الناس

لقد أصبحت عبدًا للناس منذ تصوَّرْتُ في البطن، وتقيَّدتُ بسلاسل مشيئتهم حين رفعت يديَّ أول مرة نحو السماء. ضايقني فضولهم منذ تحركتْ في ذلك الزندان، فتهافتوا على والدتي ساعة عرفوا أن عددهم سيزداد واحدًا، هذا يُدلي برأيٍ طبِيٍّ وَرِثَه عن جد جدِّه، وتلك تنثر نصائحها وإرشاداتها الصحية، وهكذا توطدت العلاقات بيني وبين أصحاب وصاحبات المروءة؛ أرسلوا إليَّ نجدة تلوَ نجدة، قبل تشريفي هذه الدنيا، ليحفظوا حياتي الغالية، فلا أذهب طِرحًا وتخسَرَ الإنسانية واحدًا، ليته لم يكن.

وبعد آلام استمرت ثلاثةَ أيام غيرَ كاملة وُلِدتُ أخيرًا … ولو عرفت أنَّ نساء القرية في انتظاري وأني سأُعْرَض عليهن واحدةً واحدةً لَهربت، ولكن أين المفر؟ ما أرسلتُ أول صرخةٍ حتى وقعتْ علَيَّ عيونهن، وامتدَّتْ إليَّ أَيديهن؛ كل واحدة تحاول أَن تستلم الحجر الأسود … وكان معرِضٌ قصير الأَمد عقبَه النقد المرُّ، هذه تروزني وتقلِب شفتها السفلى، وتلك تنظر إلى التي حدَّها رافعة حاجبيها وجفنيها إلى العلا، وأُخرى تغمِزُ بعينيها، وواحدة تقرص جارتها قرصة خفية وتقول: يا حَسرة! هاتيك تقول: دميم. وتلك تقول: مليح — وتجر الياء وتقطم الحاء — وأخرى تقول: بَشِعٌ ولكنَّ بشَاعتَه حُلوةٌ … وغيرها تقول جبرًا لخاطر الوالدة المنكوبة: الولد يتغيَّر ويتقلَّب، مُنتحلةً لي العُذرَ، كأني أنا أَفْرَغتُ نفسي في القالب الذي لم يعجبها.

لم تقل «اسمُ الله حولَه وحوالَيه، يخزي العين عنه» إلا واحدة فقط تعرفون مَن هي! هذه امتلأ فَمُها ضحكًا وقلبُها فرحًا، وحُشي صدرُها رجاءً وأَملًا. وكيف لا، أَمَا صارت أُمًّا؟

وتعدَّدت النذور إلى قديسينَ وقديسات وسيدات اختصاصياتٍ، فلم ينفعني إلا سيدةُ «المكبوسين» فاستويت على قدمَيَّ. تحنَّنت هذه «السيدة» على الوالدة فمشى ابنها «المكبوس» مشيةَ الجوادِ المشكول، ولكنه رأى حوله سورًا من الناس أطول من سور الصين، سورًا لا يفر منه إلا ليصطدم بجُدرانه، إنْ يظنَّ أنه أفلت من بين حيطانه إذا هو فيه، فكأنه عينُ ضمير قاين.

الناس، وما أَشدَّ فضولَ الناس! هذا يزجُرني، وتلك توبِّخني، وذلك يُرشِدني، فكيفما اتَّجَهت أُضايقهم ويضايقونني، كأني ابنُهم جميعًا وكأنهم كلُّهم أَولياء عليَّ.

وازداد تقيُّدي بالناس لما صرت أفهم عن أَبي وأُمي؛ إن تحرَّكتُ قال الوالد للوالدة: يا مرأة، ربِّي ابنك مثلَ الناس. وإذا توحَّشتُ قالت هي: البَسْ ثيابَك مثلَ الناس. أسمَعُ هذا فلا آخُذُ ولا أُعطي، ويعلو صياحي وضجيجي فتصرخ بي: استَحِ من الناس. وألتفتُ فلا أَرى حولي أَحدًا غيرها، فأَرفع عقيرتي هاتفًا: وأينَ الناس يا أُمي. فتقول لي: لا ترَفع صوتك، أنا «طرشا»؟ احكِ مثلَ الناس. وإذا تراقصتُ في مَشيةٍ مدفوعًا بنزقِ الصَّبوة صاحت: امشِ مثلَ الناس يا صبي. وأخيرًا تنتهرني فأركضُ وتركُض خلفي، فتعجبها خِفَّتي فتقفُ ضاحكة، فتصيح بها جارتنا العنيفة: عافاكِ يا أمَّ مارون، اضحكي له اضحكي، ربِّيه مثلَ الناس.

