العِراك

زادك الله رونقًا ورواءَ
ورعى الله حسنك الوضاءَ
أيها الساحري وأبقاك للعَيـ
ـنين والقلب صحة وضياء
وثنى عنك كل عين، إذا جا
ل بسوءٍ حملاقُها، عمياء
وتخطاك كل سوء وجازتـ
ـك العوادي وصادت الأعداء

•••

قالت النفس إذ رأتنيَ أدعو
الله جهدي ولا أسيء الدعاء
«كم تمنيت أن تريد ليَ الخيـ
ـر وتسقي قبل الرواء الظماء!
أغرامًا بالناس وهْمُ كما تعـ
ـلم سوءًا وخسة وغباء؟
عبث ذاك كله ومحال
فاعرف الحق واجنب الأهواء»

•••

قلت: «ما لي لا تطلب الحسن عيني
مثل ما تطلب الصدور الهواء؟
إن للحسن سحره مثل ما للـ
ـمال والجاه والذكاء سواء»

•••

قالتِ اذكر لواعجًا كنت تصليـ
ـني لظاها عشية وضحاء
أذكر الجنة التي فقد الشيـ
ـخ أبونا بحبه حواء
أذكر اللعنة القديمة من آ
دم فينا ولا تزدنا شقاء
وكفى بالحياة والسعي والآ
مال والهم والشكوك عناء
قلت: «ماذا أصير إن حرم الحـ
ـبَّ فؤادي وبات منه خلاء؟
انظري! هل ترين إلا جمالًا
وجلالًا لا يعرفان انتهاء؟
جعل الله كل هذا لمعنًى
أم عناءً وباطلًا وهباءَ؟
لا تقيسي الحياة بالذاهب الغا
بر منها فتشبهي الجهلاء
إن للشاعر الكبير لعينًا
ذات لحظ لا يشبع استقصاء
يتوخَّى بعد السماء سماء
ويُريغ الآبادَ والآناء
أُوتِيَتْ روحه اليقينَ فلجت
إن ذا الشك مقصر لا مراء
كلما شيَّخ الزمان عهودًا
رجعت روحُه لهن الصباء
أبدًا يجتلي شباب زمان
وسواه الكهولة الشوهاء
يجتليها مطلولة الفجر ريًّا
تزدهي اللب نعمة ورواء
ويراها عذراء ما فض عنها
ختم سرٍّ مصونة عصماء
لم تزل عنده وإن قدم الدهـ
ـر عليها؛ جديدة عذراء
ويرى بالضمير خيرًا عميمًا
خلل الشر واضحًا لا خفاء
وإذا أحرقته منها هموم
قدحت منه همة ومضاء
أفمن كان شأنه ذاك يخشى
شربة في حياته كدراء؟
أين كالحسن باعث لك يحتـ
ـثُّ ووحيٌ يُحيلنا أنبياء؟
خبريني عن نعمة كانت النعـ
ـمة صرفًا ولم تفدك عناء؟»

