سائر الناس خيالًا؛ فالمثل الأعلى أرفع في ذهنه منه في أذهان عامة الناس، وهو ألطفهم حسًّا، فألمه أشد من ألمهم، وإنما يكون الألم على قدر بعد البون بين المنتظر وبين ما هو كائن، فلا جرم إن كان الشاعر أفطن الناس إلى النقص، وأكثرهم سخطًا عليه، ولا جرم إن كان ديوان شاعرنا على حد قوله:
أيقال: إننا بالغنا إذا قلنا: إننا في عهد لا نشاهد فيه إلا مسخًا في الطبائع، وارتكاسًا في الأخلاق، ونفاقًا في الأعمال والأقوال …؟ لا والله بل يقال: إننا تغاضينا إذا لم نقل ذلك، وما يبالي متحرج في عهدنا أن يغمض عينيه، ثم يمضي على رأسه في الأسواق والنوادي، والمجامع والمعابد، فأي عاتق وقعت عليه يده، فيسأله ألا تعرف المعنى بهذه الأبيات:
فإنه لا يخطئ مرة إلا أصاب ألفًا؛ فقد وصف المازني في هذه الأبيات نموذج الرجل العصري، فلم ينسَ صفة من صفاته، وأنى لرجل العصر أن يكون غير ذلك، وهو يبصر غير ما يسمع، ويسمع غير ما يعتقد، ويعتقد غير ما يجرأ على الجهر به، وذلك ديدن الناس في كل زمان تُحس في النفوس بالحاجة إلى الانتقال، فترسم مثال الكمال، ثم تكر إلى عالم الحقيقة، فلا تقابل إلا النقص والقصور، وإنها لتظل كذلك تتذبذب بين الباطن والظاهر؛ وهذا هو عين التصنُّع والرياء، وإن اشتد، فقل الخبث والصفاقة والكبرياء.
فإذا رأيت شاعرًا مطبوعًا في أمثال هذه الفترات المشئومة يبتهج ويضحك، فاعلم أن بين جنبيه قلبًا صدئ من نار الألم، أو حمأة الشهوات، وإلا فهو رجل مقلد ينظم بلسانه، ولا ينظم بوجدانه.
ألا ترى كيف كان حال الأدب في الفترة التي تقدمت الانقلاب الفرنسي؟ ألا تراهم كيف لعبت الحيرة بعقولهم؟ فمن داعٍ يدعو الناس إلى الطبيعة، ومن باحث يفكر في خلق مجتمع جديد، هذا ينحى على الدين، وهذا يسب الحياة ويلعن الوجود، وذلك تهوله فوضى الأخلاق، فيحسبها ضربة لازب، لا تنصلح ولا تتبدل، فيقوم في جنون الدهشة والذهول يحسن للناس التهتك والإباحة، أرأيت كيف استحكمت السآمة بشاتوبريان زعيم الأدب في تلك الفترة، فجعل يقول: «لقد سئمت الحياة حتى قتلتني السآمة، فلا شيء مما يحفل به الناس يعنيني، ولو أنني كنت راعيًا أو ملكًا، لما عرفت كيف أصنع بعصا الراعي، أو بتاج الملك، وما أظنني في الحالتين إلا كنت زاهدًا في المجد والعبقرية، ملولًا من العمل والبطالة، متبرمًا بالنعمة والشقاء؛ لقد أمضني الناس في أوروبة، وأسأمتني الطبيعة في أميركا، فليس في هذه ولا في تلك ملاذٌ يهش إليه قلبي، وإنني لسليم القلب، طيب النحيزة، ولكن بغير غبطة، وإخالني لو خُلقت مجرمًا لكنت أكون كذلك بغير ندم، فليتني لم أُولد! ليت أن اسمي يعفي عليه النسيان فلا يُذكر أبدًا …»
وبعدُ، فهل ينبغي أن يحمد الناس كل زمان رأوه، وهل ثَمَّ ضرر عليهم في الشكوى من بعض الأزمنة، والنقمة عليها؟ كلا، ليس في الاستياء من الزمن السيئ ضرر، بل هذا هو الواجب الذي لا ينبغي سواه، وأولى أن يكون الضرر جد الضرر في الاطمئنان إلى زمان تتأهب كل بواطنه للتحوُّل والانتقال.
وما أهونَ التعليلَ السلبي! لقد سهل على بعض الكاتبين أن يعللوا هذا التذمر فحسبوا أنهم أدركوا الغاية، وأصابوا النتيجة.