أما الوالد — رَحمة الله على ترابه — فكان له أداتان يسبُكني بواسطتهما في قالَب الناس: قضيبٌ ولسانٌ أَمرُّ من القضيب، إذا تحرَّكتُ في مقعدي وقفَ حاجباه على سِلاحِهما استعدادًا للطوارئ، ثم يصيح بي: اقعد مثلَ الناس. وإن ترنَّمت صباحًا — وصوتي رخيم كما تعرفون — انتهرني قائلًا: سَبِّحْ رَبَّك مِثلَ الناس، بهيم أنتَ؟ وإن مددتُ يديَّ إلى الزاد قبلهم أو كبَّرتُ لُقمتي، انتهرني بقوله: كُلْ مثلَ الناس. وإذا ضحكت ضحكة ليست على الوزن والقافية المفروضين، قال لي: اضحك مثلَ الناس. وكثيرًا ما كان ينهاني عن الضحك عملًا بالمادة المشهورة من قانون آداب المجالس: «ضحكٌ بلا عجب، من قلَّة الأَدب.»

هكذا كانت كلمة «الناس» حِملًا ثقيلًا على ظهري، وشريطًا شائكًا في طريقي أصطدم به أينما اتجهت، فنشأت عبدًا للناس يسيطرون عليَّ ويسيرونني كما تشاء أهواؤهم وعُرفهم وتقاليدهم، كأني لا أعيش لنفسي بل لهم، كأني مرتبط بهم بناموسٍ أشد من ناموس الجاذبية، لا يحول ولا يزول ولو مات أَحد الأجرام كالقمر مثلًا. كلما قلت أحطم هذه السِّلسلة التي يسمونها الناس، أجدني مقيَّدًا بها من جديد، إنها لَأَغرب من أساطير ألف ليلة وليلة.

أَجل إن كلمة الناس أثقل عبءٍ يُلقى على ظهور الناس، فمَن منَّا لا يستجدي إعجابهم، وكم فينا مَن يحمِّل نفسه فوق طاقتها ليظهر بمظهر يرضيهِم ويلفت أنظارهم إليه، فيقضي العمر وشبحُ الهمِّ يماشيه كظِلِّه، يأكل معه في صحنه، وينام معه في فِراشه. وكم من امرأة خربَت بيتها لتكون على حد قولها: مثل الناس ولا بأس.

اسمعوها تخاطب زوجها: ماذا يقول عنا الناس إذا رأوا بنطلونَك مرفُوءًا؟ اشترِ غيره. وماذا يقول عنا البشر إذا جاء العيد وليس لابننا طقم جديد، ولبنتنا فسطان من أحدث طراز؟ وماذا يقول عنا الناس إذا لم نشترِ كذا كذا، ولم نأكل كذا كذا، ولم نعمل Soirée وAprés-Midi؟ وتظل تقول: الناس … الناس … حتى تدكَّ البيتَ من الأساس.

غريبة كلمة الناس، ما أعظم سلطانَها على العقول! لا أقول الناس بلاء الناس كما يقولون، ولكني أقول: الناس تسيِّر الناس، وليس أحد منا حرًّا في ذاته، فمن يزعم أنه لا يبالي بهم يخدع نفسه، إنه أَشَدُّنا تهافتًا عليهم، ومن حسِب أنه معلمُهم فهو أحد تلاميذ مدرستهم، إن شاءوا منحوه الشهادة بامتياز، وإلا عاد محترِق الفؤاد يردد: ما أصعب مرضاة الناس!

إن كلمة «الناس» نطَّار منصوبٌ في مقثأة الإنسانية ليرد عنها الثعالب، وهي الخفير الدائم على أبواب كهوف التقاليد، حالت وتحول دون رذائل كثيرة ما كنا نتأَبَّاها لولا أعينُ الناس، وأقصرنا نظرًا مَن ظنَّ أنه يتغلَّب على الناس بغير الناس، ففي كل عبقرية أثر من عبودية الناس، فأنا وأنت وهو جميعنا عبيد الناس ولا نحيا إلا بهم.

