الفصل الثالث

جدلية التليفزيون الخالص

يعود الانتصار، في الحلبة الجدلية، إلى الطُّرق التي يُسمح بها بالهجوم، في الوقت الذي يخرُّ فيه صريعًا الطرفُ المضطرُّ إلى الدفاع. لهذا، فإنَّ الأبطال النبيهين، سواءٌ صارعوا من أجل القضية العادلة أو الخاطئة، يكونون متأكِّدين من ربحِ تاجِ الانتصار إذا هم استطاعوا تدبيرَ ربحِ الهجمة الأخيرة.

إيمانويل كانط
نقد العقل الخالص
«الجدلية المتعالية»

إنَّ لوحةَ متناقضات السمعي البصري تُشبه لوحةَ العقل الخالص. فكلُّ أطروحةٍ لها نقيضها، ولا واحدةَ منهما تستطيع نفيَ الأخرى؛ بحيث إنَّ مُعادِيَ الصورة والمُعتقِد فيها محكومٌ عليهما بالعيش معًا، وربما في الذات الإنسانية نفسها. فالمجاوَرة بين البراهين، إذا هي ساهمت في محو بعض الأوهام، فإنها تؤكد أنَّ مسألة الصورة في العمق، لم تتطور بشكلٍ فعلي منذ القرن الثامن.

•••

أخشى ما كان يخشاه لوثر هو أن يؤدي انتشار الطباعة، بالرغم من أنه استفاد منها أيما استفادة، إلى الانقلاب ضد حقيقة الكتاب، وذلك بالحثِّ على قراءته قراءةً سطحية. ويبدو أنَّ الأخوَين لوميير وهاينرش هايتز؛ لم تكن لهم نفس النبوءة بخصوصِ الصورة الصناعية. ومع ذلك، فإن الكثير من الصور تقتل الصورة. فالتضخُّم الأيقوني له قانونُ غريشام الذي يخصُّه مثل الآخر، أي أنَّ الصورة السيئة تطرد الجيدة. والألبومات والإعلانات المطويَّة والمجلات والملصقات والإعلانات الضوئية والشاشات، تلطِّخنا بالمؤثرات البصرية؛ بحيث تنمحي الفروق بين الأعمال الفنية والمنتَجات، وتعقد كلها، في النهاية، من حدتها. يقوم الغول البصري بفرز الامتلاء التام للمحيط عن المهارة العادية التي تخون صَيْرورة صورنا علاماتٍ. فنحن نُلقي على اللوحات والصور نظراتٍ سريعةً كما لو كنَّا نتصفَّح عناوينَ الصفحة الأُولى للجريدة أو ملصقات المترو، ونحن نشاهد فيلمًا كما لو كنا نشاهد لقطة، وننظر إلى الشاشة الصغيرة بنفس طريقة نظرنا للرصيف الذي نمشي عليه، أو للسيارات التي نرغب في مجاوزتها في الأوتوروت. فالصورة تنقصنا؛ لأنَّ الزمن ينقصنا.
ذلك هو مرضُ السعادة التليفزيونية: المشاهدة بوصفها تحققًا بين البرامج والأخبار، لا المشاهدة وإنما التحقُّق من أنَّ كل شيء يسير كما هو مرسوم سلفًا. بالشكل نفسه، فإنَّ الإعلان بأنَّ كلَّ شيء فنٌّ يعيِّن عالمًا لا يُعتبر فيه الفن شيئًا مهمًّا، كما أنَّ منح كلِّ شيء للنظر يعلن في الآنِ نفسه عن انهيار البصر وعن انتصاره، إلى درجةٍ نكاد نعتقد فيها بأنَّ الصورة الجمالية تكثر من ضِعاف البصر.
أيها السياح، ما دُمنا نلتقط الصور تلوَ الصور للمناظر الطبيعية والمآثر؛ فإننا نتأملها أقلَّ. فقنَّاص الصور لا يهتمُّ كثيرًا بضحاياه. وهو لا يرى إلا لكي ينتصر ويتغنَّى بأغنيةِ النصر. إنها آليةٌ معروفة: فكلما كانت سرعة السيارات أكبر؛ قلَّت حركة الأجسام. وبما أن الحضور الكاسح للتقنيات الإلكترونية يتم تصريفه بالجمود الفيزيقي، وتصريف «الزمن الواقعي» إلى صيغة اللازمن؛ فإن العين بعد أن تعبَت من الإنصات تغدو سامعةً كأذن طافية. أن نحوِّل العالم إلى صورٍ تركيبية، ألَا يعني ذلك في النهاية أننا نفقأ عيونه ومعها عيوننا نحن؟
يسمي إيمانويل كانط في كتاب نقدِ العقل الخالص «منطق المظهر» «جدليةً»، ويسمي «جدليةً متعاليةً» دراسةَ الإيهامات الطبيعية، باعتبارها لا تقبل التفادي وإنْ قبلت التفسير، وهي أوهام يغذيها العقل عن طبيعة الروح والعالم والله. إنَّ لحظات الاختلاف التي تخلقها صراعات الأفكار حول طبيعة عصر الشاشة؛ تتطلَّب، مع مراعاة الفرق بين الأمرَين، لوحةً للمتناقضات من النمط نفسه. وبما أننا لا نستطيع البرهنة على أنَّ العالَم له بدايةٌ في الزمن، فإننا بالشكل نفسه يمكننا البرهنة على أنَّ عصر الشاشة يخدم ولا يخدم الديمقراطية والحقيقة والسِّلم بين الشعوب وحرية الإنسان. إن موضوع أطروحةٍ جدلية للعقل الخالص «ليس قضيةً اعتباطية نمنحها الأهمية بدون مبرِّر، وإنما مشكلة يلاقيها كل عقلٍ إنساني في طريقه».١ وذلك هو أمرُ السمعي البصري الخالص؛ حيث لا نسعى سوى إلى نزعِ كلِّ خطورة عن الحجج، من دون «السعي أبدًا إلى تهديمها». يكمن الجانب الإيجابي في هذه الأطروحة المضادة، «التي ينغمس فيها العقل بشكلٍ لا يمكن تفاديه» في كونِ كل واحد منا، سواءٌ كان مع التليفزيون أو ضدَّه، يكون متأكدًا من أنه لن يفوه بحماقات. أما الجانب السيئ فيكمن في غياب المعايير القمينة بالفرز النهائي بين الآراء المرِحة والحزينة. تلك هي الاستعمالات الإيجابية والسلبية للشاشة (فإذا ما قمنا عند كارثةٍ جوية معينة، بالقول بأنَّ كثرة استبدال الصور بالأرقام تجعل شاشات المراقبة تحرِم ربَّان الطائرات من كلِّ علاقةٍ مباشرة مع المحيط المادي، وهو ما يشكل خطرًا كبيرًا؛ فإن الإجابة ستكون، بأنهم فرحون لأنهم يستطيعون إنزال طائرة ما ليلًا في الضباب بفضل التوهيمات الرقمية).

لسان حال الديمقراطية

إن أول تناقُض في عين إيزوبوس هذه هو: «التلفزة في خدمة الديمقراطية»، أو «التلفزة تفسد الديمقراطية». يعلن حِرفيو الصورة، الذين يعيشون منها، أنهم مع الأطروحة. أمَّا حِرفيو الأفكار، الذين يحسُّون بالخسارة معها، فهُمْ مع الأطروحة النقيضة. وكل واحد على علمٍ بأنَّ التليفزيون هو الشيء الذي يعشق المثقفون كرهه، ويكون رجال السياسة مضطرين لمحبته. فكيف الخروج من أحادية وِجهات النظر؟

تقول الأطروحة بأنَّ التليفزيون ديمقراطي «لأنَّ كلَّ الناس تشاهده، وكلَّ الناس تتحدث عنه» (هكذا!). فالمساواة في الاستعمال «ضرورية لممارسة الديمقراطية».٢ التليفزيون يتدارك تفتُّت الروابط الاجتماعية، الذي بدأ مع الثورة الصناعية أي قبل اختراعه. فهذه القرية البديلة، باعتبارها فضاءً عموميًّا جديدًا، تمكِّن من إدماج العجزة والمرضى وكافة الفئات الهامشية في الحفلات الجماعية الكبرى والفضاء السياسي، التي بدونها ستظلُّ خارجها. «من قبل، لم يساهم أبدًا هذا القدْر من المواطنين في الحياة المدنية، ولم يحصلوا على الأخبار بهذا القدْر ولم يصوِّتوا بهذه المساواة التامة» (المرجع نفسه). ويضيف أصحاب هذا الرأي بأنَّ السياسة عندما تحوَّلت إلى فُرجةٍ وغواية؛ غدَت أقل نخبويةً وأكثر جاذبية لعددٍ كبير من الناس البسطاء. فبدون التليفزيون، لن يعرف الناخب العادي، الذي لم يعُد يقرأ، أيَّ شيء عن برامج الأحزاب المتنافسة. كما يمكن أيضًا امتداح أثره في التهدئة والتسامح. فالسمعي البصري يهدِّئ من الحقد الجماعي ليحوِّله إلى مبارزاتٍ شخصية وخطابية، وهو بذلك يقلِّل من ارتفاع الهستيريا ويعوِّض المهاترات بالحوار، والقطيعةَ بالتواصُل، والهجوماتِ العنيفةَ بالمبارزة الخطابية الثنائية.٣ إنه إذن «الوسيلةُ الأكثر ديمقراطيةً في المجتمعات الديمقراطية»، و«وسيلة مُثلى لتواصل الناس فيما بينهم» (كما يقول دومينك فولتون). إن الإعلام التليفزيوني ملائمٌ بالضرورة لنظامٍ يكون فيه المنتخِبون مطالَبين يوميًّا بالإقناع وتفسير مواقفهم للناخبين؛ لذا فإنه في خِضَم الصحافة الكبرى والبثِّ الإذاعي يوسِّع من ساحته لتشمل البوادي والضواحي، ويمنح للمواطنة طابعًا دوليًّا ويُخفِّف من الوطأة البُورجوازية للكلمة. فقد جعلتْ سيادته الشفافيةَ تنتصر على السرِّ والمجتمعَ المدَني على مؤامرات السُّلطة التي كانت دائمًا غامضة، مقربًا باستمرار بين الحاكمين والمحكومين. وعمومًا، فإن السياسة لم تعُد هي «فنُّ منعِ الناس من الاهتمام بما يخصُّهم»؛ لأنَّ حقل رؤيتهم لم يكفَّ عن الاتساع، كما أنها لم تعُد تعتبر «فنَّ مُساءلتهم عمَّا يجهلون» (كما يقول بول فاليري)؛ لأنَّ المشاهدين الذين يُسْتَطلع رأيهم يعرفون جيدًا إلى كم يعود كلُّ شيء ولمَن. ومع أن هذه الملاحظات مختصرةٌ؛ إلا أنها في مجملها ذات أساسٍ صُلب، وهي تشكِّل الخطاب الأكثرَ معقوليةً لعالم الاجتماع المعترَف به؛ أو بصيغة أخرى، فهي المعتقد الراسخ السائد اليوم.
بيْدَ أن الأطروحة النقيض لا تقلُّ متانةً عن الأطروحة. فالأمر يبدو كما لو أنَّ فضاءنا العمومي الزائف قد كان ناجحًا، وأن علينا من الآن فصاعدًا — على الأقل في البلدان المتقدمة — أن نقرن بين التقدم في الوسائط السمعية البصرية والتراجع الديمقراطي في الوقت نفسه وبالإيقاع ذاته.٤ وليس من الصعب علينا البرهنة على أنَّ التليفزيون يفرِّغ السياسةَ من طابعها السياسي ويفرغ الناخبين من كل حافز والمسئولين من كل مسئولية، ويعزِّز بشكلٍ خطير شخصنةَ السلطة. لنشرحْ ذلك باختصار:

