الفصل العاشر

روسيا والمنطقة المركزية المستقلة

«أدَّت جاذبية فراء الحيوانات إلى جلب أوائل المستكشفين إلى هذا الجانب الجليدي الآخر من العالم، وهم الذين سيحضرون لاحقًا من أجل الموارد الطبيعية.»

المؤلف
يفتح ألكسندر سولجينيتسين Solzhenitsyn روايته الملحمية عن الحرب العالمية الأولى، أغسطس ١٩١٤م، بقصيدة حماسية عن سلسلة جبال القوقاز، وهي التي «بكل ثلمة منفردة منها … ذات البياض الساطع والتجاويف الزرقاء العميقة … تسمو على نحوٍ شاهق فوق المخلوقات البشرية التافهة، بحيث صارت أساسية elemental، حتى في عالم من صنع الإنسان، إلى درجة أنه حتى لو فتح كل الرجال الذين عاشوا في كل السنين الماضية أذرعهم بأقصى ما في وسعهم وحملوا كل الأشياء التي صنعوها منذ بدء الخليقة، وكدسوها جميعًا في أكوام ضخمة، فلن يكون في وسعهم أبدًا إنشاء سلسلة من التلال الجبلية بمثل روعة جبال القوقاز». ويستطرد سولجينيتسين في هذا السياق، فيكتب عن «المساحات الثلجية»، و«الجروف المنحدرة الجرداء»، و«الشجوج والروافد»، و«الشدف الضبابية التي لا يمكن تمييزها عن السحب الحقيقية».١
وعلى مر التاريخ، أخذت جبال القوقاز الروس، وهم من أشد القوميين تطرفًا مثل سولجينيتسين، بكلٍّ من الخوف والرهبة. وفي هذا المكان، الواقع بين البحر الأسود وبحر قزوين، يوجد الجسر البري الذي تختفي عبره أوروبا تدريجيًّا وسط سلسلة من الجبال التي تمتد على مسافة ستمائة ميل، فيما يبلغ ارتفاعها ثمانية عشر ألف قدم؛ والتي تخلب الألباب بجمالها اللَّماع، خصوصًا بعد المساحة الشاسعة والمسطحة لأراضي السهوب الواقعة إلى الشمال. تمثِّل هذه منطقة الغرب البري لروسيا، على الرغم من أن الجبال تقع إلى الجنوب من موسكو وسانت بطرسبرغ. وفي هذا المكان، واعتبارًا من القرن السابع عشر، حاول المستعمرون الروس إخضاع تشكيلة من الشعوب الأبيَّة: الشيشان، والإنغوش، والأوسيتيين Ossetes، والداغستانيين Daghestanis، والأبخاز، والجورجيين Kartvelians، والكاخيتيين Kakhetians، والأرمن، والأذربيجانيين، وغيرهم. وهنا، واجه الروس الإسلام بكلٍّ من شكليه المعتدل والمتشدد. إن ردة الفعل العاطفية المعقَّدة للروس تجاه حقيقة جبال القوقاز ذاتها، التي تُعذبهم وتهددهم في الوقت نفسه، تفتح لنا نافذةً على القصة الروسية بأكملها.

تمثِّل روسيا القوة البرِّية المتفوقة في العالم؛ كونها تمتد عبر ١٧٠ درجة من خطوط الطول، وهو ما يبلغ نصف قطر العالم بأسره تقريبًا. يقع منفذ روسيا الرئيسي على البحر إلى الشمال، لكنه يتعرَّض للانسداد بواسطة جليد القطب الشمالي طوال شهور عديدة من السنة. وتتسم القوى البرِّية بأنها غير آمنة على الدوام، كما ألمح إليه ماهان. ومن دون بحار تحميهم، فسيظلون غير راضين على الدوام ومضطرين إلى مواصلة التوسُّع أو التعرض للغزو هم أنفسهم. ويتَّسم هذا بصحته بالنسبة إلى الروس على وجه الخصوص، الذين تتَّسم أرضهم الشاسعة المسطحة بأنها شبه خالية من الحدود الطبيعية؛ مما يوفر القليل من الحماية. يمثِّل خوف روسيا من الأعداء البريين أحد الموضوعات الرئيسية لماكيندر. لقد اندفع الروس إلى أوروبا الوسطى والشرقية لصد هجمات فرنسا في القرن التاسع عشر وألمانيا في القرن العشرين؛ كما اندفعوا تجاه أفغانستان لاعتراض سبيل البريطانيين في الهند والسعي إلى الحصول على منفذ على المياه الدافئة للمحيط الهندي، واندفعوا إلى الشرق الأقصى لاعتراض سبيل الصين. أما بالنسبة إلى جبال القوقاز، فقد شكَّلت تلك الجبال حاجزًا ينبغي أن يهيمن عليه الروس لكي يكونوا في مأمن من الثورات السياسية والدينية في الشرق الأوسط الكبير.

وثمَّة حقيقة جغرافية أخرى حول روسيا؛ ألا وهي برودتها القارسة. يقع الجزء الشمالي من الولايات المتحدة عند الخط الموازي ٤٩ لخط العرض الشمالي، حيث تبدأ كندا. لكن القسم الأعظم من روسيا يقع إلى الشمال من خط العرض ٥٠، بحيث يقطن السكان الروس منطقةً ذات مناخ أشد برودة من حيث يعيش الكنديون، الذين يعيش معظمهم في طول الحدود مع الولايات المتحدة. «وبسبب خطوط العرض، والبُعد عن البحار المفتوحة، والتأثيرات الحاجزة للجبال، والطبيعة القارية continentality»، كما كتب الجغرافي شاءول كوهين Cohen؛ وبالتالي فإن مناخ روسيا يترك معظمها أبرد بكثير وأكثر جفافًا بكثير مما يسمح بالاستيطان المستديم والواسع النطاق.٢
لكن جبال القوقاز، جنبًا إلى جنب مع أجزاء الشرق الأقصى الروسي القريبة من الحدود الكورية الشمالية، تمثِّل استثناءات لهذا المبدأ؛ وبالتالي، فمن بين عوامل الجذب الأخرى لجبال القوقاز، نجد حرارتها المعتدلة نسبيًّا عند خط العرض ٤٣ درجة.٣ صحيح أن المناخ والمناظر الطبيعية الروسية تتَّسم بوعورتها الشديدة؛ وبالتالي تحمل مفاتيح شخصية character الروس وتاريخهم.
يبدو أن البرد القارس قد طوَّر لدى الروس «قدرة على تحمُّل المعاناة، ودرجة معينة من الطائفية communalism، وحتى الاستعداد للتضحية بالفرد من أجل المصلحة العامة»، كما كتب المؤرخ المتخصص في الشأن الروسي، فيليب لونغويرث Longworth، الذي أوضح أن موسم الحصاد القصير في خطوط العرض الشمالية العليا تطلَّب وجود «علاقات متبادلة بين المزارعين»، فضلًا عن «بذل جهود محمومة ومضنية، وقضاء ساعات طويلة في الحقل، وحشد الأطفال»؛ لأنه يجب القيام بكلٍّ من عمليتَي البذر والحصاد على عجَل. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الفوائض المنخفضة بسبب البرد قد شجعت أفراد النخبة في الدولة الروسية الناشئة على السيطرة على مناطق شاسعة؛ مما أدَّى إلى وأد حافز المزارعين للعمل بجدٍّ من دون إكراه، كما أسهم في خلق «نزعة عنيفة» في الحياة اليومية.٤ إن الشيوعية الروسية، إضافة إلى إظهارها لاحتقارٍ معيَّن للحريات الشخصية حتى وقت قريب، قد استمدت جذورها من المشهد المتجمد. إن إزالة الغابات، وبناء الكنائس والتحصينات في السهول الجليدية، وترديد الصلوات الأرثوذكسية كلها تُشير إلى طائفية Communalism تقشعر لها الأبدان.
مفتاح الخريطة
مولدوفا Moldova
البحر الأسود Black sea
شبه جزيرة القرم Crimea
بحر البلطيق Baltic sea
ليتوانيا Lithuania
لاتفيا Latvia
إستونيا Estonia
روسيا البيضاء Belarus
أوكرانيا Ukraine
كييف Kiev
بحر آزوف Sea of Azov
جورجيا Georgia
القوقاز Caucasus
أرمينيا Armenia
أذربيجان Azerbaijan
بحر قزوين Caspian sea
انظر خريطة التفاصيل (أسفل، إلى اليسار) See detail map (below left)
نهر الفولغا Volga river
سهل أوروبا الشرقية East European plain
نهر الدون Don river
نهر الدنيبر Dnieper r.
البحر الأبيض White sea
سانت بطرسبرغ St. Petersburg
تتارستان Tatarstan
سمولينسك Smolensk
نوفغورود Novgorod
موسكو Moscow
فلاديمير Vladimir
تنجيز Tengiz
هراسنوفودسك Hrasnovodsk
صحراء كاراكوم Karakum desert
ميرف Merv
بحر آرال Aral sea
صحراء كيزيلكوم Kyzylkum desert
كازاخستان Kazakhstan
تنجيز Tengiz
وادي سير داريا Syr Darya valley
أوزبكستان Uzbekistan
سمرقند Samarkand
طاجيكستان Tajikistan
قيرغيزستان Kyrgyzstan
المحيط المتجمد الشمالي Arctic ocean
بحر بارنتس Barents sea
بحر كارا Kara sea
نهر أوب Ob river
جبال الأورال Ural mountain
تتارستان Tatarstan
روسيا Russia
سيبيريا Siberia
نهر لينا Lena river
نهر إرتيش Irtych river
نهر ينيسي Yenesei r.
الصين China
سهل سيبيريا الغربي West Siberian plain
بحر أوخوتسك Sea of Okhotsk
نهر آمور Amur river
نهر أوسوري Usuri r.
بحر اليابان Sea of Japan
منغوليا Mongolia
هضبة سيبيريا الوسطى Central Siberian plateau
أميال Miles
كلم Km
بحر سيبيريا الشرقي East Siberian sea
بحر لابيو Lapeu sea
نهر لينا Lena river
الدائرة القطبية الشمالية Arctic circle
بحر تشوكشي Chukchi sea
بحر بيرينغ Bering sea
روسيا Russia
الشيشان Chechnya
القوقاز Caucasus
البحر الأسود Black sea
باتومي Batumi
تركيا Turkey
أرمينيا Armenia
أذربيجان Azerbaijan
إيران Iran
باكو Baku
أذربيجان Azerbaijan
بحر قزوين Caspian sea
داغستان Dagestan
انظر خريطة التفاصيل (أسفل، إلى اليمين) See detail map (below right)
سير داريا Syr Darya
شمكنت Chimkent
طشقند Tashkent
كازاخستان Kazakhstan
قيرغيزستان Kyrgyzstan
وادي فرغانة Ferghana valley
فرغانة Ferghana
الصين China
دوشنبه Dushanbe
طاجيكستان Tajikistan
خوروغ Khorog
أفغانستان AFG
يتألف الحزام الشمالي لروسيا بين الدائرة القطبية الشمالية والمحيط المتجمد الشمالي من سهول التندرة المتجمدة والعديمة الشجر، والتي تغطيها الأشنات والحزاز lichen وعندما يذوب الجليد في الصيف، يغطي الوحل الأرض التي تعج بقطعان البعوض العملاق. وإلى الجنوب من التُّندرة، تكمن التايغا taiga، وهي أكبر الغابات الصنوبرية في العالم، والتي تمتد من بحر البلطيق إلى المحيط الهادي؛ كما أن نحو ٤٠ في المائة من مساحة سيبيريا والشرق الأقصى الروسي مغطاة بالأراضي الدائمة التجمد. وأخيرًا، ففي جنوب روسيا، وبطول الطريق من السهل الهنغاري في الغرب، وعبر أوكرانيا، وشمال القوقاز، وآسيا الوسطى إلى أقاصي منشوريا، تقع السهوب، وهي أوسع الأراضي العشبية في العالم، أو «الطريق العشبي العظيم»، على حدِّ تعبير الباحث في الشئون الروسية، دبليو بروس لينكولن Lincoln.٥ كما كتب ماكيندر، فقد كان الروس في الأصل شعبًا محتشدًا في التطويق المستتر للغابة؛ وهم الذين، من أجل أمنهم، كان عليهم تتبُّع وقهر البدو الآسيويين القادمين من السهوب إلى الجنوب والشرق — وذلك اعتبارًا من منتصف العصور الوسطى إلى أوائل العصر الحديث. وعلى وجه الخصوص، فإن الوجود المطوَّل والمهين للمغول — القبيلة الذهبية بالقرب من مُسكوفيا Muscovy القرون الوسطى والقبيلة الزرقاء في آسيا الوسطى — قد أدَّى دورًا في حرمان روسيا من تجربة عصر النهضة، ومنح ضحاياه من السلاف الأرثوذكس الشرقيين عددًا من القواسم المشتركة، والطاقة، والشعور بالهدف، وهي أمور كان لها أثر بالغ الأهمية في تمكينهم في نهاية المطاف من الخروج من نير عبودية التتار وضم مساحات شاسعة من الأراضي خلال القرون الأخيرة.٦ إن عبودية التتار، وفقًا للمؤرخ ج. باتريك مارش March، قد غرست في الروس «قدرة أكبر على تحمُّل الاستبداد»، وفي الوقت نفسه عوَّدتهم على الحرمان وأصابتهم «بخوف زوراني paranoid من الغزو».٧
إن انعدام الأمن هو العاطفة الوطنية الروسية الجوهرية؛ أي إن «الرغبة في إيجاد كلٍّ من الأسباب والمبررات في التاريخ قد نبعت من انعدام الأمن في السهول الشرقية»، كما كتب أمين مكتبة الكونغرس جيمس بيلينغتون Billington في مجلده الضخم عن الثقافة الروسية، «الأيقونة والفأس». إن «الجغرافيا، وليس التاريخ»، كما يقول، قد سيطرت على التفكير الروسي:
تسيطر على حياة الفلاحين العاديين دورات موسمية قاسية، وعدد قليل من الأنهار المتباعدة، وأنماط متفرقة من الأمطار وخصوبة التربة؛ كما أن انحسار وتدفق الغزاة من البدو الرُّحَّل كثيرًا ما بدا بأنه أكثر قليلًا من حركة لا معنى لها لكائنات سطحية على بحرٍ ثابت وغير مواتٍ.٨

