المقدمة

بقلم صاحب الديوان

الشعر في أصله فن ذاتي يحاول الشاعر أن يرضي نفسه به، ويتعلل ويتلهى، إلا أن هذه الحال التي ليس للشعر فيها إلا غرض ذاتي، ولا غاية إلا الترفيه عن أعصاب الشاعر وإراحته من ثقل الفكرة التي تتحول إلى عاطفة؛ هذه الحال لا وجود لها إلا في العصور الأولى من تاريخ الإنسان، أيام كان يأوي إلى الكهوف والغيران، وينقش على جدرانها صور الحيوان الماثلة في الذهن المتشبثة بأهداب الذاكرة والوجدان؛ أولئك المستوحشون الذين كانوا يزينون كهوفهم بصور الحيوان والأعداء والنساء، ويوقظون الصدى في مخارم الجبال ومنعطفات الأودية بأنغامهم الشاكية الهافية، ويطفئون وقدة الوجد بالرقص في ليالي الربيع على ضوء القمر، ويترجمون عن إحساسهم بظواهر الكون في أغانيهم وأساطيرهم، هؤلاء هم أول — وآخر — من عالج فنًّا لذاته.

ثم لم يلبث الشاعر أن أحس فرق ما بينه وبين سائر الناس، وأدرك أن إحساساته أدق، وأداءه عنها أبلغ وأوقع، وأنه في الجملة أبعد منهم مرمى، وأرفع مصعدًا، وأرقى قدرًا، وأن له شأنًا غير شأنهم، وأنهم يلتذون كلامه ويشجعونه على إمتاعهم بمثله، ويزفون إليه ثناءً لا يلبث أن يصير إعجابًا، وخليق أن تُحدث هذه الحال الجديدة الناشئة عن شعوره الجديد تطورًا في أغراضه وبواعثه، فيصبح ما كان ضرورة جسمية ذاتية — كالطعام — فنًّا عمليًّا يزاوَل ويعالَج، ويُتعهد بالتهذيب والتنقيح والتجويد، ويصبح ما كان في أصله وحيًا لا حيلة له فيه عادةً وأسلوبًا؛ وسرعان ما يصبح الشاعر يقلد نفسه!

فإذا كرت الأيام، ودار الزمن، وجاء وقت التفكير الهادئ، والعمل المرتب المنظم ذكر الشاعر ساعة تملكته حمى الوحي والإلهام، ودفعته قسرًا في طريق الأدب، وإن غريزته ما زالت تلهمه وتوحي إليه، ولكن عمله في الواقع قد صار صناعة تقسره عليها الإرادة الذكية، والرغبة الملتهبة، وما زال يطلب إرضاء نفسه وهو يعالج عمله، ويبغي الترفيه عنها من ضغط عواطفه، ولكنه قد أصبح طماح المعين كثير المراغب يفكر في جمهور قرائه وعشاقه، ويحلم بما يمني به نفسه من النجاح.

وواضح من ذلك أن الشعر كان يعالَج لذاته، أو بعبارة أخرى: ليريح المرء نفسه من ثقل الحاجات الجسمية، ثم صار الشاعر يطلب أن يرضي غيره فضلًا عن نفسه، وامتزجت فكرة النجاح والتأثير بعواطفه المنتجة، ولكن الشعر الذي يقع من قلوب الناس ويبتعثهم لا يمكن أن يكون تقليديًّا مكذوبًا؛ فإن القلب لا يخطئ في التمييز بين الشعر الكاذب والشاعر الصادق، وللنفوس معايير حساسة لا يجوز عليها التزييف والتمويه والتزوير.

بَيْدَ أني لست أنكر أنك قد تبلغ بالكذب ما لا يبلغه الصدق، وتنال بالتمويه والخديعة ما لا تنال بالحق، غير أن الأديب أكبر من ذلك وأرفع، وغايته أسمى وأبعد، وللشعراء ضمائر شاهدة غير نائمة، والحق أحق أن يستولي على هوى النفس، وينال الحظ الأوفر من ميل القلب؛ وكيف يطبيك رجل يمسك على ما في نفسه ويستر ما يناله حسه، ويفر من شخصيته، أو رجل لا ينظر بقلبه ولا يستعين بفكره ولا يستنجد فهمه، أو آخر يأبى أن يبرز معانيه من ضميره، وأن تدين لتبيينه وتصويره، وأن ترى سافرة بغير نقاب، بادية دون حجاب؟

لقد طال استخفاف المتأدبين بضرورة الصدق والإخلاص حتى استخف بهم الناس، واشتد غلوهم في إنكار مكان الحاجة إليهما، حتى أنكرنا عليهم ما تكلفوه من فضول القول ونفاية الكلام، وما تجشموه من ضروب الأغراب الذي لا يغني من الأدب شيئًا، وأنواع المعاياة التي لا تعود بطائل، ولا ترجع بفائدة؛ ولعمري لست أعرف شيئًا هو أحلى جنًى وأعذب وردًا من الشعر إذا صدقَنا أهلُه المقالَ، وترفَّعوا عن التقليد الذي لا حاجة بنا إليه ولا ضرورة تحملنا عليه، وتنزهوا عن مجاراة الناس ومشايعة العامة وتوخي مرضاتهم؛ فإن لنا أعينًا كأسلافنا وقوة حاسة كقواهم، ومادة الشعر لا تفنى ولا تذهب؛ لأنه ليس شيئًا محدودًا معلومًا.