•••

قالت: انظر أعماق نفسك هل تبـ
ـصر فيها بقية أو ذَماء؟
من أبى أن يقيس غورَ قواه
حمَّلتْه حياته الأرزاء
قد أشابتني الليالي وشيب الـ
ـنفس أدهى من شعرة بيضاء
وكأني الزمانُ عمرًا وإن كنـ
ـت بسني صغيرة عجفاء
ما عسى صبر ذي الكلال على الإعـ
ـنات والبرح ضحوةً وعشاء؟
نضب العزم — والمنى ثرة العيـ
ـن — لعمري ما أسوأ القرناء
شيبة العزم مع شباب الأماني؛
أضعيف يظاهر الأقوياء؟
دون ما تبتغي حوائل ضعف
فاجعل العزم والمنى أكفاء
أيها الطين ما ترى بك أبغي
لست فيما أرى لشيء كفاء
إن طلبت السماء قلت ليَ الأر
ض أو الأرض كنت لي عصَّاء
حرتُ حتى الذي أفكر فيهِ
لست أسطيع صوغهُ والأداء
كل حب إلى ملال — وللحسـ
ـن عفاء — وما أمض العفاء!
خل عنك الأحلام واسع لداعي الـ
ـعقل يا من لا يستجيب دعاء
إن للقلب جمحة فاجعل العقـ
ـل لجامًا يغالب الغلواء
ما لنا ننفق الحياة يمينًا
وشمالًا مستعجلين الفناء؟
أضمنَّا عمرًا سوى ذا جديدًا؟
أم وجدنا لعمرنا رفَّاء؟
عشت ما عشت لاهيًا تطلب الحـ
ـب وتعتدُّه لديك غذاء
فتأمل كم ساعة عاشها عقـ
ـلك هذا وأطرق استحياء!
حولك الأرض والسماوات تغري
كل عقلٍ مفكر إغراء
إنما كان حق عقلك أن يصـ
ـقل لا أن تسومهُ إصداء
تطلب الحسنَ دائبًا لتغنِّيـ
ـه كما غنَّت الحمام الضياء
مسندًا صدرك القريح إلى شو
كة ورد لا تخطئ الأحشاء
إن يكن ما زعمت حقًّا فأولى
أن تحاكي النسور لا المُكَّاء
ترفع الطرف مثلها في سماء الـ
ـفكر حتى تصافح الجوزاء
أيُّهذا المسكين مهلًا رويدًا
واسمع الدهر يضحك استهزاء!
أنت عبد الحياة تبكي وتشدو
بغناء لا يعجب الطلقاء
أبدًا لا تزال تبكي إسارًا
أو تلهِّي في سجنك الحوباء
ترسل الصوت باكيًا فيؤديـ
ـه صداه مقطَّعًا أجزاء
مثلما صاح في الظلام صبيٌّ
كلما جد خوفُه الظلماء
ومع الرق والإسار فقد تحـ
ـلم — كالحر — بالخلود اجتراء
وتقول الجمال وحي، وما الحـ
ـبُّ سوى سلم ينيل السماء!
ليت شعري أللأزاهير وحي
ليس يألو أنفاسها إذكاء؟
كيف تغدو الأشجار رفَّافة الغصـ
ـن عليها ثمارها فيحاء؟
أين وحي الينبوع فاضت به الأصـ
ـلاد فانساب ماضيًا حيث شاء
إنما أنت كالرياح إذا هـ
ـبَّت سواء لا تملك الإعفاء
تتغنى ولست تدري لماذا؟
هكذا شاءت الحياة الغناء
وتصوغ القريض عفوًا وإن كنـ
ـت تظن القريض كان احتفاء
غرَّنا أنَّنا نُحس فخلنا
أن لنا في حياتنا أن نشاء
إن نكن صادقين فيما وهمنا
فلنُبدِّل بأساءنا نعماء
كم يريد الفتى ويُحرم ما يطـ
ـلب بل يُحرم المنى والرجاء
نحن ألعوبة بأيدي الليالي
لا نلاقي من صرفها إبقاء
يتقاذفْننا ويسخرْن منا
ويكلفْننا الرِّضَى والبكاء
ما تبالي الأيام ثارت بنا هو
جاء أم غضَّة النسيم رخاء
فتراها آنًا تقص جناحَيـ
ـنا وآنًا تنميهما إنماء
وأراها لما رأتنا قرودا
أوسعتنا في عيشنا إزراء
عابثاتٍ بنا يخاطبن منا
أغبياء قد أشبهوا الببغاء
حفظوا باللسان ثم تحاكوا
كلمات من المعاني قواء
لا يحسون صدقها، بل يحسو
ن رنينًا رأوا به الإكتفاء:
الهوى والخلود والوحي والعز
م جميعًا والهمة الشماء!
إيه ما أرخص العقول علينا
إن حشونا عقولنا أسماء!
لا بعقل ولا بحكمة طبع
لج منا من لج أو من فاء
مغريات بنا الأمانيَ والإعـ
ـجاب والخوف والهوى والرياء
واقفات بنا مواقف سخر
توسع الكبر والغرور اكتواء
بين ذكرى تقتادنا للأماني
وأمان تفيدنا الكبرياء
نحن أهل لكل هذا من الدهـ
ـر وإن كان صرفه كوَّاء
إن للحق في الحياة على النفـ
ـس لحقًّا لا يقبل الإغضاء
قد تناولننا الليالي بإحسا
ن وبرٍّ يستوجبان الثناء
وهبتنا العقول وهْي عتاد
فجعلنا إهمالهن الجزاء

