صلاة نائب

استيقظ النائب ضحى الإثنين، فانتصب كالنبي بعد هبوط الوحي، والبستاني على أثر ركود العاصفة، أحبَّ أن يذكر الله في تلك الساعة، وكيف لا يذكر رَبَّهُ وقد صار نائب أمة يكتب كتابها لمَن شاء، وإن لم يستطع ما فعل الفرزدق … أجل أراد النائب أن يصلي — والنواب كالناس يصلون في الإزم — فلم يقل: اللهم … حتى قرع ناقوس التليفون، فتناول اللاقطة وأجاب: نعم، نعم، أنا.

– صبحك بالخير.

– أبو نجيب، الله يسعد صباحك.

– كيف الحال؟

– هاه، عال!

– يا سيدي، القضية التي عرضناها لك …

– أيَّة قضية؟

– نسيتها؟

– لا لا لا، تذكرت، بهذين اليومين إن شاء الله …

– بحياة جنابك، نحن متَّكِلُون عليك.

– على الله يا شيخ … وغير هذا؟

– رضاك وتوفيقك.

– الله يحفظك، مع السلامة.

وعاد النائب ليصلي، فلم يَقُلْ اللهم أَعْطِنَا خبزنا … حتى دخلت خادمته ملهوفة تعلن مقدم أحد الأعيان، فتلملم وخف لاستقباله، فإذا به يجر وراءه وفدًا، فحيوا النائب الجديد وحيَّاهم وهنَّئوه فشكر لهم، وأديرت عليهم كئوس الشراب فانتدبوا لها بعضهم؛ لأن الخادمة لا تعرف التقاليد، فأخذت الكأس تروح وتجيء بضع دقائق بين: «أستغفر الله.» و«تفضل أَنت.» و«هذا لا يصير.» أما النقل فتناولوه محافظين على الكياسة جُهدهم، والتفت قيدومهم ليغمز الخطيب فيتكلم، فإذا به لا يراه، فتغمغم وخرج في طلبه، وما عتم أن استرضاه وعاد به وأوقفه في وسط القاعة خطيبًا، فأدَّى خطابه أداءً صالحًا، وتبرنس النائب بأطول منه … كما قال بديع الزمان، فصفَّق الوفد وأجاب النائب واعدًا بتحقيق الأماني والوعود …

وقُدِّمَتِ القهوة فترشفوها، وبعد أن قال كل واحد منهم ما جاء على لسانه لِئَلَّا يُرْمَى بالعيِّ، انصرفوا وشيَّعهم النائب إلى البوَّابة، وعلى ثغره ابتسامة مسخَّرة.

وعاد النائب يصلي فلم يَقُلْ: ساعدني يا رب على خدمة البلاد ولو عشت بالتقتير … حتى انتفض لأن التليفون يدعوه، فانفتل عن صلاته متأفِّفًا، ظنَّ أن أَحدَ أنصاره يدعوه ليذاكره بحاجة — وصاحب الحاجة أرعن — فإذا به غير من ظنَّ، فاستوى مهابة كأنه في حضرة المتكلم ناسيًا أنه يخاطبه تلفونيًّا وقال: نعم ولدكُم … يا سيدنا … مستعد يا سيدنا … نعم سيدنا … تأمر … الآن … أمر غبطتكم … نعم. وختم الحديث بالتماس البركة الرسولية، فمنحها من صميم الفؤاد.

واستعجل النائب خادمته بوقف سيارة مقفلة نظيفة، وأصلح ثيابه وخرج، فما بلغ البوابة حتى أرجعته ابنته إلى التليفون.

– نعم. مَن، مَن؟

– أنا.

فزرَّر رداءه احترامًا وقال: عفوًا، فخامة الرئيس … محسوب فخامتكم … نعم، أَمْر فخامتكم. وظلَّ يهزُّ رأسه ويهمر بنعم، نعم، نعم … إلى أن ختم كلامه بقوله: حاضر يا مولانا.

وما ألقى اللاقطة حتى كان في الشارع، فأطل وفد أطول وأعرض من الوفد الذي شيَّعه منذ هنيهة، وبعد السلام والمصافحة لبعضهم اعتذر لزعيمهم أن فخامة الرئيس وغبطة البطريرك يستعجلان حضوره إلى ناديهما، وأنه سيعود بعد قليل، ودعاهم جميعًا لِيَتَغَدُّوا عنده، ثم ودَّعهم قائلًا: البيت بيتكم … ومضى.

واستحال البيت إلى حانة شرب وقصف، والنائب يطوي الطريق إلى القصرين.

وعاد إلى البيت وقد أدركه الليل، فسأل عن الجماعة فقيل له: تَغَدَّوْا وراحوا.

فأوى إلى غرفته تَعِبًا منهوكًا، ولم يخلع معطفه حتى قُرع الباب وانشقَّ عن زميل كريم قال: يا هو، كيف حال الوفود عندكم؟

– العاطفة طيبة، والثقة كبيرة.

– والخطب؟ … والمطالب؟

– هي هي، كل الدنيا مثل بيتك.

– أنت عندك من هذه البضاعة، أَمَّا أَنا … الله وكيلك مونشير، لا أعرف الأَلِف من «المئذنة».