ثمة مقولة ثابتة: «الحكم معناه جعلُ الآخَر يعتقد في شيءٍ ما.» أمَّا التلوين التقني التاريخي لهذه المقولة، فهو: ما هو الشيء الأكثر استحقاقًا لأنْ نعتقد فيه؟ إنَّ الصورة اليوم شيءٌ أكيد؛ فهي فعلًا تحدِّد مؤشراتِ جماهيريةِ شخص ما، وتشكيلةَ الحكومة والتراتبية في الدولة، ومواقيت ومضامين الخطابات العمومية. وكلُّ رئيس دولةٍ أو زعيم حزب يقضي نصف وقته في «التواصل». وفي البلاط، أخَذَ «المستشار في شئون الصورة» مكانَ التقني والمنظِّر الأيديولوجي والأديب في الدور المفضل؛ لسببٍ بسيط هو أنَّ الأمير يحتاجه في كل لحظة. هكذا غدُ التعريف، أو كيف يرى المرء جيدًا، أول مهارةٍ للمهنة. بذلك تحوَّلت استراتيجية السلطة من استراتيجيةِ برهنةٍ إلى استراتيجية إظهار، وانهارت البلاغة أمام السينوغرافيا. لكنْ، وبما «أنَّ الوسيط هو الرسالة» وأنَّ التليفزيون في الجوهر ترفيه؛ فالمقرِّر والممثِّل والسياسي والمغنِّي، والمحامي والمهرِّج سوف يخضعون لقانونِ الوسيط ويتجاورون أكثرَ فأكثر (ريغان، وإيف مونطان … إلخ). فالشيء العموم غدا تنويعًا للمنوعات والوسط السياسي مستعمرة للاستعراض التلفزي. إنه انمحاءُ الحدود الذي ينزع الشرعية والاحترام عن «الطبقة السياسية الوسائطية». فما ربِحَه احترافيو الفرجةِ والمختصُّون في العلاقات هو مقدار ما خسر رجل الدولة من حظوة وامتيازات. ثمَّة بالضبط طلاقٌ بين منطقِ الدولة، باعتبارها آلةً لإنتاج النصوص (قوانين، نظم، مذكرات، بلاغات … إلخ)، ومنطقِ الفرجة الذي يفرض التحكم في الرأي العام عبْرَ بناء المؤامرات بطريقة الإعلان. كما أنَّ هذا الطلاق قد تمَّ بين المدى الطويل للاستراتيجيات المطلوبة عقلانيًّا، واليومي اللاهث وراء ممارسات الرأي. فالتليفزيون (الذي يحرك الاختلافات كما عرفناه في الأطروحة) ولكثرة ما يخلط الاختلافات بين كل الفاعلين في المشهد السمعي البصري، يغدو من ثَم عاملَ عدمِ تمييزٍ مدني (ففي الولايات المتحدة، حيث تسير الحملة الانتخابية إلى الانحصار في اللقطات الإشهارية من ٣٠ ثانيةً المؤدى عنها، أصبح الامتناع عن التصويت كبيرًا). بالشكل نفسه، فإن الوسيلة التي يفترض فيها — في الأطروحة — أن تجعل المسئولية، عامةً تغدو هنا عاملًا للامسئولية. فلكثرة اهتمام صاحب القرار المفترض بصورته الشخصية، فإنه لم يعُد يتخذ أيَّ قرار، ويترك الضحية لغموض مصيرها. ولأنه يضحي يوميًّا أكثر فأكثر بالواجب المنوط به لصالح نداء الكاميرا؛ فإنه يستعيض «بأثر الإعلان» عن المتابعة الحثيثة للاصلاحات المطلوبة؛ لأنه الممتع على الدوام.

لكنْ علينا النظر للصورة التليفزيونية كعاملٍ إضافي للامساواة، فحين تعرض الحوادث المهمَّة من الحياة السياسية لبلدٍ ما على الشاشة الصغيرة؛ فإن «الساحة الإلكترونية» تستبدل موطنها. لقد أسَّست الكتابة الديمقراطيةَ الإغريقية واقعًا وحقًّا؛ فهي التي مكَّنت من المساواة بين الكل أمام القانون، أي التبالُر isonomie. ولأنها كانت تسجَّل على الألواح والمسلَّات وتُعرض في واضحةِ النهار؛ فإنَّ كلَّ واحد كان بإمكانه تأويلها ومراقبتها. وسواءٌ تعلَّق الأمر بالشمال أو بالجنوب، بالأمس أو اليوم، فالقراءة والكتابة والديمقراطية لا ينفصل بعضها عن بعض. قد يقال بأنَّ الصورة والصوت أكثرُ ديمقراطيةً؛ لأن الأميِّين أنفُسَهم يدركونها. إن هذا يعني نسيانَ أنَّ المجتمعات الأرستقراطية — كسبارطة مثلًا — قد شجَّعت دائمًا الثقافة الشفوية؛ لأنها غير ملائمة للقواعد والقانون، مثلها مثل الصورة؛ فعصر الشاشة دائرةٌ صالحة لأرستقراطية المال ومضرَّة بأرستقراطية الدبلوم. إنها على كلِّ حال تستعيد للسطح ثقلًا أوليغارشيًّا، كان عصر الكتابة قد خفَّف منه عبْر المدرسة والجرائد البخسة. الصورة تأكل اقتصاديًّا الحرف، كما يبتلع السمكُ الكبيرُ الصغيرَ. فَلِلنُّطق بخطابٍ أو نشره؛ يكفي وجود حنجرةٍ أو طابعة. لكنْ، لاقتراح صورة إلكترونية لملايين المشاهدين (أو ملصق بأربعةِ ألوان للمارَّة) يستلزم ذلك أولًا رأسمالًا. إن الظهور الفجائي للمال في مجال الصورة، وللصورة في مجال الإقناع الجماهيري يساهم في تحلل الفضاء المدني داخل الفضاء الاقتصادي، ويربط أكثر المساواة في الحقوق باللامساواة الفعلية، ويخصص الوظائف القيادية لمَن هم أكثر غنًى. ففعل الإقناع يتمُّ تحليله باعتباره عمليةَ شراء (لفضاءات أو أزمنة معينة)، ويتم التوجه إلى المواطن باعتباره مستهلكًا، ثم استطلاعه بعمقٍ، وتعيين موقعه التراتبي واستهدافه، وترقيمه في جداول التسويق لمختلف رؤساء الشركات المهيمنة على السوق. وبهذا المعنى، فإن سيطرة الصورة على المطبوع قد قامت بتسريعٍ هائل لفساد اللعبة نفسها ومعها اللاعبين السياسيين. والثَّمَن الباهظ للحملات الانتخابية قصَدَ الحفاظ على «صورةٍ ناصعة لأصحابها»، يؤدي إلى خلْقِ صندوقٍ أسودَ للتمويل وإلى استغلال الأموال العامة وإلى عودةِ فرسان الصناعة إلى الساحة بقوة.

إنَّ اللامساواة في الديمقراطية الوسائطية بين الفقراء الجُدد الذين يستقبلون البصري، والأغنياء الجُدد الذين يصنعونه ويُذيعونه ويفرزونه، لا تكمن فقط في المقدرة الفردية على الإرسال والبثِّ. إنها توجد أيضًا في المقدرة على عرض المرء نفسه للرؤية شخصيًّا. ففي كلِّ الأماكن العامة (مطعمًا أو مسرحًا أو طائرةً … إلخ) يكون تصدُّر الوجه المرئيِّ حقًّا واجبًا، سابقًا على كل ما لم يُرَ من قبلُ في أيِّ مكان. هكذا تصبح الرؤية معيارًا لمجتمع له نُظُمه؛ من جهةٍ، المرئيون الذين يصبحون نبلاء جُدد وأصحاب رأيٍ موثوق. ومن جهة أخرى، القذرون أو المجهولون الذين لم يمرُّوا أبدًا على الشاشة. إنه لَديمقراطيٌّ، هذا النظام الذي ينظم الصراعات وطرق تصريفها. ونحن نتمنَّى لهذه الهوة بين ذَوِي الصُّور، كما من قبلُ بين ذوي الخصائص والسيوف والأفراد الذين لا صورَ لهم، ألَّا تصبح تناقضًا حادًّا؛ ذلك أننا لا نملك لحدِّ الآن إطارًا لمعالجةٍ ناجعة لهذا النمط الجديد من انتفاضاتِ الجماهير، أعني تمرُّد الأشباح ضدَّ المحظوظين.

