الفتوة في الجاهلية

لكل كلمة تاريخ يشبه تاريخ البلاد، وتاريخ النظم السياسية، وتاريخ الأشخاص، وتاريخ الكلمات قد يكون معقدًا ملتويًا غامضًا، كما يحدث في غيره من أنواع التاريخ. ويجتهد الباحث في استعراض النصوص الكثيرة في العصور المختلفة ليستخلص منها تقلبات الكلمة في أوضاعها المختلفة. وهذا ما أحاوله في كلمة الفتى والفتوة والصعلكة والصعاليك.

الفتوة في الأصل معناها الشباب، قالوا فتِيَ يفتَى، أي صار شابًّا. وقالوا هو فتيُّ السن، بيِّنُ الفَتاء.

وقد ولد له في فتاء سنه أولاد أي في شبابه. وأصل كلمة فتى مصدر فتِيَ فَتى، كمرح مرحًا. ثم جعلت وصفًا فقالوا: «هو فتى، أي شاب» وجمعوا الفتى على فتيان وفتو وفتية. والاسم من ذلك كله «الفتوة»، ووصفوا بالفتوة الإنسان والحيوان. فقالوا إن الأفتاء من الدواب خلاف المسانّ. وقالوا للشاب فتى، وللشابة فتاة.

ثم نراهم نقلوا الكلمة نقلة أخرى، فاستعملوها للدلالة على القوة لأن الشباب عنوان القوة؛ قال ابن قتيبة: «ليس الفتى بمعنى الشباب والحدث، إنما هو بمعنى الكامل الجزل من الرجال.» يدل على ذلك قول الشاعر:

إن الفتى حمّال كل ملمة
ليس الفتى بمنعّم الشبان

ويقول آخر:

يا عز هل لك في شيخٍ فتًى أبدًا
وقد يكون شبابٌ غيرَ فتيان

فالفتوة على هذا المعنى معناها القوة، لأن الشباب مصدرها عادة، ومن هذا المعنى على ما يظهر تسميتهم الليل والنهار باسم الفَتَيان.

ومَن أقوى من الليل والنهار في إذلال كل عزيز وإضعاف كل قوي؟

ومنه قول الشاعر:

لم يلبث الفتيان أن عصفا بهم
ولكل قفل يسرا مفتاحا

ثم من أحق منهما بأن يسميا فتيين، وقد سميا قبل بالجديدين؟

وفتوة الناس مرحلة قصيرة المدى، وفتوة الليل والنهار متجددة أبدًا.

ثم رأيناهم نقلوا معنى الفتى نقلة ثالثة، كالذي قال الجوهري: «الفتى السخي الكريم.» ولكن فاته أن يقيد ذلك بالشباب. ومثل ذلك ما قال الزمخشرى: «الفتوة هي الحرية والكرم.»

قال عبد الرحمن بن حسان:

إن الفتى لفتى المكارم والعلا
ليس الفتى بِمُعَمْلج الصبيان

وكأنهم لما لاحظوا في الفتوة الشباب والقوة لاحظوا أن القوة أكثر ما تستمد في وسطهم من الكرم والحرية.

ويظهر أن الكلمة أصبحت في هذا الطور خاضعة للبيئات المختلفة، فتلبسها كل بيئة ما تراه المثل الأعلى للفتى، فطرفة مثلًا يرسم لنا صورة للفتى كما يتصورها هو وبيئته فيقول:

إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني
عنيت فلم أكسل ولم أتبلد
أحلت عليها بالقطيع فأجذمت
وقد خبّ آل الأمعز المتوقد
فذالت كما ذالت وليدة مجلس
ترى ربها أذيال سحل مهدد
ولستُ بحلال التلاع مخافة
ولكن متى يسترفد القوم أرفَد
فإن تبغني في حلقة القوم تلقني
وإن تلتمسني في الحوانيت تصطد
وإن يلتق الحي الجميع تلاقني
إلى ذروة البيت الشريف المصمد

فطرفة يعد نفسه مثلًا أعلى للفتى لاتصافه بأوصاف لا بد منها لمن نصب نفسه ليكون فتى، وهي أنه أولًا: إذا ما سأل القوم عن الفتى ينجدهم في الملمات، لم يجدوا الفتوة متوافرة في أحد توافرها فيه، لأنه سرعان ما يهوي إلى ناقته يضربها بالسياط لتسرع في السير للاتجاه، فتتبختر في مشيتها، كما تتبختر جارية ترقص بين يدي سيدها. وثانيًا: هو لا يلجأ إلى التلاع مخافة حلول الأضياف، وهو واسع الرحب في قرى الضيوف كما هو سريع النجدة في قتال الأعداء. وهو إلى ذلك في حياته جاد هازل، يدلي برأيه بين عظماء القوم عندما يجد الجد، لأنه شريف النسب، عليّ الحسب.

فإذا فرغ من الجد ودعا داعي اللهو، فهو في الحانات يشرب، وندماؤه أحرار كرام، تتلألأ ألوانهم، وتشرق وجوههم، وتغنيهم مغنية، لابسه بردًا، أو ثوبًا صُبِغ بالزعفران.

فالفتوة في نظره ونظر أمثاله شجاعة وكرم، وإتلاف للمال في الجد والهزل، وعدم الاعتداد بالحياة في السلم والحرب.

وقد شرح هذه الخصال بعد في قوله:

ولولا ثلاثٌ هن من عيشة الفتى
وحقك لم أحفل متى قام عوّدي

ومثل هذا قول الخنساء ترثي أخاها صخرًا:

أمطعمكم وحاميكم تركتم
لدى غبراء منهدم رجاها
ليبك عليك قومك للمعالي
وللهيجاء إنك ما فتاها

تقصد إنك فتاها، وما زائدة.

ومثل قول طرفة يدل على اعتقاده أن الحياة هي هذه الحياة ولا شيء وراءها، فليلتذ ما أمكن، وليس هذا من الإسلام في شيء. فكما صبغ الصوفية فيما بعد الفتوة — كما سيأتي — بصبغة دينية صبغت كل طائفة في الجاهلية الفتوة ببيئتهم ومزاجهم. وكأن الفتوة هي المثل الأعلى لكل فتى يرسمه حسب خيالاته.

وزهير لما كان عاقلًا فصيحًا رزينًا جعل أهم صفات الفتى الفصاحة في اللسان والحكمة في الجنان فقال:

لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم

ومن ذلك نرى أن مسكينًا الدارمي رسم الفتى رسمًا آخر، فجعل من أهم ميزات الفتى حفظ السر إذ يقول:

وفتيان صدقٍ لستُ مطلع بعضهم
على سر بعض غير أني جماعها
لكل امرئ شِعْبٌ من القلب فارغ
وموضع نجوى لا يرام اطلاعها
يظنون شتى في البلاد وسرهم
إلى الصخرة أعيا الرجال انصداعها

فهو قد أضاف الفتيان إلى الصدق كما يقال فتيان خير وفتيان سوء، وكما يقال رجل سوء ورجل خير. يقول: «رب فتيان صدق استناموا إليَّ واستودعوني أسرارهم، فكنت أنا حافظ سرهم؛ قد أفردت كلًّا منهم بالوفاء وكتمان ما أودعني من سر، فكنت أنا كالعقد الذي يجمع الحبات، ولكل رجل منهم جانب من قلبي منفرد له لا يطلع عليه الشعب الآخر، يُودعونني سرهم كأنهم أودعوا سرهم صخرة أعيا الرجال صدعها.» ومن غير شك هو أحد هؤلاء الفتيان، ومزيته الكبرى عليهم أنه يحتفظ بأسرارهم، فهذه صفة جديدة في الفتوة، وهي حفظ السر، لم يتعرض لها غيره، وربما كانت هناك صفات أخرى لم نطلع عليها تضاف إلى الفتوة، ويمكننا أن نستخلص من ذلك أن الفتوة شباب وسلوك حميد.

ومن خير ما قيل في وصف الفتيان قول كعب بن زهير:

لعمرك ما خشيت على أبيٍّ
مصارع بين قوٍّ فالسلي
ولكنى خشيت على أبي
جريرة رمحه في كل حي
من الفتيان محلولٍ ممرٌّ
وأمَّار بإرشاد وغي
ألا لهف الأرامل واليتامى
ولهف الباكيات على أبي

يقول: ما خشيت على هذا الرجل أن يصرع بين هذين الموضعين، أي إن يموت حتف أنفه، وإنما أخشى عليه جرائره وطعنه في الأحياء، ومحل الشاهد في أنه وصفه بأنه فتى، سهل الخلق وطي الجانب، يتناهى في الحلاوة، وإن استدعت الظروف، ويتناهى في المرارة إن استدعت الظروف، وأنه نافذ الإرادة، يأمر أحيانًا بالرشاد، وأحيانًا بالغيّ، وهذا الوصف بالصعلوك الخيّر أشبه.

غاية الأمر أن هذا السلوك يختلف باختلاف نظر الأشخاص، فبعضهم يرى هذا السلوك في العقل والحكمة، وبعضهم يراه في التلذذ بالحياة ما أسعفته، وبعضهم يراه في حفظ السر، وكل إنسان في الحياة يرى في نفسه المثل الأعلى في تصرفه. وهكذا كان يرى أبو نواس في تلذذه بالخمر والغلمان. وهكذا كان يرى أبو العتاهية في الزهد وترك اللذات، وهكذا غيرهما.

ولذلك لا نستطيع أن ندعي أنه في بداء الأمر كان في الجاهلية جماعة يسمون الفتيان واحدهم فتى، إنما كل ما في الأمر أن الكلمة تطلق على أفراد في كل قبيلة جمعوا مع الشباب صفة بينة من الصفات، قد تكون الكرم والنجدة، وقد تكون العقل والفصاحة. وقد تكون كتمان السر وقد تكون غير ذلك. وربما يجمعها أنها مجموعة صفات تحمدها قبيلة الفتى، فيتغنى بها ولا يخجل من ذكرها. وقد يكون هذا الشيء الذي يتغنى به الفتى فضيلة مثل حفظ السر والكرم، وقد يكون غير فضيلة في نظرنا كشرب الخمر والانغماس في اللذات، ولكن أقل ما تدلنا عليه أنها صفات محمودة من الشبان في نظر قبيلتهم.

ويظهر أن المعنى الأول — وهو الذي قصده طرفة — كان أكثر شيوعًا، وأن الذي قصده زهير أو مسكين الدرامي كان أقل ذيوعًا، لغلبة اللهو في الحياة الجاهلية العربية على حياة الجد.

كما يظهر أنه لم يكن هناك في الجاهلية نظام يتبعه الشبان، وإنما كان نواة نظام.

وقد التفت أبو الريحان البيروني في كتابه «الجماهر في معرفة الجواهر» لفتة لطيفة ودقيقة فقال: إن هناك فرقًا بين الفتوة والمروءة.

فالمروءة تقتصر على الرجل في نفسه وذويه وماله، والفتوة تتعداه إلى غيره، والمرء لا يملك إلا نفسه، فإذا احتمل مغارم الناس وتحمل المشاق في إراحتهم، ولم يضن بما أحل الله له، فهو الفتى الذي اشتهر بالقدرة عليها. ولذلك عرف الفتوة بأنها بشر مقبول، ونائل مبذول، وعفاف معروف، وأذى مكفوف. فالبيروني كالذي قبله لا يهتم بغنى أو فقر في تعريف الفتى، وإنما يجعل عنصره شيئًا واحدًا وهو الإثار، وعلى هذا المعنى يكون الفتى والصعلوك من النوع الجيد مترادفين.

ويخيل إليّ أنه كان في الجاهلية طبقتان مختلفتان: الفتيان وهم أولاد الأغنياء من الشبان كامرئ القيس وطرفة، يقابلهم أولاد الفقراء ويسمون الصعاليك.

فالصعلكة كما وردت في كتب اللغة تساوي الفقر، والصعاليك: شبان فقراء أمثال عروة بن الورد، وتأبط شرًّا، والسليك بن السلكة، والشنفرى، ويسمون أيضًا ذؤبان العرب، جمع ذئب، لأنهم يختطفون المال كما تختطفه الذئاب، ويسمون أيضًا العدائين لأنهم كانوا مشهورين بسرعة العدو في السلب والنهب، ولكن كانوا مع فقرهم نبلاء.

ومن نبلهم أنهم كانوا لا يهجمون إلا على الأشحاء البخلاء من الأغنياء. فإذا وجدوا غنيًّا كريمًا تركوه، وإن وجدوا غنيًّا شحيحًا هاجموه، فهم لصوص شرفاء ونبلاء.

فكانوا بذلك خيرًا من الأغنياء الأشحاء. ولذلك روي أن معاوية بن أبي سفيان تمنى أن يصاهر عروة، وعبد الملك بن مروان تمنى أن يلده عروة وهما ما هما. وقد كان عروة هذا صعلوكًا. ولذلك يسمى عروة الصعاليك. فالظاهر أن كلمة الصعلوك لم تكن تدل على معنى سيئ، كالذي كان فيما بعد. وكم للكلمات من تنقل من عز إلى ذل ككلمة حرامي، فقد كانت في الأصل تدل على النسبة إلى حرام، وهي قبيلة تناهض قبيلة سعد، وكان الناس ينقسمون إلى قسمين: سعدي وحرامي، فلما ذل أصحاب حرام ذلت الكلمة، فأصبحت تطلق على اللص. وكلفظ عتُقي، فإنها كانت في الأصل تدل على نسبة إلى قبيلة تسمى العتقاء، فذلت الكلمة، وأصبحت تدل على مصلح النعال القديمة.

وشيء آخر نبيل كان يفعله هؤلاء الصعاليك، وهو تكوينهم جمعية من فقراء قومهم يصرفون منها ما كسبوه من الأغنياء الأشحاء عليهم بالتساوي، حتى ليحكون أن رئيسهم عروة بن الورد أغار يومًا، ونال خيرًا كثيرًا وسبى رجاله امرأة، فأراد عروة أن يختص بها، ويخصموا منه ثمنها، فأبوا عليه ذلك تطبيقًا للاشتراكية المطلقة، وقالوا نقومها بإبل فتكون سهمًا فمن شاء أخذه ومن شاء تركه. ومن تعبيراته الجميلة قوله:

أقسم جسمي في جسوم كثيرة
وأحسو قراح الماء والماء بارد

ومعنى تفريق جسمه على أجسام كثيرة، أنه يفرق غذاءه الذي يكون جسمه على أجسام كثيرة ليكونهم. ويصف نفسه بقوله:

ذريني أطوِّف في البلاد لعلني
أخليك أو أغنيك عن سوء محضر
فإن فاز سهم للمنية لم أكن
جزوعًا وهل عن ذاك من متأخر
وإن فاز سهمي كفَّكم عن مقاعد
لكم خلف أدبار البيوت ومنظر

ولعروة هذا ديوان مطبوع يدل على نبله وفضله وأوصافه؛ فهو فقير يتحسس أخبار الأغنياء، فمن وجده كريمًا سخيًّا خلاه، ومن وجده شحيحًا بخيلًا غزاه، وفرق ما جمعه على زملائه بالعدالة لا يرضى بشيء لنفسه إلا برضاهم، فمثله مثل برناردشو في إحدى رواياته إذ هاجم قوم سيارة فخمة يركبها أغنياء مرابون. فقال لهم الهاجمون: نحن سراق الأغنياء، وأنتم سراق الفقراء. وكما فعل تولستوي إذ كان غنيًّا واسع الغنى، فوزع ثروته على فلاحيه وعاش فقيرًا. غاية الأمر أن عروة هذا سبقهما في النبل بنحو ألفي سنة.

والخلاصة أننا نرى في حياة الجاهلية البدوية نوعين متميزين من الشبان: أبناء الذوات، قد يجتمعون ويتخذون لهم محلًّا مختارًا، ويعيشون عيشة إباحية، فيها خمر، وفيها غناء، وفيها نساء. وهم مع ذلك كرام، يضيفون من نزل بهم، ويغدقون عليهم من خيرهم. وتقابلهم طائفة أخرى من أبناء الفقراء يسمون الصعاليك، يشاركونهم في الكرم والاشتراكية، ويخالفونهم في أن حياتهم ليست حياة دعة واستمتاع، ولكن حياة غزو وسلب ونهب، وتوزيع عادل على أمثالهم، يضاف إلى ذلك فرق آخر، وهو أن الفتيان يعطون ما يعطون وهم مترفعون، والصعاليك يعطون ما يعطون وهم يعتقدون أنهم مع زملائهم الفقراء متساوون. وإن شئت فقل إن الفتيان يعطون ما يعطون عطفًا وتفضلًا، والصعاليك يعطون ما يعطون أداء لما يرونه واجبًا.