وبعبارةٍ أخرى، فإن انبساط التضاريس الروسية نفسه؛ كونها تمتد من أوروبا إلى الشرق الأقصى، مع قليل من الحدود الطبيعية في أي مكان، وميلها إلى أن تضم مستوطنات متناثرة في مقابل التجمعات الحضرية، أدَّى خلال فترات طويلة إلى ظهور مشهد من الفوضى، والتي كانت كل مجموعة فيها تعاني من انعدام الأمن على نحوٍ مستديم.

وبالنظر إلى تجمُّعهم في الغابات في حين يتربص بهم أعداؤهم في السهوب، التجأ الروس إلى كلٍّ من الروحانية animism والدين. وكما كتب بيلينغتون، فإن مهرجان عيد الفصح الأرثوذكسي الذي يحل في فصل الربيع قد «اكتسب حدَّة خاصَّة في الشمال الروسي». إن تحية عيد الفصح التقليدية لم تكن «عيد فصح سعيد» اللطيفة المنتشرة في الغرب الحديث، بل كانت تأكيدًا مباشرًا على الحقيقة المحورية للتاريخ المقدس، فكانت «لقد قام المسيح!»، وكان الرد: «لقد قام بالفعل!» ولا يشير هذا إلى «قيامة» المسيح فقط، بل إلى الطبيعة كذلك؛ باعتبار أن فصل الشتاء الطويل والمظلم كان على وشك الانتهاء، مع تساقط الثلج عن الأشجار التي تطرح أوراقها. تحتوي المسيحية الأرثوذكسية الشرقية على أكثر من تلميح إلى الوثنية، في حين كانت الشيوعية الروسية، بتركيزها البلشفي على الشمولية تمثِّل شكلًا آخر من أشكال الدين الروسي؛ وهو المقابل العلماني للأرثوذكسية، وفقًا للمفكر الروسي الذي عاش في أوائل القرن العشرين، نيكولاس برداييف Berdyaev. وكما يُظهر عنوان كتاب بيلينغتون، فقد كانت الأيقونة بمنزلة تذكرة حية لسكان الحدود المنهكين بقوة عقيدتهم الأرثوذكسية، وبالأمن والهدف الأسمى الذي تحمله في طيَّاتها، في حين أن الفأس «كانت الأداة الأساسية لروسيا العظمى؛ أي الوسيلة التي لا غنى عنها من أجل إخضاع الغابة».٩ لأغراضهم الخاصَّة.
وبعبارةٍ أخرى، فإن الشمولية الدينية والشيوعية لروسيا قد عادت لهذا الشعور بانعدام الحماية في الغابة بالقرب من السهوب، والذي غرس في أذهان الروس، نتيجةً لذلك، الحاجة إلى الغزو. ولكن لأن الأرض كانت مسطحة، ولأنها ترتبط عضويًّا في اتساعها بآسيا والشرق الأوسط الكبير، فقد تعرضت روسيا نفسها للغزو. وفي حين تعرضت الإمبراطوريات الأخرى للصعود، والتوسع، والانهيار؛ بحيث لم يعد يسمع أحد عنها، فقد توسَّعت الإمبراطورية الروسية، وانهارت، وأعيد إحياؤها لمرات عديدة.١٠ تُظهر الجغرافيا والتاريخ أننا لا نستطيع أبدًا أن نستبعد روسيا من حساباتنا؛ وبالتالي فإن انبعاث روسيا من جديد في عصرنا الحالي بعد تفكك الإمبراطورية السوفييتية ليس إلا جزءًا من قصة قديمة.
إن أول إمبراطورية روسية كبرى، وهي بالفعل أول دولة عظمى في أوروبا الشرقية، كانت كيفان روس Rus Kievan، والتي ظهرت في منتصف القرن التاسع في كييف، والواقعة في أقصى جنوب المدن التاريخية على ضفاف نهر الدنيبر. وقد سمح هذا لكيفان روس بأن تكون على اتصال دائم مع الإمبراطورية البيزنطية إلى الجنوب؛ مما سهَّل عملية تحوُّل الروس إلى المسيحية الأرثوذكسية، والتي، كما نعلم، ستتعزز بالحدة الخاصَّة التي منحها لها الروس، بناءً على تجربتهم الخاصَّة مع الطبيعة الشتوية القاسية.

لقد فرضت الجغرافيا أيضًا أن تشكِّل كيفان روس توحيدًا ديموغرافيًّا بين الفايكنغ الاسكندنافيين (القادمين عبر الأنهار من الشمال) وبين السلاف الشرقيين من سكان البلاد. وقد عنت التربة الفقيرة في المنطقة وجوب غزو مساحات كبيرة من الأراضي في سبيل توفير الإمدادات الغذائية؛ وبالتالي بدأت الإمبراطورية في التشكُّل، وهي التي جمعت بين قوتين إقليميتين ديناميتين، هما الفايكنغ والبيزنطيون. أما النتيجة فكانت روسيا، بوصفها مفهومًا جغرافيًّا وثقافيًّا.

كافحت كيفان روس على الدوام ضد البدو الرُّحَّل الآتين من السهوب. وفي منتصف القرن الثالث عشر، دُمِّرت في نهاية المطاف على يد المغول بقيادة باتو خان Batu Khan، وهو حفيد جنكيز خان. أدَّت السنوات المتتالية من الجفاف في أراضي الرعي التقليدية إلى دفع المغول باتجاه الغرب بحثًا عن مراعٍ جديدة لخيولهم، وهي التي كانت مصدرًا لكلٍّ من طعامهم وقدرتهم على التنقل. وهكذا، تم سحق أول محاولة كبرى للتوسع الإمبراطوري الروسي إلى المنطقة المركزية لأوراسيا.
وكانت النتيجة أنه، من خلال تحركاتٍ وتحركات مضادة لا تعدُّ ولا تحصى، وإضافةً إلى الأحداث الدرامية السياسية التي مثَّلت مادة الفاعلية الإنسانية، تحوَّل التاريخ الروسي إلى الشمال — تدريجيًّا — إلى مدن مثل سمولينسك، ونوفغورود، وفلاديمير، وموسكو، حيث بلغت موسكو ذروة قوَّتها في القرون الوسطى اللاحقة؛ وقد تميزت هذه القرون الوسطى بدورها، كما رأينا، بالاستبداد وجنون العظمة، وهي التي كانت ناتجة جزئيًّا عن ضغوط المغول. وقد ساعد في صعود موسكو إلى مكانة بارزة موقعها المُواتي للتجارة؛ كونها تقع على طرق نقل البضائع بين الأنهار الواقعة في الحوض المتوسط والعلوي لنهر الفولغا. وكما كتب بروس لينكولن: «تقع موسكو في وسط المرتفعات التي تنبع فيها الأنهار الكبرى لروسيا الأوروبية … كانت مركزًا تتحرك انطلاقًا منه الطرق النهرية السريعة الروسية على نحوٍ متعرج إلى الخارج، مثل البرامق spokes غير منتظمة الشكل لعجلة غير متوازنة.»١١ ومع ذلك، فلأن الروس في هذه المرحلة من تاريخهم كانوا يتجنَّبون السهوب التي يجوبها التتار، فقد ركَّزوا جهودهم على مواصلة تطوير أراضي الغابات التي لا يمكن اختراقها، حيث يمكن للدولة أن تتلاحم على نحوٍ أفضل.١٢ كانت مسكوفيا في القرون الوسطى محاطة وغير ساحلية تقريبًا. وإلى الشرق منها، لم يكن هناك سوى التايغا، والسهوب، والمغول. أما إلى الجنوب، فقد حرم الأتراك والمغول الذين يعيشون على السهوب مسكوفيا من الوصول إلى البحر الأسود. وإلى الغرب والشمال الغربي، حرمها السويديون والبولنديون، والليتوانيون من الوصول إلى بحر البلطيق. ولم يكن إيفان الرابع Ivan IV «الرهيب» (١٥٥٣–١٥٨٤م)، يمتلك إلا وصولًا إلى ساحل واحد فقط، كان بالكاد صالحًا للاستعمال، في أقصى الشمال؛ وهو البحر الأبيض، الذي يمثِّل مدخلًا إلى المحيط المتجمد الشمالي. ولكونهم مهدَّدين على كلٍّ من الجانبين بسهلٍ لا نهاية له، فلم يكن أمام الروس من خيار سوى محاولة الخروج، وهو ما فعلوه تحت حكم إيفان الرابع.
كان إيفان الرهيب شخصيةً تاريخية مثيرة للجدل، سواء بوصفه وحشًا أو بطلًا شعبيًّا، ويمثِّل لقبه ترجمة مضلِّلة للفظة «غروزني» Groznyi، بمعنى المرعب، وقد خلعه عليه أنصاره بفعل عقابه للمذنبين. وقد أثبت إيفان أنه في زمانه ومكانه، كان الترياق الوحيد للفوضى هو الاستبداد المطلق. كان إيفان هو الأول بين كبار الإمبرياليين الروس، وهو دور أُلقي عليه جزئيًّا بفعل العوامل التاريخية والجغرافية. ففي العام ١٤٥٣م، هُزمت بيزنطة اليونانية على أيدي الأتراك العثمانيين، وتسرَّب اللاجئون اليونانيون شمالًا من القسطنطينية إلى موسكو، حاملين معهم الخبرة السياسية والعسكرية والإدارية البالغة الأهمية في بناء الإمبراطوريات. تمكَّن إيفان، بعدما صار القيصر، من هزيمة تتار قازان؛ مما منحه وصولًا إلى جبال الأورال؛ وفي فترةٍ لاحقة من حكمه، أقدم على خطوةٍ كبرى في سبيله لغزو سيبيريا بانتصاره على خانية khanate سيبير المغولية بالقرب من نهر إرتيش، إلى الشمال الغرب من منغوليا الحالية. تلخِّص قسوة إيفان ودهاؤه ما تعلَّمه شعبه من أجيال من «التعاملات الصبورة والمطواعة» مع الآسيويين.١٣ كانت سرعة الاقتحام الروسي لهذا المشهد الواسع هائلة إلى درجة أنه بعد أقل من ستة عقود؛ أي في أوائل القرن السابع عشر، كان الروس قد وصلوا إلى بحر أوخوتسك Okhotsk، على حافة المحيط الهادي.
سعى إيفان أيضًا إلى غزو الجنوب والجنوب الشرقي، وبالتحديد خانية أستراخان المسلمة، وهي شعبة من القبيلة الذهبية كانت تُشرِف على مصبِّ نهر الفولغا والطرق المؤدِّية إلى منطقة القوقاز، وبلاد فارس، وآسيا الوسطى. كانت هذه أرض قبيلة النوغاي Nogai، وهي قبيلة من الأتراك الرُّحَّل الذين كانوا يتحدثون بإحدى لهجات لغة الكبشاق Kypchak. وعلى الرغم من أن النوغاي كانوا أعداء سياسيين لمسكوفيا، فقد كانوا يمارسون التجارة مع تلك الإمارة، كما رحبوا بقيام جيوش إيفان بالمحافظة على أمن الطرق الرئيسية. كان بحر أرض المراعي ضخمًا بصورةٍ معقَّدة، وقد شن فيه المغول والتتار، بجيوشهم المتداخلة أحيانًا، الحروب — كما مارسوا التجارة أيضًا — مع الروس.
مفتاح الخريطة
مسكوفيا في القرون الوسطى Medieval Muscovy
مسكوفيا في العام ١٣٠٠م Muscovy in 1300
مسكوفيا في العام ١٤٦٢م Muscovy in 1462
روسيا في العام ١٥٩٨م Russia in 1598
شبه جزيرة كولا Kola peninsula
بحر بارنتس Barents sea
الدائرة القطبية الشمالية Arctic circle
البحر الأبيض White sea
بحر البلطيق Baltic sea
إقليم نوفغورود Novgorod territory
نيجنيونوفغورود Nizhniynnovgorod
موسكو Moscow
مشكيرا Meshchera
نهر الفولغا Volga river
نهر الدون Don river
نهر الدنيبر Dnieper river
بحر آزوف Sea of Azov
البحر الأسود Black sea
القوقاز Caucasus
بحر قزوين Caspian sea
بحر آرال Aral sea
خانية أستراخان Khanate of Astrakhan
أميال Miles
كلم km