لا تعمل الوصاية التليفزيونية إلا على تقليص خطوط التعددية. إنها عاملُ انضباطٍ لا عاملُ تطوُّر وازدهار الأقليات؛ فتحديد عرض الإرساليات بالطلب، أو قانون توزيع فترات البثِّ (الممتدة من ثَم إلى الدائرة الاجتماعية بأجمعها) ينظِّم بطريقةٍ غير مباشرة مضمونَ النداءات المدنية التي أصبحت أكثر فأكثر توحيدًا وإجماعًا (وأكثر فأكثر فاعلية، أي «مؤدى عنها»)، وأكثر فأكثر اختزالًا في خصائص عامة («مرحى للفرنسيين، لقد حان وقت تغيير الأشياء؛ الشباب هم المستقبل، لِنَبنِ جميعًا أغلبيةً تعمل على التقدم … إلخ»). تقول جرتريد ستاين: «الوردة وردة، هي وردة … إلخ.» فلكي يتمَّ المَشطُ الواسع للمشاهِدين؛ لا يُقال أيُّ شيء، ولكنْ بالابتسامة. إن التواصل الأقصى لا يحمل من الأخبار شيئًا. الديمقراطية ليست قانونَ الأغلبية (فهتلر تم انتخابه ديمقراطيًّا) وإنما هي قانون احترام الأقليات. فإمبرايالية الصورة تعضد التطبيع النابع من الأغلبية. والمنافسة الاقتصادية توحِّد وسائل الإعلام الجماهيرية (بحيث تصبح المجلات الأسبوعية الكبرى قابلةً للاستبدال، مثلها مثل القنوات الكبرى الخاصة أو العمومية). لقد أعلن بلزاك وهو يفكر في وكالة هافاس: ها هي «الجريدة الأوحد» المشهورة قد وصلت. ولْنقُل بالمثل: إنها الجريدة المتلفزة؛ فهي قناة متفرِّدة لصورةٍ متفردة. ومن الأكيد أنَّ الأفراد الذين يشاهدون نفس البرامج؛ لا يرون الأشياء نفسها، باعتبار أن الملاءمة والانتماء يعملان على تصفية الصور المتلقَّاة. فالتلقِّي يقوم بتشذيرِ البثِّ. لنذكِّرْ مع ذلك بأنَّ الصور الداخلية لا تصمد كثيرًا أمام تكرار الصور الصناعية (فالوجه النجمي للممثِّلة يتداخل في أحلامي مع الوجه الشاحب والمتجعِّد للشخص نفسه الذي ألاقيه كلَّ يوم قُرب المنزل).

إنَّ الحضور الدائم للصورة يبدو عاملًا لتفكيك نظام آليات التفويض الديمقراطي. ليس فقط لأنها تشجِّع العلاقات أكثرَ من المضمون، وتضحِّي بالاستدلالات المفصَّلة لصالح «الجملة القصيرة» (لأنها ضمانةٌ لإعادة نشْرِها في صحف الغد). ولأنَّ الصورة تتجاوز الوساطات التي تقوم بها الأوساط الحقوقية والمؤسساتية؛ فإنها تفرغ من الحيوية الهيئات المنظمة للجمهورية، كالبرلمان والعدل والمدرسة والصحافة المكتوبة. إنَّ استوديوهات التليفزيون لا تشكِّل امتدادًا للبرلمان وإنما تأخذ مكانه، وهذا الانتقال للسيادة يجرِّد الممثلين المنتخبين بشكلٍ منتظم من امتيازهم لصالح البيوقراطيين «والمهندسين» اللامنتخبين، الذين يزاحمون مفوضي الشعب القدرةَ على وضع جدول أعمال المناقشات الوطنية. إنه لشيءٌ سليم أن تراقب وسائل الإعلام الحكوماتِ وأعمالها، لكنْ مَن سيراقب المراقِبين، إذا كانت السلطة الإعلامية هي الوحيدة من بين السُّلط الأربع للديمقراطية الإعلامية، التي لا تقبل سلطةً مضادة؟ هذا هو ما يسرِّع من تشتيت الإرادة العامة عبْر تفجير محطاتها الأساسية لصالح مجموعةٍ جامدة من الإرادات الخاصة المجمَّعة من الناحية الإحصائية. هل هي العودة إلى المواجهة بين الزعيم وبين أفراد جواهرَ معزولةٍ ومربوطة بشبكةِ الكابل؟ أم هو انبعاث الإنسان القدري المُطِل عبْر الشاشة الصغيرة؟ أليست بالفعل ذاتَ مزاجٍ استفتائي؟ فعازلنا الجماهيري له مزايا بونابارتية وقيصرية صُلبة (وانتصاره جاء مُزامنًا لانهيار البرلمانات والأحزاب وتقوية السلطات التنفيذية والفئات التقنوقراطية، وهذا ليس مصادفة). إنَّ القرية السمعية البصرية تُضفي طابعًا فلاحيًّا على مجتمعاتنا ما بعد الصناعية. وعلى هذا، فالمرحلة الأخيرة للتواصل تتوافق مع «الحالة السيئة للمواصلات» في فرنسا المجزَّأة والقروية لسنة ١٨٤٨م، كما وصفها كارل ماركس في كتابه «١٨ برومير»، والتي كانت تمكِّن من «التحكُّم من فوق في أحوال الجوِّ». هل هذا يعني أنَّ مشاهدة التلفزة المتمدنة للقرن العشرين تصطبغ بذاك الطابع الفلاحي للقرن التاسع عشر. سيكون من المؤسِف في هذه المرحلة العودةُ إلى الأمَّة باعتبارها مجموعةً عشوائية وتجميعًا بسيطًا لعظماتٍ تحمل الاسم نفسه. فهذه العساقل الهامة «التي لا تستطيع التمثيل بنفسها، يلزم تمثيلها.»٥ مع هذا الاختلاف البسيط، الذي يفرضه المسار اللولبي، والذي يكمن في أنَّ الوسيط يتغلَّب على المحامي المرعد الزبد، أو أن رئيس القوم يتخلَّى عن الغضب والتكشيرة لصالح التفاهة والحِلْم، وإنَّ الشاشة الصغيرة تنمي في كل بقاع العالم الشاسع هذا التضاد الغريب بين القيصرية المتمثِّلة في اللقطة والحميمية الاستبدادية. نحن نعرف مدى تأثير التواصل السمعي البصري على اللغة العمومية، أو واجبات الفرنسي المتصلة بعصر الشاشة؛ جملٌ لا تتجاوز ٨ كلمات، التضحية بالكلمات المتعدِّدة المقاطع الصوتية لصالح الكلمات الأحادية المقاطع، الأولوية للكلمات العاطفية (صديق، المحبة، الإحساس … إلخ)، والكلمات الدينامية (البناء، التقدم … إلخ)، فالمبشر التليفزيوني لا يملك أكثر من ٥٠٠ كلمة في جعبته، والزعيم المعاصر أيضًا.
تتطلب الديمقراطية مواطنين نشطاء، يتجمعون ويتجاوبون. ولأن التليفزيون متعلِّق بالاستطلاع الشعبي المستمرِّ؛ فهو يدفع إلى إخلاء الفضاء العمومي، كما لو كان الأمر يتعلَّق بإقامةٍ إجبارية مقنعة. إنه يختزل العلاقة الاجتماعية إلى علاقةٍ بدون مبادلات. يرفع قانون الأيقونة، أو الأيقونوميا، إلى مستوى مقولةٍ سياسية كلمةَ اﻟ oikonomia الإغريقية (التي تنحدر منها كلمةُ اقتصاد الفرنسية)، وذلك بحجزهما للمواطن في الفضاء المنزلي (فالبيت هو ضدُّ الساحة العامة). ها هو الجمهور الآن وقد تمَّ إلحاقه مباشرةً بالفضاء الخصوصي، وإلْحاق القانون بمجموعاتِ الضغط، والدولة الجمهورية بالإله المجتمع، والكوني بالخصوصي، والشخص (القانوني أو السياسي) بالفرد العيني (السيكولوجي أو السوسيولوجي). إنها الديمقراطية الجمهورية وقد انقلبتْ رأسًا على عقب. والحاصل أنَّ المتلقِّي الفردي يمنح لكلِّ حكومةٍ إمكانيةَ تقليص أخطار التجمع أو التمرد أو «الشعب الموحَّد». إننا نقرأ الجريدة ثم ننصرف لمهامنا. ومع الشاشة المنزلية يُضطر المناضل السياسي والنقابي للمكوث أمام جهازه؛ كي يظلَّ على علمٍ بكلِّ ما يجري، سواءٌ في الخارج أو في حزبه أو نقابته. وسيكون من غير المفيد له أن يحضر لاجتماعٍ أو مُداولات. لكلِّ واحدٍ مكانه الخصوصي. ووحدهم الزعماء سيخرجون للشارع؛ لأنَّ المظاهرة ستمكِّنهم من أن يظهروا على الشاشة ويراهم المُناضِلون. فإضعاف الوعي والممارسة السياسِيَّين يعني أولًا تجميدَ الفرد في مكانه؛ والمجموعات الجماهيرية الوحيدة المسموح لها من قِبل الأجهزة السمعية البصرية، تبقى هي العائلة والبيت والخلية البيولوجية (أيْ كل ما هو ضد الجمعيات الإرادية أو المدنية)، وآلات المواطنة كالمدرسة والجيش لا تخضع للتغيير. إنَّ المِرآة التي ترى فيها المدينةُ صورتَها وتسمعُ فيها صوتَها؛ هي مجال مضادٌّ للمدينة. ففي عصر الشاشة، يكون دور العضو الأساسي للحركية الاجتماعية إضعافَ الروابط الاجتماعية، و«التليفزيون الجديد» القريب من المشاهدين يمارس الحجز أكثر من «التليفزيون القديم».
وإذن، هل هو أداةٌ مرصودة للحريات الفردية التي صاحب توسُّعَها إن لم يكن سرَّع نهاية الشيوعية، أم هو محرك أساسي للزواج الخطير بين الفردانية الاستهلاكية والديمقراطية السياسية، اللَّتين لا شيءَ ينبئ بأنهما سيتعايشان لمدةٍ طويلة؟ كلُّ واحد سيحسم المسألة حسب مزاجه ومصالحه. وسيكون من السذاجة أن نرى في إمبراطورية التليفزيون سببًا في أزمة السياسي؛ فهو ربما نتيجة من نتائجها. وإذا كان التدبير الوسائطي لقرارٍ ما يعتبر في حدِّ ذاته قرارًا، ألَا يعود ذلك إلى أنَّ السياسي لم يعُد له أيُّ إمكان لاتخاذ القرار بعد أن سحقه التقدم التقني وتفاعل الاقتصادات ووقوع الدولة الأمة بين مِطرقة المحلي وسِندان العالمي؟ لهذا فإن فعلَ الحكم، وهو يُفرَغ من محتواه، يقوم بمَلْء ساحة التحركات، بما أن التخدير الجماعي يعوِّض تقلُّص هوامشِ المبادرة.٦ وسوف يواسي المواطنُ المشاهِدُ نفْسَه بقوله: «كلَّما قلَّ تحكُّمي في الأشياء؛ كبرت حصَّة مشاهدتي لها.» وسيواسي الممثِّلُ نفْسَه بما يلي: «بما أنَّ أفعالي لا فائدةَ منها، فلْأهتمَّ على الأقلِّ بالظهور على الشاشة.» التظاهر: ذلك هو الدور المرصود للسمعي البصري في الديمقراطية الجديدة؛ فالمسرح السياسي يوجد لدينا من زمن (والبرلمان لدينا مدرَّج محاضرات). أما الجديد، فيكمن فيما يلي: نظرًا لانعدام الحبكة والرهانات ستغدو مسرحةُ الممارسة هي الممارسة نفسها. فهل علينا، بعيدًا عن أيِّ إفسادنا للسياسي، أن ندفع بالوسائطي كي يحافظ على وهْمِ وجوده؟