وسنرى فيما بعد أن كل نواة من هاتين تطورت في الحياة الإسلامية، فأساس الصعلكة كان الكرم مع النجدة، كما أن أساس الفتوة الكرم أيضًا مع النجدة، ولكن قد تنعدم النجدة مع الصعلكة، فيكون صاحبها صعلوكًا رديئًا، كما قال عروة بن الورد في التفرقة بين النوعين، فقال في النوع الثاني:

لحى الله صعلوكًا إذا جن ليله
مصافي المشاش آلفًا كل مجزر١
يعد الغنى من دهره كل ليلة
أصاب قراها من صديق ميسر٢
ينام عشاء، ثم يصبح طاويًا
يحتّ الحصا عن جنبه المتعفر٣
قليل التماس الزاد إلا لنفسه
إذا هو أمسى كالعريش المجور٤
يعين نساء الحى ما يستعنّه
فيضحى طليحًا كالبعير المحسّر٥

ووصف النوع الأول في قوله:

ولله صعلوك صحيفة وجهه
كضوء شهاب القابس المتنور٦
مطلًّا على أعدائه يزجرونه
بساحتهم زجر المنيح المشهر٧
فإن بعدوا لا يأمنون اقترابه
تشوف أهل الغائب المنتظّر٨
فذلك إن يلق المنية يلقها
حميدًا وان يستغن يومًا فأجدر٩

فهو بذلك قد ميز بين النوعين من الصعاليك. صعلوك فقير خامل كسول بليد ينتظر الصدقة من الناس، وصعلوك آخر فقير لكنه يسعى على رزقه ورزق غيره بالانتقام من أعدائه وسلبهم أموالهم، ينفقها في إطعام الصعاليك مثله.

وفي هذا المعنى وتقسيم الصعلوك إلى قسمين قال حاتم الطائي:

لحى الله صعلوكًا مناه وهمه
من العيش أن يلقى لبوسًا ومطعما
ينام الضحى حتى إذا الليل جنه
تنبه مثلوج الفؤاد مورما١٠
مقيمًا مع المثرين ليس ببارح
إذا نال جدوى من الطعام ومجثما١١

وقال في الصنف الآخر:

ولكن صعلوكًا يساور همه
ويمضى على الهيجاء ليثا مصمما١٢
إذا ما رأى يومًا مكارم أعرضت
تيمم كبراهن ثمت صمما١٣
فذلك إن يلق الكريهة يلقها
حميدًا، وإن يستغنِ يومًا فربما١٤

وكان من الصنف الثاني عروة بن الورد، ولذلك تمنى معاوية أن يصاهره وعبد الملك بن مروان أن يكون عروة أباه كما ذكرنا. وللصعاليك من النوع الثاني أقاصيص كثيرة بديعة؛ من ذلك ما روي أن عروة بن الورد بلغه عن رجل من بني كنانة بن خزيمة أنه أبخل الناس، وأكثرهم مالًا، فبعث عليه عيونًا فأتوه بخبره، فشد على إبله فاستاقها، ثم قسمها على أصحابه.

وكان عروة هذا إذا أصابت الناس سنة جدبة ترك هو وأصحابه المريض والكبير الضعيف في دورهم، ثم يأخذ الأقوياء من قومه معه ويخرج فيغير بهم، ويجعل لأصحابه ولهؤلاء المرضى والكبار والضعاف نصيبهم. حتى إذا أخصب الناس وذهبت السنة ألحق كل إنسان بأهله، وقسم له نصيبه من غنيمة إن كانوا غنموها. وربما أتى الإنسان منهم أهله وقد استغنى. ومثل هذه الأخبار والأشعار نراها في أخبار تأبط شرًّا والسليك بن السلكة والشنفرى وأمثالهم من المشاهير الصعاليك.

•••

نعود بعد ذلك للفتيان، فلعلهم كانوا كذلك قسمين، كلهم أغنياء وكلهم شبان ولكن يختلفون في مقدار النجدة والكرم.

يقول الشاعر:

وليس فتى الفتيان من راح واغتدى
لشرب صبوح أو لشرب غبوق
ولكن فتى الفتيان من راح واغتدى
لضر عدو أو لنفع صديق

فهو يرى أن الغنى وحده واللهو والشراب لا تكفي لجعل الفتى فتى الفتيان، وإنما الذي يجعله فتى الفتيان جده في الحياة، وأن يكون ضارًّا لعدوه نافعًا لصديقه.

ويقول الآخر:

قد يدرك الشرفَ الفتى ورداؤه
خلق وجيب قميصه مرفوع

فهذا لا يجعل الغنى والترف عنصرين من عناصر الفتوة، عكس ما هو مفهوم، بل إن الفتى قد يكون فتى وهو فقير، رداؤه خلق، وقميصه مرفوع، وبذلك يلتقي الفتى مع الصعلوك بهذا المعنى.

وقد اشتهر كثير من العرب بالصعلكة، وربما كان من أشهرهم عروة بن الورد، ويسمى عروة الصعاليك، والشنفرى وتأبط شرًّا، وسليك بن السلكة، وهؤلاء على ما يظهر هم الزعماء منهم أو من جمعوا بين الصعلكة والشاعرية التي أظهرتهم.

أما الصعاليك الآخرون فأكثرهم مغمورون أو جنود مجهولون.

وقد أنتجت الحالة الاجتماعية في جزيرة العرب هذه الصعلكة؛ لأن أكثرهم كان من الفقراء ولا يجدون ما يأكلون، وإذا حصلوا على شيء من غارة أو نحوها فشيخ القبيلة هو الذي يأخذ من الغنيمة حصة الأسد، وهم لا يأكلون إلا الفتات، ثم نتاج الأرض قليل محدود لا يكفي كلهم ليعيشوا عيشة سعيدة، وتكاد تكون حالتهم في الغنى والفقر كحالتنا اليوم، شعب فقير ورؤساء أغنياء، فماذا يصنعون؟

لا سبيل للتحرر من هذا إلا الإغارة على الأغنياء، ولكن بشرطين ينفعان في العلاج؛ الأول: أن يتركوا الأغنياء المحسنين لأن إحسانهم في الواقع حقق غرضهم وأسدى إلى فقرائهم خيرًا كثيرًا. وإن المروءة تقتضي بأن الأغنياء متى أدوا الواجب عليهم فلا يستحقون ظلمًا ولا عدوانًا. فكانوا يتجسسون على الأغنياء؛ فمن علموا أنه كريم تركوه وشأنه، بل وحافظوا على أمواله. ومن عرفوا أنه شحيح بخيل وجدوا أنه قصر في واجبه، فنفذوا هم بالتلصص واجبهم.

والأمر الثاني: أنهم تجنبوا أن يقعوا في الخطأ الذي وقع فيه الأغنياء والأشحاء، وفرضوا على أنفسهم أنهم يفرقون بالسوية بينهم ما جمعوا حتى لا يكون رئيس ومرؤوس ولا غنى ولا فقير. يدل على ذلك القصة التي حكيناها عن عروة الصعاليك وأتباعه إذ أبوا عليه أن يختص بأي شيء. وبذلك يكوّنون مجتمعًا خاصًّا داخل المجتمع الكبير عماده كما نقول اليوم: الاشتراكية، بل هي أسمى من الاشتراكية لأنهم كانوا يحصلون المال ممن لا يستحقه ثم ينفذون بالقوة هذه الاشتراكية.

وهم هم الرقباء على تنفيذها. وقد كثر عددهم بسبب أن أفرادًا خرجوا على قبيلتهم بارتكاب جريمة لا ترضاها القبيلة فخلعوهم. فلما خلعوا لم يجدوا أمامهم إلا الصعلكة يداوون بها خلعهم وسموا الخلعاء. فيحدثنا مثلًا صاحب الأغاني أن قيس بن الحدادية كان خليعًا صعلوكًا خلعته قبيلته خزاعة؛ لأنه اشترك مع جماعة من أسرته في قتل أحد أفراد قبيلة وعجز هو ورفقاؤه عن دفع الدية وفروا هاربين، ونزلوا على فراس بن غنم فآواهم وتصعلك مع صعاليكها، ومثله أبو الطمحان القيني وغيرهما. ويظهر أنهم لما خلعوا من قبيلتهم — ولا حماية لأحد في هذه البيئة إلا بقبيلته — اضطروا إلى الالتجاء إلى قبيلة أخرى يحتمون بها، ولم يجدوا خيرًا من التصعلك؛ إذ هو يتفق مع جنايتهم لأنه جناية أخرى. وجناية كريمة خير من جناية وضيعة.

ونعود إلى ذكر شيء من أخبار رؤساء هؤلاء الصعاليك لأنه يوضح لنا صورتهم، فعروة بن الورد مثلًا كان من المشاهير الصعاليك ومن شعرائهم.

يتغنى بالصعلكة وينهى امرأته عن التعرض لسيرته، فهو إذا خرج للقتال لا يصح أن تعترضه، وإذا حصل مالًا وأراد أن يفرق على الصعاليك أمثاله لا يصح أن تعترض عليه أيضًا.

وأكبر ميزة لعروة أنه كان رجلًا يشعر بالناس أكثر مما يشعر بنفسه، واخترع لذلك المعنى التعبير الفني الجميل الذي ذكرناه وهو:

(أقسم جسمي في جسوم كثيرة)

ويقول:

إني امرؤ عافي إنائي شركة
وأنت امرؤ عافي إنائك واحد١٥
أتهزأ مني إن سمنت وقد ترى
بجسمي مس الحق والحق جاهد١٦
أقسم جسمي في جسوم كثيرة
وأحسوا قراح الماء والماء بارد١٧

وقد جهد قومه جهدًا شديدًا ولاقوا عناء، وأحاطوا أنفسهم بسياج لما أعوزتهم المكاسب، وقالوا: «نموت فيها جوعًا خير من أن تأكلنا الذئاب.»

وكان عروة غائبًا فأتاهم فنزع عنهم سياجهم وقال لهم: «هذه قلوصي فقددوا لحمها واحملوا أسلحتكم عليها حتى أصيب لكم ما تعيشون به أو أموت.»

فخرج مع أتباعه فوجدوا في الطريق آثارًا، فقال لهم: «هذه آثار من يرد الماء فاكمنوا.» فجاءت الإبل بعد خمس، فوردت منها مائة معها فصلانها، ومعها فارس بسلاحه فخرج عليه عروة وضربه بسهم أرداه. واستاق الإبل حتى أتى قومه فأحياهم، وفي ذلك يقول:

أليس ورائي أن أدب على العصا
فيأمن أعدائي ويسأمني أهلي
أقيموا بني لبني صدور ركابكم
فإن منايا القوم شر من الهزل
لعل انطلاقي في البلاد ورحلتي
وشدي حيازيم المطية بالرحل
سيدفعني يومًا إلى رب هجمة١٨
يدافع عنها بالعكوف وبالبخل

وكان يصحبه صعلوك آخر يسمى أشيم بن شرحبيل، وكان يسمى مأوى الصعاليك لأنه كان يعولهم وينفق عليهم حتى يستغنوا.

وربما كان الصعلوك الثاني المشهور وهو الشنفرى. وإذا كان عروة يصور لنا المعنى الإنساني في حركة الصعاليك كان الشنفرى يصور لنا معنى الشجاعة والسلب والنهب ونحوها، أي إن عروة يمثل الغاية والشنفرى يمثل الوسيلة. وربما كانت لفظة الشنفرى تدل على ذلك، فإن من معانيها الغليظ الشفتين. وقد فقد الشنفرى توازنه الاجتماعي مع قبيلته حتى صار لا يقام له وزن. ويذكر في شعره فقره وهزاله ونعليه الممزقتين وثيابه البالية المهلهلة وحمله قربة الماء وتشرده في الصحراء بين الوديان السخيفة حيث تتجاوب الجن. فشعر عروة أكثره في غيره والشنفرى أكثر شعره في نفسه.

من مثل قوله:

خرجنا من الوادي الذي بين مشعل
وبين الجبا هيهات أنشأت سربتي١٩
أمشّي على أين الغزاة وبعدها
يقربني منها رواحي وغدوتي٢٠
وأم عيال قد شهدت تقوتهم
إذا أطعمتهم أوتحتْ وأقلّت٢١
تخاف علينا العيل إن هي أكثرت
ونحن جياع أي آل تألت٢٢
مصعلكة لا يقصر الستر دونها
ولا ترجى للبيت إن لم تبيّت٢٣

ثم يقول:

شفينا بعبد الله بعض غليلنا
وعوف لدى المعدي أوان استهلت٢٤
إذا ما أتتني ميتتي لم أبالها
ولم تذر خالاتي الدموع وعمتي٢٥
وإني لحلو إن أريدت حلاوتي
ومر إذا نفسي العزوف استمرت٢٦
أبي لما آبي، سريع مباءتي
إلى كل نفس تنتحي في مسرتي

من أجل هذا كان شعر عروة رقيقًا لطيفًا، وشعر الشنفرى جافًّا عنيفًا، ومن خير ما ترك لنا لاميته المشهورة الخالدة التي سموها لامية العرب ومطلعها:

أقيموا بني أمي صدور مطيكم
فإني إلى القوم سواكم لأميل

وقد عُني بها الأدباء وشرحوها عدة شروح. وعارضها الطغرائي في لاميته الأخرى وسماها لامية العجم.

ويقول في وصف نفسه:

قليل غرار النوم أكبر همه
دم الثار أو يلقى كميًّا مسفعا
قليل ادخار الزاد إلا تعلة
فقد نشز الشرسوف والتصق المعا
ومن يغر بالأعداء لا بد أنه
سيلقى بهم من مصرع الموت مصرعا
وإني وإن عمرت أعلم أنني
سألقى سنان الموت يبرق أصلعا

وللقتال الكلابي شعر كشعر الصعاليك فلعله منهم إذ يقول:

إذا هم هما لم ير الليل غمة
عليه ولم تصعب عليه المراكب
جليد كريم خيله وطباعه
على خير ما تبنى عليه الضرائب٢٧
إذا جاع لم يفرح بأكله ساعة
ولم يبتئس من فقدها وهو ساغب

وفي مثل هذا المعنى يقول حاتم طيئ:

غنينا زمانًا بالتصعلك والغنى
فكلتاهما يسقي بكأسيهما الدهر
فما زادنا بغيًا على ذي قرابة
غنانا، ولا أزرى بأحسابنا الفقر

وكان سحيم بن وئيل اليربوعي يتصعلك، وكان مخضرمًا، عاش طويلًا في الجاهلية والإسلام يقول:

إني إذا ما القوم كانوا أنجيه٢٨
واضطرب القوم اضطراب الأرشيه٢٩
وشد فوق بعضهم بالأرويه
هناك أوصيني ولا توصي بيه

ومن شعراء الصعاليك أيضًا البراق. وله شعر كثير، ورجز كثير، من شعره قوله:

لعمري لست أترك آل قومي
وأرحل عن غنائي أو أسير
بهم ذلي ما كنت فيهم
على رغم العدا شرف خطير
أأنزل بينهم إن كان يسر
وأرحل إن ألم بهم عسير
وأترك معشري وهم أناس
لهم طول على الدنيا يدور
فكُفَّ الكفّ عن قومي وذرهم
فسوف يرى فعالهم الضرير

ويقول:

إذا لم أقد خيلًا إلى كل ضيغم
فآكل من لحم العداة وأشبع
فلا قدت من أقصى البلاد طلائعًا
ولا عشت محمودًا، وعيشي موسع

ويقول:

لأفرجن اليوم كل الغمم
من سيبهم في الليل بيض الحرم
صبرًا إلى ما ينظرون مقدمي
إني أنا البراق فوق الأدهم
لأوجعن اليوم ذات المبسم
بنت لكيز الوائليّ الأرقم

ويقول:

تولت رجالي بالغنائم والغنى
مزجين للأجمال من رَمَلان
ونادوا نداء بالرحيل فلم أطل
إيابًا، وصنوي في المعارك فاني
أأترك من لا يترك الدهر طاعتي
ملب لما أدعوا بكل لسان
أخي ومعيني في الخطوب وصاحبي
بكل إغاراتي بحد سناني
فلما دعاني يا ابن روحان لم أحم
وقومت عسالي وصدر حصاني
طعنت بنصل الرمح جبهة مالك
وغيبته فيه بغير توان

ومن الشعراء الصعاليك تأبط شرًّا، ومن شعره المشهور وفيه ما يدل على نفسه:

إذا المرء لم يحتل وقد جد جده
أضاع وقاسى أمره وهو مدبر
ولكن أخو الحزم الذي ليس نازلًا
به الخطب إلا وهو للقصد مبصر
أقول لِلِحيان٣٠ وقد صفرت لهم
وطابي ويومي ضيق الجحر معور
هما خطتا إما أسار ومنَّة
وإما دم والقتل بالحرّ أجدر

وقال أيضًا قصيدته اللامية ومطلعها:

إن بالشعب الذي دون سلع
لقتيلا دمه ما يطل

ومنها يصف نفسه:

شامس في القر حتى يداني
ذكت الشعرى فبرد وظل
يابس الجنبين من غير بؤس
وندى الكفين شهم مدل٣١
ظاعن بالحزم حتى إذا ما
حل حل الحزم حيث يحل
غيث مزن غامر حيث يجدي
وإذا يسطو فليث أبل٣٢
مسبل في الحي أحوى رفلُّ
وإذا يغزو فسمع أزلّ٣٣
وله طعمان أريٌ وشريٌ
وكلا الطعمين قد ذاق كلّ٣٤
يركب الهول وحيدًا ولا يـ
صحبه إلا اليماني الأفل

ولعل في هذه الأبيات وصف كل صعلوك كبير …

وقد أعجب بها جوته الشاعر الألماني فترجمها إلى الألمانية. واختار له المفضل الضبي في كتابه المفضليات شعرًا كثيرًا، بل افتتح مختاراته بشعر تأبط شرًّا هذا بقصيدته المشهورة:

يا عيد ما لك من شوق وإبراق
ومر طيف على الأهوال طراق

يقول فيها:

لا شيء أسرع مني ليس ذا عذر
وذا جناح بجنب الرَّيد خفاق٣٥

ومنها:

ولا أقول إذا ما خلة صرمت
يا ويح نفسي من شوق وإشفاق٣٦
سباق غايات مجد في عشيرته
مرجع الصوت هدًّا بين أرفاق٣٧
حمال ألوية شهاد أندية
قوال محكمة، جواب آفاق
فذاك همي وغزوي أستغيث به
إذا استغثت بضافي الرأس نغاق٣٨

ثم يقول:

عازلتي إن بعض اللوم معنفة
وهل متاع وإن أبقيته باق
إني زعيم لئن لم تتركوا عذلي
أن يسأل الحي عني أهل آفاق٣٩
سدد خلالك من مال تجمعه
حتى تلاقي الذي كل امرئ لاقى٤٠
لتقرعن عليّ السن من الندم
إذا تذكرت يومًا بعض أخلاقي

وهذا آخر القصيدة الجميلة القوية الدالة على بعض أخلاق الصعاليك النبلاء.