•••

قلت: يا ليتها إذًا حرمتنا
نعمة لم نَعُدْ بها أغنياء!
ما عليها لو أنها تركتنا
أبد الدهر نرتعي الأكلاء؟
فرعينا ملء البطون نباتًا
ونشقنا ملء الصدور هواء
ووقتنا «عد» السنين فما جا
ءت سنون ولا «مضى» ما جاء
ثم أهدت لنا البلادة كيما
نتقي باكتسائها الأسواء
فحيينا بموتنا جهلاء
ثم متنا ولم نكن أحياء
ولبسنا الحياة في كل حال
جاهلين انتهاءَها والبداء
وتهاوت بنا البلادة أن نر
فع إلا لواحظًا عمياء
كل وجه تلقاه تقرأ فيهِ:
البسوا الجهل تحشروا سعداء
لكنِ الله قد أفاض علينا
«نعمة» الحس فاستلبنا الهناء
إيه هيهات ينفع العقل أو يبـ
ـدلنا من سمومنا أصباء
وعلى أن سابحًا ناوأ التـ
ـيار أو شارعًا عليه، نجاء
صنو من أسلس القياد وخلَّى الـ
ـماء يرمى بشلوه الأرجاء
لو ترى الماء ناطقًا قال: «سيا
ن مطيعي وتاخذي أمطاء
بل سواء عليَّ نازعني الركـ
ـب فؤادي أم جشموني الجفاء
لا أحس السنين تحدى ولا الأسـ
ـماك؛ شتى تغازل الأحشاء
لا ولا الريح إذ تثور ولا البر
ق ولا الرعد لا ولا الأنواء»
قد رزقنا الإحساس دون سوانا
فعدمنا في عيشنا النظراء
وجدير بمن تميز عن كـ
ـل نظير أن يحمل الأعباء
نحن أحيا الأحياء طرًّا فلا كـ
ـنَّا إذا ضاعت الحياة هباءَ
فلتقيموا السدود دون مجاري الـ
ـقلب ولتوقفوا بهن الدماء
ذاك خير من أن نعود صخورًا
لا تبالي ما حولها، صماء
لو نحس الحياة بالعصب العر
يان ما كان ذاك منا كفاء
كل شيء يسبي إذا نظر الفكـ
ـر إليهِ ويكتسي لألاء
فإذا ما أجلت عين التجاريـ
ـب استحالت وجوهه سوداء
لا تطيلي تخويفيَ الحب يا نفـ
ـس فما أستطيع عنه التواء
وهبيني كما زعمت أسيرًا
يتقاضانيَ الزمان الولاء
وهبيني مطامعي جامحات
أوسعتني عن غايتي إقصاء
وهبيني سيدرك الصبح عندي
ظل ليل يطاول البرحاء
فاذكري أنها المقادير تجري
كيفما شئن هن فينا القضاء
قلقي حجتي فما لي قرار
ولياليَّ ما تمل الحداء
فيَّ أيد وقوة فإذا لم
ألف لي منفذًا رعيت البلاء
هل تطيق النسور أرضًا وما زا
ل جناح لهن يطوي الفضاء
ظلم اللهَ من تراه لما يمـ
ـنحه الله خازنا خبَّاء
وتعالى الإله عن أن نراهُ
مسرفًا ليس يحسن الإيلاء
أتريدين نيمة ليس فيها
حلم في غضونها يتراءى