انفتاح العالم

أما الثنائية الثانية فتتعلق بالفضاء: «التليفزيون يفتح العالم»، «التليفزيون يوازي العالم». قد يتباهى البعضُ عن حق بكون التليفزيون غدا عاملًا لا سابقَ له للانفتاح على الآخرين ولنهاية الحدود وولادة المواطن العالمي ومعه المرحلة ما بعد الوطنية. فقد طورت المطبعة اللغات الوطنية في أوروبا بكاملها، وأمَّمت اللاهوت والكنائس التي كانت تسيطر عليها الكاثوليكية الرومانية القديمة، كما أنها ساهمتْ في تفكيك الإمبراطوريات (بدءًا بالإمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدَّسة)، وسرَّعت من ولادة الوطنيات ومعها طبعًا الحروب الأوروبية. أما انتشار الموجات الهرتزية وإرسال الصور عبْر الأقمار الاصطناعية؛ فقد شجَّعتْ بالمقابل حركةً عكسية، أيْ تدويل أنماط السلوك و«بناء أوروبا». لقد سعتْ إلى تجاوز مفهوم الحدود الموروثة عن القرن اﻟ ١٩ (متابعة في ذلك العمل الذي بدأه البثُّ الإذاعي). فبدون صورةٍ إلكترونية، بل بدون قناة السي. إن. إن. (CNN)، لم يكن بإمكان فلَّاح من منطقة الأرديش الفرنسية أن يرى بأمِّ عينَيه طفلًا أفريقيًّا يموت جوعًا، وشابًّا صينيًّا يوقف قافلةً من المدرَّعات، وصبيةً كولومبية تموت في الوحل، وبوريس يلتسين يركب دبَّابة، أو ريغان على حصان. فكلُّ ما ينتزع المرء من موقعه ليفتحه على ما هو أوسع يساهم في تحضره، والتليفزيون يخدم بالتأكيد الوعي العالمي والقضية الإنسانية. لقد أشاع كوستو وتازييف وآخرون، باستطلاعاتهم، الأخلاقَ البيئية بشكلٍ يعجز عنه أيُّ كتابٍ مصوَّر. والبرنامج الرائع «أوشْوايا» (أو مرادفاته الماضية والمستقبلة) تجعلنا نزور مساءَ كلِّ سبت أكثرَ من منطقةٍ؛ لنتعرف على أكثرَ من فلكلور وثروة بحْرِية وآثار ومناظر طبيعية، مما يعجز أن يقوم به كشَّاف من بدايات القرن في حياةٍ بأجمعها.
كلُّ هذا ليس خاطئًا، لكنَّه بالمقابل ليس صحيحًا؛ فنحن لا نسافر في بيتنا على أيِّ أطلس. بدءًا، لسنا نحن الذين نختار وجهاتِ سفرنا، وإنما «الأخبار» هي التي تقوم بذلك. فبدون حدثٍ كبير؛ لا وجود لصورةٍ مؤثِّرة. كما أنَّ صور البلدان البعيدة لا تظهر إذن على شاشاتنا، لدقائق معدودة، إلا في حال وقوع أحداث مأساوية، أو حروب وكوارث. الأخبار تبني التاريخ الذي يبني بدوره الجغرافيا، أي عكس التجديدات الواقعية. لذا لا تقدَّم هذه الأخبار من منظورٍ معين، ولا يتمُّ موقعةُ تلك البلدان على الخريطة. ثم إنَّ هذه ليست صورًا عادية لأخبار العالم؛ فتسعة أعشارها آتيةٌ من مصدرَين أو ثلاثةٍ معروفة (فيزْنُيوزْ، في المقام الأول). تروي شاشاتُ أغلب بلدان العالم، خاصةً البلدانَ الأكثر فقرًا، أنَّ «التواصل حرٌّ»؛ لكنْ، ما ليس حرًّا هو سوق الإعلام. إنَّ الغلاء الفاحش للإرسالات الإلكترونية والأمكنة في المشاهد السمعية البصرية، الوطنية منها والدولية، يعمِّق أكثرَ الاحتكارات التقليدية لوكالاتِ الأنباء («فأكثر من مليار شخص في اليوم يعتمدون في أحكامهم القيمية، في مجال الأحداث الدولية، على أخبار الوكالات المتحدة Associated Press»). وفي كلِّ أنحاء العالم من شماله إلى جنوبه، لا تزال الجرائد بأيدي الأثرياء القدماء وأعيان «العائلات». لكنَّ الأثرياء الجُدد من المقامرين الكبار وقبطانات الصناعة؛ أصبحوا يتركون المطبوعات للاستثمار في مجال الصورة. ففي «لائحة الأطباق» المقترحة كل يوم على الصعيد العالمي، يصبح كلُّ واحد حرًّا في اختيار طبقه «بالبطاقة». وما دامت الأبصار أكثرَ وطنيةً من الصور؛ فإنَّ الهويات الوطنية تؤثِّر في البرمجات العامة نفسَ تأثيرها في أجهزة استقبال الأخبار. لكنْ، هل من الصدفة أن الشعب الأمريكي، وهو الشعب الأكثر إدمانًا للتليفزيون في العالم، هو الشعب الأكثر محليةً وبالتالي الأكثر انكفاء على ذاته والأقل معرفةً بأخبار العالم الخارجي؟ وفي بقاع العالم الآخَر، من إنجلترا إلى اليونان، تتقلَّص المسافة بين الشاشات الوطنية وتزداد تقلُّصًا؛ بحيث إنَّ قناة السي. إن. إن. تفرض على العالم أجمع، وخاصة في مراحلِ الأزمة، اختياراتها وجودتها؛ لا وجود لإرادةٍ أوروبية، لأنه لا وجود لمرئي أوروبي. هكذا تعمل الصورة الإلكترونية تدريجيًّا على تدويل العين الأمريكية، وهذا من دون شك تصوُّرٌ ضيِّق وغريب للعالمية. «فهل يتعلَّق الأمر بتقريبٍ لوجهاتِ النظر» أم بمطابقةٍ للصور؟ لقد وجدت في الماضي سنيماتٌ وطنية وبخاصة السنيمات الأوروبية. بيْدَ أنَّ التليفزيون وُلِد أمريكيًّا وابتلع التليفزيونات الأوروبية مهما كان ثقلها المحلي والهوياني؛ فعلى عكس أفلامنا، تُحْمل علامة ما بعد المحيط الأطلسي مع ما يلتصق بذلك من تأخُّرٍ محلي في الجودة. وبرامجنا التي تأخذ شكلَ اللقاء المباشِر والاستعراض الكلامي واللقاء الصحفي والاستطلاع الحيِّ؛ قد تمَّ انتحالها كما هي. والكل يعرف، مع ذلك، أن منتَجًا كلَّما كان متفردًا؛ تمَّ بيعه أفضل، حسب المنطق السليم للسوق. بيْدَ أنَّ هذه القاعدة تتعطل حين يكون الاختلاف في أثمان الإنتاج وعتبات المردودية بين ١ و١٠. فأثر الحجم، إذا ما هو ارتبط بحجم الاستثمارات؛ يكفي لكي يؤكِّد تفوُّق الصورة المتوسطة الأمريكية على نظيرتها الأوروبية.

من الأكيد أنَّ التليفزيون قد فتَحَ الأعيُنَ والقلوب على آلامٍ واضطهادات لم تكن بيِّنة من قبل، كما تشهد على ذلك الصيغة الجديدة والصحية لحقوق الإنسان، و«الصدقة التجارية» المعمول بها الآن. لقد ساهم التليفزيون في خلق ضربٍ من الرأي العالمي؛ لذا غدا من الصعب الآن ارتكابُ مجازرَ تظلُّ بدون عقوبات. لكنَّ كلَّ صورةٍ مبثوثة هي علاقةٌ اجتماعية تتحوَّل إلى عاطفةٍ فردية، سواءٌ كانت مسليةً أو مؤلمة. إن كوكبنا عبارةٌ عن علاقة بين الشمال والجنوب، يتمُّ توسيطها بعدساتِ الكاميرات. والأقمار الاصطناعية، كما الكاميرات والمختبرات، توجد في الشمال الذي يحتكر حقوق التصوير والتوليف والنسخ والبث. فالصورة الصناعية، باعتبارها أداةَ تحسيس للَّاتكافؤات العالمية؛ هي أيضًا التعبير الأكثر حساسيةً على هذه اللَّاتكافؤات نفسها بين المشاهدين في الشمال والمشاهدين في الجنوب.