وممن عرف من الصعاليك أبو خراش الهذلي وهو يهمنا لأنه كان صعلوكًا مخضرمًا، عاش بعض حياته في الجاهلية وبعضها في الإسلام، وليس بين الحياتين فرق كبير، وقد امتاز أبو خراش بالرثاء كما اشتهر به قومه الهذليون، فرثى أصحابه في الجاهلية وأصحابه في الإسلام بمعان مألوفة في الشعر الجاهلي مثل الكرم والشجاعة، وعجز الإنسان أمام الموت. ومع ذلك يمكن تبين أثر الإسلام في شعره الإسلامي كأن يقول:

فليس كعهد الدار يا أم مالك
ولكن أطالت بالرقاب السلاسل
وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل
سوى العدل شيئًا، فاستراح العوذل
فأصبح إخوانُ الصفاء كأنما
أهال عليهم جانب الترب هائل

فالتحدث عن العدل من طبيعة الإسلام لا من طبيعة الجاهلية. وله قصيدة لطيفة يبكي فيها ابنه خراشًا. وكان خراش هذا جنديًّا في جيش المسلمين أيام عمر بن الخطاب فحز ذلك في نفس أبيه. وكانت قد تقدمت به السن، فلما سمع عمر لهذه الأبيات نهى أن يخرج إلى الغزو من كان له أب شيخ كبير إلا بعد أن يأذن له. وفي ديوان الهذليين المطبوع قطع كثيرة من شعر أبي خراش تقدم لنا صورًا لطيفة من صعلكته.

وعلى الجملة فإن شعر الصعاليك كثير، بعضه في أشخاصهم وبؤسهم وبعضه في إنسانيتهم. وبما كان بنوعيه يصور لنا جانبًا كبيرًا من جوانب الحياة العربية، وربما كان من الظواهر الغريبة أن أكثر شعرهم مقطوعات لا قصائد. وهو ظل ينسجم مع طريقة خطفهم، فهم يخطفون في حروبهم ويخطفون في شعرهم.

فإن رأينا قصيدة طويلة كلامية الشنفرى، فذلك استثناء، وربما أنشأها في حالة استقرار تستدعي الطول.

ولهم في شعرهم خواص أخرى، من ذلك وحدة الموضوع — فشعرهم في التصعلك من جميع نواحيه. كما كان شعراء الفروسية في الإسلام والنصرانية. وقد ألجأتهم حياة السلب والنهب والتوزيع إلى أن يكون شعرهم واقعيًّا لأنهم يشعرون فيما يفعلون لا فيما يتخيلون. وقد نلاحظ أنهم يتجافون عن الحب وقل أن نجده في شعرهم، إنما نجد في شعرهم مخاطبة زوجاتهم بعدم العتب عليهم في سيرتهم، وربما كان سبب ذلك أن الحب يبنى على أساسين: حياة مترفة بعض الترف ليست كحياة الصعلكة من بؤس وفقر، لأن الحب كالزهرة على المائدة لا ينتفع بها إلا بعد القوت، والثاني أن الحب يحتاج في أول تكوينه إلى استقرار والصعاليك أبعد الناس عن الاستقرار.

كما نلاحظ في شعرهم التدفق والسرعة، إذ كانوا مشهورين باسم العدائين، فكأنهم يعدون بأرجلهم ويعدون في شعرهم.

وعلى الجملة فقد كانوا في شعرهم خير مثال لتصوير حياتهم في بساطة وإخلاص. ولعل هذا ما يفسر أن شعر كثير منهم كان رجزًا، والرجز أسرع من البحور الأخرى. فيروون أن قيس بن الحدادية كان يقاتل أعداءه وهو يرتجز. والشنفرى لما قطع أعداؤه يده رثاها بالرجز، ويروون أن لعمرو ذي الكلب الصعلوك أرجوزة طريفة يقص فيها قصة طريفة، قصة ذئب فاتك أغار على غنم. ولعل الذئب في هذه الأرجوزة رمز للصعاليك تستلب حقوق الفقراء، والغنم رمز للأغنياء البخلاء تفترسهم الصعاليك. وهو يختم أرجوزته بأنه رمى الذئب بسهم من سهامه أرداه صريعًا. ولئن كان كثير من الشعراء في الجاهلية بدءوا شعرهم بالغزل أو بالبكاء على الأطلال ثم تخلصوا منه إلى المديح، فهؤلاء تحرروا من ذلك كله، أما تحررهم من الغزل وبكاء الأطلال فقد أبنَّا سببه من قبل، وأما تحررهم من المديح فلأنهم لم يعتادوا أن يستجدوا عن طريق المديح، وإنما اعتادوا أن يتكسبوا بطريق القوة.

•••

فإذا نحن خطونا خطوة في التاريخ، وقاربنا الإسلام، وجدنا نوعًا من الفتوة أو الصعلكة الشريفة في التاريخ، وذلك ما عرف في التاريخ وفي كتاب السيرة «بحلف الفضول». فقد جاء في الروض الأُنُف للسهيلي أنه «حلف عقدته قريش بينها على نصرة كل مظلوم بمكة» وقد قال ابن قتيبة: إنه قد سبق قريشًا إلى مثل هذا الحلف جرهم في الزمن الأول فتحالف منهم ثلاثة، أحدهم الفضل بن فضالة، والثاني الفضل بن وداعة، والثالث فضيل بن الحارث.

ومن أجل تسميتهم كلهم بالفضل والفضيل، سمي حلف الفضول، وسمي الحلف الثاني بهذا الاسم أيضًا. وكان سببه أن رجلًا من زبيد قدم مكة ببضاعة، فاشتراها منه العاصي بن وائل، وكان ذا قدر بمكة وشرف، فحبس عنه حقه، فاستعدى عليه الزبيدي عبد الدار ومخزومًا وغيرهما، فأبوا أن يعينوه وزجروه، فلما رأى الزبيدي الشر أوفى على أبي قبيس عند طلوع الشمس، وقريش في أنديتهم حول الكعبة، فصاح بأعلى صوته:

يا آل فهر لمظلوم بضاعته
ببطن مكة نائي الدار والنفر
ومحرم أشعث لم يقض عمرته
يا للرجال، وبين الحجر والحجر
إن الحرام لمن تمت كرامته
ولا حرام لثوب الفاجر الغدر

فقام الزبير بن عبد المطلب، وقال: ما لهذا مترك. فاجتمعت هاشم وزهرة وتيم بن مرة في دار عبد الله بن جدعان، فصنع لهم طعامًا وتحالفوا في ذي القعدة في شهر حرام قيامًا، فتعاقدوا وتعاهدوا بالله ليكونن يدًا واحدة مع المظلوم على الظالم، حتى يؤدى إليه حقه «ما بل بحر صوفة، وما رسا حراء وثبير مكانهما، وعلى التأسي في المعاش» وسمت قريش ذلك حلف الفضول، ثم مشوا إلى العاصي بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه. وقال الزبير بن عبد المطلب:

إن الفضول تحالفوا وتعاقدوا
أن لا يقيم ببطن مكة ظالم
أمر عليه تعاهدوا وتواثقوا
فالجار والمعتر فيهم سالم

وذكروا أن رجلًا من خثعم قدم مكة معتمرًا ومعه بنت له يقال لها «القتول» من أوضأ نساء العالمين، فاغتصبها منه نبيه بن الحجاج، وغيبها عنده، فقال الخثعمي: من يعديني من هذا الرجل؟ فقيل له: عليك بحلف الفضول. فوقف عند الكعبة ونادى، فإذا هم يسرعون إليه من كل جانب، وقد انتضوا أسيافهم يقولون: جاءك الغوث فما بالك؟ فقال: إن نبيهًا ظلمني في ابنتي وانتزعها مني قسوة. فساروا معه حتى وقفوا على باب الدار، فخرج إليهم، فقالوا له: أخرج الجارية ويحك، فقد علمت من نحن وما تعاقدنا عليه. فقال: أفعل، ولكن متعوني بها ليلة. فقالوا: لا، لا والله. فأخرجها إليهم.

وفي الحديث أن رسول الله قال: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت إليه في الإسلام لأجبت.»

والدليل على اتصال هذا الحلف ما ذكر السهيلي من أن عبد الله بن جدعان هذا — وهو الذي عقد الحلف في بيته — كان من الصعاليك.

وكان معروفًا بإطعام الطعام وتفريق الأكل على الناس، فعل خيار الصعاليك.

ثم إنهم في تحالفهم حلف الفضول ذكروا حين تحالفهم كما قال السهيلي التأسي في المعايش، أي المساواة في العيش، فمن كان عنده أطعم من ليس عنده، وهذا فعل كرام الصعاليك، وهو مبدأ اشتراكي سليم.

فأعتقد أنه لولا نظام الفتوة ونظام الصعاليك ما كان حلف الفضول، وهو مبدأ في غاية السمو، إذ يقضي بتحقيق العدالة، والأخذ من الظالم للمظلوم، مهما كان الظالم قويًّا عزيز الجانب، كما فعلوا مع العاصي ومع نبيه.

وهذا المعنى هو الذي أدركه أولو الأمر في الدولة العباسية، إذ رأوا أن القضاة قد يعز عليهم أن يأخذوا الحق من الظالم إذا كان ملكًا أو قريبًا له أو ذا جاه، فأنشئوا لذلك ديوانًا يسمى ديوان المظاليم يرأسه الخليفة أو من ينوب منابه لأخذ الحق من ذي الجاه.

•••

فلما جاء الإسلام وجدنا القرآن يستعمل «فتى» وصفًا لإبراهيم عليه السلام فيقول: قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ورأيناه يستعمله وصفًا لأهل الكهف فيقول: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وإِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ وقد فسر في الموضعين بالشباب، وجاء الإسلام أيضًا باستعمال خاص لكلمة «فتى» ذلك أن الإسلام لم يرض أن يسمى الرقيق المملوك عبد فلان وأمة فلان، وكره العبودية تضاف لغير الله. فاختار لها اسمًا محبوبًا وهو الفتى والفتاة، وجاء في الحديث: «لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي ولكن ليقل فتاي وفتاتي.» وعلى هذا المعنى جاء قوله تعالى وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ. وجاء وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ وشاع استعمال الكلمة في الرقيق حتى سئل أبو يوسف عمن قال، أنا فتى فلان، قال هو إقرار منه بالرق. فكأن الإسلام اختار خير الألفاظ الدالة على الحرية فدل بها على الرق طلبًا لحسن معاملة الرقيق.

ولكن ظلت الكلمة تستعمل في معناها الأول وهو الشجاعة والفروسية فقالوا: «لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي.» إذ كان علي كما هو معروف فارسًا شجاعًا. ولما مات مخلد بن المهلب وهو ابن سبع وعشرين سنة، وكان شهمًا نبيلا صلى عليه عمر بن عبد العزيز ثم قال: «اليوم مات فتى العرب.» وقال يزيد بن المفرغ:

فالهول يركبه الفتى
حذر السآمة والمخازي
والعبد يقرع بالعصا
والحر تكفيه العلامة

غير أنا نجد في العهد الأموي أمرًا يستوقف النظر، فقد ذكر الأغاني في ترجمة حنين الحيري كلمات في الفتوة تستحق النظر. وكان حنين هذا مغنيًا نصرانيًّا من الحيرة، وكان في أيام هشام بن عبد الملك، ومن شعره الذي كان يغني به:

أنا حنين ومنزلي النجف
وما نديمي إلا الفتى القصف
أقرع بالكأس ثغر باطية
مترعة نارية وأغترف
من قهوة باكر التِّجار بها
بيت يهود قرارها الخزف
والعيش غض ومنزلي خصب
لم تغذني شقوة ولا عنف
وقال صاحب الأغاني: «كان حنين غلامًا يحمل الفاكهة بالحيرة وكان لطيفًا في عمل التحيات،٤١ فكان إذا حمل الرياحين إلى بيوت الفتيان ومياسير أهل الكوفة وأصحاب القيان، ورأوا رشاقته وحسن قده وحلاوته وخفة روحه، استحلوه وأقام عندهم وخف لهم، فكان يسمع الغناء ويشتهيه ويصغي إليه ويستمعه ويطيل الإصغاء إليه.»

وقال في موضع آخر عن حنين: «خرجت إلى حمص ألتمس الكسب بها وأرتاد من أستفيد منه شيئًا، فسألت عن الفتيان وأين يجتمعون فقيل لي: «عليك بالحمامات.» فجئت إلى أحدها فدخلته فإذا فيه جماعة منهم، فأنست وانبسطت وأخبرتهم أني غريب، ثم خرجوا وخرجت معهم فذهبوا إلى منزل أحدهم، فلما قعدنا أوتينا بالطعام فأكلنا وأوتينا بالشراب فشربنا، فقلت لهم: «هل لكم في مغن يغنيكم؟ قالوا: ومن لنا بذلك!»

ويحدثوننا أيضًا أن إبراهيم الموصلي نزل ضيفًا على الفتيان في حمص فجعل يغنيهم فعرفه المهدي من هناك، فلما تولى الخلافة استدعاه.

هذه القصص الثلاث تدل على أمور:
  • الأول: أن هناك فئة تسمى الفتيان كانوا في الحيرة وكانوا في حمص، وربما كانوا أيضًا في غيرهما، ولكن لم نعثر على النصوص الدالة على ذلك.
  • الثاني: أن هؤلاء الفتيان ليسوا كل الشباب، وإنما هم شباب من نوع خاص يظهر من عبارته أنهم من المياسير، وممن لهم حظ في السماع والشراب.
  • ثالثًا: أنهم كانوا يضيفون ويطلبهم الغرباء لينزلوا عليهم ضيوفًا.
  • رابعًا: أنه كانت لهم مجتمعات خاصة يعرفون فيها بالبلدة.

يضاف إلى ذلك أن أنواعًا من الفروسية عني بها الفتيان في العهد الأموي كالصيد وتربية الحيوانات المعلمة، يطلقونها على الصيد، فقد روى الفخري أن يزيد بن معاوية «وكان فتى شابًّا» كان أشد الناس كلفًا بالصيد، وكان لا يزال لاهيًا به، وكان يلبس كلاب الصيد الأساور من الذهب والجلال المنسوجة منها، ويهب لكل كلب عبدًا يخدمه.

كما أخذوا عن الفرس اللعب بالبندق، وهو كرات صغيرة من طين أو حجر أو رصاص، يرمى بها عن قوس لصيد الطير أو نحوه ثم حشيت بالبارود فيما بعد، ومن هذا سميت البندقية.

وليس ببعيد أن تتصل ألعاب الفروسية هذه بالفتوة خصوصًا وأن الفخري يعبر عن يزيد بن معاوية بأنه فتى.