فكأنا دمى حياة تراءت
فوق أجداثهن أو تلقاء
عمرك الله هل رأيت بني آ
دم إلا يستروحون عناء؟
قد طُردنا من الفراديس قدمًا
وكُتبنا في أرضنا أشقياء
فلنا العيش ظله راكد الثقـ
ـل صباحًا وغدوة ومساء
في بساتين شقوة يتهدلـ
ـن بأثمار حسرة سوداء
تتداعى على ذؤاباتها الغر
بان والبوم — لا القماري — وِلاء
فرشت أرضها همومًا وأشجا
نًا كأرض الجحيم لا حصباء
وامترى النحس من أديم صفاها الـ
ـمهل لا ماءها ولا الصهباء
فإذا هبت الرياح عليها
أنشقتنا الأوصاب والأدواء
هذه حالنا على كل حال
أبدًا نرتعي الأذى لا المراء
شؤم ذنب جناه آدم بل حـ
ـوَّاء بل من أغراهما إغراء
قد ثكلنا سعادة العيش لما
رزق الشيخ آدم الأبناء
نحن يا نفس والمقادير صنوا
ن جرى الخُلف بيننا ما شاء
حبذا هذه السعادة لو كا
نت لحيٍّ، ولم تكن جوفاء!
حبذا الزهد في الحياة لوَ انَّ الـ
ـزهد فيها يبرِّح الغمَّاء!
وأرى خاطب السعادة والرا
غب عنها في عيشه عُدَلاء
و«أبيقور» لو علمت ﮐ «زينو»
قد أصابا — كلاهما — الإخطاء
ذا كهذا يأسًا من الخير طرًّا
وفرارًا من نفسهِ ونَجاء
ماتح الصخرِ مخفق أي إخفا
قٍ كمن طلَّقت رشاه الدِّلاء
وسواء من قال ليس سوى الأر
ض ومن قال لن تنالوا السماء
قال «زينو» ازهدوا فأنى تهالكـ
ـت فما إنْ أفدت إلا الظماء
وطلبت اللذات طرًّا فما ألـ
ـفيت فيها لذي حصاة غناء
فعسى تحسم الزهادة داءً
لم أجد في الرياد منه شفاء
ويرى صنوه «أبيقور» أن الـ
ـزهد في العيش لا يسيغ الشجاء
ويرى أوجب الأمور على المر
ء تناسي الهموم والتأساء
ولمَن يرفض الحياة خليق
رفضه أن يزيدهُ إحماء
والذي يحسب الزهادة منجًى
يخسر النفس؛ طيبها والرضاء
كيف تُجنى سعادة العيش لم تمـ
ـدد لأثمارها الأكف اجتناء؟
أم تعالت بها استِحالتها أن
نبتغيها؟ لطاش ذاك ارتياء
ما علينا لو أفلتت وقنصنا
— دونها — كل متعة غراء
فاهربوا من نفوسكم أيها النا
س وسوسوا ذكاءها إطفاء
بلدوها فإن شر خطوب الـ
ـدهر أن ترزق النفوس الصفاء
ينعم الأبله الغبي ويشقى
كل من أوتي الحجا والذكاء
واللبيب اللبيب من يمحض النفـ
ـس مراحًا — لا راحة وعفاء
والسعيد السعيد من يقهر النفـ
ـس ويُنضي مطيَّها إنضاء