لقد كان الإثنولوجي الغربي، وهو يمارس مهامَّه، يحظى من قبلُ بهذه الوضعية الخاصة، التي تجعل منه رائيًا متلصِّصًا لا يُرى، ومفتِّشًا لا يخضع للتفتيش، لكنَّه كان يسعى إلى أن يجعل من ذلك أداةَ معرفة وتواصُل ذي اتجاهَين، ولو بطول المدَّة التي يقضيها في الميدان. إنَّ رحلاتنا السمعية البصرية إلى مناطق الظِّل سريعة، كما لو كانت عمليةَ كوماندو للتدخُّل السريع، ونحن الذين نصوغ التعليق على هذه الزيارات الخاطفة. ليس نصف الكرة الأرضية الجنوبية لاقطًا للصور، إنه هو نفسه واقعٌ في شرَك صورنا. فقَدْ أضْفَينا الشرعيةَ على حقِّ نظرتنا الحصرية على الآخرين، وجعلنا منها في الآنِ نفْسِه «واجبًا للتدخل». إنه احتكارٌ تقني تمَّ تحويله إلى واجبٍ أخلاقي. فبدون نظراتٍ، لا وجود للتعاطف. والخلاصة: «لتحيي الكاميرات.» نعمْ؛ لكنَّ تلك الكاميرات لا تشتغل بشكلٍ أوتوماتيكي، وهي لا تتوجَّه إلى أيِّ مكان في أيِّ وقت لتملأ أنابيبها بأيِّ شيء.٧ إنَّ الجغرافية السياسية لهذا العطف الملازم لموطنه، الذي يدَّعي أنه لا يمارس السياسة، لا يُبطل أبدًا عمليات غوثنا المحترمة، إنها فقط تنهانا عن تحويل «أخلاق الاستعجال الأقصى» إلى ضرورةٍ حاسمة جديدة. ففي عصر الشبكات العالمية للإعلام المركزي، لا وجودَ لآلةٍ ذات طابع إلهي حلَّال للعُقد البصرية، ولا يمكن لواجبِ (تَدخُّلٍ) ينبني كليةً على المشاهدة (لشاشاتنا) أن يكون عالميًّا بصيغةٍ كانطية. سيكون عالميًّا حتمًا، لكنْ بنفس شكل الاقتراع العام الذي يحمل خطأً صفةَ العالمية، فيما كان للأسف يقتصر على النصف الذكوري من الشعب.

لقد نزعت تصفية الاستعمار من الغرب احتكارَ التمثيلية السياسية للجنس الإنساني، وغدا نظام الأمم المتحدة بأعضائه المئة والسبعين المُمَثَّلين؛ ذا طابعٍ عالمي فعلي. بيْدَ أنَّ صناعة الصورة والصوت تمنح للبلدان المتقدِّمة احتكاريةَ التمثيلات الثقافية للإنسانية؛ بحيث إنَّ الشمال استطاع وضع يده مرةً أخرى على الأسبقية في الاحتكار التي كان يملكها فيما قبلُ. صحيحٌ أن البيئوية الجديدة للبصر قد وسَّعت من مجال رؤية الناس كلِّهم، غير أنها جعلتْ من «حوار الثقافات» أكثرَ إشكالية، وذلك بتعميقها للهوة بين الفقراء والأغنياء أكثرَ من أيِّ وقت مضى. قد يمتلك بلدٌ فقير شعراء أفذاذًا وروائيين موهوبين، بل وحتى صحيفةً جيدة، لكنَّه عاجز عن امتلاك تليفزيونٍ في المستوى، حتى لا نتحدث عن سينما منافِسة. كان بإمكان رابندراث طاغور وأندريه جِيد؛ أن يتحادثا ندًّا لِندٍّ، مثل ميشيما ومارغوريت يورسنار، لكنْ أبدًا سبيلرغ وإدريسيا وإدراودغو أو قناة السي. إن. إن. الأمريكية مع قناة دورداشان الهندية. فثمة ٩ من ١٠ أفراد يرون الحياة عبْرَ الصور التي تقدِّمها لهم عن أنفُسِهم أطلنطا وهوليود. والأمريكي الذي تُقبل صوره في كل مكان مدبلجة أو مترجمة، لا يقبل هو نفسه أي صورة مترجمة. فهذا اللاتوازي اللاإرادي بين النظرات يؤدي إلى ضربٍ من العمى في المجْمع المغلق لصانعي الصور في العالم الراهن. كما أنه يؤدي إلى ضعفٍ واضح لمجاله الرمزي الذي غدا شعاره هو: «السيناريو غير المزعج»، الذي أصبح يَسري على أفلامنا ذات الميزانية الكبرى، ومسلسلاتنا التي تنبني على هذا المبدأ المشترك (المنتَج الذي سيصدم أقلَّ ما يمكن من المعتقدات أو العادات). فحين يغدو «العالم الخاص» لأقليَّة من ساكنة الأرض، العالَم الخاص بساكنة العالَم بأَسْره؛ فإن الانتقال إلى الجهة الأخرى من المرآة يغدو بالنسبة للإنسان الغربي مَفْخَرة لا معنى لها إن لم يكن صنيعًا هامشيًّا. إن عولمة خيالاتنا تحوِّل تلك الصدمات والعلاقات الغريبة، والتغريبات التي مثَّلت لدينا عامل تجديد، إلى أمرٍ أقلَّ فاعليةً. بهذا المعنى، فالغرب يضرُّ بنفسه حين يعمِّد «انغلاقة الإعلامي» بهذا الاسم الجميل: «العالمية»؛ وحين يجعل من تجهيزاته التقنية الفائقة «وعيًا أخلاقيًّا بالعالم».

المحافظة على الزمن

أما التعارض الثالث فيتعلق بالزمن: «التليفزيون ذاكرةٌ هائلة، التليفزيون مصفاةٌ قاتلة.» الموضوع التقني يعضد الأطروحة، فيما يعضد الاستعمال الاجتماعي الأطروحةَ النقيض. أمَّا التركيب فليس أجَلُه بقريب.

«أيها الزمن، أوقفْ طيرانك …»، ذلك هو بالضبط ما تمَّ. فقَدْ تكفَّلت بذلك التقنية والكيمياء، ولقد قامت الفوتوغرافيا والتسجيل الصوتي بتحقيق أمنيةِ الشاعر، وذلك بتثبيت ما هو هاربٌ وبتأبيد اللحظة. قبل وفاة الشاعر الفرنسي لامارتين، لم يكن له سوى أن يرفع الحظر عن الفوتوغرافيا بعد أن نعَتَها بكونها «انتحالًا للطبيعة بالبصريات». ثمَّ تابعَت الإذاعة والسينما عمليةَ تحنيط الزمن وتحسين ذلك. والتليفزيون، من الناحية التقنية، هو أفضل جهازٍ لتخليد الحياة؛ فالوثيقة أو المومياء، أي الحامل المادي للآثار التي تركها الكائن الحيُّ وراءه، أصبح بإمكانها الانفلات من تدمير الزمن. وقبل ذلك كان التسجيل على حوامل مغناطيسية؛ قد مكَّن من المحافظة على الذبذبات الإذاعية، بل من تكوين أرشيفات تناظرية، مفنِّدًا بذلك القولةَ الشهيرة: «الكلماتُ تغيب فيما تبقى الكتابات.» ففي فرنسا ومنذ ١٩٥٤م، مع الكميسكوب، وهو جهاز تسجيل صور الفيديو على شريطٍ حسَّاس، أصبح بالإمكان المحافظة على البرامج التليفزيونية المباشِرة، ومنذ ١٩٦٠م أصبح بالإمكان، مع ظهور المانيتوسكوب، خزْنُ كلِّ ما يتمُّ بثُّه يوميًّا. هكذا تكوَّن تراثٌ من الوثائق ظلَّت إلى حدود ذلك الوقت عرَضيَّة زائلة، شكَّلت أساس خزانات الفيديو، ومن ثَم تمكَّن الإنسان من امتلاك ذاكرةٍ إضافية، يفوض أمرها للآلات القارئة، ولا يتطلب استعمالها أيَّ أهليةٍ أو كفاءة خاصة (قراءة/كتابة) وإنما قدرة شرائية معيَّنة. منذ ذاك الوقت، أصبح الأثر التراثي هذا يمحو الاختلاف بين عالم المعرفة القديم وعالم الإعلام الجديد القابل للأرشفة والخزن، مثله مثلُ الأول. وسواءٌ تعلَّق الأمر بالوثائق الأكثر قابلية للتلف أم بالأعمال الأكثر صلابة؛ فإنها قد ربحت حقَّ البقاء. أكيدٌ أن الإشارة التليفزيونية لا تحفظ طويلًا، ففي مدة ٤٠ سنة لا يتعرض أي فيلم ١٦ ملِّيمترًا للتلف، بينما يصبح شريطٌ مغناطيسي غيرَ قابلٍ للاستعمال. بيْدَ أن نقْلَ الصور على حواملَ رقميةٍ صُلبة وموثوق منها سيمكِّن مبدئيًّا من تخليد أغلبية أعمالنا العرَضية واليومية. وها نحن الآن إذن، تحررنا من أحادية السير الزمني، فغدا الأمسُ منذ الآن هو اليوم وغدًا.