ولكن لا تزال النصوص التي بين يدينا تحتاج إلى اكتشاف هذه الرابطة. وإذا انتقلنا بعد ذلك إلى العصر العباسي وجدنا كلمة الفتوة استعملت في أربعة معان:
  • (١)

    كانت تستعمل للدلالة على المروءة من نبل وكرم وشمم وعدم تكلف. من ذلك ما جاء في كتاب أدب النديم لكشاجم أن رجلًا من أصحاب محمد بن عبد الله بن طاهر دعاه للطعام عنده دعوة احتفل لها. فلما حضر محمد طالبه بالطعام، فمطله ليتكامل ويتلاحق ما أحبه من الكثرة حتى تصرم أكثر النهار، ومس محمد الجوع، فتنغص عليه يومه، وأراد محمد السفر فشيعه هذا الرجل حتى إذا دنا منه ليودعه، قال له: «أيأمر الأمير بشيء؟» قال: «نعم، تجعل طريقك في عودتك على محمد بن الحارث فاسأله أن يعلمك الفتوة.»

    فمضى حتى دخل إلى محمد، فقال له: «بعثني إليك الأمير لتعلمني الفتوة.» وضحك وقال: «يا غلام، هات ما حضر.» فأتى بطبق كبير عليه ثلاثة أرغفة من أنظف الخبز وأنقاه، وسكرجات خل وملح من أجود ما يتخذ من هذه الأصناف، وابتدأ يأكل، فجاءته فصيلة باردة من مطبخه وتداركها الطباخ، وأحدث له بعض فنجان جام حلو، فانتظم له أكل خفيف ظريف في زمان يسير، وبغير احتشام وانتظار.

    فهو يستعمل الفتوة في الكرم في سماحة من غير تكلف، ومن هذا القبيل ما قاله أبو البلهاء في يزيد بن مزيد الشيباني يرثيه:

    نعم الفتى فجعت به إخوانه
    يوم البقيع حوادث الأيام
    سهل الفناء إذا حللت بابه
    طلق اليدين مؤدب الخدام
    وإذا رأيت صديقه وشقيقه
    لم تدر أيهما ذوي الأرحام
  • (٢)

    نرى الصوفية استحسنت كلمة الفتوة وما تدل عليه من معاني النبل والسماحة وأدخلتها في معجم كلماتها وغذتها من فضائلها. وأول ما نجد ذلك في الرسالة القشيرية، فقد عقد القشيري بابًا سماه باب الفتوة بجانب باب الحياء والصدق، وقال في تعريفها: «أصل الفتوة أن يكون العبد ساعيًا أبدًا في أمر غيره.» ونقل عن الفضيل أنه قال: «الفتوة الصفح عن عثرات الإخوان.»

    وقال بعضهم: «الفتوة ألا ترى لنفسك فضلًا على غيرك.» وجروا على عادتهم في الأدب الرمزي، فقالوا: «إن إبراهيم سمي في القرآن فتى لأنه كسر الصنم وصنم كل إنسان نفسه.» فالفتى في الحقيقة من خالف هواه ونفسه، وهكذا أحيا الصوفية كلمة فتوة. ونقلوا عن كبارهم كلمات فيها، فالحارث المحاسبي يقول: «الفتوة أن تَنصف ولا تُنصف.» وغيره يقول: «الفتوة إظهار النعمة وإسرار المنة.» وسئل أحمد بن حنبل: «ما الفتوة؟» قال: «ترك ما ترجو لما تخشى.» ولهم في ذلك الحكايات الظريفة في الفتوة كعادتهم؛ من ذلك أن صوفيًّا تزوج امرأة ثم ظهر عليها الجدري قبل الدخول بها، فتعامى الصوفي حتى لا يجرح شعورها، فلما ماتت فتح عينيه فقيل له في ذلك فقال: «لم أعم ولكن تعاميت حذرًا من أن تحزن.« فقيل له: «سبقت الفتيان!»

    ومن ذلك ما حكوه أن إنسانًا يدعى الفتوة خرج من نيسابور إلى بلدة بخرسان، فدنا منه رجل ومعه جماعة من الفتيان، فلما فرغوا من أكل الطعام خرجت جارية تصب الماء على أيديهم فأبى الفتى النيسابوري: «ليس من الفتوة أن تصب النساء الماء على أيدي الرجال.»

    وحكوا أن جماعة من الفتيان زاروا فتى فدعا غلامه ليقدم الأكل لهم، فأبطأ الغلام فسأله الرجل: «لم أبطأت؟!» فقال الغلام: «كان عليها نمل فلم يكن من الأدب تقديم السفرة إلى الفتيان مع النمل، ولم يكن من الفتوة طرد النمل عن السفرة، فلبثت حتى دب النمل.» فقال له صاحب البيت: «قد دققت يا غلام في الفتوة.» وتجادل الصوفية بعد ذلك جدالًا ظريفًا في تفسير كلمة الشيخ، هل عاب الغلام أو مدحه. وهل هذا العمل من الفتوة أو لا. وهل الخوف من إيذاء النمل بالطرد يجب أن يراعى، أو لا يراعى الخوف عند إيذاء الضيوف بالانتظار وهكذا.

    وعقد الشيخ محي الدين بن العربي فصلًا طويلًا في الفتوة، في كتابه «الفتوحات المكية» عنوانه معرفة مقام الفتوة وأسراره، قدمه كعادته بأبيات من الشعر فيها:

    إن الفتوة ما ينفك صاحبها
    مقدمًا عند رب الناس والناس
    إن الفتى من له الإيثار تحلية
    فحيث كان فمحمول على الراس
    ما إن تزلزله الأهواء بقوتها
    لكونه ثابتًا كالراس في الراس
    لا حزن يحكمه، لا خوف يشغله
    عن المكارم حال الحرب والباس
    انظر إلى كسره الأصنام منفردًا
    بلا معين، فذاك اللين القاسي

    وقد بناه على قصة إبراهيم وأنه جاد بنفسه للنار، إيثارًا للحق، وعلى الجملة فقد أدخلها الصوفية في مذهبهم، وصبغوها بصبغتهم، وجعلوها مقامًا من مقاماتهم، وملئت بها كتبهم، ونقلوها من المعنى الدنيوي إلى المعنى الديني كالزهد والإيثار وضبط النفس، وحملها على الحق مهما استتبع ذلك من المكاره.

  • (٣)

    وجدنا الناس يستعملون الكلمة في نوع من الناس هم الشبان الأشداء الذين يتباهون بقوتهم. ثم يهددون الناس في أموالهم وفي أنفسهم، ومن هذا القبيل ما جاء في الرسالة القشيرية، ومن أن شقيق بن إبراهيم البلخي كان يتغنى ويعاشر الفتيان، وكان علي بن عيسى بن ماهان، أمير بلخ، وكان يحب كلاب الصيد، ففقد كلبًا من كلابه. فسعى برجل أنه عنده فطلب الرجل فهرب. فدخل دار شقيق مستجيرًا، فمضى شقيق إلى الأمير، وقال: خل سبيله، فإن الكلب عندي أرده إليكم إلى ثلاث أيام. فلما كان اليوم الثالث كان رجل من أصدقائه غائبًا من بلخ رجع إليها، فوجد في الطريق كلبًا عليه كلاب، فقال: أهديه إلى شقيق فإنه يشتغل بالتفتي، فنظر شقيق إليه فإذا هو كلب الأمير، فسر به وحمله إليه وتخلص من الضمان، فرزق الله الرجل الانتباه، وتاب مما كان فيه، وسلك طريق الزهد.

    ومن ذلك ما جاء من أن أحمد بن خضرويه قال لامرأته: أريد أن أتخذ دعوة أدعو فيها عيارًا شاطرًا كان بلدهم رأس الفتيان. والعيارون الشطار هم فئة ينطبق عليهم ما ذكرنا من اعتزازهم بالقوة، واستخدامها في التهديد والسلب والنهب.

ثم كان هناك نوع رابع تستعمل فيه الكلمة، هو نوع من الفروسية المنظمة، فقد اشتهرت ألعاب الفروسية في العصر العباسي ونظمت، وكثر اللعب بالبندق والخروج به لرمي الصيد. فقد ذكر الأغاني في سبب موت الشاعر أبي العبر أنه خرج إلى الكوفة ليرمي بالبندق مع الرماة من أهلها، فسمعه بعضهم يقول قولا سيئًا في علي فقتله. كما عنوا بلعب الكرة والصولجان وبالصيد والقنص، وقال الفخري: إن المعتصم كان ألهج الناس بالصيد، وبنى في أرض دجيل حائطًا طوله فراسخ كثيرة. وكان إذا ضرب حلقة يضايقونها، ولا يزالون يحدون الصيد حتى يدخلوه وراء ذلك الحائط، فيصير بين الحائط وبين دجلة، فلا يكون للصيد مجال، فإذا انحدر في ذلك الموضع دخل هو وأقاربه وخواص حاشيته وتأنقوا في القتل، وتفرجوا، فقتلوا ما قتلوا، وأطلقوا الباقي. وكانوا يعدون هذه الأنواع من صيد ورمي ونحوهما من قبيل الفتوة.

بل ربما كانت تنعقد أواصر الفتوة بين جماعة لمناسبة من المناسبات كغربة أو نحو ذلك، فتشتد بينهم الصداقة، ويتعاونون على السراء والضراء، وإن لم تجمعهم جامعة من قبل، كالذي حكي أن رجلين من بني أسد خرجا إلى أصبهان فآخيا دهقانًا بها، وتعاقدوا جميعًا على أن يكونوا فتية صدق يضمن أحدهم للآخرين ما يحتاجون إليه، فمات أحد بني أسد في موضع يقال له راوند، فظل هو والدهقان ينادمان قبره؛ يشربان كأسين ويصبان على قبره كأسًا ثم مات الدهقان، فكان الأسدي ينادم قبريهما، فيشرب قدحًا ويصب على قبريهما قدحين، ويتغنى بهذه الأبيات:

خليلي هبا طالما قد رقدتما
أجدكما لا تقضيان كراكما؟
ألم تعلما ما لي براوند كلها
ولا بخزاق من حبيب سواكما
أصب على قبريكما من مدامتي
فإلا تنالاها ترو ثراكما
أقيم على قبريكما لست بارحًا
طوال الليالي أو يجيب صداكما
وأبكيكما حتى الممات وما الذي
يرد على ذي عولة إن بكاكما
جرى النوم بين اللحم والجلد منكما
كأنكما ساقي عقار سقاكما

فالفتوة هنا فتوة مصطنعة، نشأت عن غاية اشترك فيها الإخوان، فهؤلاء فتيان من بني أسد، ورجل فارسي دهقان ألفت بين قلوبهم الغاية فتعاقدوا على أن يفي كل منهم لأخويه، وأخيرًا مات اثنان فوفى الثالث وبكاهما بكاء مرًّا. وربما كان المثل الأعلى لهذا النوع الأخوة في الإسلام، فقد آخى رسول الله بين المهاجرين والأنصار، وكان هذا الإخاء له غاية، وهي أن يؤوي الأنصار المهاجرين؛ لأن المهاجرين خرجوا من ديارهم وأموالهم واحتاجوا إلى المعونة بالأنصار، وقد لاحظ رسول الله في هذه الأخوة تقارب عقلية المتآخيين وأمزجتهما ونفسيتهما، فهذه أخوة لغاية شريفة، يتعاقد فيها أخوان على وفاء. وشدد رسول الله في الرباط بينهما حتى كاد أن يورث بعضهما من بعض كأنهما أخوان حقيقيان، فهذا نوع من الأخوة أرقى من إخوة بني أسد والدهقاني، وأعز منها غاية.

وليست الأخوة بهذا المعنى إلا نوعًا من أنواع الفتوة كما سنرى بعد.

•••

على كل حال في العصر العباسي وبعده تمت الفتوة بمعانيها المختلفة وأهمها نوعان:
  • (١)

    فتوة يصح أن نسميها فتوة مدنية أو دنيوية.

  • (٢)

    وفتوة دينية أو صوفية. ويظهر أن النوعين كانا متميزين في نظمهما وتقاليدهما، وهذا ما سنحاول أن نوضحه.

فالفتوة المدنية على ما يظهر وليدة الفروسية والشجاعة. ومن قديم عرف العرب بهما، وقالوا في ذلك الأشعار الكثيرة من أمثال معلقة عمرو بن كلثوم وعنترة بن شداد، وخلفوا لنا أدبًا وافرًا في كل ما ينطبق على الفروسية والشجاعة. وعُني المؤلفون بَعْدُ في جمعها وتصنيفها ككتاب حلية الفرسان وشعار الشجعان لابن هذيل الأندلسي، وقد ذكر فيه الخيل والمسابقة بها والسيوف والرماح والقسي والنبل والدروع والترس، وما إلى ذلك، وما قيل فيها من أشعار.

ولما جاءت الدولة العباسية تسلط العنصر الفارسي أولًا والتركي ثانيًا، وكان لهم نظم في الفروسية غير النظم العربية البسيطة البدوية، فتسربت منهم إلى المسلمين. ورأينا المؤرخين يذكرون أن الرشيد أول خليفة لعب بالصولجان ورمى بالنشاب في البرجاس، والكرة والصولجان من ألعاب الفرس، ويقولون في المعتصم إنه غلب عليه حب الفروسية، والتشبه بملوك الأعاجم. وإنه قسم أصحابه للعب الكرة. ومعلوم أن المعتصم أول من استعان بالأتراك في أعماله، وقربهم إليه وجعلهم جندًا. واشتهر في عصره بالتفنن في الصيد والقنص. وعدوه من أعلام الفروسية. واقتبسوا في ذلك من الفرس والأتراك. فعلموا الجوارح من الطير والكواسر من الفهود والكلاب. ووضعوا الكتب في جودتها وصفاتها، وطرق تعليمها وأمراضها وما يصلح كل واحد منها. وسموا العلم الذي يبحث في ذلك ﺑ«البيزرة» وقال في ذلك الشعراء.

وأصبحنا نرى في كثير من دواوين الشعر بابًا يسمى بالطرد وهو الصيد. ورويت القصص الكثيرة في أحاديث الفروسية. وقارن الكتاب بين فروسية العرب وفروسية الفرس والترك وغيرهم مما ليس هنا مجاله، ووضعوا القواعد لتعليم الفروسية وقالوا مثلًا: «إنه يجب أن يبتدئ الصائد بالخفة في الوثوب والنزول، ثم يتدرب على ركوب الفرس العربي العريان بلا عدة سوى الرسن. قال المتنبي في وصف أمثالهم:

فكأنما خلقت قيامًا تحتهم
وكأنهم ولدوا على صهواتها

ثم يتعود الصائد ركوبها على اختلاف أنواع سيرهم ثم الصيد عليها وهكذا. وكذلك وضعوا التعاليم للقسي والنشاب والتروس وما إليها.

وكانت الوقائع بين المسلمين والروم في الثغور منشأ لظهور ضروب من الفروسية تستدعي الإعجاب، كما كانت الحروب الصليبية مصدرًا كبيرًا لذلك، ففي كتاب الاعتبار لأسامة بن منقذ، والروضتين لأبي شامة، وسيرة صلاح الدين لابن شداد، أمثلة كثيرة من الفروسية.

كما اشتهر في هذه العصور الإسماعيلية جاء في كتاب «آثار الأول» بعد أن ذكر قصة من فروسية بهرام: «ومثل هذا في المعنى رجال ببلاد الإسماعيلية ويسمون برجال الدعوة معدون لمثل هذا. فإن الرجل منهم أو الرجلين يغني عن حركات الجيوش الكثيرة، ويقال لهم في بلاد الإسماعيلية وفي بلاد الإفرنج «الحشيشية» وعند أهل الأقاليم «الفداوية» وهم قوم على دين الإسلام، وقد كان للملوك الإسلامية عناية بهم كبيرة.

وفي زمننا هذا عني بهم الملك الظاهر وسيرهم للأشغال الكبار، فضوها مع الفرنج، وفي قلاع الإسماعيلية في زمننا هذا ألف بهرام.»

ويظهر أن هذه الفتوة المدنية قد انقسمت إلى قسمين: فتوة عسكرية وفتوة كرمية، أو كما يسميها بعضهم فتوة جودية.

فأما الفتوة العسكرية فيظهر أنها ترعرعت في العصر العباسي الأخير لسببين:
  • (١)

    الحروب الصليبية وحاجتها إلى فرسان أبطال، يجدون في الحرب ضد الصليبيين، وقد أخرجت هذه الحروب عددًا كبيرًا أمثال نور الدين محمود بن زنكي وصلاح الدين وأسامة بن منقذ، وغيرهم.