ولنتذكر أنه بمثل وعورة وتعقيد الأرض المستوية، كانت سلسلة جبال القوقاز أكثر منها في ذلك؛ وبالتالي أشد غرابة في أعين الروس، من حيث كونها تمثِّل الهاجس الروسي معهم.

كان إيفان لا يعرف الكلل، ففي أعقاب انتصاره في الجنوب، شنَّ الحرب على المنطقة التي تمثِّلها إستونيا ولاتفيا في الوقت الحاضر من أجل تأمين مجثمٍ perch له على بحر البلطيق، لكنه هُزم من قِبل تحالف من الرابطة الهانزية Hanseatic League وجماعة ليفونيا الألمانية Order of Livonia. أدَّى هذا إلى عزل روسيا عن الغرب على نحوٍ حاسم، حتى على الرغم من تأثرها بنزع أراضيها حديثًا في الشرق الأوسط وآسيا.
أدَّت الحركة الروسية الأولى لتشكيل إمبراطورية قارِّية في أواخر القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر إلى ترسيخ سمعة القوزاق Cossacks، الذين استخدمتهم الدولة الروسية لتدعيم موقفها في القوقاز. على الرغم من أن كلمة «القوزاق»، أو القازاق kazak، كانت تشير في الأصل إلى المحاربين المرتزقة من التتار، فقد صارت لفظة القوزاق تشير إلى الأفراد الروس، والليتوانيين، والبولنديين، الذين شعروا بالإحباط من الظروف القاسية في الضِّياع التي ينتمون إليها؛ ومن ثم هاجروا إلى السهوب الأوكرانية. وهناك، في ظل الظروف التي تسودها الفوضى على الحدود المنغولية السابقة، كانوا يعيشون كلصوص، وتجار، ومستعمرين، ومرتزقة، متحولين تدريجيًّا إلى وحدات غير نظامية في جيش إيفان لأنهم كانوا محاربين أشداء على الرغم من أجورهم الزهيدة. وقد ظهرت مستوطنات القوزاق في وديان الأنهار، وخصوصًا واديَي نهرَي الدون والدنيبر.١٤ وكما اتفق، فإن رواية نيكولاي غوغول Gogol الكلاسيكية «تاراس بولبا» Taras Bulba، التي نُشرت لأول مرةٍ في العام ١٨٣٥م، قبل أن تصدر بنسختها النهائية بعد عقدٍ من الزمن، هي قصة عن قوزاق نهر الدنيبر. كان غوغول قوميًّا روسيًّا، لكنه رأى روسيا الأصلية الحقيقية في أوكرانيا (وهي كلمة تعني «الأرض الحدودية»)، وهي التي أدَّت سهوبها المتواصلة من دون عوائق — والتي تفتقر إلى الحدود الطبيعية ويغذيها عدد قليل نسبيًّا من الأنهار الصالحة للملاحة — إلى جعل شعوبها المتناحرة ميالة إلى الحرب. وعلى الرغم من أن غوغول استخدم عبارات «الروس»، و«الأوكرانيين»، و«القوزاق» للإشارة إلى هويات محددة، فقد أدرك أيضًا أن هذه الهويات تتداخل فيما بينها (كما لا تزال تفعل الهويات المحلية).١٥ تتَّسم رواية غوغول بكآبتها بفعل العنف الذي لا يتوقف. وفي حين أن الغياب الكامل للبشرية الذي صُوِّر في هذه الصفحات هو عمل أفراد يتخذون خياراتهم الفظيعة الخاصَّة، فمن الصحيح أيضًا أن العنف الذي تحتويه رواية تاراس بولبا يمثِّل، ولو جزئيًّا على الأقل، تعبيرًا عن جغرافية السهوب الروسية والأوكرانية، حيث أدَّى التسطُّح، والقارية، وطرق الهجرة إلى وقوع النزاعات وإلى تغيرات سريعة في الحظوظ.
استمرت إمبراطورية إيفان الرابع في التوسُّع تحت حكم بوريس غودونوف (١٥٩٨–١٦٠٥م)، لا سيما في اتجاه الجنوب الشرقي إلى ستالينغراد، وجبال الأورال، والسهوب الكازاخستانية. ولكن بعد ذلك، انهارت مسكوفيا القرون الوسطى، كما فعلت كيفان روس قبل ذلك، هذه المرة مع تقطيع كلٍّ من السويديين، والبولنديين، والليتوانيين، والقوزاق أوصال الذبيحة. صاغت مسكوفيا القرون الوسطى نفسها على أنها «روما الثالثة»؛ أي الوريث الشرعي لكلٍّ من روما والقسطنطينية نفسها. وبالتالي فإن تراجع مسكوفيا، والمعروف باسم زمن الاضطرابات — وهو نتيجة التحزُّبات في العاصمة — جعل الأمر يبدو وكأن عالمًا كاملًا وحضارة بأسرها كانت في سبيلها إلى الزوال. ومع ذلك، فلم تنتهِ روسيا، على الرغم مما كانت تبدو عليه في ذلك الوقت. وفي غضون سنوات قليلة، وفي العام ١٦١٣م، جرى تعيين ميخائيل رومانوف Romanov قيصرًا؛ ومن ثم فقد ظهرت أسرة حاكمة جديدة، وكذلك بدأ فصل جديد في التاريخ الروسي.

كانت سلالة رومانوف التي حدَّدت ملامح روسيا الحديثة، بإضفاء الميكنة ومزيد من التنظيم الإداري على الإمبريالية الروسية، فيما يمثِّل تحسنًا عن غزوات مسكوفيا القرون الوسطى التي اتَّسمت بكونها رومانسية إلى حدٍّ ما، وذات هدف محدد. وخلال حكم آل رومانوف الذي استمر لثلاثة قرون، تمكَّنت روسيا من هزيمة وإخضاع بولندا، وليتوانيا، ودمرت السويد، وأذلت فرنسا النابليونية، واستعادت أوكرانيا، وتوسعت إلى شبه جزيرة القرم والبلقان على حساب الأتراك العثمانيين، كما وسَّعت وأضفت الطابع الرسمي في الوقت نفسه على سيطرتها على منطقة القوقاز، وآسيا الوسطى، وسيبيريا وصولًا إلى الصين والمحيط الهادي. وكذلك فقد تعافت روسيا من الانتكاسات التي تعرضت لها في حرب القرم (١٨٥٣–١٨٥٦م) والحرب الروسية-اليابانية (١٩٠٤-١٩٠٥م). وفيما يتماشى مع الموضوع الرئيسي للتاريخ الروسي، والمتعلق بالتوسعات الهائلة والتراجعات التي لا تقل أهمية على خلفية جغرافية هائلة الاتساع وخالية من العوائق، خسر جيش آل رومانوف كلًّا من بولندا وغرب روسيا أمام جيش نابليون العظيم في العام ١٨١٢م؛ بَيْد أنه تعافى في غضون أسابيع قليلة؛ مما عجَّل بانسحاب الفرنسيين مرةً أخرى إلى وسط أوروبا؛ الأمر الذي أدَّى إلى تدمير قوات نابليون على نحوٍ كامل.

كان بطرس الأكبر Peter the Great، الذي حكم روسيا في أواخر القرن السابع عشر وأوائل الثامن عشر، بالنسبة إلى سلالة رومانوف ما كانه إيفان الرابع لمسكوفيا في القرون الوسطى؛ شخصًا غير عادي تُثبت تصرفاته أن الجغرافيا ليست سوى جزء واحد من القصة.
بالتأكيد، فإن أشهر مآثر بطرس في التاريخ هي بناؤه لمدينة سانت بطرسبرغ على شواطئ بحر البلطيق، الذي بدأ في العام ١٧٠٣م، والذي انطوى على حرب ضروس ضد الإمبراطورية السويدية: غزت السويد عبر أهوار ماسوريا في المنطقة التي تمثِّلها بيلاروسيا، فيما حرق الروس المحاصيل باعتباره جزءًا من سياسة الأرض المحروقة في المناطق الجافة، وهو تكتيك سيستخدمونه لاحقًا ضد كلٍّ من نابليون وهتلر. وعلى الرغم من الإنجاز العظيم لبطرس، والمتمثِّل في توحيد ساحل البلطيق الروسي بإنشاء عاصمة جديدة هناك، بُنيت باتجاه أوروبا، في محاولة منه لتغيير الهوية السياسية والثقافية لروسيا، فسوف يفشل في نهاية المطاف. فمع غزواتها التي تواصلت في كل اتجاه آخر، أيضًا، ظلت روسيا أقرب ما تكون إلى بلد أوراسي، بل يمكن القول إنها كانت من النوع النمطي archetypal، وهي الوحيدة من هذا النوع في الواقع، وهو الذي يجاهد لأن يصير أوروبيًّا على الرغم من أن جغرافية وتاريخ الغزوات التي جسَّدها المغول قد حرمته من هذه المكانة. وكما أشار إليه ألكسندر هيرزن Herzen، وهو مفكر أدبي روسي كبير عاش في القرن التاسع عشر:
حتى يومنا هذا، نحن ننظر إلى الأوروبيين وإلى أوروبا بنفس الطريقة التي ينظر بها سكان الأرياف إلى من يعيشون في العاصمة؛ أي باحترام وشعور بالنقص من جانبنا، والإذعان لهم والتشبه بهم، مع اعتبار أن كل ما نحن فيه مختلفون ما هو إلا نقص فينا.١٦
وعلى الرغم من أن الروس لم يكن ينبغي لهم أن يشعروا بأيِّ خجل من حالتهم؛ لأنه لم يكن في وسعهم أن يكونوا إلا ما كانوا عليه: شعب انتزع إمبراطورية من طبيعة قارِّية مستحيلة؛ وبالتالي وصل إلى أبواب المشرق Levant والهند؛ ما شكَّل تهديدًا لإمبراطوريتَي فرنسا وبريطانيا. وقُرب نفس الوقت الذي سطر فيه هيرزن تلك الكلمات أعلاه، استولت القوات الروسية على طشقند وسمرقند على طريق الحرير القديم الموصِّل إلى الصين، على مقربة من حدود شبه القارة الهندية.