•••

قالت النفس: إن للنفس فاعلم
لخريفًا كدهرها وشتاء
حين تنضو الأيام أوراقها الخضـ
ـر وتُذوي أغصانها إذواء
حصدت خيريَ الليالي وسامت
أيكي الوارفَ الجنَى إعراء
تتوالى الفصول من غير ميعا
دٍ علينا وقد عدمنا الوقاء
ويئوب الربيع يعقبه الصيـ
ـف ولكن ما إن نصيب دِفاء
كل يوم يزداد صيفيَ نقصًا
ويقل الربيع عندي ثواء
وتُولِّي صوادحي عن جنابي
مسرعاتٍ وكنَّ قِدْمًا بِطاء
مات عندي الصبا فدعنيَ أنسج
لشبابي الأكفان والأسجاء
فرط حرصي على أزاهير عيشي
زاد نوارها بكفي ذواء
وغدا الصدر للزوافر غارًا
لا تؤدي أقباؤه الأصداء
أترى أن أعود للروض أدرا
جي وأجني أزهاره الزهراء؟
خلِّ عني بالله هذا لغيري
أولسنا براحة خلقاء؟
وتمهل وانظر أكفى بميت الـ
ـزهر — مما قطفت قدما — ملاء!
أغِناء تريد مني وما أحـ
ـسن إلا أن أزفر الصُّعَداء!
أيها الآمري بأن أتغنى
كل زهراء تستبيك استباء
ما بها حاجة إلى صدحاتي
فتعاني «لسحرها» الأصغاء
لم يرعهن دهرهن ولا أشـ
ـبع أنفاسهن إلا استواء
ليس تدري عيونها ألم الدمـ
ـع إذا لزَّ بالجفون إباء
لا لعمري كفى بهذي القماري
ساجعات، وحسب نفسي التظاء
أجميل إثقال شعرك بالدمـ
ـع لعينين لم تذوقا البكاء؟
أجميل تحميله عبء عمر
لغرير يشكو لنا الأنداء؟
أجميل إزعاج ألحان ذي الحسـ
ـن بشعر ملأته ضوضاء؟
أنتقامًا أردت من حسن ذي الحسـ
ـن بشعر مُروع واشتفاء؟
أمن العدل أن تحيط بأنقا
ض حياتي جماله الوضاء؟
كيف أشدو له وبركان صدري
ضربت نارُه عليَّ خباء؟
كيف أشدو له وزلزال يأسي
مؤذن أن يُصيرني أشلاء؟
أم ترى الشعر يستطيع إذا ما
جاش أن يحكيَ الطيور أداء؟
صدحات الأطيار فضية الرَّ
نَّة ينفي صفاؤها الأقذاء
لكن الشعر لا يزال يشوب «الـ
ـفكر» فيهِ حنينه والنُّزَاء
ملت العين أن ترى كل يوم
غصنًا يانعًا يعود أباء
ملت الأُذْن كل لفظ حبيب
تفتريه المنى عليها افتراء
ومللت الرجاء في حالتيهِ
حين يطغى أو ينثني بي انثناء
لست أبكي على عهودي؛ فسيَّا
ن دنا ذكرها بها أم تناءَى
أبدًا أفتح النوافذ من رو
حيَ للشمس وهْي تفري الغِماء
لا رجائي مساوم عزماتي
لا وَلاَ الخوف محدث لي انكفاء
أتلقى الذي يجيء به الدهـ
ـر وأقنى تجمُّلًا واجتزاء
وأحاشي زرع الفيافي وقدمًا
خاب من بات يرتجي الصحراء
غير أني وإن سكنت إلى اليأْ
سِ لأخشى من يأسيَ استشراء
ربما قَرَّ زَاخِرُ اليم حينًا
ثم آضتْ أمواجه هوجاء
مثلما سادت السكينة في الحو