  • (٢)

    وجود بقايا الفاطميين من الفدائيين الملقبين بالإسماعيلية الذين كانوا يمرنون أبطالهم على قتل أعدائهم، أمثال الحسن بن الصباح وفتيانه. وربما كان عملهم هذا مبعثًا لخصومهم على الفتوة العسكرية التي ذكرناها. وربما كانت أيضًا هذه الفتوة العسكرية سببًا في نظام الفروسية عند الإفرنج. وقد اشتهر بهذا النوع الخليفة العباسي الناصر لدين الله. فإنه نظم الفروسية والفتوة وقال فيه أحد المؤرخين: «إنه شيد بنيانها، ومهد أركانها، وألف أحزابها وأرشد طلابها، وأظهر أنوارها وأوضح برهانها، فبطلت النظم إلا ما شيده وبناه، وتعطلت المعاقل إلا ما اختاره واصطفاه، فهو شجرة الفتوة، وإمام الرحمة، فواصل وأوصل وأحسن وأجمل، وبه انتشر علم الفتوة بعد أن كان منتكسًا، وميزهم على من سواهم بعد أن كانوا فرقًا.»، وجاء في تاريخ ابن الفرات: «إن الناصر لدين الله كان يميل إلى رمي البندق، والطيور المناسيب، ولبس سراويل الفتوة. وكان سائر ملوك الأطراف يسابقونه في رمي البندق وفي الفتوة. فبطل الفتوة في البلاد جميعها إلا من لبس منه السراويل، ورمى له، فلبس سائر ملوك الآفاق سراويلات الفتوة له، ودعوا له في رمي البندق، ووصل رسول له على حماة في أيام المنصور الأيوبي صاحب حماة وأمره بأن يلبس للخليفة ويلبس الأكابر له.

وكان قاضي حماة في ذلك الزمن القاضي برهان الدين أبا اليسر، فأمره الملك المنصور بلبس سراويل الفتوة في المجلس، فلبسها، ولبسها جماعة له. وكذلك منع الدعوة بالبندق إلا له، والطيور المناسيب في جميع البلاد إلا له.

وأجاب الناس بالعراق وسائر الأمصار ما خلا رجلًا واحدًا راميًا بالبندق من أهل بغداد، فإنه امتنع من إجابته وهرب من العراق وألحق بالشام. فأرسل إليه الخليفة يغريه بالأموال الجزيلة فلم يرض، وقال: يكفيني فخرًا أنه ليس في الأرض أحد لا يرمي عن الخليفة إلا أنا.

وجاء في كشف الظنون: «إن الاحتفال بدخول الشاب في سلك الفتيان على عهد الناصر لدين الله كان مصحوبًا بشرب كأس الفتوة، كما أخذ الناصر جنده بالتدريب المتواصل على فنون الرياضة البدنية المختلفة.»

وقال ابن تغري بردي في تاريخه: «إن الناصر لدين الله أرسل في سنة ٦٢٢ رسلًا إلى نور الدين وإلى الملك العادل شقيق صلاح الدين وإلى ابنه الملك الصالح وإلى الملك شهاب الدين حاكم غزة، ومعهم كأس الفتوة وسراويلها لكي ينتظموا في سلك فتيانه. وكأس الفتوة هذه ليست نبيذًا ولا خمرًا، وإنما هي ماء وملح.»

وقد ادعوا أن للفتوة سندًا يتصل إلى علي بن أبي طالب ونحن نثبته وإن لم نثق به:

علي بن أبي طالب أبو الفضل بن الترهان
سلمان الفارسي النعس سلمان
صفوان بن أمية شبل
حذيفة بن اليمان الفضل بن زياد الفارسي
المقداد بن الأسود الفضل
أبو العز التوبي الملك أبو كاليجار
الحسن البصري الملا ميراوي
الحافظ الكندي ناصر الدين بن أبي نعجة
عوف الكناني أبو علي الصوفي
أبو مسلم الخراساني مهني العلوي
الشريف أبو العز نعمان
هلال النبهاني أبو الحسن بن الشاربان
بهرام الديلمي أبو بكر الجحيش
روزبة الفارسي عمر الرهاض
الأمير حسان بن ربيعة المخزومي علي بن دغيم
الأمير جوش الغزاري عبد الجبار بن صالح
أبو الحسن النجار الخليفة الناصر لدين الله

•••

على كل حال شاع نظام الفتوة العسكرية في هذا العصر، ووضعت له نظم كثيرة. ومما يدل على انتشارها الفتوى التي أصدرها ابن تيمية، وهل هي حلال أم حرام؟ وهل للفتوة أصل في الشريعة أم لا؟ وهل أحل أحد من الصحابة أو التابعين أو من بعدهم من أهل العلم هذه الفتوة؟ وقد أجاب ابن تيمية عن هذه الأسئلة فقال: «إن لباس الفتوة وإسقاء الملح والماء باطل لا أصل له. ولم يفعل هذا رسول الله ولا أحد من الصحابة، ولا علي بن أبي طالب ولا غيره من التابعين. والإسناد الذي يذكرونه عن طريق الخليفة الناصر إلى عبد الجبار إلى تمامه إسناد لا تقوم به حجة. وفيه من لا يعرف. وما ذكر من نزول هذا اللباس من السماء في صندوق هو من أظهر الكذب باتفاق العارفين.»

وكذلك مما يدل على انتشارها أن ابن الوردي الشاعر المشهور علق على فتوى في الفتوة بقوله: قد غاظني حتى هاضني، وحنقني حتى خنقني ما أحدثه أهل الجهل والابتداع، وسكت عنه العلماء حتى شاع في الرعاع وذاع، وهي البدعة التي يجب إعفاء رسمها، والنكرة المعروفة بالفتوة. وهي ضد اسمها، وكيف لا، وقد عكف عليها أتباع الضلال، ودعا إليها الجهال وأهل البطالة، يجمعون لها الجموع من الأنباط، ويحضرها المرد وأهل اللواط. فمنهم من يتصابى على سنه، ومنهم من يمشي على بطنه، وإن تنحنح ذو سطوة أجابوه بسكين وتكاثروا عليه، وإن أضمرت كلمة الحق ظهروا، ما أحقهم بالنفي عن الجنس، وما أولاهم بالكبس، وجعلهم كأمس، كبيرهم العاص يزيد تيهًا على الفرات، وهو عند الشريعة صغير. فيتصدر فيهم بغير علم ولا هدى، ولا كتاب منير. يلبسهم لباس شر، ولباس التقوى ذلك خير. ويسقيهم ماء له بالملح المذاب، وبئس الشراب، فيشقيهم بما يسقيهم، ويطغيهم بما يعطيهم، ويمد لهم خوانًا، يجمع فساقًا وخوانًا، جمع ثمنه من القمار والدبر والحوك والنجامة، والكنس والحجامة. واشترط شروطًا ليست في كتاب الله. والشيطان بغرور دلاه. وكما قال الشاعر:

ليس الفتى كل الفتى عندنا
إلا الذي ينهى عن الفحش
يأتي إلى الإسلام من بابه
ويتبع الحق بلا غش

ليس الفتى من ضرب بالسيف والسكين. الفتى من أطعم المسكين الضعيف والمسكين، وليس الفتى من أقام الشنائع، وشهر على الأمة السلاح، فالفتى من جمع الكلمة ودعا إلى الإصلاح.

فإن احتج للفتوة بأخذها عن الخليفة، قلنا: إن صح فبدعة أحدثت كتقبيل العتبة الشريفة، وإنما يصح الاقتداء بالخلفاء الراشدين الذين أخذ عنهم العلماء الدين.

وكم أفتى بتحريم الفتوة عال وكم وليّ، ولو صحت عن أمير المؤمنين لكانت في القوة كجلمود صخر حطه السيل من عل، ولولا خوف التطويل لذكرت ما عليها من دليل، وقد سماها بعض شياطين الإنسان فتوة، قصر الله عمره فلا حول ولا قوة.

•••

وقد ورث هذه الفتوة بهذا المعنى بعض المماليك في مصر، فإنهم كانوا يتعلمون الأعمال الحربية ويتمرنون عليها، ويتخذون من الصيد وسيلة لتعلم الفروسية، وفي عصر من العصور كان هؤلاء المماليك ينقسمون إلى قسمين: ذي الفقارية والقاسمية، واتخذوا لذلك شارات، فالفقارية اتخذت شعارها البياض في الثياب والركاب، حتى أواني المأكولات والمشروبات، والقاسمية اتخذت شعارها الحمرة في كل شيء من ذلك، وكان بين الفريقين من الفروسية والألعاب والقتال ما كثر ذكره في الجبرتي وغيره.

ويقول الجبرتي أيضا: إن القرن الثاني عشر استهل وأمراء مصر فقارية وقاسمية، وكان هؤلاء المماليك يشترون المماليك الصغار أو يأسرونهم ويعلمونهم حسب استعدادهم، ويقسمونهم أقسامًا، قال المقريزي: أول ما يبدأ به تعليمه ما يحتاج إليه من القرآن، فكانت كل طائفة لها فقيه يحضر إليها كل يوم، ويأخذ في تعليمها كتاب الله، ومعرفة الخط والتمرن بآداب الشريعة، وملازمة الصلوات والأذكار.

فإذا شب الواحد من المماليك علمه الفقيه شيئًا من الفقه، فإذا صار إلى سن البلوغ، أخذ في تعليمه أنواع الحرب من رمي السهام ولعب الرمح ونحو ذلك.

فيتسلم كل طائفة معلم، حتى يبلغ الغاية في معرفة ما يحتاج إليه، وإذا ركبوا إلى لعب الرمح، أو رمي النشاب، لا يجسر جندي ولا أمير أن يحدثهم أو يدنو منهم، وبعد ذلك ينقل إلى الخدمة ويتنقل في أطوارها رتبة بعد رتبة، إلى أن يصير من الأمراء، فلا يبلغ هذه الرتبة إلا وقد تهذبت أخلاقه وكثرت آدابه، وامتزج تعظيم الإسلام وأهله بقلبه، واشتد ساعده في رماية النشاب، وحسن لعبه بالرمح، ومرن على ركوب الخيل.

ومنهم من يصير في مرتبة فقيه عارف، أو أديب شاعر، أو حاسب ماهر، وإذا اقترف ذنبًا أو أخل برسم، أو ترك أدبًا من آداب الدين أو الدنيا عوقب عقوبة شديدة بقدر جرمه، ولذلك كانوا سادة يدبرون الممالك، وقادة يجاهدون في سبيل الله.

وبلغت عدة المماليك السلطانية في أيام الملك المنصور قلاوون ستة آلاف وسبعمائة، فأراد ابنه الأشرف خليل تكميل عدتها عشرة آلاف مملوك، وجعلهم طوائف، ثم شغف الملك الناصر بجلب المماليك، وبعث في طلبهم من سائر البلاد وبذل الرغائب للتجار في حملهم إليه، ودفع فيهم الأموال العظيمة، وبلغت نفقات المماليك كل شهر إلى سبعين ألف درهم، ثم تزايدت حتى صارت في سنة ٧٤١ مائتين وعشرين ألف درهم.

•••

وانتقلت الفروسية في الحروب الصليبية إلى الغربيين، وثار جدل طويل بين الباحثين، هل انتقلت الفروسية الغربية من الفروسية العربية مما شاهدوا من مثل صلاح الدين ونور الدين وأسامة بن منقذ، أو هم أخذوها من التقاليد والعادات الألمانية؟ ولا مجال هنا لسرد حجج كل فريق، وكل الذي نريد أن نقوله إن الفروسية سواء كانت عربية أو غربية تتضمن الشجاعة والإتيان بأعمال البطولة والكرم والسماحة والعفو عند المقدرة، واحترام المرأة، ووفاء العهد وحماية الضعفاء، وهذه كلها صفات الفتوة العسكرية.

•••

أما الفتوة الكرمية أو كما يسمونها الجودية، فتتجلى فيما حكاه ابن بطوطة في رحلته إذ قال: إن هذا الإقليم المعروف بالأناضول من أحسن أقاليم الدنيا وقد جمع الله فيه ما قد فرق من المحاسن في كل باب، فأهله أجمل الناس صورًا وأنظفهم ملابس، وأطيبهم مطاعم، والفتيان بجميع البلاد التركمانية الرومانية في كل مدينة وقرية.

ولا يوجد في الدنيا مثلها احتفالًا بالغرباء وأسرع إلى إطعام الطعام وقضاء الحوائج. والأخذ على أيدي الظلمة ومن لحق بهم من أهل الشر. ويسمون الفتى «أخي» فيقولون: أخي عز الدين، وأخي علاء الدين، وأخي علي بك أي الفتى فلان. ويسمون الفتوة (أخيّة) على وزن شهية، ويقول ابن بطوطة ما مفاده: إنه في كل بلد دخله في الأناضول وجد هؤلاء الفتيان وهم منقسمون أقسامًا بحسب حرفهم، فالحلاقون والبزازون … إلخ. ولهم شيخ عليهم، ولهم زاوية نظيفة في كل بلدة، مفروشة بالبسط وهم يشتغلون في صناعتهم بالنهار، ثم يعطون ما كسبوه إلى شيخهم وهو يحضر لهم الطعام والفاكهة والحلوى. وهم يفرحون بإضافة الضيوف والغرباء، فهم على هذا الوضع أشبه ما يكونون بنقابة عمال يعيشون عيشة اشتراكية. وكان ابن بطوطة كلما دخل بلدة من بلاد الأناضول سأل عن الأخية، وكثيرًا ما حكى أن أهل هذه الأخية تنازعوا، وقد أشرف نزاعهم على الحرب، من أجل تزاحمهم في طلب ضيافته. وقد عُثِرَ على وقفيات كثيرة تثبت أن الأغنياء كثيرًا ما وقفوا الأوقاف الكثيرة على هذه الأخيات.

فمثلًا وجد في إحدى الوقفيات أن هذا الغني وقف أملاكه على أولاده، على أن يكون في قرب مرقده زاوية، ولتلك الزاوية شيخ وناظر من أولاده الذكور ثم الإناث، وأن يصلي الشيخ فيها خمس صلوات يدعو له في عقبها، ويذكر الله في ليلة الجمعة والاثنين، وبعد صلاة الصبح تقرأ سورة يس وبعض الأوراد. وشرط الواقف أن يكون الشيخ صالحًا متقيًا متورعًا، صاحب عزلة وقناعة وصاحب أخلاق حميدة، ويجلس في الزاوية كل يوم، ويعطى له من الغلة في كل يوم درهم، وما بقي بعد ذلك يصرف على المستشفيات، وبعضها على ضيافة الضيوف. وقد عثرتُ على ميزانية لأخية من هذه الأخيات، صورتها ما يأتي:
الوارد
جـ
٧٦٥٠ بدلات إيجار
٧٩٠٠ أرباح نقود
٥٥٠ بدل حصة من الأوقاف
١١٠ الفائض من العام الماضي
٥٠٠ من الوصايا
٩٠٠ بدلات إطعامية
٢٧٥ دخوليات
٢٧٠٠ تبرعات الأصناف
١٢٥٠ إعانات
٧٥ أشجار
٢١٩١٠ المجموع
المنصرف
جـ
٨٠٠ للتعمير والترميم
٢٠٥٠ بدل الدكان المبتاع
٧٠٠ أجرة الثلج في موسم الصيف
٦٠٠ أجرة لقراءة المنقبة النبوية
١٥٥٠٠ مصاريف الأيام الثلاث
٦٨٠ فحم لفقراء البلدة وأهل الصناعة
١٢٠٠ خبز للفقراء في رمضان
٦٠٠ باصمة للأيتام والأرامل في العيدين
٣٥٠ أجرة التداوي لفقراء أهل الحرف وعائلاتهم
١٧٠ للتجهيز والتكفين
١١٠٠ للمسافرين
١٨٠٠ الصدقات اليومية
٢٥٠ معاونة للواعظين في الشهور الثلاثة
٨٥٠ لأدلاء الحرمين والشرفاء والشيوخ
٤٠٠ لصرة الحرمين
٣٨٠ لترميم طاش كوبري
٣٥٠ معاونة لحسن أغا المحترق دكانه
١٠٠ أجرة القربان
٤٥ لإيقاد القناديل في رمضان والليالي المباركة
٣٠٠ للختم الشريف
٣٥٠ لقراءة البخاري الشريف والشفا
١٥٠ لتعمير زقاق السوق
٢٥٠ أجرة الحاكم للنظارة
١٢٠٠ أجرة التولية
١٥٠٠ لمعلمي مكاتب الصبيان
٥٠٠ للفحم والحصر للمكاتب
٣٦٠ الأجرة السنوية للمنادي
٤٥٠ لناظر الماء
٢٤٠ لحارس البدستان
٢٤٠ أجرة للإطفائية
٦٠٠ مصاريف اللاونجة
٢٠١١٥ المجموع
يؤخذ من هذا أن أكثرها مصاريف للخيرات المختلفة حسب عقليتهم في زمانهم، ولا يستصغرن قارئ هذا المبلغ؛ لأن المال لا يقدر بالعدد ولكن بقدرته على الشراء كما يقول الاقتصاديون، وقد كان هذا المبلغ في زمنه يساوي أضعافه في زماننا، وهذا الوارد والصادر من أخية واحدة، ومثلها كثير.