وفي حين واجهت الإمبراطوريتان البحريتان لفرنسا وبريطانيا أعداءً ألدَّاء فيما وراء البحار، فقد واجههم الروس على أراضيهم؛ وبالتالي فقد تعلَّم الروس منذ وقت مبكر من تاريخهم أن يتسموا بالحرص واليقظة؛ فقد كانوا أمةً تعيش دائمًا في حالة حرب، بشكلٍ أو بآخر.

ومرةً أخرى، فإن جبال القوقاز تزودنا بمثالٍ معبِّر، وهو الشيشانيون المسلمون من شمال القوقاز، الذين حاربت ضدهم جيوش كاترين العظمى في أواخر القرن الثامن عشر، واستمر القتال تحت حكم القياصرة الذين خلَفوها طوال القرن التاسع عشر، فضلًا عن الصراعات التي وقعت بينهم في عصرنا الحالي. وقد حدث هذا بعد فترة طويلة من كون المناطق الأكثر تكيُّفًا في القوقاز جنوبًا، مثل جورجيا، قد خضعت بالفعل لحكم القياصرة. نبعت شراسة الشيشان من صعوبة كسب لقمة العيش من التربة الجبلية الصخرية، ومن الحاجة إلى حمل السلاح لحماية الأغنام والماعز من الحيوانات البرِّية. ولأن طرق التجارة تمر عبر منطقة القوقاز، فقد عمل الشيشان في الماضي أدلَّةً ولصوصًا.١٧ وعلى الرغم من اعتناقهم للإسلام الصوفي — وهو أقل تعصبًا في كثير من الأحيان من الفروع الأخرى للدين الإسلامي — فقد كانوا متحمسين في الدفاع عن وطنهم من الروس الذين يعتنقون الديانة المسيحية الأرثوذكسية. وفي القوقاز، كما كتب الجغرافي دينيس ج. ب. شو Shaw، فإن «التسوية بين الروس والأوكرانيين والقوزاق حول «إمبراطورية المستوطنين» قد اصطدمت بالمقاومة الباسلة لشعوب الجبال. ومعظم هذه الشعوب، باستثناء أغلبية الأوسيتيين، تتبع ثقافة إسلامية؛ مما عزَّز تصميمها على محاربة الدخيل الروسي». وبسبب خوفهم من الروح المستقلة لشعب شمال القوقاز، رفض البلاشفة دمج بلادهم في جمهورية واحدة وعمدوا إلى تقسيمها؛ ومن ثم إعادة ضمها لتشكيل وحدات مصطنعة لا تتناسب مع أنماطهم اللغوية والعرقية. وهكذا، كما يستطرد شو، فقد «جرى تجميع الكاربادينيين Karbardians مع البلكار Balkars، على الرغم من حقيقة أن الشعب الأول لديه عدد أكبر من القواسم المشتركة مع الشراكسة Cherkessians، في حين يقترب البلكار من القراشاي Karachay.» وبالإضافة إلى ذلك، نفى ستالين الشيشان، والإنغوش، والكالميك Kalmyks، وغيرهم إلى آسيا الوسطى في العام ١٩٤٤م، بسبب تعاونهم المزعوم مع الألمان.١٨

لقد أسهمت منطقة القوقاز بقوة في جعل وجه الإمبريالية الروسية قاسيًا. وهذا، كما قلنا، غالبًا ما يكون مصير القوى البرِّية، التي تكون مضطرة في كثير من الأحيان إلى الإقدام على الغزو. ولذلك اندفع الروس؛ مما ألهم ماكيندر لصياغة نظريته بشأن المحور بسبب تزايد وتيرة بناء السكك الحديدية الروسية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ والتي بلغت خمسة عشر ألف ميل ما بين عامَي ١٨٥٧ و١٨٨٢م، بحيث كانت موسكو على اتصال مع الحدود البروسية إلى الغرب ومع نيجني نوفغورود إلى الشرق، وكذلك مع شبه جزيرة القرم على شاطئ البحر الأسود في الجنوب.

وبالإضافة إلى ذلك، فما بين عامَي ١٨٧٩ و١٨٨٦م، بنى المهندسون الروس خط السكك الحديدية من كراسنوفودسك Krasnovodsk، على الشاطئ الشرقي لبحر قزوين، إلى مرو (Merv)، التي تبعد أكثر من خمسمائة ميل إلى الشرق، على مقربةٍ من حدود بلاد فارس وأفغانستان، وبحلول العام ١٨٨٨م كان هذا الخط قد امتد ٣٠٠ ميل أخرى باتجاه الشمال الشرقي إلى سمرقند (كما بُني فرع منه، من مرو جنوبًا إلى قرب الحدود الأفغانية). اتبعت هذه الشرايين الجديدة للإمبراطورية التقدم العسكري الروسي في صحراء كاراكوم (Kara Kum) (الرمال السوداء) وكيزيل كوم Kyzyl Kum (الرمال الحمراء) الواقعة جنوبيَّ سهوب آسيا الوسطى، في المنطقة التي تحتلها في الوقت الحاضر تركمانستان وأوزبكستان. وبسبب قربها من شبه القارة الهندية، حيث كانت القوة البريطانية حينئذٍ في أوجها، انضمت هذه الفورة من النشاط الإمبريالي الروسي إلى «اللعبة الكبرى» بين روسيا وبريطانيا للسيطرة على آسيا. وفي الوقت نفسه، بُني خط للسكك الحديدية لربط باكو، الواقعة على الشاطئ الغربي لبحر قزوين، مع باتومي على البحر الأسود، وذلك لتوسيع منطقة القوقاز. وفي العام ١٨٩١م، بدأ الروس بناء خط للسكك الحديدية من جبال الأورال إلى المحيط الهادي، على بُعد أربعة آلاف ميل، عبر سيبيريا والشرق الأقصى، وجميع الغابات، والجبال، والمستنقعات، والأراضي الدائمة التجمد الواقعة بينها. وبحلول العام ١٩٠٤م، كان هناك ٣٨ ألف ميل من السكك الحديدية في روسيا، وهي حقيقة منحت سانت بطرسبرغ وصولًا إلى إحدى عشرة منطقة زمنية مختلفة، وصولًا إلى مضيق بيرينغ بين ألاسكا وروسيا. أما ما حفَّز هذه النسخة الروسية الأخيرة من «القدَر الواضح»، مرةً أخرى، فهو انعدام الأمن؛ انعدام الأمن لدى قوةٍ برِّية كان عليها أن تستمر في الهجوم والاستكشاف في كل الاتجاهات وإلا تعرضت هي نفسها للغزو.
وعلى خارطة التضاريس الأوراسية، ثمَّة حقيقة كبرى تبدو واضحة للعيان؛ وهي التي تشرح قصة روسيا. من جبال الكاربات في الغرب إلى هضبة سيبيريا الوسطى في الشرق، ليس هناك شيء سوى أراضٍ سهلية منخفضة، توجد بينها جبال الأورال كمجرد نتوءات صغيرة على هذا المشهد المسطَّح الذي تبلغ مساحته قارة كاملة. وهذا السهل المنبسط، الذي يتضمن المنطقة المركزية التي تصورها ماكيندر، يمتد من مدخلَي المحيط المتجمد الشمالي للبحر الأبيض وبحر كارا إلى القوقاز، وإلى جبال هندوكوش وزاغروس في أفغانستان وإيران؛ وبالتالي فما كان يحرك الإمبريالية الروسية دائمًا هو أمل غامض في امتلاك منفذ على المياه الدافئة للمحيط الهندي القريب. لكن حالتَي القوقاز وأفغانستان لم تكونا الوحيدتين اللتين توغل فيهما الروس فيما وراء المنطقة الأساسية لهذا السهل العظيم وإلى عمق الجبال. واعتبارًا من أوائل القرن السابع عشر إلى القرن العشرين، فإن الروس — أي القوزاق، وصيادي الفراء، والتجار — قد وصلوا بشجاعة إلى ما وراء نهر الينيسي Yenesei، من غرب إلى شرق سيبيريا والشرق الأقصى، وهي منطقة متجمدة مترامية الأطراف تضم سبع سلاسل جبلية الرئيسية يبلغ عرضها ٢٥٠٠ كيلومتر، ويمكن فيها للصقيع أن يستمر طوال تسعة أشهر في السنة. وفي حين كان غزو روسيا البيضاء وأوكرانيا أمرًا طبيعيًّا بسبب التقارب الوثيق والتاريخ المشترك والمتشابك لهذه الأراضي مع روسيا، ففي سيبيريا أنشأ الروس «إمبراطورية نهرية شمالية».١٩ جديدة تمامًا. وكما كتب جورج بروس لينكولن في كتابه التاريخي الوقور «غزو قارة: سيبيريا والروس»، «إن الغزو التي حدَّد عظمتها «الروسية» كان في آسيا»، وليس في أوروبا.٢٠ إن الدراما التي وقعت أحداثها في شرق سيبيريا وما وراءها تلخص التجربة التاريخية الروسية في شكلها الأشد حدَّة. من جانبه، كتب فيليب لونغويرث:
أدَّت قسوة المناخ إلى جعلهم يتَّسمون بالجرأة وقوة التحمل؛ إن ضخامة طبيعتهم وانخفاض كثافتها الاستيطانية، فضلًا عن قِصر مدة موسم الحصاد، قد شجعت كلًّا من التعاون والإكراه في العلاقات الاجتماعية، فقد احتاج الروس إلى قدرٍ أكبر من التنظيم مقارنة بأغلبية الشعوب من أجل البقاء على قيد الحياة … أدَّت هذه الحاجة في الماضي إلى تسهيل ظهور الأنماط المركزية والاستبدادية للحكومة، كما شجعت تلك الأنماط التي تنطوي على قدرٍ أكبر من المشاركة.٢١
يتضخم نهر الينيسي إلى فيضانٍ يبلغ عرضه ثلاثة أميال، إضافةً إلى كونه سادس أطول نهر في العالم، وهو الذي يتدفق شمالًا لمسافة ٣٤٠٠ ميل من منغوليا إلى القطب الشمالي. وباعتباره أكثر في ذلك بكثيرٍ من جبال الأورال، فهو يمثِّل الخط الفاصل الحقيقي بين الروسيتين؛ بين غرب سيبيريا وشرقها، مع آلاف الأميال من الأراضي المنخفضة المنبسطة التي تشير إلى ضفته الغربية، وآلاف الأميال من الهضاب والجبال الثلجية على الضفة الشرقية. كتب الرحالة البريطاني كولن ثوبرون Thubron أن «تدفق هذا النهر من فراغ، كأنه شيء متجسِّد، حامل للزمن، سلمي ورهيب في آنٍ معًا، هو ما يسبب تقلُّص معدتي.» وعند نقطة أخرى، تقع للشمال أكثر على طول النهر، فيما وراء الدائرة القطبية الشمالية، كما يستطرد، فإن «الأرض تتسطح على محورها، فيما يختفي خط الساحل shoreline على البُعد. لا شيء، على ما يبدو، قد حدث هنا منذ الأزل. ولذلك … فإن التاريخ يصبح هو الجيولوجيا.»٢٢
أدَّت جاذبية فراء الحيوانات إلى جلب أوائل المستكشفين إلى هذا الجانب الجليدي الآخر من العالم، وهم الذين سيحضرون لاحقًا من أجل الموارد الطبيعية: النفط، والغاز الطبيعي، والفحم، والحديد، والذهب، والنحاس، والغرافيت، والألومنيوم، والنيكل، ومجموعة كبيرة من المعادن والفلزات الأخرى، وكذلك الطاقة الكهربائية المولَّدة بواسطة أنهار سيبيريا؛ فكما يفصل نهر الينيسي بين غرب سيبيريا وشرقها، فإن نهر لينا الذي لا يقل عنه مهابة يفصل شرق سيبيريا عن الشرق الأقصى الروسي. وبالفعل، ففي حين تتدفق الأنهار الكبرى لسيبيريا من الجنوب إلى الشمال، فإن روافدها تمتد شرقًا وغربًا، «مثل الفروع المتشابكة … للأشجار العملاقة»؛ مما يشكِّل منظومة كبرى لنقل البضائع.٢٣
كانت المناجم المنتشرة عبر هذا المشهد هي ما سيشكِّل قلب الأنظمة العقابية القيصرية والسوفييتية. وفي الواقع، كانت جغرافية سيبيريا مرادفًا للقسوة والثروة الاستراتيجية؛ مما جعل روسيا على مدى عقودٍ قوةً مظلمة أخلاقيًّا وغنية بالطاقة في الوقت نفسه. وقد ارتبط الظهور المفاجئ لروسيا بين القوى العظمى في أوروبا في أوائل القرن الثامن عشر بالإمدادات الوفيرة من خام الحديد الذي اكتُشف في الغابات الأورال، والذي يصلح لصنع المدافع والبنادق، وهي من المعدات الضرورية للغاية لشن الحرب الحديثة. وبالمثل، ففي منتصف ستينيات القرن العشرين، أدَّى اكتشاف حقول هائلة من النفط والغاز الطبيعي في شمال غرب سيبيريا إلى جعل روسيا إحدى القوى العظمى في مجال الطاقة في مطلع الحادي والعشرين.٢٤ وقد أدَّى غزو سيبيريا أيضًا إلى تحقيق شيء آخر؛ فقد جلب روسيا إلى عالم الجغرافيا السياسية للمحيط الهادي؛ ومن ثم إلى الصراع مع كلٍّ من اليابان والصين. لقد كان الصراع الروسي مع الصين في قلب ديناميات الحرب الباردة، على الرغم من محورية هذا الصراع في استراتيجية أمريكا الخاصَّة، والمتعلقة بالتعامل مع كلٍّ من هاتين القوَّتَين في القرن الحادي والعشرين.٢٥
وخلافًا لأنهار إرتيش Irtych، وأوب Ob، والينيسي، ولينا، فإن نهر آمور Amur لا يتدفق من الجنوب إلى الشمال، بل من الغرب إلى الشرق، حيث يتَّحد مع نهر أوسوري Ussuri لتشكيل الحدود الحالية بين الشرق الأقصى الروسي ومنشوريا الصينية. إن هذه المنطقة الحدودية، والمعروفة باسم أموريا Amuria، والواقعة إلى الشمال من الحدود الصينية، والتي تقع أوسوريا Ussuria إلى الشرق منها، قد نشبت الحروب من أجلها بين روسيا القيصرية والصين في عهد أسرة تشينغ Qing (مانشو) منذ منتصف القرن السابع عشر، عندما دخل قطَّاع الطرق الروس إلى المنطقة، وبعدهم جنود مسكوفيا، الذين تبعهم الدبلوماسيون لاحقًا، في وقتٍ كان المانشو مشتَّتين فيه بفعل غزواتهم لتايوان وأجزاء من البر الرئيسي للصين. بلغت هذه العملية ذروتها في العام ١٨٦٠م، عندما أجبرت الصين الضعيفة تحت قيادة سلالة حاكمة مضمحلة على قبول نقل ٣٥٠ ألف ميل مربع من الأراضي من السيادة الصينية إلى تلك الروسية؛ مما شكَّل الحدود الحالية بين البلدين.٢٦ أما الآن وقد صارت الصين قوية وروسيا ضعيفة نسبيًّا، فتتعرض هذه الحدود مرةً أخرى لضغوط من المستوطنين والشركات الصينية التي تسعى إلى التحرك شمالًا، من أجل الاستفادة من النفط والغاز الطبيعي والأخشاب، وغيرها من الموارد التي تضمها هذه المنطقة. تفرض الجغرافيا علاقةً متوترة على الدوام بين روسيا والصين، يخفيها تحالفهما التكتيكي الحالي، والذي يتَّسم بكونه مناهضًا إلى حدٍّ ما للولايات المتحدة. وفي يوليو ٢٠٠٩م، قدَّم رئيس الأركان العامة الروسية نيكولاي ماكاروف Makarov عرضًا بالشرائح ذُكر أنه قال فيه: إن «حلف شمال الأطلسي والصين … هم أخطر منافسينا الجيوسياسيين.»٢٧