كلُّ هذا صحيح، وضدُّه ليس بأقل صحةً؛ ذلك أن هروب الصور إلى أمام يوميًّا هو ثقبُ إفراغٍ للذاكرات وإقناع للذكاء. إنه يقدِّس اللحظة وينزع عن التاريخ طابعه التاريخي، ويثبط عزيمة مَن يرغب في إنشاء أيِّ متواليةٍ عِلِّية. فبالإمكان الاحتفاظ بجريدة، لكننا لا نحتفظ أبدًا بنشرة أخبار. وبدون تسجيل مُسبق، يكون من المستحيل علينا توقيف الصور أو استعادتها كما تعودنا على فعل ذلك مع كومة من الصفحات. ليس ثمَّة من تمييز وتبصُّر إلا بعديًّا، أو بطريقة إعادةِ تشكيل الصور؛ وليس ثمَّة من حُكمٍ نقدي إلا برفض ثنائية الحافز والاستجابة. ووحدها السُّلطة التأثيرية على الجماهير تستعمل اللقطات والاغتصاب العاطفي. وإذا كانت الطاعة والتعصب يتلاءمان جيدًا مع المباشرة؛ فإن هيجان المباشر ورعشاته غير متلائمةٍ مع تلك الاعتباطية الجماعية في البثِّ المؤجَّل، الذي يتمُّ عبْر اقتراحات مكتوبة، وتبعًا لقوانين مشتركة وفي نطاقٍ عمومي تستطيع بواسطته قبيلةٌ ما أن تتحوَّل إلى مدينة، وتستطيع عبْره الديمقراطية أن تقاوم الديماغوجية. إنَّ حرية المواطن وحرية الفكر يشتغلان بالعرْض المُعاد لا بالحضور، وبالمؤجَّل لا بالحاضر، وبالحجَّة والبرهان لا بالتأثُّر. وهي بحاجةٍ للوقت؛ كي تستطيع المواجهة بين الأشياء والتحقق منها. مَن منا لا يعرف بأنَّ الديمقراطية المباشرة (حين نصوت برفع اليد بدون انقطاعٍ، وبشكلٍ موحَّد ومباشِر) تنقلب إنْ عاجلًا أو آجلًا إلى استبداد؟ ما هو في العمق الجهاز السياسي المتحضِّر، إن لم يكن آلةً لتبطيء زمنِ الإجابة، وتهدئة العواطف والنزوات والرجَّات والعواصف، وأخْذ المسافة اللازمة؟ والحال أنَّ الإلغاء المستمرَّ للمسافات والآجال والتأخُّر؛ هو الذي يمنح للتليفزيون أصالته (مقابل السينما) وتفوُّقه (مثله في ذلك مثل الإذاعة) على وسائل الإعلام المكتوبة، خاصةً في وقتِ الأزمات. هكذا ينتصر المرئي مرَّتَين على المكتوب. فهو أولًا أسرعُ ثمَّ أكثرُ سخونةً. وهو يهدِّئ من فراغِ صبرنا وترقُّبنا (بالأخبار الطازجة) وخوفنا من الوحدة، في الآن معًا. فأوقاتُ الأزمة، سواءٌ كانت مفتعَلة أم لا، تقوِّي من الروابط الجماعية وتدفئ الجسم الاجتماعي وتدفع إلى التجمع القبلي. والتليفزيون والإذاعة مسلَّحان بشكلٍ أفضل لإرجاع صدى ذلك. بهذا ينتصر محور التواصل على محور الإعلام، ومعه السمعي البصري الذي يشدُّ الأواصر، أكثر من المطبوع الذي يفصل أكثر بين الناس. فخلال حرب الخليج، ونحن مشدودون إلى شاشتنا الصغيرة، «شاركنا» في الحدث من غير أن نحصل على معلوماتٍ كثيرة عنه. وللأمر مبرراته، فالتواصل مُطَمْئن فيما يكون الإخبار مزعجًا. ونحن بحاجة للاثنين معًا؛ إذ إن المهمة المخيفة للصحافة تكمن في إيجاد المسافة الحقَّة بين هذين المحورَين المتقاطبَين التي سوف تنتفي بينهما.٨ وحين يلتصق البثُّ بالحدث في سخونته؛ فإنه يغدو تواصلًا خالصًا، وإرسالًا لمؤثرات مُعْدية ولعواطف خام ذاتِ مُعادل إجماعي مرتفع. وإذا ما ابتعد البثُّ عن الحدث لصالح الحكاية أو التحليل الهادئ في الإرسال المُرجَأ، أو في الاختلاف الديريدي؛ فإنه يتحول إلى «افتتاحية جريدة» أو إلى قسَمٍ. فوضعية الأزمة تحثُّ كلَّ واحدٍ منا على التقليص الكبير ﻟ «القطيعة السيميائية» بين الحدث الجاري وترميزه. وليس من اليسير التوصُّل إلى الحلِّ (فالمشكلات الحقيقية قد لا تجد لها حلًّا)، خاصة وأنَّ البثَّ المباشر، على «الطريقة الإشهارية» يحوِّل الصحفيين إلى ممثلين ذوي ملفوظاتٍ «إنجازية» لا «وصفية»؛ فقد أصبح من الأكيد أن الصورة والتعليق بإمكانهما تغيير مسير الأشياء، ومن ضمنها العمليات العسكرية في الميدان، في حين يظلُّ التحليل المكتوب مباشرةً بعد الحدث، مجرَّدَ لَغْوٍ لا أثر به.

إنَّ التقليص الهستيري للمُدد الزمنية على حساب الاستمرارات التفسيرية، وإعادة النظر في العَرَضِي وغمزات الأخبار واستعادة التاريخ الإنساني، كلَّ صباح من قِبَل سوق الإعلام الذي لا يمكنه بيع إلا الجديد؛ ليس كلُّ هذا وليدَ الصورة الإلكترونية؛ فهذه الأخيرة، إذا ما نحن رغبنا بالتأكيد في تبسيطها، تشكِّل استمرارًا تصاعديًّا لاصطدامات زمنية، بدأت لدينا حوالي ١٨٤٠م باختراع التلغراف الكهربائي ووكالة هافاس للأنباء. غيرَ أنَّ المرور إلى حدود البثِّ المباشر المطلق يتمُّ بدون مخاطر، حتى في الصحافة. فالخوف المَرَضي من التكرار والخوف من إضجار الآخَرين؛ يؤدي في النهاية إلى السقوط في الملل والاجترار. إن أمواج الأخبار، «هذا البحر الهائج أبدًا»، حيث كلُّ موجةٍ تتكسر على موجة أخرى تكون مشابِهةً لها في العمق؛ تكاد تكون أشبه بالغثيان. إن ثقافة السكوب تعمى عن النظر إلى الوراء من كثرة الحرص على السبق إلى الحدث، وهي بذلك لا ترى الآتي؛ ذلك أنها تعمى عن إبصار نقَطِ القوة الكبرى والإيقاع العميق للأشياء. كمٌّ من الأحداث قابلٌ للتفسير العميق بعودةٍ بسيطة للوراء في الزمن؛ يظلُّ غامضًا لأولئك الذين يرغبون دائمًا في تحقيق السبق الزمني. وإذا كان وقوع الحدث يعني أن نعرف من أين هو آتٍ؛ فإن الإيقاع الخاص للسمعي البصري يحوِّل التضخم في الأخبار إلى إفسادٍ للأخبار، وذلك بدون سوءِ نيَّة أو تلاعُب خاص. إنَّ الانفلات من فتنة الحاضر لاستعادة نظام العلل والمعنى المحتمل؛ يعني أولًا الانفلات من فتنة الصور المبثوثة بسرعة الضوء.

الإيهام بالواقع

وتخصُّ الثنائية الرابعة قيمةَ الواقع: «التليفزيون قناةٌ للحقيقة، التليفزيون مصنعٌ للخُدَع.»