والمؤرخون الأتراك ترجموا لبعض أصحاب الفتوة وسموا الفتى أخي فلان، ففي بعض كتبهم مثلًا أخي حسام الدين، وهو صاحب الفتوة والمروءة والمعروف بالسخاء والشجاعة والزهد والعبادة، وإطعام الطعام للمساكين وإكرام العلماء والفقهاء، وحسن السيرة وصدق الحديث. قليل الكلام. لا يسمع منه أحد كلمة كذب ولا غيبة. لا يخوض في كلام لا طائل تحته، آمر بالمعروف ناه عن المنكر. لبس الفتوة من أبيه سيد شمس الدين. وأخذ منه الفتوة خلق كثير. مات في شوال سنة ٦٩٥. ويقولون أيضًا: أخي كمال الدين، وهو صاحب الفتوة والمروءة، معروف بحسن الخلق والديانة والتقوى، متواضع، خادم للفقراء، حمول، ساع في حوائج الناس، له الكلمة عند السلاطين والأمراء والكبراء. محبوب الخلق والخلق، لبس الفتوة من أخيه «أخي حسام الدين» … إلخ.

فنرى من هذا أن هذه الفتوة تشبه نقابات العمال، على شرط أن تكون اشتراكية. وقد كانوا ينظمون هذه الصناعات من مبتدئ تلميذ وصانع ورئيس وهكذا. وهم يشترطون شروطًا في كل مرحلة، فالمبتدئ وإن شئت فسمه التلميذ، كان يبقى عدة سنين بلا أجرة، ويعلل أهله أنفسهم بأنه سوف يكون عاملًا ثم تدفع له أجرة كل أسبوع مناسبة لمهارته. ولكنه يستمر حاملًا اسم أبيه إلى أن يدخل في سن الرجولة، أو يصل في صنعته إلى حد الإتقان، فيسمى صانعًا، ولكن لا يسمح له أن يفتح محلًّا وحده لحسابه، إلى أن يدشن الصانع، ويعترف بأهليته وتسمى هذه العملية في لسان الأتراك «عملية الشد»، ولا يشد إلا إذا كان مبتعدًا عن المنكرات ملتحيًا. وإذا استعد للشد أعطى عرقًا أخضر، ومعنى هذا أنه يجب عليه أن يولم وليمة لرفقائه. والغالب أن يكون العرق الأخضر من الريحان. والعادة أن شاويش الحرفة يقطع أول عود من شجرة خضراء يراها إما ريحانة أو غيرها، فيأخذ الصانع منه العرق ويقبله. ويضعه على رأسه فيأخذه الشاويش عند ذلك إلى شيخ الحرفة ويخبره بأمره. فيقيدون اسمه مع زملائه الذين يستعدون للشد أيضًا، فيدعو رفقاءه وشيوخ الحرفة وشيخ المشايخ. والشد يكون في أحد البساتين ليلًا أو نهارًا ويتبادل معهم شيخ الحرفة السلام ثم يقول النقيب: «يا إخواني» لنبدأ عملنا. فيصمت الجميع ويأخذه الشيخ إلى غرفة ثانية ويشده بطريقة معينة، ذلك أن يحضر الطالب مكتوف اليدين، ويوقفه الشاويش في الوسط على بساط أخضر ويجعل إبهام رجله اليمنى على إبهام رجله اليسرى، ثم يقول النقيب للشاويش: اجعله يقرأ الفاتحة بصوت عال. ويكون جميع الحاضرين جالسين على ركبهم، مطرقي رؤوسهم، ثم يطلب النقيب من العامل الفاتحة ثانية، ثم يذكر النبي ويصلي عليه، ثم يتلو الصانع الفاتحة مرة ثالثة، فبعد أن يفرغ منها يسلم النقيب على الحاضرين من الزوار، ويسلم سبع سلامات، سلامًا على الحاضرين، وسلامًا ثانيًا على أهل الحرفة وشيوخها وسلامًا ثالثًا على أهل الميمنة وسلامًا رابعًا على الميسرة، وسلامًا خامسًا على السادات، وسلامًا سادسًا على الإصلاح، وسلامًا سابعًا على الأحباب … ثم يلتفت إلى المشدود ويقول له: «أوصيك يا من تخاوي أو تعاهد بأداء فروض رب العالمين، وأن ترعى عهدك وشدك وسيشهد عليك حفظة السماء، وستكتب من يضيعه من المبعدين، وأختم كلمتي بمدح أحمد المختار أمام العالمين، آمين، يا رب العالمين.»

ثم يوثق النقيب بينهم ميثاق الأخوة، فيعتبر أهل الحرفة المشدود كأنه أحدهم، وأنه أخ لهم، وربما فضلوه على الأخ الحقيقي، وبعد ذلك يعين أحد الحاضرين أبًا للمشدود على حسب الصنعة التي التحق بها، ويكون هذا أبًا له والصانع ابنه، ثم يأخذ شيخ الحرفة في نصيحة المشدود، ويقول: «يا بني، إن جميع الحرف أهلها أمناء على الأعراض والأرواح والأموال. والأمانة هي الدين، فكن صادقًا وأمينًا. واعلم أن «كارك» مثل عرضك. حافظ عليه بكل ما تملك، وإذا استلمت أموال الناس فلا تفرط فيها، وإياك أن تخون أهل الحرفة، والخائن مسئول أمام الله.» ثم يلتفت إلى الحاضرين ويسألهم: هل هو يستحق الشد وأن يكون صانعًا؟ فيقولون: نعم. وحينئذ يأخذ عليه هذه العهود ويركع أحدهما إزاء الآخر نصف ركعة بحيث تمس الركبتان اليسريان الأرض، وتنثني اليمنيان نصف ثنية، ويقترب بعضهما من بعض حتى يتلاصق الإبهامان اليمنيان، ويمسكان بيد بعض مسكة خاصة معروفة ويتعاهدان على الإخاء. ثم توزع الهدايا الموضوعة في صينية، وهي للنقيب لوح صابون، وقطعة من الشاش مطرزة، وخلة وعرق أخضر، ومنهم من يضيف إلى ذلك كيسًا لوضع التنباك ومسبحة. والصابونة رمز لتنظيف اليدين من السرقة، والشاشة لمسح الفم ووقاية الأثواب والخلة لتنظيف الأسنان، والعرق الأخضر لتزال به رائحة الأكل من اليد. ثم يُهَنَّأ المشدود، وترتفع الأصوات بالتهليل، ويقولون مرارًا: صلوا على عيسى وموسى ومكحول العينين. وقد تعد لذلك وليمة يعدها الصانع ويراعي فيها أن تكون بسيطة، ويسمون الأكل «التمليح» أي أكل الخبز والملح. والملح من قدم رمز للتعاقد والوفاء بالعهد.

وللشد ضريبة تبلغ أربعين فرنكًا إلى مائة فرنك. أما تولية الشيخ أو النقيب فلها شعائر أخرى لا نطيل بذكرها.

وهناك مجلس أعلى يشرف على هذه العمال، ويسمى «المجلس الكبير»، فيجتمع الإخوان كل شهر، وينتخبون منهم رئيسًا من اختصاصه سماع الشكايات والفصل في المنازعات التي تقع بين أهل الحرف، والنظر في مصالح أهل الحرفة.

ولهم اجتماع آخر سنوي يبتدئ في أول شهر مارس، يجتمع كل يوم من أهل صناعة خاصة وينظرون في أمورهم، ثم يجتمع أهل الحرف جميعًا ويعلن الاجتماع قبل ١٥ يومًا ويحضر جدول الأعمال، ويحضر فيه أهل أربع وعشرين صناعة، ويُدعَى من عداهم من عامة أهل البلد، ويقام مطبخ عظيم يعد الأكل لجميع الحاضرين، فإذا جاء وقت الطعام يصطف كل أهل حرفة وحدهم.

وإذا أرادت الحكومة تكليف أهل الحرف بشيء أو النظر في أمر من أمورهم، دعت هذا المجلس ليكون واسطة بينها وبين العمال. ولكل حرفة صندوق خاص يتولى المتولي، أي الأخي إدارته، ويسأل عنه. ويوجد في كل صندوق ستة أكياس: كيس أطلس توضع فيه الحجج المبينة لأوقاف الصندوق، وكيس أخضر تحفظ فيه مسائل الأخوة، وكيس منسوج تحفظ فيه نقود الأخية، وكيس أحمر تحفظ فيه سندات النقود، وكيس أبيض تحفظ فيه سندات المصالح، وكيس أسود تحفظ فيه سندات النقود التي لم تحصل.

ولهم رموز خاصة يتبادلونها عند تَنَصُّب الفتى صانعًا وعند انتخاب النقيب قد بينها كتاب «مفتاح الدقائق في بيان الفتوة والحقائق». ولما اطلع على هذه النظم — التي كانت قائمة في بلاد الأتراك وفي ممتلكاتها كمصر ودمشق — كتب الأستاذ إلياس عبد الله قنصل هولندا بدمشق يقرر أن هناك تشابهًا كبيرًا بين هذه النظم والتقاليد ونظام الماسونية وتقاليدها، فتساءل: ما هي العلاقة بين تلك النظم، وهل أخذت الماسونية نظامها من نظم الفتوة، وما الدليل على ذلك؟ وإذا لم تأخذ الماسونية من الفتوة فكيف تشابهت التعاليم؟

ورجا الباحثين أن يجيبوه عن أسئلة، ولكن لم أر بحثًا يجيب على هذه الأسئلة. وربما كانت هذه النظم ترجع إلى عهد الفاطميين؛ ففي صبح الأعشى أن الفاطميين ألفوا جماعة سموهم صبيان الخاص، وجعلوهم من أخصاء الخليفة. وسموا في عهد المماليك بالخاصكية، وسموا في نظام الفتوة بالفتيان الخاصكية. وفرقة أخرى تسمى صبيان الحجر، وهم جماعة من الشبان يناهزون خمسة آلاف ويقيمون في حجر منفردة. ولكل حجرة اسم خاص، فبعضهم يسمون مماليك الطباق ويسمون في نظام الفتوة فتيان الطباق.

وبعضهم يسمون طوائف الأجناد، تنسب كل جماعة منها إلى صاحبها كالحافظية والآمرية من بقايا الحافظ والآمر. وكالجيوشية والأفضلية من بقايا أمير الجيوش وولده الأفضل. وبعضهم إلى أجناسهم، كالأتراك والغز والديلم. ولكل طائفة قواد. وطائفة كانت تسمى الفداوية، تخصص لأعمال الفداء كالإسماعيلية، فهذه الطوائف وضع ما يقابلها على ما يظهر عند السنية اتقاء لشرورها كما فعل الناصر لدين الله. ومن هذه انتقلت إلى الأناضول وغيرها من البلاد التركية. ولكن تغيرت أحوالها بتغير البيئة وتغير الزمان والمكان، وربما كان لجمعية إخوان الصفاء وهي جمعية شيعية معروفة إيحاء بتسمية ما بعدها بالأخوة والله أعلم.

•••

وفي عصرنا هذا عرف في كل حي من أحياء القاهرة والإسكندرية بعض الناس الفتوة، فيقال فتوة المنشية، وفتوة الجمالية، وفتوة الحسينية وهي تسمية بالمصدر، كما يقال رجل عدل.

والفتوة في العرف شاب شهم نبيل شجاع ذو مروءة يفضل إخوانه في كل هذه الصفات.

ومن قبيل ذلك ما حكاه الجبرتي عن حجاج الخضري، فقد كان له بوابة قرب السيدة عائشة تسمى بوابة حجاج، وكان زعيم الخضرية، وكان فيه هذه الصفات التي ذكرناها في الفتوة. وكان أهل حرفته يسمعون كلامه أكثر مما يسمعون كلام الوالي. ولذلك شنقه الوالي تأديبًا لأتباعه من غير أن يكون جنى جناية. وقد شاهدت ابنته في حارتنا العبَّادية بالمنشية، وفيها بعض صفاته، وفيها أيضًا قوة ممتازة في لسانها تغلب به في السباب أهل حارتها.

ومن ذلك ما حكاه الجبرتي أيضًا في ترجمة الشيخ حسن الكفراوي، فقد كان صديقًا للشيخ صامودا المنجم؛ فرأى أحد المماليك على عضو زوجته كتابة، فسألها عنها فقالت له: قد كتبها الشيخ صامودا ليحببك فيَّ. فقال لها: إنه إذًا رضي أن يطلع على عضوك. ثم أمسكه وقتله وشهر به وبالعلماء، وشهر بصديقه الشيخ الكفراوي، فاضطهد الشيخ اضطهادًا كبيرًا ألجأه إلى أن يحتمي بفتوة حي الحسينية، إذ كان الشيخ يسكن فيه وهو الحاج عمر الجزار، ليمنع عنه أذى الناس، وتزوج ببنته.

ويمتاز الفتوة بهذه الصفات التي ذكرناها وبأنه يتبجح بشجاعته، ويؤذي من لم يحتمِ به. وزفة الحي لا تخرج إلا بحمايته وضمانته، فيتصدر زفة العريس أو المطاهر هو وأتباعه، ويمنع عنها أي شخص من حي آخر يعمل عملًا يفسدها. كما أن من أعماله أن يتعرض لزفات الأحياء الأخرى. ويوقفها ويطلب من الزمارين والطبالين أن يطبلوا له ولزملائه، ويزمروا على حد تعبيراتهم «عشرة بلدي» وهو يرقص على الزمارة، فإذا أجابوه إلى طلبه فبها، وإلا ضرب هو وزملاؤه الزفة وأفسد كيانها، وقد يقع في المعركة بعض الجرحى. ومن أعماله أيضًا أن يحمي صبيًّا في مدرسة من أن يعبث به أي رجل آخر غيره، ويخالل امرأة يحميها، وقد يتزوجها، ويكون معروفًا بين زملائه أنها في حمايته لا يتعرض لها أحد، ولا يشاغلها أحد. وإذا قصده أحد في أمر قضاه له مروءةً، وإذا اجتمع مع زملائه في قهوة أو في خمارة صرف عليهم كل ما يطلبون وسُمِّيَ هذا جبا فلان.

ومما يمتاز به هؤلاء الفتوات أيضًا لغتهم، فلهم لغة خاصة كجمعهم تلميذ على تلاموذ، فيقولون: عملنا اليوم مظاهرة مع التلاموذ. وكقولهم: أنا أضربه وأضرب اللي يشدد له. ومعنى اللي يشدد له، الذي يحميه.

وهكذا في لغتهم الخاصة ويكثر في كلامهم كلمة الفتونة، ويرون أنه لا عار على الفتوة أن يحبس ويسجن ويقتل؛ لأن هذه كلها زكاة ما وهبه الله من القوة، وقد سمعت أن فتوة من هؤلاء نصح أن يترك هذه الأمور ويستقيم فقال: وما قيمة هذه الفتونة إذًا، واستمر في طريقته، وسجن وعذب.

وكثيرًا ما يكونون حشاشين أو سُكَرِيَّة على حد تعبيرهم. وإذا لعب بهم السكر أفسدوا ما شاءوا. وأكثر ما يظهرون أيام الأعياد وأيام شم النسيم، فيعيثون في الأرض فسادًا.

وأحيانًا يتواعد فتوات أهل حيين على المقاتلة في جبل الجيوشي بالقاهرة، فيطلعون الجبل وينتصب الصفان، ويتضاربون بالنبابيت وبالحجارة.

وقد يخر بعضهم صريعًا أو جريحًا، وبعد انفضاض القتال يتصايحون، فيصيح أهل المنشية: نحن غلبنا أهل الحسينية، نحن الجدعان، ونحو ذلك أو العكس، ثم يتواعدون على يوم آخر يتقابلون فيه. وإذا لم يحضر أحد الفريقين كان إعلانًا له بالهزيمة.

ثم ضجت الحكومة من هذه الأحوال خصوصًا بعد أن دخلها الإنجليز واجتهدت في القضاء على الفتوات كما قضى عليهم الخمر والحشيش. وكان هؤلاء الفتوات يسمون أيضًا البلطجية. وفي الإسكندرية يسمى كل واحد منهم «أبا أحمد» وفي سوريا «قبضايا».

وقد كان هذا آخر عهدنا بالفتوة والفتيان بعد أن كان لقبًا جميلًا. ولو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا لسمينا فرق الكشافة بنظام الفتوة، لأنها به أليق، والاسم أجمل ولكن ما فات لن يعود.