وما تُلقي الضوء عليه هذه الجغرافيا هو شيء كثيرًا ما يُنسى؛ وهو أن روسيا مثَّلت، تاريخيًّا، جزءًا مُهمًّا من ديناميات السلطة في شرق آسيا. نشبت الحرب الروسية-اليابانية خلال عامَي ١٩٠٤ و١٩٠٥م جزئيًّا بسبب مطالبة اليابان بأن تعترف روسيا بالسيادة الصينية على منشوريا (وكذلك بحرِّية اليابان في التدخل في كوريا)، وهو ما رفضه الروس. إن نهاية تلك الحرب، بالإضافة إلى إذلال النظام القيصري، قد شكَّلت إهانةً أكبر منها للصين تحت حكم أسرة تشينغ؛ إذ وقعت الحرب بسبب أراضٍ يعتبرها المانشو جزءًا من تراثهم. ويعني ذلك أن هزيمة الروس أبقت على سيطرتهم على إقليمَي أموريا وأوسوريا، اللذين كان المانشو يطمعون فيهما.

وبقدرٍ أكبر مما فعلته الحرب الروسية-اليابانية، التي فقدت فيها روسيا النصف الجنوبي من جزيرة سخالين Sakhalin وأجزاء من جنوب منشوريا (التي ينبغي، وفقًا لمنطق الجغرافيا، أن تكون جزءًا من الصين على أي حال)، فقد كانت الثورة الروسية في العام ١٩١٧م وما أعقبها من الفوضى هي ما زعزع سيطرة روسيا على شرقها الأقصى. سيطرت الصين، واليابان، والولايات المتحدة (وهي قوة صاعدة في الشرق الأقصى في حدِّ ذاتها) على أجزاء من السكك الحديدية العابرة لسيبيريا بين بحيرة بايكال في الغرب وميناء فلاديفوستوك في الشرق، في حين وقعت فلاديفوستوك نفسها تحت الاحتلال الياباني بين عامَي ١٩١٨ و١٩٢٢م؛ إذ احتل ٨٠ ألف جندي ياباني منطقة آمور خلال تلك الفترة.
وعلى أي حال، فقد حوَّل جيش لينين الأحمر تدريجيًّا تيار الحرب الأهلية ضد الروس البيض من مناهضي الثورة. ونتيجةً لذلك، تمكَّنت الدولة السوفييتية الجديدة من استعادة السيطرة على الأراضي الواقعة على أطرافها، وخصوصًا في المناطق العرقية التركية من صحاري آسيا الوسطى، حيث خشي البلاشفة أن يكونوا عرضةً للهجوم من قِبل البريطانيين في الهند، الذين يعملون عبر أفغانستان. كان البلاشفة، على الرغم من إيديولوجيتهم المعلنة حول وحدة جميع العمال في العالم، واقعيين عندما واجهتهم «المشكلة القديمة قِدم الأزل»، والمتعلقة بقوة الأرض المترامية الأطراف؛ أي التهديد بالهجوم على أطرافها. وأيًّا كان من يحكم روسيا، فينبغي له مواجهة حقيقة وجود مساحات شاسعة من الأراضي المسطحة على نحوٍ مأساوي، والتي تُفضي إلى الدول المتجاورة في عدة اتجاهات. ولتعويض ذلك، أصبح البلاشفة هم الإمبرياليين الروس مثل القياصرة الذين سبقوهم؛ فأخضعوا لسيطرتهم كلًّا من المولدوفيين، والشيشان، والجورجيين، والأذربيجانيين، والتركمان، والأوزبك، والكازاخ، والطاجيك، والقرغيز، والبوريات-المغول، والتتار، وغيرهم. برَّر البلاشفة فتوحاتهم هذه بسهولة؛ فبعد كل شيء، فهم قد منحوا نعمة الشيوعية لهذه الشعوب، حتى في الوقت الذي أعلنوها جمهوريات سوفييتية تابعة لهم.٢٨ وباتباع ما فرضته الجغرافيا، مهما كان ذلك لاشعوريًّا، فقد أعاد البلاشفة نقل العاصمة شرقًا إلى موسكو، بعد أن كانت سانت بطرسبرغ الواقعة على بحر البلطيق؛ مما عمل على استعادة الواقع الآسيوي في معظمه، والذي كانت له على الدوام أهمية محورية بالنسبة إلى الوجود الروسي. وبدلًا من النظام شبه العصري الذي منحه بطرس الأكبر، والذي حكم روسيا من «نافذتها على الغرب» الواقعة على بحر البلطيق، نشأت الآن دولة تُحكم من أروقة الكرملين، وهو المقر التاريخي شبه الآسيوي لمسكوفيا في العصور الوسطى.٢٩ تألف الاتحاد السوفييتي الجديد من ثلاث جمهوريات اتحادية — هي روسيا، وأوكرانيا، وروسيا البيضاء — وإحدى عشرة جمهورية ذاتية الحكم ومنطقة فرعية. ولكن لأن كثيرًا من هذه الجمهوريات لم تكن متراكبة بدقة على الحدود العرقية — فعلى سبيل المثال، كان هناك أقلِّية طاجيكية كبيرة في أوزبكستان وأقلِّية أوزبكية أكبر في طاجيكستان — فقد كان الانفصال بينهما مستحيلًا من دون حرب أهلية؛ وبالتالي أصبح الاتحاد السوفييتي سجنًا للأمم.
كان سجن الأمم هذا عدوانيًّا بالقدر نفسه خلال القرن العشرين، على الرغم من كون هذه الفترة أكثر مدعاة لانعدام الأمن من أيِّ وقتٍ مضى. وفي العام ١٩٢٩م، هاجمت أسلحة المشاة، والفرسان، والطيران السوفييتية الحافة الغربية من منشوريا من أجل انتزاع السيطرة على السكك الحديدية التي تمر عبر الأراضي الصينية. وفي العام ١٩٣٥م، ضم الاتحاد السوفييتي دولًا تابعة افتراضية تمثَّلت في مقاطعة شينجيانغ الواقعة غربي الصين، في حين أصبح الجزء الخارجي من منغوليا جمهورية منغوليا الشعبية، المنحازة بقوةٍ للاتحاد السوفييتي. وفي الوقت نفسه، ففي روسيا الأوروبية، أدَّى توقيع المعاهدة الروسية-الألمانية لعام ١٩٣٩م إلى السماح لستالين بضم شرق بولندا، وفنلندا الشرقية، وبيسارابيا Bessarabia، ودول البلطيق الثلاث؛ ليتوانيا، ولاتفيا، وإستونيا. كانت روسيا، تحت ستار الاتحاد السوفييتي، قد توسعت الآن من أوروبا الوسطى إلى شبه الجزيرة الكورية. ومع ذلك، وكما أثبتت الأحداث، فقد ظلت روسيا غير آمنة؛ فقد أصرَّت الجغرافيا على أن يكون لها رأيٌ في هذه المسألة. أوصل غزو هتلر في العام ١٩٤١م باتجاه الشرق عبر سهول روسيا الأوروبية القوات الألمانية إلى ضواحي موسكو، كما صار في متناولها الوصول إلى بحر قزوين، إلى أن جرى إيقاف تقدمها في ستالينغراد في أوائل العام ١٩٤٣م. وعند نهاية الحرب، صبَّ السوفييت جام انتقامهم، بإعطاء متنفَّسٍ لقرون من انعدام الأمن الجغرافي منذ أيام نهب المغول لكيفان روس.
بعد انهيار ألمانيا النازية واليابان الفاشية، استحوذ الاتحاد السوفييتي بفعالية على كامل النصف الشرقي لأوروبا عن طريق إقامة نظام من الدول الشيوعية التابعة، والتي ضمِن السوفييت ولاءها في معظم الحالات بفعل وجود القوات السوفييتية، التي كانت قد تدفقت مرةً أخرى عبر السهول المنبسطة غربًا — عبر أنهار الدنيبر، وفيستولا، والدانوب — مع فشل الخطط اللوجستية لآلة هتلر الحربية وسط الاتساع الهائل لروسيا الأوروبية، وهو ما يشبه كثيرًا ما حدث لجيوش نابليون قبل ذلك بقرن من الزمان. وبحلول ذلك الوقت، كانت هذه الإمبراطورية الأوروبية السوفييتية الشرقية قد امتدت في قلب أوروبا الوسطى بأعمق مما فعلت إمبراطورية آل رومانوف بين عامَي ١٦١٣ و١٩١٧م، بحيث شملت جميع الأراضي التي وعدت بها روسيا في المعاهدة بين النازيين والسوفييت.٣٠ وفي الطرف المقابل من الاتحاد السوفييتي، استحوذت موسكو على جزيرتَي سخالين والكوريل الواقعتين إلى شمال اليابان، والمتاخمتين لمنطقة الشرق الأقصى الروسي. سمحت دولة الصين التي كانت تعاني من الفوضى والضعف في أعقاب الاحتلال الياباني والصراع على السلطة بين الشيوعيين بقيادة ماو تسي تونغ Mao Zedong والقوميين بزعامة تشيانغ كاي تشيك Chiang Kaishek بوجود قوات روسية كبيرة في منشوريا، وتوطيد دعائم منغوليا الخارجية الموالية للاتحاد السوفييتي، إضافةً إلى نظام شيوعي موالٍ في النصف الشمالي من شبه الجزيرة الكورية. وفي شبه الجزيرة الكورية، فإن القوات البرِّية الهائلة للاتحاد السوفييتي — وتلك الخاصَّة بالصين التي توشك على التحول إلى الشيوعية — ستواجه القوات البحرية للولايات المتحدة؛ مما ساعد على تسهيل نشوب الحرب الكورية بعد خمس سنوات من انتهاء الحرب العالمية الثانية. تمثَّلت نتيجة الحرب العالمية الثانية في إنشاء قوة المنطقة المركزية التي وصفها ماكيندر على هيئة روسيا السوفييتية، جنبًا إلى جنب مع القوة البحرية العظمى التي تصورها ماهان وسبيكمان، متمثِّلةً في الولايات المتحدة. ستتأثر مصائر دول أوروبا والصين على حدٍّ سواء بالانتشار نفسه للقوات السوفييتية عبر المنطقة المركزية، على الرغم من أن الشرق الأوسط الكبير وجنوب شرق آسيا في الأرض المحيطة الأوراسية ستستشعر ضغط القوات البحرية والجوية الأمريكية. كانت هذه هي الحقيقة الجغرافية النهائية للحرب الباردة، التي حجبتها الإيديولوجية الشيوعية القادمة من موسكو والمثال الديمقراطي الآتي من واشنطن.