ولكنه صوب العقول إذا انجلت سحائب منه أعقبت بسحائب.

وما الشعر إلا معانٍ لا يزال الإنسان ينشئها في نفسه، ويصرفها في فكره، ويناجي بها قلبه، ويراجع فيها عقله، والمعاني لها في كل ساعة تجديد، وفي كل لحظة تردد وتوليد، والكلام يفتح بعضه بعضًا، وكلما اتسع الناس في الدنيا اتسعت المعاني كذلك، والصدق في الترجمة عن النفس والكشف عن دخيلتها أبلغ في التأثير وأنجح، والأصل في الشعر وسائر الفنون الأدبية على اختلافها وتباين مراميها وغاياتها، النظر بمعناه الشامل المحيط، وإذا كان هذا كذلك أفليس من العبث تقليد السلف والاقتصار على احتذائهم والاقتياس بهم، فإن وصفوا النياق والحمير وصفنا القاطرة والعربات؟ ألا ترى أن العرب الذين وصفوا النياق والحمير والخيول وأشباهها قد أضاعوا أعمارهم؟ لا ريب أن وصفهم ذلك طبيعي، ولكن هذه اللفظة غامضة كل الغموض؛ فإن الحمير طبيعية، والعواطف والانفعالات النفسية طبيعية، بَيْدَ أنه لا يجوز الخلط بينها؛ لأنها جميعًا مختلفات، والحقائق الطبيعية فيها الضئيل والعظيم والحقير والجليل، وفيها ما هو أخشن من أن يحتمله نسج الشعر الرقيق، وهناك حقائق يخطئها الإحصاء عدا النياق والحمير، وللحياة غايات وآمال أكبر مما يشغل النظر، ويستغرقه من ذاك. وقد يدل وصفها على براعة وإبداع، ولكنه حقيق أن يدل على عجز عن التفطن للحقائق الفنية الجليلة التي ينبغي أن تكون العناية بها أشد من العناية بالحمير والنياق.

إن الشعر ديوان يقيد فيه أهل العقول الراجحة ما يجيش في خواطرهم في أسعد الساعات، وهو الذي ينقذ من الفناء والعدم خواطر الإلهام، وهو يحلق بالمرء فوق الحياة، ويرغمه أن يُحس ما يرى وأن يرى ما يُحس، وأن يتخيل ما يعلم وأن يعلم ما يتخيل، وهو يجعل القبح جمالًا ويزيد الجمال نضرة وجلالًا، ويفجر في النفس ينابيع الأمن والفزع والسرور والألم، ويُذهب مياه الموت المسمومة المتدفقة في عروق الحياة، فلا جرم كان الشاعر أحس الناس، وأعمقهم حكمة وأجمعهم لخلال الخير وخصال الفضل، نقول الفضيلة والخير ولا نخشى أن يهز القراء رءوسهم إنكارًا؛ فإن الشعر أساسه صحة الإدراك الأخلاقي والأدبي، ولست بواجد شعرًا إلا وفي مطاويه مبدأ أخلاقي أدبي صحيح، وعلى قدر نصيب الشاعر من صحة هذا الإدراك الأدبي تكون قيمة شعره.

ولا يتعجل القارئ فيحسب أنا نقصد إلى إظهار الإحساس الديني في الشعر، فليس كلامنا على مادة الشعر، بل على مصادره وينابيعه، ولا ينبغي كذلك أن يستخلص أن الشاعر يجب أن يكون صاحب مبدأ عملي لا يتحول عنه، فقد كان بيرنز الشاعر الإنجليزي، وأبو نواس، وامرؤ القيس متقلبي وجوه الحياة ومظاهرها، ولكن نصيبهم مع ذلك من صحة الإدراك الأخلاقي والأدبي عظيم.

ولئن كان لهم معايب نؤاخذهم بها فقد أحالها الزمن هباءً لا قيمة له ولا وزن، وأنت خليق أن تنظر إلى ما وراء ذلك، فإن أبا نواس أصح مبادئ وأنقى ضميرًا من البحتري على كثرة ما تقرؤه للأول مما يروع ويخجل، وكذلك امرؤ القيس أفطن إلى معاني الفضيلة وأعظم رجولة من أبي تمام وابن المعتز، ولم يكن الأعشى على حبه الخمر واستهتاره بها وتخلعه فيها بالرجل الناضب الفضيلة.