وهؤلاء الفتوات كان لهم أثر كبير في إقلاق راحة الفرنسيين أو الحملة الفرنسية على مصر، فإنهم استطاعوا أن يقضوا مضاجعهم ويقلقوا راحتهم، ويفسدوا حكمهم، وقد جاء في الجبرتي أن الفرنسيين أرادوا أن يفرضوا بعض الضرائب على الأملاك والعقارات، ونشروا إعلانًا بذلك، فلما أشيع ذلك كثر لغطهم واستعظموه، فتجمع الكثير من الغوغاء وعزموا على الجهاد وأبرزوا ما كانوا أخفوه من السلاح، وخصوصًا على حسب تعبيره «حشرات الحسينية» وزعر الحارات البرانية، وهم يصيحون: «نصر الله الإسلام» (والزعر هم الفتوات أو الشطار فكلها مترادفة). وذهب نحو الألف أو أكثر إلى بيت القاضي، وأوقفوا حجابه ورجموه بالحجارة والطوب، فلما بلغ الفرنسيين ذلك ذهب قائد منهم بجنوده، وقد كان هؤلاء الفتوات قد حفروا المتاريس وتترسوا بها، وازداد الحال سوءًا، وامتدت يد الغوغاء إلى النهب والخطف والسلب، ونهبوا دور النصارى والشوام والأروام، وسبوا النساء والبنات، واختطفوا الأمتعة وقتلوا كثيرًا من الجنود الفرنسيين، فلما أصبح الصباح أحضر الفرنسيون جميع الآلات من المدافع والقنابر والبومبات. ولما ضربوها صاح الناس: يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف. وذعروا من المدافع لأن أهل هذا الحي لم يروها من قبل، ومع ذلك ظل هؤلاء الفتوات يقاتلون الفرنسيين وينهبون ويسلبون حتى ضاق بهم الفرنسيون ذرعًا. وهجموا على الأزهر وداسوا بالنعال وربطوا أفراسهم في القبلة. وأضاعوا كثيرًا من الأنفس والأموال. ولم يستقر الأمر إلا بعد تعب كبير. وكان ممن اتهم بهذه التهمة رجل اسمه إبراهيم أفندي، وتهمته كما يقول الجبرتي: «إنه كان قد جمع جمعًا من الشطار وأعطاهم الأسلحة. وكان عنده أيضًا عدة من المماليك المخفيين والرجال المعدودين فقبضوا عليه وحبسوه.»

هذا ملخص عبارة الجبرتي بمعناها لا بنصها. وقد أطال في ذلك كثيرًا.

وهذه حادثة من حوادث كثيرة خرجت فيها الفتوات أو الزعر أو الشطار أو الغوغاء على الفرنسين وقتلوا منهم، وجعلوا حكمهم للبلاد عسيرًا مما يطول شرحه. ولذلك تعلم الإنجليز من هذه الحوادث، فكتموا أنفاس هؤلاء الفتوات وقتلوهم أو سجنوهم، وقلموا أظافرهم بأخذ الأسلحة منهم حتى العصي والسكاكين.

ثم سلط عليهم الحشيش والخمر فذهب بأسهم.

وقد أكثر أهل العلم والأدب من الكتابة في نظام الفتوة. وهذا بيان بعض ما ألف فيهم.

من ذلك كتاب الفتوة لأخي أحمد الأردبيلي، وطرائف الطرف لمحمود بن محمد، وآداب الأخي لشهاب الدين السهروردي، وفصول في كتاب نغمات الأنس للجاني في مادة أخي، وفصل في كتاب تاريخ أهل المظفر، وبعض رسالات كتبت في الفتوة بالتركية، وفصل في كتاب الأوامر العلائية في مدائح أصحاب الفتوة السياسية والأجواد، وكتاب للمبارك بن خليل الخازنداري المسمى آداب السياسة بالعدل … إلخ.

وفي العصور الأخيرة ألف بعضهم كتابًا اسمه مذكرات فتوة.

وربما كان قريبًا من نظام الفتوة في أيامنا هذه جمعية الإخوان المسلمين، وهي جمعية أكثر أتباعها من الشبان المسلمين، بدءوا أمرهم بتعليم الشبان الفضائل عن طريق الدين، والحق أن الناظر إليهم كان يراهم أميز من زملائهم من حيث الفتوة والرجولة والتخلق بالأخلاق الحسنة. ثم دعتهم الظروف المحيطة بهم أن يتحزبوا كما تحزب الشبان والتابعون للأحزاب الأخرى، فتظاهروا كما تظاهرت الأحزاب الأخرى. وأيدوا الحكومات أحيانًا وعارضوها أحيانًا تبعًا للظروف والتعليمات، ثم تطوروا تطورًا آخر، فكان منهم محاربون، وكان منهم فدائيون؛ فبدءوا يقتلون بعض من يخالفهم، كما فعلوا في القاضي الذي حكم على بعضهم، وبدءوا أيضًا ينسفون بعض بيوت الهيئات السياسية وبعض المحال التجارية الأجنبية، ثم جهزوا تجهيزًا حسنًا من قنابل وآلات استقبال وإذاعة، ونحو ذلك.

وكونوا من بعضهم خلايا كخلايا الشيوعية، لا يعرف أعضاء الخلية أعضاء خلية أخرى، ثم اضطرت الحكومة المصرية لحلهم، فكان من جزاء رئيس الوزارة الذي حلهم وهو النقراشي باشا أن يقتل، فكان جزاء وفاقًا أن يقتل رئيسهم أيضًا، وهو الشيخ حسن البنا. وكان من شأنهم أن جاهد بعضهم وأبلوا بلاء حسنًا في حرب فلسطين، وفي حرب الإنجليز في قناة السويس. وبذلك انقلبت من جمعية إصلاحية للأخلاق والنظام الاجتماعي من وعظ وإرشاد وتثقيف وتعليم، ومعاونة للفقراء إلى نوع كالذي ذكرناه من قبل عن الفتوة العسكرية.

وفي نظرنا أنه قد أضعفها هذا التطور الأخير، وهو التطور العسكري، فإنها بذلك زاحمت الأحزاب السياسية الأخرى وشاركتهم في الرغبة في الحكم، فقاتلوهم وحاربوهم وسجنوهم. وكان من رأينا أن يبقوا بعيدين عن المغامرات السياسية، دعاة إصلاح أخلاقي واجتماعي. ولو استمروا على ذلك لثبت بنيانهم، وامتد نفوذهم. ولكن لله في خلقه شئون. ووجه الشبه بينهم وبين نظام الفتوة ظاهر حتى في تنظيمهم ودعوتهم للإصلاح الاجتماعي ومساعداتهم للفقراء والمساكين، ثم في تسلحهم الذي يشبه الفتوة العسكرية، كالتي رأيناها عند الناصر لدين الله وأشباهه من رجال الحروب الصليبية ورجال الفروسية. وقد كان لهذه الجمعية أتباع في الشام والحجاز والعراق، يأتمون بإمامهم ويتبعون تعاليمهم. وهم لا يزالون إلى يومنا هذا، وقد عقد وكيل النيابة الذي ترافع في قضية الخازندار مقارنة بين نظامهم ونظام الإسماعيلية وأطال في ذلك، والله بمستقبلهم عليم.

هذا ما يتعلق بسلسلة الفتوة من الجاهلية إلى الإسلام إلى اليوم. أما الكلام في الصعلكة فإنا نرى التصعلك خفت بعد ذلك لسببين؛ أولهما: أن الإسلام بتعاليمه نهى عن السلب، وكان في الغزوات المشروعة غنية عنهما، فلم يمكن أن تكون الصعلكة نظامًا ثابتًا منتشرًا.

والثاني: أن الفتوحات الإسلامية أدرت عليهم الخير الكثير، فمن كان يمكن أن يكون صعلوكًا أصبح يمتلك الجواري والعبيد والدور والبساتين، فلم يكن له حاجة إلى التصعلك الذي هو نتيجة الفقر والبؤس.

وربما كان الفقير الذي لا يملك شيئًا يجد في الزكاة التي فرضها الإسلام ما يغنيه عن التصعلك الذي عرفنا أساسه، وهذا لا يمنعنا من أن نرى هنا وهناك بعض اللصوص الصعاليك من البدو يخطفون وينهبون ويسلبون ويقطعون الطرق، لكن في غير نظام.

ثم نرى إذا تقدمت الدولة العباسية جماعة سلابين نهابين يسمون العيارين أو الشطار، يعيثون في الأرض فسادًا، ويعملون عمل الصعاليك في الجاهلية. غاية الأمر أن الصعاليك كانوا يعيشون في الأرض فسادًا أيضًا، ولكن يعوض فسادهم أنهم كانوا لا ينهبون إلا مَن ثبت شحه ودناءته، وإذا نهبوا وزعوا ما نهبوه على أمثالهم بالتساوي. أما هؤلاء الشطار فكانوا ينهبون ما قدروا عليه ويتعدون على الأغنياء من غير تفرقة بين كريم وليئم ثم لا يوزعون ما نهبوه.

يقول ابن جرير الطبري في حوادث سنة ٢٠١: «إن الشطار الذين كانوا ببغداد والكرخ آذوا الناس أذى شديدًا، وأظهروا الفسق وقطعوا الطريق وأخذ النساء والغلمان من الطرق، فكانوا يجتمعون فيأتون الرجل فيأخذون ابنه فيذهبون به فلا يقدر أن يمتنع، وكانوا يسألون الرجل أن يقرضهم أو يصلهم فلا يقدر أن يمتنع عليهم، وكانوا يجتمعون فيأتون القرى فيكاثرون أهلها ويأخذون ما قدروا عليه من متاع وغير ذلك، لا سلطان يمنعهم، ولا يقدر على ذلك منهم؛ لأن السلطان كان يعتز بهم، وكانوا بطانته، فلا يقدر أن يمنعهم من فسق يرتكبونه، وكانوا يجبون المارة في الطرق وفي السفن ويأخذون الأجور على خفارة المساكن، ويقطعون الطرق علانية، ولا أحد يقدر عليهم، وكان الناس منهم في بلاء عظيم، فلما رأى الناس ذلك وما قد أخذ منهم، من متاع الناس في أسواقهم وما قد أظهروا من الفساد في الأرض والظلم والبغي وقطع الطريق، وأن السلطان لا يغير عليهم، قام صلحاء كل ربض وكل درب، فمشى بعضهم على بعض وقالوا: «إنما في الدرب الفاسق والفاسقان إلى العشرة، وقد غلبوكم وأنتم أكثر منهم، فلو اجتمعتم حتى يكون أمركم واحدًا لقومتم هؤلاء الفساق، وصاروا لا يفعلون ما يفعلون من إظهار الفسق بين أظهركم.» وقام رجل من ناحية الأنبار يقال له خالد فدعا جيرانه وأهل بيته وأهل محلته على أن يعاونوه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأجابوه إلى ذلك، وشد على من يليه من الفساق والشطار، فمنعهم مما كانوا يصنعون وقاتلهم وهزمهم وأخذ بعضهم فضربهم وحبسهم، وسُمِّيَ هؤلاء الآخذون على يد الفساق بالمتطوعة، فترى من هذا أن عمل هؤلاء الفساق أشبه بعمل الصعاليك، لولا أنه تنقصهم المروءة والنبل، فعمل المتطوعة كعمل أهل حلف الفضول وقد ذكرنا قبل صلة حلف الفضول بالصعلكة.

وربما عد ما يشبه الصعلكة عمل الزنوج في ثورتهم المشهورة بثورة الزنج، فإنهم في الأصل كانوا زنوجًا يعملون في الكسح في المراحيض. وقد سئموا بؤسهم وفقرهم فدعاهم داع إلى أن يثوروا على سادتهم وأن يأنفوا الذل والفقر ويأخذوا من أغنيائهم ما يستطيعون، وربما كانت هذه المروءة التي تنقصهم وتنقص الشطار سببها أن أكثر الشطار والزنج قد فقدوا عنصر العروبة، فكانوا إما فرسًا أو أتراكًا أو زنجًا، ومن المسلم به أن العرب أميل إلى الكرم، وكانوا في حياتهم يكادون لا يعدون فضيلة إلا الشجاعة والكرم.

أما العناصر الأخرى التي ذكرناها فليس لها مثل كرمهم. ولعل هذا هو السبب في أن الصعلكة أخيرًا فقدت الكرم والنبل.

وكانت كلمة الشاطر تطلق على الخبيث الفاجر وفي القاموس: «الشاطر: من أعيا أهله خبثًا.» ثم أطلقت كلمة الشاطر على الماهر في أي صنعة، وربما كان هذا المعنى قديمًا أيضًا؛ ففي ألف ليلة وليلة من يسمى الشاطر حسن أي الماهر، وفي لساننا اليوم تطلق كلمة الشاطر بهذا المعنى. فيقولون في أمثالهم: قيراط بخت ولا فدان شطارة (أي مهارة). ويقولون: ما يقع إلا الشاطر. ويقولون على الفتاة: حلوة وشاطرة ولا لهاش بخت. وهكذا.

فترى في هذا أن العلاقة بين الفتوة والصعلكة كانت في القديم. يجمع الفتيان والصعاليك جامعة الشباب والنجدة، غير أن الفتيان أولاد الأغنياء والصعاليك أولاد الفقراء.

وقد ألف الجاحظ فيما يحكى عنه رسالة في لصوص العرب، ولكنها مع الأسف مفقودة، وعقد صاحب محاضرات الأدباء فصلًا في اللصوصية وما يجري مجراها، عدد فيه أنواع التلصص، ومما رواه من شعرهم:

وإني لأستحي من الله أن أُرى
أطوف بحبل ليس فيه بعير
وأسأل ذياك البخيل بعيره
وبعران ربي في البلاد كثير

ويقول آخر:

وكم بيت دخلت بغير إذن
وكم مال أكلت بغير حل

ويقول آخر:

وعيابة للجود لم تدر أنني
بإنهاب مال الباخلين موكل
غدوت على ما احتازه فحويته
وغادرته ذا حيرة يتململ

ولهم في هذا التلصص قوانين ظريفة مثل عدم سرقة الجيران، واتقاء الحرم، وإنما يسرقون مال البخلاء والغشاشين والجاحدين للودائع ونحوهم.

ويقول بعضهم:

سأبغي الفتى إما جليس خليفة
يقوم سواء أو مخيف سبيل
وأسرق مال الله من كل فاجر
وذي بطنة للطيبات أكول

وكان أحد اللصوص ينصح زملاءه بالمران على السرقة، والصبر على الضرب، ورواية أشعار الفرسان، والتحدث بمناقب الفتيان، وبأن يكون اللص جريئًا، صاحب حركة وفطنة وطمع وهم يقولون: إنهم أحسن حالًا من الحاكم المرتشي، والقاضي الذي يأكل أموال اليتامى.

والتلصص أعم من التصعلك، فكل متصعلق لص، وليس العكس فلا بد للمتصعلك من أن يكون ذا مروءة، وألا يسرق إلا من الأشحاء البخلاء، ويعين الضعفاء كما ذكرنا قبل.

وأما في الإسلام فقد اختفت الصعلكة كفرقة، وظهرت فرقة تشبههم وهم الشطار. احتفظوا بوسائل الصعاليك من سلب ونهب، ولم يحتفظوا بالغاية.

وظلت كلمة الصعلوك أيضًا على الألسنة تدل على الفقر ومن أمثالهم: «تروح فين يا صعلوك بين الملوك» وهكذا تتطور الكلمات كما تتطور الأحداث ويكون لها في كل عصر معنى.

وبعد ذلك كنا نتساءل: ماذا استفاد العالم العربي من الفتوة والصعلكة في عصوره المختلفة؟ ونجيب عن هذا السؤال فنقول: إنه استفاد فوائد كثيرة:
  • أولًا: إنه استفاد من الفتوة تقوية الناحية الفنية، فقد كان للفتيان مجالس يلجأ إليها المغنون، ويتعرفون عليها، ويحيون أوقاتهم فيها بالغناء، ويجدون فيها مطعمهم ومشربهم، كالذي حكي لنا عن إبراهيم الموصلي، فقد قصد إليهم وهم في حماة، وتعرف به إذ ذاك الخليفة المهدي، فكان هذا سبب نعمته، وشهرته الواسعة فيما بعد.
  • ثانيًا: تأقلم معنى الفتوة في الإسلام، فكانت مصدرًا لفضيلتين كبيرتين؛ إحداهما الكرم، كما رأينا في زوايا الأتراك وحسن ضيافتهم كما حكى لنا ابن بطوطة. والثانية الفروسية.

وهذه الفروسية أتت في العصر الجاهلي من أن الفتيان كانوا في الجاهلية يعيشون عيشة فخفخة ووجاهة، ويودون السمعة الحسنة بالإغداق على الفقراء، وخصوصًا الشعراء منهم، ويتطلبون الثناء فكانوا يكرمون، وينحرون الجزور، ويشعلون النار للضيفان ونحو ذلك.

فلما جاء الإسلام كان في تعاليمه ما يشجع الفتوة، من مثل إعطاء الفقير، ورفع الظلم عن المظلوم، وإعلاء شأن المرأة، والجنوح إلى السلم إذا جنح العدو إليه. ووصية أبي بكر لقواد جيوشه مشهورة في أن لا يقتلوا شيخًا ولا طفلًا ولا امرأة، وأن يعاملوا أهل الذمة معاملتهم لأنفسهم، وأن لا يحرقوا نخلًا. واستمرت تعاليم الفروسية هذه حتى أزهرت أيام صلاح الدين في الحرب الصليبية، ونرى أن المسيحيين عندما فتحوا بيت المقدس، نكلوا بالمسلمين كل التنكيل وعذبوهم عذابًا لا مزيد عليه. فلما استعادها صلاح الدين قبل الفداء، وأعتق من لم يقدر عليه، وأطلق سراح كثير من النساء من غير مقابل، وزادوا في حرية المرأة واحترامها لأنه كان لهم في الإسلام مثل حسن، وهم بنو عذرة الذين كانوا يحترمون النساء احترامًا شديدًا ويحبونهن حبًّا أفلاطونيًّا، وهو المسمى بالحب العذري.