لكن الحرب الباردة، والتي بدا أنه لا نهاية لها بالنسبة إلى أمثالي ممن نشئوا خلال هذه الفترة، قد ثبت أنها مجرد مرحلة أخرى من التاريخ الروسي، انتهت وفقًا لما تفرضه الجغرافيا الروسية المألوفة. أدَّت محاولة ميخائل غورباتشوف Gorbachev لإصلاح الشيوعية السوفييتية في ثمانينيات القرن العشرين إلى كشف صورة النظام كما كانت عليه في الواقع: إمبراطورية جامدة من الشعوب الخاضعة، التي تقطن في كثير من الحالات السهوب البرِّية والأطراف الجبلية للغابات والسهول الروسية. وفي الواقع، بمجرد أن أعلن غورباتشوف نفسه أن المبادئ الإيديولوجية التي قامت عليها الإمبراطورية كانت معيبة للغاية، بدأ النظام بأكمله ينهار مع انفصال الأجزاء الهامشية عن المركز الروسي بقدر ما فعلت بعد فشل كيفان روس في منتصف القرن الثالث عشر، ومسكوفيا القرون الوسطى عند بداية القرن السابع عشر، وإمبراطورية آل رومانوف في أوائل القرن العشرين. ولهذا السبب، أشار المؤرخ فيليب لونغويرث إلى أن أحداث التوسع والانهيار المتكررة عبر تضاريس مسطحة عمومًا كانت سمةً رئيسية للتاريخ الروسي. وفي واقع الأمر، كما يشرح الجغرافي والمتخصص في الشأن الروسي دينيس شو Shaw، ففي حين أدَّت الحدود المفتوحة والعبء العسكري الناتج عنها، إلى «تعزيز مركزية الدولة الروسية» — فبالفعل، كانت قوة القياصرة أسطورية — فقد كانت روسيا، مع ذلك، دولة ضعيفة؛ لأن القياصرة لم يبنوا مؤسسات إدارية قوية في المقاطعات النائية. أدَّى هذا إلى جعل روسيا حتى أكثر عُرضة للغزو.٣١
وفي العام ١٩٩١م، عندما انحلَّ الاتحاد السوفييتي رسميًّا، تقلَّصت روسيا إلى أصغر حجم لها منذ قبل عهد كاترين العظمى؛ فقد خسرت حتى أوكرانيا، وهي المنطقة المركزية الأصلية لكيفان روس. ولكن على الرغم من خسارة أوكرانيا، ودول البلطيق، ومنطقة القوقاز، وآسيا الوسطى، وعلى الرغم من الشكوك العسكرية في الشيشان وداغستان، وتتارستان، وعلى الرغم من ظهور منغوليا الخارجية باعتبارها دولة مستقلة متحررة من وصاية موسكو، فلا تزال أراضي روسيا تزيد عن تلك التي تمتلكها أي أمةٍ أخرى على وجه الأرض؛ إذ تغطي أكثر من ثلث قارة آسيا، مع حدود برِّية لا تزال تمتد على مدى نحو نصف المناطق الزمنية في العالم من خليج فنلندا إلى بحر بيرينغ. وعلى الرغم من هذه المساحة الهائلة والجرداء — التي لم تعد تحرسها الجبال والسهوب من أطرافها — فلا بد لها الآن من أن تحظى بحماية السكان الذين لا يزيد عددهم إلا بقليل على نصف عدد سكان الجمهوريات السوفييتية السابقة٣٢ (كان عدد سكان روسيا يقل عن سكان بنغلاديش، في الواقع).
ربما لم يحدث من قبلُ أن كانت روسيا عرضةً للهجوم جغرافيًّا في وقت السلم، ففي جميع أرجاء سيبيريا والشرق الأقصى الروسي، لم يكن هناك سوى ٢٧ مليون نسمة.٣٣ لم يُضع قادة روسيا أيَّ وقتٍ في تقييم الوضع المزري، فبعد أقل من شهر من تفكك الاتحاد السوفييتي، صرَّح وزير الخارجية الروسي أندريه كوزيريف Kozyrev لجريدة روسيسكايا غازيتا Rossiyskaya Gazeta قائلًا: «لقد أدركنا بسرعة أن الجغرافيا السياسية تحلُّ محلَّ الإيديولوجية.»٣٤ وكما كتب الأستاذ الفخري بجامعة إدنبره، جون إريكسون Erickson: «إن الجغرافيا السياسية، التي تعرضت لشيطنة مستمرة خلال أيام الاتحاد السوفييتي، قد عادت بغضبٍ لتلاحق روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.» كانت إدانات الجغرافيا السياسية بوصفها أداةً للعسكرة الرأسمالية قد اختفت؛ ليس فقط أنه قد أُعيد تأهيل الجغرافيا السياسية في روسيا بوصفها تخصصًا علميًّا، بل وحتى تحسنت سمعة ماكيندر، وماهان، وكارل هاوسهوفر. وفي «نمط ماكندري جديد لا يعرف الخجل»، أعلن الزعيم الشيوعي من الحرس القديم جينادي زيوغانوف Zyuganov أنه ينبغي لروسيا أن تستعيد السيطرة على «المنطقة المركزية».٣٥ وبالنظر إلى سعود الحياة ونحوسها التي شهدها التاريخ الروسي، بالإضافة إلى أوجه الضعف الجغرافية الجديدة، فلم يكن لدى روسيا أي خيار سوى أن تصبح قوة تعديلية revisionist، عازمة — بصورةٍ خفيَّة أو غير خفيَّة حتى — على استعادة جوارها القريب في روسيا البيضاء، وأوكرانيا، ومولدوفا، والقوقاز، وآسيا الوسطى، حيث لا يزال يعيش نحو ٢٦ مليون روسي. وخلال عقد التسعينيات الضائع، عندما كانت روسيا على حافة الانهيار الاقتصادي، وكانت بالتالي ضعيفة ذليلة، كانت هناك دورة جديدة من التوسع في طور التكوُّن. أشار الزعيم القومي الروسي المتطرف فلاديمير جيرينوفسكي Zhirinovsky إلى أن جنوب القوقاز، وكذلك تركيا، وإيران، وأفغانستان، يجب أن تخضع الآن جميعها للسيادة الروسية. وعلى الرغم من أن تطرف جيرينوفسكي لا تشاركه فيه الأغلبية العظمى من الروس، فقد مس على الرغم من ذلك توجهًا خفيًّا حيويًّا في التفكير الروسي. وفي الواقع، أن ضعف روسيا الحالي في أوراسيا قد جعل الجغرافيا نفسها تمثِّل هاجسًا روسيًّا في مطلع القرن الحادي والعشرين.
وبطبيعة الحال، فلن يُعاد تشكيل الاتحاد السوفييتي مطلقًا. ومع ذلك، فإن شكلًا أكثر مرونة من الاتحاد الذي يصل إلى حدود الشرق الأوسط وشبه القارة الهندية قد يكون أمرًا قابلًا للتحقيق. ولكن ما الذي يمكن أن يمثِّل النداء الأسمى وراء ذلك؟ ماذا عساها أن تكون الفكرة التي يمكن أن يبرر بها الروس أخلاقيًّا تلك الموجة المقبلة من التوسع؟ كتب زبيغنيو بريجنسكي في كتابه المعنون «رقعة الشطرنج الكبرى: التفوق الأمريكي وضروراته الجيوستراتيجية» أن الروس بدءوا، في تسعينيات القرن العشرين، إحياء مذهب الأوراسية Eurasianism الذي يعود إلى القرن التاسع عشر بديلًا للشيوعية، من أجل إغراء الشعوب غير الروسية بالعودة إلى الاتحاد السوفييتي السابق.٣٦ تتناسب الأوراسية جيدًا مع شخصية روسيا التاريخية والجغرافية. ولكونها تمتد عبر مساحة شاسعة من أوروبا إلى الشرق الأقصى، على الرغم من عدم ارتباطها بأيِّهما، فإن روسيا، بطريقةٍ لا تشبه أي بلد آخر، تجسد أوراسيا. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الجغرافية المغلقة التي تتَّسم بوجود أزمة للمتسع في القرن الحادي والعشرين — والتي تعمل على تحطيم التقسيمات التي وضعها الخبراء خلال فترة الحرب الباردة — يجعل فكرة أوراسيا أكثر وضوحًا باعتبارها كُلًّا whole قاريًّا متناسقًا. ولكن في حين أن أوراسيا قد تصبح مفهومًا أكثر فائدة من أيِّ وقتٍ مضى بالنسبة إلى الجغرافيين وخبراء الجغرافيا السياسية خلال السنوات المقبلة، فهذا لا يعني أن الجورجيين، أو الأرمن، أو الأوزبك، مع جميع الأحمال التاريخية والعاطفية المتوفقة مع هذه الهويات العرقية، سيبدءون التفكير في أنفسهم باعتبارهم «أوراسيين» «Eurasians». صارت القوقاز قوقازًا على وجه التحديد لأنها مرجل للهويات والصراعات العرقية؛ وهي الهويات التي، مع انهيار تكتلات القوى التي شهدتها الحرب الباردة، صارت تمتلك القدرة على أن تصبح أكثر تطورًا على نحوٍ ثري. ويصدق الشيء نفسه على جزء كبير من آسيا الوسطى. فحتى لو استطاع الروس، والكازاخ مثلًا، قمع التنافس العرقي عن طريق نوع ما من «الاتحاد الأوراسي»، فلا يبدو أن الأوراسية تمثِّل قضية يمكن أن يموت الناس لأجلها؛ أو شيء يمكن أن يبعث القشعريرة في أوصالهم؛ خصوصًا أن الأوكرانيين، والمولدوفيين، والجورجيين، وغيرهم يتوقون لأن يصبحوا أوروبيين. ولكن إذا أمكن للأوراسية قمع الاختلافات مهما كانت طفيفة في بعض أوساط الاتحاد السوفييتي السابق؛ وبالتالي تساعد على الاستقرار، ألن تكون جديرة بالاهتمام في حدِّ ذاتها؟