مة والقوم ينتوون اللقاء
لا تدق الرياح لليمِّ طبلًا
لا ولا تنذر الثرى والسماء
بل يروئن في الكهوف مليًّا
وتناجي سمومها الجرباء
وكذاك الحياة أهول ما تسـ
ـمي إذا ساق صبحها البشراء
إنما نرقب الذبول إذا ما امـ
ـتلأ الزهر بهجة وبهاء
قلت: ما خير أن أظل حياتي
أتقصى وجوهها استقراء
أنا هذا الذي أحس، وهذا
كل ما قد وسعته استقصاء
أين كنا قبل الحياة وأنَّى
نغتدي بعد إذ نلاقي الفناء؟
أنا كون أحس أو صرخة بيـ
ـن سكونين أسكنا طخياء
أنا ظل ألقته سحب ينازعـ
ـن — على ربوة الحياة — الضياء
أنا سهم مضى من الغابر الما
ضي إلى المقبل البهيم مضاء
أنا ضوء الشهاب تومض ناري
وهْي تجتار هذه الأجواء
لست أدري هذا الفضاء لماذا
كان للناس والوجود غطاء
وأرى النجم طالعًا ثم يخفى
وأرى الصبح يعقب الظلماء
وأرى اليمَّ لا يزال له مـ
ـدٌّ وجزر قد أرهقا الأشطاء
وأرى للفصول في كل حول
دورة لا تحاول استثناء
كل شيء أراه ينبئ أن الـ
ـكون لا شك ملهم أنباء
آية الوحي ليس تخفى ولكن
سرها السر أعجز الحكماء
ما نصيبي من كل ما تأخذ العيـ
ـن؟ وهل من يُقسِّم الأنصباء؟
أترى حسنًا سواء وحس الـ
ـكون؟ أم ليس ما حيينا سواء؟
أترى القدرة التي تقدح الصبـ
ـح مضيئًا وتنسخ الأمساء
وتثير النسيم فينا عليلًا
وتسيل الدُّجُنَّة الوطفاء
وتذيع العبير في زهر الرو
ض وتشجي حمامهُ إشجاء
وتجيل الشباب في صفحة الوجـ
ـه وتضفي رداءه إضفاء
وتضيء الشموس في بهمة الكو
ن وتجلو لألاءهن جلاء
ومن الصخر تفجر الماء أنْها
رًا وما العهد أن فيه سخاء
وتربى جرثومة الخير في الأكـ
ـوان طرًّا وتنضج الآراء
غير تلك التي المنايا أياديـ
ـها فما إن تزل إلا التواء
تسعر النار في الجوانح والحر
ب وتوري العداء والبغضاء؟
ضلة لامرئ يحاول أن يجـ
ـلُوَ سرًّا يأبى علينا الجلاء
كلما أرسل الفتى سهم فكر
زاد خبرًا بعجزهِ وابتلاء
مثلما طخطخ الظلام فأبدى
هوله ومض بارق قد أضاء
يا نسور المنى تعالي كما شئـ
ـت فهيهات لن تصيدي ذكاء
لا يلم ناها الجناح إذا أ
مَّ ذراها فأشبعته اصطلاء!
لا تلم نورها العيون إذا را
مقته فانثنت تشكر العماء!
فدعيني أغشى الغمار وأضحي
قبل أن يسدف المغيب العشاء
ودعيني أرعي الهواتف سمعي
قبل أن يملك الردى الأرعاء
عصب الريق فاسقني قبل أن أُسـ
ـقى بكأسٍ تذكي الحشا إذكاء
وانظمي لي من الورود أكاليـ
ـل وأحيي بنفحها الأهواء
قبل أن يقضي الربيع ويلوي
بي وبالزهر دهرنا إلواء