ومن قديم مجد العرب الخيل؛ أكرموها، واعتنوا بتربيتها، وإلى الآن تنسب إليهم الخيول العربية.

فقد كانت أكبر الفضائل عندهم المروءة، وهي تمت بسبب قريب إلى الفروسية. وتقرأ في كتاب الأغاني والعقد الفريد وأمثالهما، فتجد قصصًا كثيرة عن المروءة، من مثل قصص زيد الخيل، وعمرو بن معد يكرب والمهلهل. وليست قصة عنترة العبسي إلا نوعًا من أنواع البطولة مملوءة بالفروسية. حتى قصته نفسها من أنه كان ابن أمة، وكان منبوذًا لذلك، فلما هوجم قومه أبى القتال لأنه وضيع، فحرره أبوه، فأتى بالعجائب.

فلما أتت الحروب الصليبية رأينا أعمالًا كبيرة من أعمال البطولة من مثل احترام النساء والأطفال، وفك الأسير، كالذي يحكونه أن نصرانيًّا ادعى أنه عطشان، فلما أحضر له الماء زعم أنه خائف أن يقتل، فلما حلف له أنه لا يقتل حتى يشرب، كب الماء على الأرض وطالب الحالف أن يبر بوعده، فبر بوعده وأطلقه. كذلك لم يكن عمل المسلمين في الأندلس بأقل فروسية من أعمال المسلمين في الشرق. وكذلك أعمال المماليك في القاهرة، وهم الذين حاربوا الحروب الصليبية الأخيرة، كما تدل عليه قصص ألف ليلة وليلة. وليس ببعيد أن تكون الفروسية عند الأوربيين قد استعيرت من الفروسية عند المسلمين، فإنها لم تظهر عندهم إلا زمن الحروب الصليبية، وقد أفادت الأوربيين فائدة كبرى، فقد نقلت الجمعية الأوربية من ظلم الإقطاعيين وحروبهم المستمرة، إلى مدينة قارة يسود فيها السلم. هذا إلى أنها قوت خصالًا خاصة أهمها ثلاث:
  • (١)

    النجدة في الحروب.

  • (٢)

    الدين.

  • (٣)

    احترام المرأة.

وأهم من ذلك كله معاونة من يستحق المعونة، وبامتزاج النجدة الحربية والدين نشأت الرحمة ومعونة الفقراء والضعفاء، حتى الرحمة بالحيوانات، وأهمها الفرس.

وبامتزاج الدين واحترام النساء زاد تعلق المسيحيين بالسيدة مريم العذراء. وقد ظهر من ذلك الحين في العالم المسيحي أعمال بطولة وآداب تتغنى بالفروسية، وسعة الصدر مع المخالفين في العقيدة.

أضف إلى ذلك أن الصوفية تبنوا فكرة الفتوة وعدوها من الفضائل التي يحثون المريدين على التمسك بها، كالذي نراه في الرسالة القشيرية، والفتوحات المكية وغيرهما. وجعلوا من مقررهم احترام النساء، حتى ليأبون أن تصب امرأة على أيديهم، وحتى ليأبون أن يؤذوا النمل والحيوانات الضعيفة أي إيذاء، وحتى يعدوا من أنواع الفتوة إزالة كل عائق يعوق وصول الخير إلى مستحقه، فإذا وجدوا حجرًا يعوق الماء أزالوه حتى يصل إلى النبات. وإذا وجدوا إنسانًا تعوقه عن الخير فكرة شريرة أزالوها عنه، وإذا وجدوا بؤسًا يعوق الناس عن المعيشة عيشة راضية وكان في استطاعتهم بذل المال بذلوه وهكذا. وظلت الفتوة في كتب الصوفية تنمو حتى بلغت الغاية في كتب المتأخرين.

وحتى في أيامنا الأخيرة كان الفتوات الوضيعون مصدرًا للشهامة والنجدة لمن يستنجد بهم، وحماية المرأة والإغداق على الأصحاب إلى غير ذلك. بل كانوا هم الدعاة إلى الوطنية والحماة للبلاد، فقد أقلقوا الفرنسيين مدة احتلالهم، وكانوا لهم مصدر قلق واضطراب كما ذكرنا قبل وخصوصًا حي الحسينية، فلما اجتمع عليهم الاضطراب في الداخل وحرب الإنجليز لهم في الخارج اضطروا إلى الخروج، ولذلك تعلم الإنجليز هذا الدرس، فكان من برنامجهم القضاء على الفتوات، حتى لا يكونوا مصدر قلق لهم، ولم يرضوا منهم أن يتسلحوا حتى بالسكاكين والحجارة، وضيقوا عليهم كل المسالك، وأذلوهم بجميع أنواع الذل، حتى زالت هيبتهم.

•••

هذا شأن الفتوة. أما شأن الصعلكة فقد أفادت كثيرًا من ناحية تخفيف ويلات الفقر في الجاهلية. فقد كان الجاهليون ينقسمون إلى شيوخ قبائل ينعمون بالغنى والترف، هم ومن اتصل بهم، والباقون هم رعاع لا يجدون ما يأكلون، وأفراد القبيلة يحاربون ويقاتلون ويقتلون ويجرحون حتى إذا غنموا فخير الغنائم لشيخ القبيلة، ولها اسم خاص وهي الصفايا. أما أفراد القبيلة فلهم فتات الموائد. وهي حال بائسة تعسة. وربما كان من أقرب الأمثلة لذلك اليوم ما هو حادث في قبائل العراق. فقد وضع ثلاثة مشايخ أيديهم على نحو ثلاثة ملايين من الأفدنة، يزرعها لهم أفراد القبيلة، ثم الثروة كلها لهم. وباقي القبيلة همج رعاع فقراء تعساء. قلما يجدون ما يأكلون. ويقع هذا تحت سمع الإنجليز وبصرهم، فيرضون عن هذا النظام ويشجعون علمًا منهم بأن وضع ثلاثة من الرءوس تحت أيديهم وإرضاءهم بالمال الوفير أسهل من إخضاع ملايين الناس ممن لا يجدون ما يأكلون.

ولا تخلو جماعة من هذه الجماعات البدوية الجاهلية من رقة الشعور، خصوصًا من سموا الشعراء كعروة بن الورد، والشنفرى. فهؤلاء لما رأوا هذه الحال؛ حال منغمس في الترف لا إلى حد، ومنغمس في الفقر لا إلى حد لم يرضوا عنها، وآلوا على أنفسهم أن يأخذوا من الظالم للمظلوم، وأن يقربوا مسافة الخلف بين الطائفتين، ولذلك تركوا من كان غنيًّا كريمًا لأنه يؤدي ما عليه للفقراء، ونقموا على الأغنياء الأشحاء، فكانوا يهجمون عليهم هم وأتباعهم من رجال الحرب الشجعان، ويسلبونهم نوقهم وسائر أموالهم، ثم يقسمونها على الفقراء قسمة عادلة من غير محاباة.

ويتمدحون بسلبهم أموال البخيل وإطعامهم الطعام للفقير. وماذا كانوا يفعلون غير هذا، وهم يرون قومًا في السماء، وقومًا في الأرض، قومًا يموتون تخمة، وقومًا يموتون جوعًا، ففعلوا بذلك فعل الاشتراكية اليوم، وزادوا عليها أنهم كانوا يأخذون ما يأخذون بالقوة إذ ليس هناك حكومة تنفذ ذلك بالضرائب.

وروى المؤرخون كثيرًا من هذه الأحداث وخلقوا بجانب ذلك أدبًا رائعًا كالذي نراه في ديوان عروة وديوان الشنفرى. ومن أجل ذلك لم يكن اسم الصعلوك منفرًا ولا مكروهًا، بل كان الرجل يفتخر بأنه صعلوك لأن معناه محقق العدل بالقوة، وكان عملهم في السلب والنهب ليس غريبًا، لأن السلب والنهب وإغارة القبيلة على القبيلة كان شائعًا مألوفًا، حتى قال قائلهم في الإغارة:

وأحيانًا على بكر أخينا
إذا ما لم نجد إلا أخانا

وقد ضعف شأن الصعلكة في الإسلام، ولم يكن شأنها في الإسلام شأن الفتوة لسببين:

أولهما أن نظام الإسلام في أوله وزع الثروة بالزكاة أولًا، والإحسان بما هو فوق الزكاة، ثم بتوزيع الميراث على الأبناء والأقارب. حتى كان الميراث نصيب عدد كبير. وثانيًا لوجود الحكومة التي تأخذ بيدها على يدي الغاصب السالب والناهب، وقد جعلت عقوبة شديدة لمن يقطع الطريق فقال القرآن الكريم: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ فقلت بذلك أعمال الصعلكة.

وليست الأعمال الاشتراكية التي تقوم بها إنجلترا وأمريكا اليوم إلا عملًا منظمًا من أعمال الصعلكة، تجمع المال الكثير من الأغنياء، ثم تصرفه فيما ينفع الجميع من بناء مستشفيات وملاجئ ومدارس مما اقتضاه العقل الحديث في التنظيم.

فهي فكرة صعلكة متبلورة.

ومن حين لآخر كانت تظهر في الإسلام حركات تشبه حركات الصعلكة. كالذي فعله أبو ذر الغفاري في الشام إذ نادى بالمساواة. وأنذر الذين يكنزون الذهب والفضة بالعذاب فتلا قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وألب الناس على معاوية حتى شكاه لعثمان فنفاه عثمان إلى الربذة.

وكالذي قبض على عنق قريب للرشيد إذ كان دخله اليومي مائة ألف درهم في اليوم وقال له: إني لا أجد نصف درهم في اليوم أقتات به، وأنت تقبض مائة ألف لا تدري كيف تصرفها.

وكان لهؤلاء الصعاليك فضيلة، وهي أنهم كانوا يأخذون ما يأخذون في عزة نفس وإباء وشمم، علمًا منهم بأن هذا حق من حقوقهم، لا إحسان يصيبهم، ثم لا يستأثرون بما يأخذون، بل يؤثرون به من كان بهم خصاصة، ولو أنصف العرب لاستولوا على هاتين الفكرتين ونظموهما وفلسفوهما، وجعلوا منهما مؤسسات تؤدي أغراضهما، ولكن مع الأسف تركوهما فوضى، لا يخضعان لترتيب ولا نظام.

لقد وزعت المدنية الحديثة فكرتي الفتوة والصعلكة على مؤسسات عجيبة، فمثلًا أخذت من الفتوة نجدتها، ومعونتها فوضعتها في نظام أطلقت عليه الكشاف، وجعلت للإحسان نظامًا خاصًّا حتى لا يعطى المال لمن لا يستحقه. ولم تكتفِ بالمال يصرف على الفقراء، بل أنشأت المستشفيات والمدارس والجامعات، وأوجدت هيئات توجب عملًا لأهل البطالة وهيئات أخرى للتدخل في النزاعات التي تقوم بين العمال وأصحاب رءوس الأموال إلى غير ذلك.

ونظمت الصعلكة بضرب الضرائب، وزيادة الجمارك على الكماليات ونقصها على الحاجيات إلى غير ذلك، وكلها داخلة في مفهوم الفتوة والصعلكة.

١  لحى: لعن. والمشاش: رأس العظم اللين الهش. ومصافي المشاش: مفضلة وملازمه وعاقد عقد الألفة بينه وبينه، والمعنى: لعن الله صعلوكًا حقير النفس إذا أظلم ليله تحسس سقطًا لطعام، ولازم مكانه.
٢  أي إن هذا الصعلوك إذا أصاب الضيافة من صديق غني، حسب ذلك من نفسه غنى، أي إنه يرضى من عيشه بقرى ليلة من صديق.
٣  يحت الحصا: يفركه عن جسمه، وهذا علامة خموله ودناءة همته، فهو كثير النوم لا يسعى لرزقه.
٤  أي إذا هو أمسى وشبع بطنه مما أعطاه الناس سقط على الأرض من التخمة كالكوخ الذي يتداعى ويسقط. والمجور: الساقط.
٥  أي يقضي نهاره في خدمة النساء في الأعمال الوضيعة فيكون كالبعير الكليل.
٦  القابس: طالب النار. والمتنور: الذي يطلب النار من بعيد، أي لله صعلوك فقير آخر متهلل الوجه منبسط النفس للعمل، لا يخشع لفقره كأن ضوء وجهه ضوء ذي نار مستضيء بنورها.
٧  مطلًّا: مشرفًا على أعدائه يغزوهم فيزجرونه ويصيحون به كما يصيحون بقداح الميسر عند اللعب بها ليبعدوه.
٨  أي إن بعد أعدائه عنه لم يمهله من أن يغزوهم ولا يأمنون ذلك منه كما يفعل أهل الغائب الذي ترتقب عودته.
٩  أي إن يمت يمت حميدًا، وإن بقي فاستغنى فما أجدره بهذا الغنى لأنه ينفقه في المحامد.
١٠  مثلوج الفؤاد: أي بارد القلب بليدًا. ومورمًا: منتفخًا من الغم.
١١  الجدوى: العطية. ومجثمًا: أي مكانًا يقيم فيه.
١٢  يساور همه: يواتيه ويدافعه.
١٣  تيمم: قصد وتعمد.
١٤  فربما: أي فربما حمد يومًا أمره.
١٥  عافي إنائي شركة: أي طالب معروفي خلق كثير.
١٦  جاهد: متعب، والحق الذي يعنيه صلة الرحم وحماية الضعفاء.
١٧  أقسم حطامي على الناس وأكتفي بالماء الخالص غير الممزوج باللبن في الشتاء حيث الجسم أحوج إلى الغذاء.
١٨  الهجمة: المائة من الإبل، وكان يصحبه صعلوك آخر يسمى أشيم بن شرحبيل.
١٩  السرب: الجماعة.
٢٠  أين الغزاة: أي ما يصيبه من تعبها.
٢١  يقول إذا أنفقت عليهم قللت مخافة أن تطول الغزاة.
٢٢  العيل: الفقر. وأي آل تألت: أي ما أحسنها سياسة ساستنا بها.
٢٣  مصعلكة: أي صاحبة صعاليك، وهو يمدحها بذلك. ولا ترتجى للبيت: أي لا ترتجى أن تكون مقيمة، إلا أن تريد ذلك.
٢٤  يقول بردنا بغضنا بقتل عبد الله وقتل عوف، والمعدي: موضع القتال. وأوان استهلت: أي أوان أن ارتفعت الأصوات في الحرب.
٢٥  يقول: إذا أتتني منيتي لم يبك علي لكثرة جرائري.
٢٦  يقول: أنا سهل لمن سامحني، ومر عند الاختلاف علي. والعزوف: المنصرف عن الشيء. واستمرت: من المرارة.
٢٧  الضرائب: جمع ضريبة وهى الخليقة.
٢٨  أي تناجوا بالشر.
٢٩  الأرشية: هي الحبال التي يستقى عليها من الآبار البعيدة القعر وتسمى أيضًا بالأروية.
٣٠  لحيان: فرع من هذيل.
٣١  يابس الجنبين: أي جائع، أي إنه يؤثر بالزاد غيره على نفسه ومن عادتهم التمدح بالهزال وإيثار الغير. والمدل: هو الواثق بنفسه وبآلاته وبعدته.
٣٢  الأبل: المصمم الماضي على وجهه لا يبالي ما يلقى.
٣٣  الأزل: الخفيف العجز. ومسبل إزاره: أي إنه في حالة الأمن والدعة مترف منعم، يسبل إزاره. والسمع: الذئب.
٣٤  الأري: العسل.
٣٥  يعني بذي عذر طرفة، والريد: الشمراق الأعلى من الجبل، وإنما خص جارح الجبل لأنه أسرع طيرانًا من جارح السهل. وجارح السهل أكثر ما يصيد الأرانب والحشرات، أما جارح الجبل فيصيد الطير وما حلق في الهواء.
٣٦  يقول: أنا مالك لنفسي مجرب أصل من وصلني وأقطع من قطعني.
٣٧  يريد أن يسبق إلى المجد من سابقه، ويريد بمرجع الصوت: أنه يصيح بأصحابه آمرًا وناهيًا. والأرفاق: الرفاق. والهد: الغليظ.
٣٨  ضافي الرأس: أي رجل كثير الشعر، وإنما استغاث بكثير الشعر لكثرة اشتغاله بالغزو، حتى لا يتعهد شعره.
والنغاق: ذو الصوت يصيح في أثر الجمل إذا سرى، ويقول هذا الذى ذكرت على مثله أعول، ومثله أطلب، وأغزو لأصحبه ويصحبني.
٣٩  يقول لئن لم تتركوا لومي لأفارقنكم، حتى تسألوا عن أهل الآفاق فلا يخبركم عني أحد.
٤٠  يقول: سد بمالك ثلم فقرك وفقر أصحابك حتى تلاقي الموت.
٤١  التحية: ما يقدم عند التحية من باقات الرياحين ونحوها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