– تمرَّنْ، أَنت قادم على جلسات حامية الوطيس.

– وطيس … أيش الوطيس؟

– يعني جلسات حامية.

– أوه، الآن فهمت، بحياتك قل لي … والنتيجة؟

– لا تحمل السلم بالعرض.

– ماذا قال لك فخامة الرئيس؟

– كما قال لك.

– والبطرك؟

– كما قال لك.

– وسيادته؟

– أَيضًا.

– والرئيس واﻟ …، واﻟ …

– كذلك.

– وما العمل؟

– …

– إِذن قُمْ.

– إِلى أَين؟

– أَلستَ مدعوًّا؟

– بلى، بلى، كنت نسيت.

وشبَّكَا أيديهما وخرجا.

•••

ورجع النائب إلى بيته مجهودًا بعدما هدأت العين والرجل، فإذا بأحد «المحترمين» في الانتظار، فحيَّا بالاحترام وتجلَّدَ وجلس، وأخذ المحترم يُدِلُّ عليه في حديثه، ويريه كيف جاهد وجمهوره ورعيته يَوْمَيِ الانتخاب، وكان النائب يسمع بخشوع، وبعد القهوة تحلحل المحترم للانصراف، فقال له النائب: ابْقَ الليلة عندنا. فاعتذر له، وفي طريقهما إلى الباب ساق المحترم الحديث فقال: لا تنسَ شعبة طريق … فهذه حياة الدير.

– نعم، ولكن ما رأي قدسكم لو شُقَّت من الجهة الجنوبية فتمر بقُرَى ومزارع فينتفع أهلها المساكين … والطريق كما فهمت صارت على باب الدير تقريبًا، وهؤلاء محرومون.

– نريدها على باب الدير تمامًا، فالزوَّار — نشكر الله على هذه النعمة — مثل الجراد، كلهم يتذمَّرون من مشي خمس دقائق. قال هذا ماشطًا لحيته المقنفشة بأصابعه وضَحِكَتْ سِنُّه.

فهز النائب رأسه مُذْعِنًا، وجَرَّ المحترم حديثه إلى ثلاث أربع قضايا فقال: لا تنس المختار فهذا من غير حزبنا، والناطور كفُّوا يده لأنه حشد لكم في الانتخابات، فاسعَ جهدك لتبرئته، أما مسألة البلدية فإلى وقتها و… و… وكان النائب الصادق يحرِّك رأسه كالحرذون، وظلَّ يفعل كذلك حتى توارى المحترم.

وخلا النائب في مخدعه وتجرَّد وقعد في فراشه، فذكر الصلاة التي لم يُتِمَّهَا فقال مع بشار: «الذي يقبلها تفاريق لا يرفضها جملة.» وأَخذ رأسه بيديه وصلى:

الشكوى لغيرك مذلَّة يا الله، فلتَبْقَ في القلب تجرحُ ولا تخرج من الفم فتفضح، انظر إلينا يا كريم.

استَكْثَرُوا راتبنا فاقتضبوه حتى مسخوه، فلا ينطوي الشهر وينشر كشف النفقة حتى ترانا مكثورًا علينا.

الشعب يصرخ اصلبوه، ونحن نردِّد: اقتسموا سلطتنا بينهم، وعلى راتبنا اقترعوا.

أيكون راتب النائب أقلَّ من راتب كاتب البلدية يا الله؟ وعلى هذه الغضاضة أغضينا وقلنا خير من «اللاش».

في هذه السنين الضيقة، وإذا لم نكن نحن للوطن فمَنْ له؟

فنظرة يا رب من أعالي سمواتك تُنْبِتُ الحنان في قلب العميد، والتفاتة من عليائك تمدد سلطتنا المقرفصة، فنبيض وجهنا ونحقِّق ولو شيئًا من آمال منتخبينا.

رُدَّ عنا يا الله الوجوه المقرفة الملحاح التي تتبعنا كظلنا، وتزعج مجالسنا أين كنا، يقولون إننا لا شيء، ويطلبون منا كل شيء.

ارحمنا اللهم، ووَقِّنَا عسرات السياسة يوم انتخاب الرئاسة.

اللهم لا تُدخِل عبيدك النواب في التجارب … ونَجِّهِمْ من حلِّ المجلس، وخلصهم من ألسنة الجرائد.

آمين!

وما انتهى حتى أغفى، وظل يغط في نومه حتى الصباح.

واستيقظ ضحى الأربعاء فإذا بالقصاب بالباب، فقال: العمى أقبل الضوء يا خليل، يا فتاح يا عليم …

فأجاب خليل بسذاجة: حمي النهار يا بك.

فتأفَّفَ النائب بين الجد والهزل وقال: آخِر الشهر يا خليل، آخِر الشهر.

ثم ضحك ضحكة مكروب — وشر البلايا ما يُضحِك — وقال: شباط ٢٨ يومًا يا خليل. فقال القصاب: وما عليه لو كان أربعين، أنت في العبِّ يا سيدنا. وضحك ضحكة بلهاء وانصرف.

وزال الكابوس عن النائب، فاغتسل وامتشط وهندم قوامه وخرج يتوكأ على عصاه، فهو على موعد مع مدير إحدى الشركات …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