•••

قالت النفس: هل ترى الأرض قد عا
دت فراديس لذة غنَّاء؟
عيش حلالها غرير فمستذ
ر بأمن ووادع أحشاء؟
تسع النفس مثلما تسع الجسـ
ـم فما تستضيق فيها فِناء؟
وترامت آفاقها فالأماني
ليس تبغي وراءها أرجاء؟
لا تجوز المنى مداها وما للـ
ـنَّفس حاج تريغهن وراء؟
زخرت أبحرًا وقرت صخورًا
وسجت أعصرًا ورقت هواء؟
وأبى اللحظ أن يُمدَّ وأن يأ
خذ إلا ريحانَها والإضاء؟
وأبى القلب أن يزايل طودًا
مشمخرًّا لا يتقي إيهاء؟
أيُّهذا المفتون ماذا تُرى غا
لَك؟ أم قد حسبتنا بُلهاء؟
إن هذي الحياة صحراء سوء
نقطع الشرخَ قبلها والفتاء
ويغر السراب فيها ويُغرِي
فنُغذُّ الإدلاج والإسراء
سَرْبَخٌ بعد سربخ وسُهوب
دون أخرى وما بلغنا الماء
وجحيم من فوقنا ووطيس
تحتنا يوسعانِنَا إحماء
ليتنا كالحديد نُصلَى لنُمْهى
غير أنَّا نُصلى ولا إمْهاء
ولعمري الواحات كُثْر ولكن
من تُرى مُبدلي ضلالي اهتداء؟
أنا في فَدفَد مُضلٍّ وأخلقْ
بيَ أن أخطئ الطريق السَّواء
والهدى والضلال أقرب شيئيـ
ـن ابتداءً منَّا وأنأى انتهاء
أي شيء أعددتَ للدهر أمَّا
أوسعتْ عودك الصروفُ انحناء؟
وغدًا هيكل الحياة قد انها
ر وأقوى أنيقه أقواء
ورمت ظلَّها عليك سحابا
تُ شتاءٍ تُداجن الإمساء
لك منها صواعق ورعود
وعَداك الحيا إذا فِضن ماء
وعلى أن فيضها ليس يجديـ
ـك وهل ينفع السحابُ الإباء؟
وإذا أيبستْك وقدةُ عيش
لم يُلنك استيكافُك الوطفاء
داؤنا كامن بنا ليس أنَّا
لا نلاقي على البلى أعداء
ليت شعري إذا أدار عليك الـ
ـدَّهر في مستداره الأرحاء
هل يعزيك بين طاحنتيهِ
ذكر لذات ما مضى وتناءى؟
صور يلتمعن في ظلمة الهـ
ـم كما ضم سبسب غَيْناء
وهْي أما علا رماد الليالي
نارَ صدر ألفيتها محضاء
وعلى أن حادثات الليالي
قد يرى بطؤها استكال وحاء
ليس بالموج أن أسر اختيانًا
حاجةٌ أن يعاصفَ النكباء
زورق العمر من هشيم فحاذر
ليِّنَ الماء حذرك الشرساء
وأقم من تيقظ القلب والرأ
يِ على كل غَيْهم رقباء
وإذا ما صفت سماؤك فاذكر
أنه رب صيحة خرساء
إن في الزهرة الذكية سمًّا
كامنًا لا يَبين أو يتراءى
إن طي الكليل أشواك سوء
راصدات تحاول الإرداء
فتنبه من غفلة الوهم واعلم
أن للشر أعينًا نجلاء
أقمارًا بكل مالك في الدُّنـ
ـيَا على ما لا يقتنى أنصباء؟
تبتغي سدرة الحياة ببيدا
ء تُذرِّي سمومها الرمضاء
إن هذي الحياة وادي هموم
نشرت فوقها المنايا طَخاء
إن بي لو علمت عن كل حسن
زائل ليس يخلد؛ استغناء
وبحسبي شيوخ صدق مواض
ملَئُوا الأرض حكمة ورواء
مزجوا النار والدموع فكلٌّ
واجد ما اشتهى: لظى أو ماء
إن نشأ نقبس الحرارة منهم
أو نشأ نطفئ الأسى إطفاء
همهم همنا وصِنْوُ أمانيـ
ـهم مُنانا فهل نعقُّ الإخاء؟
إيه لا تطلب التعاطف في الأر
ض فتجني الأوجاع والعُرواء
لو تجيب القلوب كل مهيب
عادت الأرض جنة قرحاء
لو غدت لمسة تفيض ينابيـ
ـع جمال النفوس، لا الأسواء
لرأيت الحياة أجمل مما
يتأتَّى إذا اعتبرنا الفناء
قلَّ أن يستطيع صفوك بالو
دِّ إلى الناس أن يفيض الوفاء
قد ترى الشيء ليس يبصره الخد
ن ولو فاض روحه استجلاء
ويثير الربيع عندك حلمًا
معجزًا فهم كنهه العشراء
أين في الناس وردتان تميلا
ن معًا للنسيم من حيث جاء؟
فاطَّرحْ هذه الأماني وارفع
لحظ عينيك وابغ ثَمَّ السماء

•••

قلت: هل تهزئين بالعقل يا نفـ
ـس فتلغي بمن مضوا لي اكتفاء؟
ما شيوخ الصدق الذين تقوليـ
ـن أفاضوا على الحياة البهاء؟
أوليسوا كصبية يتضاغو
ن بأولى هذي الحياة سواء؟
قد تَهَجَّوْا من الكتاب حروفًا
ما تعدوا بعلمها الجهلاء
وسعوا سعيهم وإن علينا
بعدهم أن نواصل الإسراء
أَدُمًى تعبدين فيهم؛ فما أضـ
ـيع تقوى من يعبد الأسماء!
اعبدي الحق لا الشفاه اللواتي
تمتمت ثم أطبقت إعياء
لو قنعنا بسعي من سبقونا
ورأينا بما أفادوا اجتزاء
لغدا خلق كل هذي البرايا
سرفًا بل سفاهة وهراء
ليت لي قوة فأبطش بالعقـ
ـل وأمحو آثاره الغراء

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