نظروا إلى السخط الفاشي بين طبقات الناس، فلم يصعب عليهم أن يقولوا: إنه عرض من أعراض الحياة في المدن والحواضر، وهذا صحيح، وأي عجب في ذلك؟ إنما لحكمة كانت المدن مثار القلق والشكوى؛ لأن المدينة ربيئة المدنية، وحاملة أمانة الرقي الإنساني، ولئن كان التجاج الأصوات بالشكوى في هذه الأيام أشد وأجهز منه في الأيام القديمة؛ فذلك لأن الانتقال الوشيك أعظم من كل انتقال أحدثته الحياة المدنية إلى يومنا هذا.
ولو كان الناس كلهم على شاكلة الريفي في سكينته وقنوعه؛ لما بقي لهم بعد أن يفيض الماء، ويسلم الجو، وينجب الزرع مطلب في الحياة، وما برح أهل المدن بأيديهم زمام العلم والصناعة والفنون، والكفاح يدفعهم إلى الحركة وطلب الانتقال؛ فتتقدم على أيديهم هذه الفنون وتنشأ من تقلبهم المذاهب الاجتماعية المختلفة؛ فترتقي حقوق الناس وواجباتهم، وترتقي الحياة تبعًا لارتقاء هذه الحقوق والواجبات، وقد صدق «لاندور» حيث يقول على لسان بارو: «إن القانعين يجلسون ساكنين في أماكنهم، وأما الساخطون الناقمون فهم الذين يجني منهم العالم كل خير.»
ونظر أولئك الكُتَّاب هذه النظرة إلى رجال العبقرية في الأزمان المتأخرة، فوجدوهم لا يسلم أحدهم من علة في الجسم، فظنوا أنهم قد وقعوا على السر، وقالوا: لو لم يكن هؤلاء العبقريون مرضى لما عمت فلسفة السخط، كأنه ليس بين هذا العصر وبين أن يكون أقدم العصور أخلاقًا، وأرغدها عيشًا، وأتمها نظامًا، إلا أن يبرأ مائة رجل أو أكثر، أو أقل، من الداء!
بل لقد طاش بعضهم، فسمى عبقرية هؤلاء العظماء مسخًا راقيًا، وألحقهم بالممسوخين من زمنى الطبائع، ومرضى النفوس، الذين يخرج من بينهم القتلة والسرقة والمخبولون، ولو أنهم كانوا ألحن للغة الطبيعية، لعرفوا أنها لا تجمع بين المرض والعبقرية عبثًا، وأن عظماء الأمم لو سلموا من الأدواء والعلل لوقفت الإنسانية اليوم عند حدود الآجام والكهوف.
ونحمد الله على أن ليست عقول هؤلاء الكُتَّاب في رأس الطبيعة! فكانت تبدلنا من كل نبي وحكيم وشاعر مصارعًا مضبور الخلق، عريض العنق، ولا ريب أن هذا العمل أريح لها من عناء تركيب الأمزجة، وتقسيم المواهب على قدر وحساب.
العبقري رجل أُرِيدَ به أن ينسى نفسه ليخلص نفعه لنوعه، فلو أنه خلق مكين المرة، قوي الأسر، لصرفته دواعي اللحم والدم عن المضي لوجهته، ولشغله ما يشغل سائر الناس من أمور المعاش والأبناء عما خُلق لأجله، ولا بد أن تضعف غريزة حفظ الذات فيه لتقوى بإزائها غريزته النوعية، ولن تضعف الغريزة الذاتية إلا بمرض في الجسد؛ أرأيت رجلًا معافى البدن ينسى نفسه ليعيش بعد موته في ذاكرة نوعه؟ أم أنت تراه قاصر الهم على حياته لا يعنيه من الدنيا سواها؟
وللنوع فرض عام يطلبه من جميع أفراده، وهو التكاثر بالتوالد، بَيْدَ أنه كلما سفل النوع وسفل الفرد، كان التوالد أكثر، ويطرد هذا الأمر في الإنسان؛ فإن أكثر الناس توالدًا هم أعجزهم عن حفظ النوع بغير وسيلة التوالد، وهم أحط الناس مداركَ وعقولًا، ثم ينشأ في بعض الأفراد قوًى أدبية ينفعون بها النوع، ويحفظونه من جهات شتى، فتعدو هذه القوى على غريزة النسل، حتى يبلغ الأمر نهايتيه في النابغة، فيكون أنفع الناس لنوعه بقواه الأدبية، وأقلهم نفعًا له بنسله؛ ولذلك لا يرغب النابغون في الزواج، وإن تزوجوا لا يلدون، وربما وُلد لهم، ولكن لا يعيش أبناؤهم، أو يعيشون ولكنهم يهملون في الغالب تربيتهم وإنباتهم، وتلك لعمري حكمة بالغة، وسر دقيق من أسرار الاقتصاد الطبيعي في تقسيم العمل.