إنَّ الصورة التليفزيونية بصفتها وثباتها تتقاسم، أكثر من الفوتوغرافيا، مع العائلة الكبرى للَّاقِطات الإشارية، القوة الخاصة للتقريري المتمثِّلة في: «هذا ما حدث.» وبما أنها تُعلي من شأن سُلطة المَرجع؛ فإنها تمنح الشهادة الأُنموذجية للأصالة. إنَّ الحجة بالصورة تلغي الخطابات والسُّلَط. فحين ينفي أربعةٌ من رجال شرطة لوس أنجلوس أمام القاضي، بكلِّ ما يملكونه من سلطة تخوِّلها لهم وظيفتهم، بأنهم انهالوا بالضرب المُبرح على سائقٍ أسودَ ليتركوه يصارع الموت على قارعة الطريق، آنذاك يكفي شريط فيديو هواة مدَّته ٨١ ثانيةً لوضع حدٍّ لأزمةٍ سياسية وقضائية عميقة (قضية رودني كينغ، ١٩٩٢م). هكذا تمَّ رفع الشكِّ القضائي. وفي أمريكا اللاتينية، ادَّعتْ إحدى الطُّغَم العسكرية الحاكمة في الصحافة موت أحد الأجانب في المعركة، بعد أن نفتْ أنها تحتجزه رهنَ الاعتقال. بيْدَ أن حظَّ الطُّغْمة كان سيئًا؛ فقد كان أحد المصوِّرين الهُواة قد الْتقط صورةً للشخص الأجنبي في إحدى القرى النائية بعد اعتقاله، وقام بنشرها بعد ذلك بقليلٍ في الصحافة. هكذا أفلتَ الأجنبي من الإعدام الذي كان مقرَّرًا له، بل تمَّت محاكمته ونفى عن نفسه تهمة حيازة السلاح والانتماء لحرب العصابات. لكنَّ الحظ السيئ نفسه أصابه هو أيضًا؛ فقد كان أحد المحاربين يلتقط الصور أثناء المقاومة السرية، وقد تمَّ العثور على الأشرطة وتحميضها، فكان أن أثبتَت إحدى الصور عكسَ ادعائه. لذا كان المآل الحُكم عليه بالعقوبة القصوى.٩ وإذا كان رولان بارث قد تعرَّض للسلطة الجنائزية لعدسة الكاميرا؛ فإن سلطتها البعثية ليست بنافلة. فإلغاء الغياب وتكرارية الأحادي هي قطائع حاسمة. فسواءٌ كانت الصورة كيميائية أو مغناطيسية؛ فهي تغدو مجسِّدة للسلطة العليا، أيْ مجسدة للواقع. فهل تكون الأطروحة يا تُرى صحيحة؟ لكنَّ «الإيهام بالواقع» الذي يكون كبيرًا على شاشة التليفزيون خادع؛ لأنه غير مبرَّر سببيًّا. فأمام هذه الصور المباشرة في الزمن، أعيش أنا المشاهد في الجهة الأخرى من الشاشة، أي في الواقع المسجَّل. هكذا تندثر الصورة كصورةٍ مصنوعة، وينفي الحضور الطبيعي الزائف عن نفسه صفةَ التشخيص والتمثيل، وثَم تكمن الخدعة. فالعسفي والاعتباطي يقدمان نفسَيهما في صفةِ الضروري، فيما يقدِّم المصطنَع نفْسَه في صفة الطبيعي؛ ذلك أن هنالك ذاتية تثوي وراء الموضوعي، وعملًا كاملًا من العرض والفرز وراء الصورة المختارة من بين مئات الصور الأخرى. بل هنالك أيضًا لعبةٌ معقَّدة من التخيلات والمصالح والصدف؛ لماذا اختير هذا البلد وهذا الحدث وهذا المقطع الجملي أو هذه الشخصية بدل شيءٍ آخر؟ فخلفَ ما تشير إليه الصورة يتوارى المشير، وخلفَ الإطار يختفي المؤَطَّر. ولهذا اللَّبس اسمٌ يعيِّنه، إنه «الموضوعية الصحافية». لكنْ، ليس ثمَّة من نظرةٍ موضوعية، ولو كانت نظرة «الاحترافي». وحتى الكاميرات الأوتوماتيكية يتمُّ وضعها في مكانٍ معين، وتشغيلها وتوقيفها بإرادة إنسانية. فعرضُ حدثٍ أو إنسان يعني إعطاؤه فرصةَ الوجود، لكنَّ الوجه الآخَر لهذا التأكيد يكمن في الإعدام الاجتماعي لكل ما تم اختيار عدمِ عرْضه للمشاهدة. وهذا الاختيار هو الذي لم يتمَّ الوعيُ به في الإعلام السمعي البصري، وبدرجةٍ أكبر في الكتابة. إنَّ سلطة الواقع المباشر تشجع على إخفاء الوساطات (سواءٌ كانت تقنيةً أو سيكولوجية أو سياسية أو أيديولوجية … إلخ) وتؤكِّد هذه الكذبةَ ذات المنزع الطبيعي الرؤيةُ بدون نظر، أو المشهد بدون عملية إخراج. يضفي الإرسال في الزمن الواقعي طابع الشرعية الفعلي على المرور من «هذا موجود» إلى «هذا هو حقًّا». فرؤية الأشياء وهي تحدث؛ يعطينا الإحساس بأننا نقرأ العالم ككتابٍ مفتوح. التطابق بين الحدث وصورته يدفعنا إلى أنْ نخالَ الخريطة هي البلد. تلك هي الهلوسة القصوى للعصر البصري، أي الخلط بين الرؤية والمعرفة، وبين البرق والإنارة. إنَّ وجود الحقيقة في صُلب الموضوع، وبغضِّ النظر عن التبريرات المجرَّدة، هي الوهم الإبستمولوجي الخاص بعصر الفيديو. فمبدأ التطابق بين الواقع والخيال يختصر الطريق بمباشرته، مقارنةً مع بطءِ وتعقُّد مبدأ تطابق الواقع والفكر، الذي يتمُّ تلقينه في المدارس. وإذن، فإنَّ راهب عصر الشاشة، أي الصحفي التليفزيوني، قد تجاوَزَ الأستاذَ باعتباره الراهب المخلوع لعصر الأشكال.
وبما أنَّ اللقطة المكبَّرة هي من أصالة الشاشة الصغرى، وعنصر جودة التليفزيون، فمن العادة، بل من غير الممكن، تفادي نقْل شهادة الواقعية من مجال الأحداث أو الأشياء إلى مجال الأشخاص. «لا يمكننا الكذب في التليفزيون، فالوجوه تفضح أصحابها.» إنها شهادةُ حدٍّ أدنى وذات طابع حميم، لكنَّ «الجزئية التي تفضح بلا شفقة» (كاليد وهي تتشنَّج، وخصلة الشَّعر على الجبين، والعين التي تسودُّ … إلخ)؛ تتكلَّف بالإفصاح عن كلِّ شيء. العالم الذي يُرى من بعيد؛ لا يملك معايير الحقيقة نفسها حين يُرى عن قرب. كلُّ حجمٍ يشكِّل معتقداته (والأكيد أنَّ الإطارات الهائلة للتشكيل التاريخي، كان لها متطلباتها التي ليست أقلَّ اعتباطيةً من متطلباتنا). لقد وجَدَ صدقُنا وحقيقتُنا موطنَهما في اللقطةِ المكبَّرة، باعتبار أنَّ اللقطة المتوسطة أقلُّ أصالة. لهذا فإنَّ التليفزيون أصبح مشهورًا بكونه يُفصح عن النسيج الأخلاقي للأشخاص، ومن ضمنهم أكثر الناس العموميين خصوصيةً. إنَّ هذا الأمر ليس خاطئًا، فالدليل على ذلك أنَّ السيناريو ماكارثي في الولايات المتحدة لم يعمِّر طويلًا هو ودجَلُه حين انتقل من الإذاعة إلى التليفزيون. كما أنَّ ذلك أمرٌ ليس بصحيح، والدليل على ذلك ريشارد نيكسون (وليس لنا إلا الاختيار على هوانا بين الأمثلة والأمثلة المضادة). ليست العقليةُ الجماعية الجديدة تجريبيةً، ولا خالية من الأحكام المسبقة بالمقدار الذي تدَّعيه. فهي قد عوضتْ وثوقيةَ الحقيقة ﺑ «الاستبدادية التعبيرية» (كما يقول ميشيل دوغي). إنها شغوفةٌ بالمظهر الجسماني وفأل الوجه. وبصيغة أكثر ابتذالًا، من الأفضل للأشخاص المشهورين أن يمتلكوا وجوهًا جميلة (فوحده عصر الأشكال كان بإمكانه أن يرفع جان بول سارتر إلى الأوج). إنَّ هذا الفضل المتجدِّد للمظاهر الجسمانية؛ يجعل «علم الفراسة» القديم كما صاغه لافاتير أكثرَ شعبيةً، هذا «العلم» الذي كان يختص بتعليم معرفة بواطن المرء فقط من خلال مظهره الخارجي. إنه يثبت التحوُّل العميق لفكرة الحرية التي أضفى عليها الناس سابقًا طابعًا مثاليًّا، واعتبروا أنها تمثِّل سيادة الاستقلال الذاتي (أو التبعية الطوعية للقانون الكوني)، والتي تُعتبر الآنَ سيادةً للعفوية (باعتبار أنَّ كل واحدٍ هو أمام نفسه قانونُ نفسه). إنَّ تطبيع الحرية قد جعَلَ نظام الحقيقة في عالم العلامات ينزلق إلى عالم الإشارة signal. والإشارة يجب أن تظلَّ لصيقةً بالجسم؛ فالحقيقة لم تعُد تلك الحقيقة التي يتمُّ الحصول عليها أو التي تتمُّ بلورتها؛ إنها كيانٌ موجود سلفًا، متوحِّش وتلقائي وغائر في أعماق الأجساد، ولا يقوم التعبير فقط بنقله من الداخل إلى الخارج (كما يعبُر العصير من داخل الفاكهة إلى خارجها). الحقيقة في عصر الشاشة أصليةٌ وليست نهائية. والاعتقاد السائد هو أنَّ الأصل يتحدث طوعًا من خلال الحركات الأولية للجسم، باعتبارها الحركات الوحيدة المستحسَنة. ومن ثَم ينبع تثمين حضور البديهة والردود السريعة، باعتبارها خاصيةً مميزة فيما سبق للظرفاء المغرمين بالثقافة، وهي اليوم سمةُ «الفطرة الحقَّة». ومن ثَم أيضًا ينبع الاعتقاد في أن صاحب التجربة القوية أو ضحيتها، قابلٌ لأنْ يغدو الممثِّل الأفضل لإعادة بثِّها. ذلك هو الانقلاب التليفزيوني لمفارقة الممثِّل، والخط الراهن للمنطلقات الأُولى، فربما نكون قد فقدنا الحقَّ في ترك جسدنا، وذلك بفصْل الداخل عن الخارج (إذ إن متعة الاستبطانيين تكمن في منع المقاصد من أنْ تأخذ الصدارة). وعن ذلك تنتج الكثير من العواطف الحقَّة والمتصنَّعة، لكنْ كيف التمييز بينهما؟ لاختراق الشاشة، عليكم بالعفوية، و«تحدَّثوا صدقًا». والظهور «بمظهرٍ مطابق للذات» فنٌّ ليس من اختصاص المنافقين، وهو قابل للتعلُّم، مثلُه في ذلك مثلُ الفنون الأخرى (بالرغم من أن ذلك قد يكشف لنا عن كون «التظاهر»، أو «الارتجال المؤثر» الذي يشتهر به هذا الممثِّل السياسي أو الثقافي الكبير أو ذاك، قد تمَّ تحضيره بإتقانٍ والتدرب عليه مسبقًا). «كلُّ الناس يقفون جيدًا على ما أنت تبدو عليه من الخارج، لكنَّ القليل منهم فقط يحسُّون بما أنت عليه في دواخلك.» إن هذا يعني أنَّ التقنيات الجديدة للإيهام والإقناع لم تتجاوز بعدُ فضيحةَ ماكيافيللي للأمير. فالبسمة أيضًا تقنيةٌ وضرورة مظهرية لا تقود إلى أيِّ مُنزلَق. والعفوية الوسائطية، مِثلُها مثلُ العبقرية، عبارةٌ عن جلَدٍ طويل؛ إذ هي مسألةُ سلوك ومجاهدة. لكنْ، علينا ألَّا نستخفَّ بالأمر. فعدا أنَّ لعبة الوجود والمظهر لا ترتبط بسَننٍ معيَّن؛ فإننا لن نجانب الصواب من الناحية التقنية إذا ما نحن وثقْنَا في تعبيرية العينَين وزاويتَي الفم وحركة المنخرَين والعينَين؛ ذلك لأنَّ من السهل خداعَ السمع على خداع البصر.
ومع أنَّ التطور في رقمية الشرائط الحسَّاسة المفضَّضة سيمكِّن لا محالة من تغيير الديكور والحركات في الصور المسجَّلة والمنقولة على ملفاتٍ رقمية، مما سيجعل التدخُّلات والخدع غير ظاهرةٍ كليةً؛ رغم ذلك، فإنَّ الصوت يتمُّ تركيبه أفضلَ من الوجه. ثمَّة أزرارٌ أوتوماتيكية تمكِّن من الحفاظ، في الشريط المغناطيسي، على صوتِ شخصٍ ما وتغيير أو تبديل كلامه. صحيحٌ أنَّ بإمكاننا أيضًا، على اللوحة الغرافية، تبديل أيِّ صورةٍ فوتوغرافية وإعادة تركيبها ونسجها (مثلًا لتفادي تسديد حقوق النسخ). وبما أنَّ العالم الصناعي للصور غدا مستقلًّا فسيكون على «النُّسخ» غدًا أن تشهد على صحة «الأصول». ونحن نعلم أنَّ المرجعية الذاتية الوسائطية تجعل من الأكذوبة المعادة شيئًا قريبًا من الحقيقة. لا شيء هنا جديد؛ فصحيفة الإشاعات «ولدتْ مع ولادة الصحافة الجديدة». ومدفن الجثث في تيمسوارا Timsoara كان موجودًا لدى بِلزاك. إنَّ ما سيتغير، مقارنةً مع عصر الكتابة، هو أنَّ قضية «واقعية» الصور التناظرية (فوتوغرافيا، سينما، تليفزيون) سوف تُعوَّض حتمًا، وبطريقةٍ حكيمة، بقضيةِ احتماليةِ صدقها vraisemblance. وهذه الأخيرة، لن تكون مضمونةً إلا بسرعةِ إرسال الصور. كلما كانت المدَّة قصيرة؛ كانت إمكانيةُ إدخال الخدع على الصور ضئيلةً (لأنها تتطلَّب الآلياتِ والوقتَ اللازم). ولأنَّ الفوريَّ وما يمكن التحقُّق منه، أصبحا مترادفَين؛ فإنَّ الواقع والواقعية أصبحا يقاسان على سُلَّم الزمن. ومن ثَم، سنكون أمام استعمالاتٍ جيدة ﻟ «الزمن الواقعي» وأخرى سيئة، أيْ أمام الزيف والحقيقة في الآنِ نفسه. وقد ابتكرتْ نشرة الأخبار الإذاعية ذلك بصدد الصوت، وقامت الصورة التليفزيونية باستكمال فضائله ومساوئه. كما أنَّ البثَّ غير المباشر، الذي يمنح الوقت للتفكير والتركيز على المنظور عبر التعليق، يمكِّن أيضًا من التوليف المغرض والاختيار الموجَّه للصور. ونحن نتذكر أنَّ الأنظمة الكليانية قد تفادتْ بشكلٍ واعٍ البثَّ المباشر للأحداث العمومية والعارضة (فهي تفضِّل السينما على التليفزيون؛ نظرًا لأفضليتها في الدعاية والرقابة القَبْلية). ولأنَّ المتعصبين للزاوية القائمة والطوباوية المنتظمة متخاصمون مع الضربات العشوائية للواقع؛ فإنهم موهوبون في الحذر من الحياة كما هي في يسرها. ففي بكين وبيونغ يانغ، تعبر الاستراحة «باللوحات الحيَّة» في الملاعب، والتي تتمُّ برمجتها تبعًا لصفَّارات بدء المقابلات ونهايتها، عن مصداقيةٍ أكبر من الميكروفونات على الأرصفة والبث «الحي» المباشر. إن تصوير العالم وتقديمه في صورٍ؛ يبدأ في اليوم الذي يجعل ذاك التصوير من العالم صورةً، ومن التاريخ فيلمًا تليفزيونيًّا. ومن صراعٍ مشبوه ككلِّ الصراعات الأخرى، فيلم وستيرن مِثله مثل الأفلام الأخرى. فالأثر الواقعي، بتحويله للخارق إلى شيءٍ مبتذل، وبرفعه للمبتذل إلى مصافِّ الأشياء السامية، وبتلطيفه من الفظاعات والكوارث، وبجعله للأحداث الخفية والمتقلبة والفاضحة والعارضة أحداثًا ملساء، وبتشجيعه للاستهلاك اللَّهوي (الذي سيغدو لا محالة استيهاميًّا وبالتالي شبقيًّا) للأفعال والفضائل والمساوئ والألعاب والمآسي، بكلِّ ذلك ينتهي الأثر الواقعي إلى نزع الطابع الواقعي عن الأحداث الراهنة. وهو يقوم بذلك بدءًا عبْرَ محْوِ طابعه الخشِن. لقد رأينا أنَّ المنمنمات التصويرية تجعل من المذابح أو الحروب البعيدة مقبولة، بل مثيرة للإعجاب، بحيث إننا نتحمَّل للأبد صورتها الحقيقية. إنَّ الجيوفيزياء الحالية لدينا هي ميكروفيزياء؛ لذا فإن تصغير قافلةٍ من السيارات المدنية أو عاصمةٍ ما تعرَّضت للقصف على مقاس شاشةٍ تلفزية، ليستْ هي الطريقة الفُضلى «لتحقيق» الرهانات الإنسانية لقصفٍ ما. وكما أنَّ الأحداث الراهنة، من دون التاريخ، تحوِّل الزمن إلى تراكُمٍ هائل من الأحداث العادية — باعتبارها عجائبيةَ عصر التليفزيون — كذلك يؤسِّس الحضور الكلي، بدون الجغرافية، حالةً خادعة من انعدام الثقل والفكر، بما أن التفكير قد تمثَّل دائمًا في القياس والوزن، كما أنه يجعل أيضًا من الحساب حسابًا للمسافة.