وكما أن الجغرافيا ليست تفسيرًا لكل شيء، فإنها كذلك ليست حلًّا. إن الجغرافيا هي مجرد خلفية ثابتة يمكن لمعركة الأفكار أن تستمر أمامها حتى النهاية. وحتى عندما تكون الجغرافيا موحِّدة — كما في حالة أمريكا، أو بريطانيا العظمى، أو الهند، أو إسرائيل — فإن المثل العليا للديمقراطية، والحرية، والصهيونية (بعنصرها الروحي) قد ظلت، على الرغم من ذلك، تمثِّل عناصر أساسية للهوية القومية. وعندما لا يكون لدى شعبٍ ما أي شيء آخر يوحدهم سوى الجغرافيا، كما في حالة مصر تحت حكم الدكتاتور السابق حسني مبارك، أو اليابان تحت الحزب الليبرالي الديمقراطي الحاكم سابقًا، ستُصاب الدولة حينئذٍ بوهنٍ لا يقاوَم؛ قد تكون مستقرة، بفضل الجغرافيا، لكن هذا هو كل شيء. وبالتالي فإن روسيا، بعد حرمانها من الحكم القيصري، والشيوعية، تتطلَّب مثالًا ساميًا وموحدًا يتجاوز الجغرافيا إذا كان لها أن تنجح في إعادة اجتذاب الشعوب التي كانت خاضعة لها في السابق، لا سيما وأن سكانها القليلين آخذون في التناقص بسرعة. وفي الواقع، وبسبب انخفاض معدلات المواليد وارتفاع معدلات الوفيات، وزيادة معدلات الإجهاض، وانخفاض وتيرة الهجرة، فإن سكان روسيا البالغ عددهم ١٤١ مليونًا قد ينخفض إلى ١١١ مليونًا بحلول العام ٢٠٥٠م (ومما يسرِّع هذه المعدلات، نجد المستويات السامة لتلوث المياه والتربة، باعتباره جزءًا من تدهور بيئي عام). وفي الوقت نفسه، فإن المجتمع الإسلامي الاسمي في روسيا آخذٌ في الازدياد، بحيث قد يشكِّلون ما يصل إلى عشرين في المائة من سكان البلاد خلال عقدٍ من الزمن، على الرغم من أنهم يعيشون في شمال القوقاز ومنطقة الفولغا-الأورال، وكذلك في موسكو وسانت بطرسبرغ، بحيث تميل نحو الانفصالية الإقليمية، بينما تمتلك أيضًا القدرة على الانخراط في عمليات إرهابية في المناطق الحضرية. وكذلك فإن عدد أطفال النسوة الشيشانيات يزيد بأكثر من الثلث عما تلده نظيراتهن الروسيات. ومن دون ريب، أن مجرد الاحتكام إلى الجغرافيا — وهو في الحقيقة ما تعنيه الأوراسية وما يصاحبها من رابطة الدول المستقلة — قد لا يسمح لإعادة بعث الإمبراطورية الروسية بالتنافس مع كيفان روس، أو مسكوفيا القرون الوسطى، أو سلالة رومانوف، والاتحاد السوفييتي.

في هذا السياق، يجادل ديمتري ترينين Trenin، مدير مركز كارنيغي في موسكو، بأنه في القرن الحادي والعشرين، فإن «قوة الجذب تتغلب على قوة الإكراه»؛ وبالتالي «يجب أن تكون القوة الناعمة محورية في سياسة روسيا الخارجية». وبعبارةٍ أخرى، فإن روسيا التي جرى إصلاحها حقًّا ستكون في وضعٍ أفضل لبسط نفوذها إلى جميع أنحاء أطرافها الواقعة في أوراسيا. ولكون اللغة الروسية هي اللغة المشتركة من البلطيق إلى آسيا الوسطى، فإن الثقافة الروسية، «من بوشكين إلى موسيقى البوب»، لا تزال مطلوبة. وبالتالي، فإن محطة تلفازية تبث برامجها باللغة الروسية سيمكنها، في حال وجود روسيا متجددة فكريًّا، «أن تصبح مثل قناة الجزيرة بالنسبة إلى الناطقين بالروسية». ووفقًا لطريقة التفكير هذه، فإن الديمقراطية الليبرالية هي المثال الوحيد الذي يمكن أن يسمح لروسيا بإعادة تحقيق ما ترى أنه مصيرها الجغرافي.٣٧ وتتوافق هذه الفكرة مع ملاحظة سولجينيتسين في العام ١٩٩١م بأن «الوقت قد حان للقيام باختيار عسير بين إمبراطورية كنا نحن أنفسنا ضحاياها الرئيسيين، وبين الخلاص الروحي والجسدي لشعبنا.»٣٨
وفي الحقيقة، أن هناك جانبًا جغرافيًّا في تحليل ترينين، فهو يجادل بأن روسيا يجب أن تركِّز على أطرافها — أي أوروبا والمحيط الهادي — أكثر من تركيزها على منطقتها المركزية الأوراسية. ومن شأن التشديد على التعاون مع أوروبا أن يحرك سلوكيات روسيا غربًا. وتُظهر الخريطة السكانية لروسيا أنه على الرغم من مساحة بلادهم الممتدة عبر إحدى عشرة منطقة زمنية، فإن الأغلبية الساحقة من الروس يعيشون في أقصى الغرب المجاور لأوروبا. وبالتالي، فمن الممكن للإصلاح السياسي والاقتصادي الحقيقي، عند اندماجه مع العوامل الديموغرافية، أن يجعل من روسيا دولة أوروبية أصيلة. وفيما يتعلق بالمحيط الهادي، فإنه «يجدر بروسيا أن تفكِّر في جعل فلاديفوستوك عاصمتها في القرن الحادي والعشرين»، كما كتب ترينين. تتَّسم فلاديفوستوك بكونها ميناء بحريًّا عالميًّا، على مقربة من بكين، وهونغ كونغ، وسيول، وشنغهاي، وطوكيو، وهي المنطقة الاقتصادية الأكثر ديناميكيةً في العالم.٣٩ وبالفعل؛ لأن الاتحاد السوفييتي القديم كان ينظر إلى شرقه الأقصى كمنطقة لاستغلال المواد الخام بدلًا من اعتبارها بوابة إلى الدول المطلة على المحيط الهادي، فإن النهضة الاقتصادية التي بدأت في شرق آسيا في سبعينيات القرن العشرين، واستمرت حتى وقتنا الحاضر، قد تجاوزت روسيا تمامًا.٤٠ يجادل ترينين بأن الوقت قد فات لتصحيح ذلك؛ وبالتالي فإن روسيا تعاني نتيجة لذلك. أما الصين، التي — بدلًا من روسيا — اتبعت خطى جيرانها من الدول المطلة على المحيط الهادي؛ أي اليابان وكوريا الجنوبية، في تبنِّي رأسمالية السوق، فتبرز الآن بوصفها القوة العظمى في أوراسيا. وقد منحت بكين آسيا الوسطى ١٠ مليارات دولار في شكل قروض، كما ساعدت روسيا البيضاء من خلال عملية لتبادل العملات، وقدمت مليار دولار كمساعدات لمولدوفا الواقعة على الطرف الآخر من القارة، كما تعمل على تطوير مساحة لنفوذها في الشرق الأقصى الروسي. وبالنسبة إلى روسيا، فإن الاستراتيجية المقابلة ستتمثَّل في ربط نفسها سياسيًّا بأوروبا، واقتصاديًّا بشرق آسيا. وهكذا، يمكن لروسيا أن تحل مشاكلها في القوقاز ووسط آسيا — بأن تصبح جذابة حقًّا لتلك الجمهوريات السوفييتية السابقة، التي ترغب شعوبها أنفسها في الحصول على الحريات ومستويات المعيشة المتوافرة في الحواف الغربية والشرقية من أوراسيا.
تمتلك روسيا في الواقع فرصةً للحصول على مصير مماثل لما شهدته قبل قرن من الزمان، فلو لم تكن السلطة في روسيا قد انتُزعت في العام ١٩١٧م من قِبل البلاشفة في لحظةٍ هشَّة على وجه الخصوص، لكان من الممكن تمامًا، وحتى من المحتمل، أن تتطور روسيا خلال القرن العشرين إلى نسخةٍ أشد فقرًا وأكثر فسادًا وأقل استقرارًا بقليل من فرنسا وألمانيا، المرتكزتين على الرغم من ذلك إلى أوروبا، بدلًا من أن تصبح الوحش الستاليني الذي صارت إليه. ففي نهاية المطاف، كان النظام القديم، الذي يشبه بشدةٍ النظام القيصري الألماني، بنبلائه الناطقين بالفرنسية، وبرلمانه البرجوازي في العاصمة الأوروبية سانت بطرسبرغ، ذا توجهٍ غربي، حتى لو لم تكن طبقة الفلاحين كذلك.٤١ ولذلك، مرةً أخرى، ففي حين أن خريطة التضاريس الروسية تنتشر في جميع أنحاء آسيا، فإن الخريطة السكانية لروسيا تفضِّل أوروبا.
كانت الثورة البلشفية بمنزلة رفضٍ تامٍّ لهذا التوجه شبه الغربي. وبالمثل، فإن الجرعة المنخفضة من الفاشستية authoritarianism تحت حكم فلاديمير بوتين Putin منذ العام ٢٠٠٠م، وسواء باعتباره رئيسًا أو رئيسًا للوزراء في وقتٍ لاحق، تمثِّل رفضًا لتجربة الانسحاب المفاجئ من الديمقراطية الغربية ورأسمالية السوق التي جعلت روسيا التي تعمها الفوضى تجثو على ركبتيها في تسعينيات القرن العشرين، في أعقاب انهيار الشيوعية. وخلال السنوات الأخيرة، لم يعمل بوتين والرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف Medvedev على توجيه روسيا تمامًا نحو أوروبا والمحيط الهادي؛ وبالتالي لم يُصلِحا روسيا من أجل جعلها قوةً أكثر جاذبية للشعوب التي كانت خاضعة لها في السابق. (وفي الواقع، أن مجالات التجارة، والاستثمار الأجنبي، والتكنولوجيا، والبنية التحتية، والتحصيل العلمي، «قد غطتها الغيوم المظلمة» بالنسبة إلى روسيا تحت حكم بوتين).٤٢ وعلى الرغم من أن بوتين ليس إمبرياليًّا بالمعنى الدقيق للكلمة، فإن آخر إمبراطورية روسية قيد التشكُّل يجري بناؤها على ثروة الموارد الطبيعية الهائلة لدى روسيا، والتي تجد حاجةً ماسَّة إليها في المحيط الأوروبي والصين، مع كل الأرباح والإكراه التي ينطوي عليها ذلك. لم يكن لدى بوتين وميدفيديف أي أفكار نهضوية لطرحها، ولا إيديولوجية من أي نوع، في الواقع؛ فالعامل الوحيد الذي يعمل لمصلحتهما هو الجغرافيا وحدها، وهذا لا يكفي.
تفخر روسيا بامتلاك أكبر احتياطيات العالم من الغاز الطبيعي، وثاني أكبر احتياطيات الفحم، وثامن أكبر احتياطيات النفط، والتي يوجد معظمها في غرب سيبيريا بين جبال الأورال والهضبة الوسطى لسيبيريا. وهذا بالإضافة إلى احتياطيات هائلة من الطاقة الكهرومائية المستمدة من جبال، وأنهار، وبحيرات شرق سيبيريا، والمتوافرة في هذه المرحلة التاريخية التي يمثِّل فيها نقص المياه مشكلة بالغة الأهمية للعديد من الدول، خصوصًا الصين. وقد استخدم بوتين عائدات الطاقة لزيادة الميزانية العسكرية بأربعة أضعاف، وخصوصًا القوات الجوية، خلال أول سبع سنوات له في منصبه؛ كما استمرت الميزانية العسكرية في الارتفاع منذ ذلك الحين. وبسبب الجغرافيا — فإن روسيا، كما ذكرت، ليست لها حدود طبوغرافية واضحة المعالم باستثناء المحيط المتجمد الشمالي والمحيط الهادي — يبدو أن الروس يقبلون «بالعسكرة العميقة الجذور» لمجتمعهم و«بسعي لا ينتهي إلى الأمن من خلال إنشاء إمبراطورية برِّية»، وهو ما منحهم بوتين إياه من خلال خلافته caliphate لعالم الطاقة.٤٣ وبدلًا من تحرير روسيا وإطلاق العنان لإمكاناتها الخاصَّة بالقوة الناعمة في جميع أنحاء الاتحاد السوفييتي السابق والأرض المحيطة للمنطقة الأوراسية المجاورة، اختار بوتين التوسعية القيصرية الجديدة، والتي تجعلها الموارد الطبيعية الوفيرة لبلاده ممكنة التحقُّق على المدى القصير.