إن كان للأمة جهاز عصبي، فإن الشاعر العبقري أدق هذه الأعصاب نسجًا، وأسرعها للمس تنبهًا، ولا غنًى لجسم الأمة عن هذه الأعصاب المفرطة في الإحساس، لتزعج الأمة لأخذ الحيطة بينما تجمد الأعصاب الصلبة في صمم البلادة والأنانية.
فلا يَنظرَنَّ الذين ينفقون فلسفة الرِّضَى عندنا إلى المسألة من جهة واحدة، ولا يقولُنَّ نحن في عصر العمل، فزخرفوا لنا الحياة وشوقونا إليها، كلا! لسنا يا قوم في عصر العمل، فكم من عمل يدعو العاملين ولا يجيبونه! وكم من عامل يفتأ يدعو العمل فلا يجيبه! بل نحن في عصر التردد والاستياء، ولا بد لهذا الاستياء أن يأخذ مداه، ويطلع على كل نقص في أحوالنا، حتى إذا تمكن من النفوس فحركها إلى العمل، وعاد عليها العمل بالرِّضَى، فلا ينسَ الناس يومئذٍ فضل شعر الضجر والاستياء.
فلئن توسم القارئون في شعر هذا الديوان هذه السمة، فليذكروا أنهم يقرءون ديوان شاعر يترجم عن زمنه «والمرء في نفسه يرى زمنه» كما يقول.
ويُخيل إليَّ أن أخانا إبراهيم لو لم ينبغ في هذا العصر السوداوي، ونبغ في عصر فجر التاريخ، لكان هو واضع أسماء الجنة، عمار الغيران والجبال، وساقة السحب والرياح والأمواج، فإن به لَولعًا بوصفها، وإن أذنه لتتسمَّعها كأنها تنشد عندها خبرًا، وأظنه لو كان خلق الدنيا، لما خلقها إلا جبالًا عظيمة، وكهوفًا جوفاء، ورياحًا مدوية، وغمامًا مرزمًا رجاسًا، وبحرًا مصطخئًا عجاجًا، انظر كيف يصف الغار الذي يتمناه في قصيدة مناجاة الهاجر:
ومثله قوله في أحلام الموتى:
أو قوله في ثورة النفس:
أو قوله من قصيدة أحلام اليقظة:
أو قوله في مناجاة الملاح:
أو قوله من قصيدته الرهيبة «ثورة النفس في سكونها»:
إلى أن يقول:
واقرأ له الدار المهجورة، أو فتًى في سياق الموت، أو الحياة حلم، تُحس في كلٍّ منها هذه الروعة والفخامة.
وللمازني أسلوب خاص، لا يدلك على أنه أسلوب السليقة والطبع أكثر من هذا التآلف الذي تجده بين قلمه ونفسه، فإن قلمه يتحرى الفخامة في اللفظ، والروعة في حوك الشعر، كما تتحرى نفسه — على لطافتها — الفخامة في المشاهد، والروعة في مظاهر الكون والطبيعة.
والتآلف بين الطبع والتعبير شأن كل شعر في هذا الديوان، اقرأ فيه بعد شعر الوصف الذي تقدم التمثيل له شعرَ الغزل، فإنك ترى عبارته أليق ما عبَّر به عن عاطفته؛ لأنها عاطفة لا تسعر بالوقود من الخارج، وليس الحب فيها حبًّا تضرمه عين المحبوب كما تضرمه نفس المحب، وهي عاطفة تحيا بغذاء من حرارتها، ومثل هذه العاطفة يحلو لها ترديد نفسها، وتقليب وجوه ماضيها وحاضرها، وأهواء النفس تختار الأسلوب الذي يلائمها، فلو أن الحب هنا حب تأخذ منه البواعث وتعطي لكان نعاماه إذا امتلأ به الصدر أن يصعد من القلب صرخة تفرج عن صاحبها ثم ينساها، ولا يعود إليها حتى يراجعه الوله والوجد، ولكن حب يطاول القلب، ويدور في جوانب النفس، فلا يوافقه إلا أسلوب يدور في الأذن، ويطن في جوانب الأسماع.
فلا غرو أن ينسجم هذا الهندام على ذلك القوام، وأن يستشف القارئ ألوان العواطف من هذا الأسلوب، على أحكام نسجه وتفصيله، فيعلم أن شعر الطبع والإخلاص غير شعر الصنعة والتقليد.