•••

إنَّ التليفزيون وهو يقوم بتخييل الواقع وإضفاء طابع مادي على تخييلاتنا، ويسعى إلى الخلط بين الدراما والدراما الوثائقية، وبين الحدث الواقعي والواقع الاستعراضي؛ يتأرجح بنا مرةً أخرى من الأطروحة إلى الأطروحة النقيض، ومن «النافذة المشرَعة على العالم» إلى «جدار الصور»، ومن الموسيقى إلى الضجيج، والعكس بالعكس. وهذا التأرجُح قد يكون هو حقيقته النهائية؛ فهو عاملُ يقينٍ وشك وأوجُ الشفافية ومنتهى العماء، كما أنه أيضًا آلةٌ عجيبة للإخبار وتمييع الخبر. لذا فمن طبيعة تلك الآلة الواهبة للمرئي أن تتأرجَح بفاعليها الكبار من المصداقية الكبرى إلى أقصى حدٍّ من المشبوهية، وترمي في رمشة عين بالمشاهدين، وبنا نحن، من الافتتان إلى الخنق. هل هي إلهٌ أم شيطان؟ خلاصٌ أم لعنة؟ قدِّيسةٌ أم آثمة؟ ألمْ تجعل الصورة الاصطناعية في الغرب من هذا التذبذُب العُصابي هدفًا لها؟ الأمر يبدو كما لو أنَّ الرهبان البيزنطيين لا يزالون مستمرِّين في صراعهم أمام الشاشة الصغيرة، رامين بنا إلى الأبد من هذا الحدِّ إلى ذاك، بين الأطروحة التشابهية للمعتقدين في الصورة والأطروحة الزائفة لمُنكريها. وتظلُّ حدود تلك الصلاحية هي النواة المنطقية للنقاشات المعاصرة حول السمعي البصري. فكيف نفهم الراهن من دون أن نبتعد عنه في الماضي بأكثرَ من اثني عشر قرنًا؟

١  Kant, Critique de la raison pure, tome II, tra. Barni, Paris, Flammarion, 1944. p. 14.
٢  Dominique Wolton, “La Télévision, instrument de la démocratie de masse”. Le Monde, 1er février, 1992, Paris.
٣  Gilles Lipovetsky, L’Être du vide, Paris, Gallimard, 1983.
٤  اقرأ بهذا الصدد: Jean-Claude Guillebaud, “Les médias contre le journalism”, Le Débat, no. 60.
٥  Karl Marx, Le 18 Brumaire de Louis Bonaparte, Editions Sociales, 1969, p. 127.
٦  J.-C. Guillebaud, “Les médias et la crise de la démocratie”, Le Débat, 1991, no. 68.
٧  إن الكاميرات، الخصوصية منها والعمومية، مثلًا، تفصح عن نفورها الأكيد من «الاندماج» في الأعماق الاجتماعية لأفريقيا الفرنكفونية أو العربية السعودية. كما أنَّ القنبلة العراقية التي تضرب قريةً كردية؛ سيكون لها حظوظٌ أفضلُ للبثِّ من قنبلةٍ تركية. كما أنَّ ٤٠ ألفًا من المعارضين الذين قُتلوا على مدى ٨ سنوات في التشاد على أيدي حسين هبري، الذي يحظى بالدعم الفرنسي؛ لم تُثِر لدينا حملاتِ تضامُن ولا أدنى احتجاجٍ سمعي بصري … إلخ. (انظرْ لجنة تقصِّي الحقائق التشادية، جريدة ليبراسيون الفرنسية، ٢١ مايو ١٩٩٢م).
٨  اقرأ بهذا الصدد لدانييل بونيو، الذي أستقي منه ثنائية التواصل/الإعلام: D. Bougnoux, “Qui a peur de l’information?”, in Reporters sans frontières, 1992.
٩  ملخص القضية دوبري، بوليفيا، ١٩٦٧م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