أما قال المسيح لتلاميذه: مَن يقول الناسُ إني أنا ابن الإنسان؟ فرددوا له أقوالهم فيه، فسألهم: وأنتم مَن تقولون إني أنا هو؟ فأجابه بطرس: أنت المسيح ابن الله الحيِّ.

إن جوابَ التلميذ لمعلمه، وهو واحد من الناس، لَفَجْرٌ ورديٌّ انبثق منه عهد وعالم جديدان.

فهل أَلوم أبي وأُمي إذا كانت كلمة الناس نجمةَ القطب عندهما، يراعيانها في بحر الحياة خوفًا من التيه والسقوط في اللُّجَّة؟

ففي خلوتنا الخرساء نسمع ضجيج الناس الصاخب، وفي عُزلتنا نحِسُّ أنهم حولنا يتجولون في مُخَيِّلَتِنا جَولان أشباح الغوغاء على الشاشة البيضاء. كانوا في انتظاري عند المهد، وسيجذفون قاربي ليبلغ ميناء اللحد، وإن حسبت يومذاك أني نجوت منهم لأني نمت عنهم، فشِباكهم ستلحَقُني إلى بحر الظلمات.

كل امرئ رهن غربالهم، سوف ينصبون ميزانهم ساعة ينفضون يدهم من ترابي، ويا ويلي إن شلت في ذلك الميزان.

فإن كنتَ تخشى ألسنة الخلق، وتصدِّق أنها أقلام الحق، فاعمل بالمثل القائل: «كُلْ ما تشتهيه نفسك، والبسْ ما يعجب الناس.» ومعنى هذا وقوف الدولاب وبقاء القديم على قدمه، ليس ذلك من نواميس الطبيعة؛ فالطبيعة تركض وتوصينا لنسرع معها، وإن وقفنا جرفنا تيارها، فَلْنركضْ.

إن الطبيعة تهدم اليوم ما بنته أمسِ، فلا يفزعك هذا الخراب، واعلمْ أن الحياة ترقص بين النوائح حول التابوت، أما نحن فلسنا نراها لأننا نحب الركود، نؤثر أن نعيش أمواتًا على أن نحيد عن الدرب ليمشي أبناؤنا ولا يعثروا بنا.

أرأيت الولد في عبثه كيف يعمِّر ويخرب؟ إنه يقلِّد أمه الطبيعة، فهي لا ترفع عرشًا حتى تدكَّه وتجعله شعلة لإحدى ثورات اليوم الثامن.

قد تقول: وما هو هذا اليوم الثامن؟ اسمع فأعرِّفك بهذا المخلوق الجديد العجيب.

في ستة أيام خلق ربُّك السموات والأرض، وفي اليوم السابع استراح الجبار وتنفس الصعداء … أما اليوم الثامن فهو يومنا نحن، أعني يوم الناس، يومٌ صباحُه الأَزَل ومساؤه الأَبَد، فلا يكون صباح ولا يكون مساء حتى تحبل الإرادة الإنسانية وتلد العجائب.

اليوم الثامن جبهة سرمدية، لا تهدأ جنودها ولا ينفد عتادها، تنقض صواعق الأيام السبعة فتقتل حمارًا أو تشقِّق جدارًا، وتهبط صواعق اليوم الثامن فيغمر الأرض طوفان الموت والخراب.

لم يسترِحْ ربُّك إلا حين خلق ابنًا على صورته ومثاله، أطلق يده فيما أعدَّ له ميراثًا، وخبَّأ له الكنوز في الماء والهواء، وبيَّن الجمادات والأحياء ليأكل خبزه بعرق جبينه كما وصَّاه … فانتزع هذا الابن الذكي تلك الكنوز من مخابئها، وسَيظل يَجِدُ ما دام يَجِدُّ.

قُلْ سبحان ربك في ملكه، فهو من جعل كلمة «الناس» قوَّامة على الناس … وذَرِ المنطقَ ودَعِ القياسَ؛ فالفرض ضروري لحل المعضلات واستخراج المجهولات …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