وكأني بهذه المعايب والمظاهر الخادعة من لوازم الحياة، والشر بعد لا ينفي الخير، بل قد يُنتج هذا ذاك، فإن مما لا شبهة فيه ولا ريب، أن النفس الإنسانية ليست كخزانة الكتب ترى فيها الفضائل والرذائل مرصوفة مرتبة لا تعدو واحدة مكانها ولا تتجاوزه إلى سواه، وإنما هي ميدان لتلاقيها وتلاحمها، وعالم صغير تتصادم فيه الغرائز والملكات، وتقتتل على الحياة والبقاء كما يحترب الناس في هذا العالم الكبير، ويتنازعون البقاء فيما بينهم، وبحر تتسرب فيه الطبائع بعضها في خلال بعض كما تتسرب الموجة في خلال الموجة وتغيب.

ولكن جمهور الناس وعامتهم لا يفقهون شيئًا من ذلك، وهم إنما يقدرون الرجل بما يبدو لهم منه في فعاله أو كلامه؛ إذ كانوا لا يستطيعون أن يوفقوا بين مظاهر الشر والخير، ولا يعلمون أن السكير مثلًا قد يكون أصح مبادئ ممن لا يعاقر الخمر ولا يني عن التسبيح في السر والعلانية، ولست أريد أن أدفع عمن يتنزى إلى المقابح، ويتسور إلى المعايب، وإنما أريد أن أقول: إن القارئ ينبغي أن ينظر من شعر الشاعر إلى نفسه، وأن يتلمس من معاريض كلامه ويستشف من وراء لفظه نصيبه من صحة الإدراك الأخلاقي، وأن يجعل ما يستبين له من ذلك مقياسًا للشاعر لا ما يقرؤه من ذكر الخمر والتشبيب وغير ذلك.

وبعد، فإن القراء لا ريب ينتظرون منا كلمة فيما قيل عنا من انتحال معاني شعراء الغرب، والإغارة على قصائدهم وادعائها. ولقد كنا نحب أن نغضي عن هذه التهم اكتفاءً بإظهار الجزء الثاني من ديواننا؛ فإنه وحده خير رد على ما رمينا به، ولكن الضجة التي قامت حول هذا الموضوع والشماتة الحقيرة التي لم يخفها قتلى المذهب العتيق، لا تجعلان السكوت من الحزامة في شيء، ولقد كان الإنصاف ألا يلام غيري إذا صح ما نسب إليَّ، ولكن الناس تجاوزوني إلى غيري، واتهموا سواي قياسًا عليَّ، وإن كنت لم أرمِ أحدًا ممن نقدوا شعري بالسرقة! وهذا عنت ظاهر يريك مبلغ الناس من الفهم والعدل.

أما ما قيل إني سرقته فقصائد بعضها — وهو الأقل — مطبوع في الجزء الأول، والبعض لم يكن قد نُشر بعد، ولست أدري كيف استحل الناس لأنفسهم أن يجزموا أنى إذا طبعت الجزء الثاني لا محالة منتحل هذه القصائد؟ وهي «الراعي المعبود»، و«الوردة الرسول»، و«الغزال الأعمى»، و«إكليل الشوك»، وخمسة أبيات من قصيدة «الشاعر المحتضر»، وكلها منشورة في هذا الجزء منسوبة إلى أصحابها.

أما ما اتُّهمنا بسرقته مما ورد في الجزء الأول من ديواننا، فقصيدة «فتًى في سياق الموت» وهي ثمانية أبيات، ولقد راجعنا قصيدة الشاعر «هود» فوجدنا في قصيدتنا أبياتًا ليست له، ونحن ننزل عن القصيدة كلها راضين، ونبرأ إلى الله من تعمُّد أخذها والإغارة عليها، وقصيدة «قبر الشعر» وهي خمسة أبيات نكلها إلى حظ أختها.

ولقد راجعنا الجزء الأول قصيدة قصيدة لنميط عنه هذا الأذى، وراجعنا دواوين الشعراء التي عندنا زهادة منا فيما عسى أن يكون قد علق بخاطرنا من شعرهم ونحن لا نعلم، فلم نعثر على شيء يجوز من أجله اتهامنا بالسرقة إلا أبيات في «رقية حسناء»، وهي ﻟ «شلي»، والجزء الأخير من قصيدة «أماني وذكر»، وهو ﻟ «بيرنز»، وأول هذا الجزء «يا ليت حبي وردة».

ولو أن ما أخذ علينا في الجزء الأول، وما نبهنا القراء إليه من تلقاء أنفسنا حُذف، لما أنقص ذلك من قيمة شعرنا؛ فإن في ديواننا الأول نحو ألف بيت، وليس ما أخذ علينا خيرها.

ولئن كان هذا دليلًا على شيء، فهو دليل على سعة الاطلاع وسرعة النسيان، وهو ما يعرفه عنا إخواننا جميعًا.

هذا ولا يسعنا إلا أن نشكر لصديقنا شكري أن نبهنا إلى مآخذ شعرنا والسلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