ومع ذلك، فلم يتخلَّ بوتين تمامًا عن البعد الأوروبي من الجغرافيا الروسية. وعلى العكس من ذلك، فإن تركيزه على أوكرانيا باعتبارها جزءًا من جهدٍ أكبر لإعادة إنشاء منطقة نفوذ في الجوار القريب يمثِّل دليلًا على رغبته في توطيد علاقة روسيا بأوروبا، وإن كان ذلك بشروط غير ديمقراطية. إن أوكرانيا هي الدولة المحورية التي تعمل على تحويل روسيا في حدِّ ذاتها. ولكونها متاخمةً للبحر الأسود في الجنوب ومجاورة لبلدان أوروبا الشرقية السوفييتية السابقة إلى الغرب، فإن استقلال أوكرانيا ذاته يبقي روسيا إلى حدٍّ كبير بعيدة عن أوروبا. وفي وجود الكاثوليك اليونانيين والرومانيين في الجزء الغربي من أوكرانيا والأرثوذكس الشرقيين في الشرق، فإن غرب أوكرانيا يمثِّل أرضًا خصبة للقومية الأوكرانية في حين يفضِّل الشرق بناء علاقاتٍ أوثق مع روسيا. وبعبارةٍ أخرى، فإن الجغرافيا الدينية الخاصَّة لأوكرانيا توضح دور البلاد باعتبارها دولةً حدودية بين أوروبا الوسطى والشرقية. وقد كتب زبيغنيو بريجنسكي أنه من دون أوكرانيا، فلا يزال في وسع روسيا أن تكون إمبراطورية، لكنها واحدة «آسيوية بصورةٍ غالبة»، ستنساق إلى مزيد من الصراعات مع القوقاز ودول آسيا الوسطى.

ولكن عند وقوع أوكرانيا مرةً أخرى تحت السيطرة الروسية، فستضيف روسيا 46 مليون نسمة إلى تركيبتها الديموغرافية الموجَّهة إلى الغرب، ويمكنها فجأةً أن تتحدى أوروبا، حتى على الرغم من اندماجها فيها. وفي هذه الحالة، ووفقًا لبريجنسكي، فإن بولندا، والتي تطمع فيها روسيا أيضًا، ستصبح «محورًا جيوسياسيًّا» يحدد مصير أوروبا الوسطى والشرقية؛ وبالتالي مصير الاتحاد الأوروبي نفسه.٤٤ إن الصراع بين روسيا وأوروبا، خصوصًا بين روسيا وألمانيا وفرنسا، سيستمر، كما كان الحال منذ الحروب النابليونية، حيث سيظل مصير دول مثل بولندا ورومانيا بانتظار الحسم. لقد انهارت الشيوعية، لكن الأوروبيين لا يزالون بحاجة إلى الغاز الطبيعي من روسيا، والذي يأتي ٨٠٪ منه عن طريق أوكرانيا.٤٥ أدَّى الانتصار في الحرب الباردة إلى تغيير الكثير، من دون شك، لكنه لم يخفف تمامًا من حقائق الجغرافيا. كما أن روسيا الناهضة، كما كتب المحلل الاستخباراتي الأسترالي بول ديب Dibb، قد تكون على استعدادٍ لأن «تفكر في التمزق من أجل خلق مساحة استراتيجية.»٤٦ وكما أظهر غزوها لجورجيا في العام ٢٠٠٨م، فإن روسيا بوتين ليست قوةً يفرضها الوضع الراهن.

وافقت أوكرانيا، تحت ضغط شديد من روسيا، على تمديد عقد إيجار قاعدة الأسطول الروسي على البحر الأسود في مقابل خفض أسعار الغاز الطبيعي، على الرغم من محاولة الكرملين وضع الشبكة الأوكرانية لخطوط أنابيب الغاز تحت سيطرته. (تعتمد أوكرانيا على روسيا أيضًا في الكثير من تجارتها.) ومع ذلك، فليست كل جغرافية خطوط الأنابيب في أوراسيا تعمل لصالح روسيا؛ فهناك خطوط أنابيب تنقل النفط والغاز من آسيا الوسطى إلى الصين. تنقل خطوط الأنابيب نفط بحر قزوين الأذربيجاني عبر جورجيا إلى البحر الأسود وعبر تركيا إلى البحر المتوسط؛ وبالتالي تتجنب روسيا. وهناك أيضًا خطة لبناء خط لأنابيب الغاز الطبيعي من بحر قزوين عبر جنوب القوقاز وتركيا، عبر منطقة البلقان، وصولًا إلى أوروبا الوسطى، والذي يتجنَّب بدوره روسيا. وفي الوقت نفسه، على الرغم من ذلك، تخطط روسيا لبناء خط أنابيب الغاز الخاص بها تحت البحر الأسود جنوبًا إلى تركيا، وخط آخر تحت البحر الأسود غربًا إلى بلغاريا. وكذلك فإن تركمانستان، الواقعة على الجانب الآخر من بحر قزوين، تصدِّر غازها الطبيعي عبر روسيا. وهكذا، فعلى الرغم من إمداداتها المتنوعة من الطاقة فإن أوروبا — وخصوصًا أوروبا الشرقية والبلقان — ستظل معتمدة على روسيا بدرجةٍ كبيرة. إن مستقبل أوروبا، كما كان في الماضي، يتوقف إلى حدٍّ كبير — من وجهة النظر الماكندرية — على التطورات الحادثة في الشرق.

تمتلك روسيا روافع levers أخرى أيضًا: قاعدة بحرية قوية توجد بين ليتوانيا وبولندا على بحر البلطيق؛ ووجود أقلِّيات كبيرة ناطقة بالروسية في دول البلطيق، ومنطقة القوقاز، وآسيا الوسطى؛ وأرمينيا الموالية لروسيا؛ وجورجيا، التي تهددها المقاطعات الانفصالية الموالية لروسيا في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية؛ ومواقع لاختبار الصواريخ وقاعدة جوية في كازاخستان؛ وقاعدة جوية في قرغيزستان يصل مداها إلى أفغانستان، والصين، وشبه القارة الهندية؛ وطاجيكستان التي تسمح للقوات الروسية بأن تقوم بدوريات على حدودها مع أفغانستان. وبالإضافة إلى ذلك، كانت الحملة الإعلامية التي أطلقتها روسيا والضغوط الاقتصادية التي ساعدت على الإطاحة بالرئيس القرغيزي كرمان بك باكييف Bakiyev من السلطة في العام ٢٠١٠م، عقابًا له على جريمة استضافة قاعدة جوية أمريكية.

وفي كثير من هذه الأماكن، من الشيشان الواقعة في شمال القوقاز إلى طاجيكستان المجاورة للصين، يتعيَّن على روسيا التعامل مع الإسلام الناهض على حدودها الجنوبية الشاسعة التي تُعد تاريخيًّا جزءًا من نطاق ثقافي ولغوي فارسي أكبر. ولذلك، فإن استعادة روسيا لجمهورياتها المفقودة، عن طريق إنشاء منطقة للنفوذ عليها، يتطلَّب بالتأكيد إيران صديقة لا تتنافس مع روسيا في هذه المناطق، ولا تصدِّر التطرف الإسلامي. إن روسيا، ولأسبابٍ متجذرة في الجغرافيا، لا يمكنها أن تقدِّم سوى مساعدةٍ ضئيلة في الحملة الأمريكية ضد النظام الإيراني.

ومع ذلك، فعلى الرغم من كل هذه المزايا، فليس من المرجَّح أن يعيد التاريخ نفسه من حيث ظهور إمبراطورية روسية أخرى في مطلع القرن الحادي والعشرين. ويرجع هذا إلى ظروف تاريخية وجغرافية خاصَّة ملتصقة بآسيا الوسطى.

بدأت روسيا ترسِّخ سيطرتها على آسيا الوسطى في أوائل القرن التاسع عشر، عندما ازدادت التجارة الروسية في المنطقة، على الرغم من أنه على السهوب الكازاخستانية، على سبيل المثال، سادت حالة من الفوضى في غياب نقاط الهيمنة السياسية التي تتجاوز تلك الخاصَّة بالعشائر المحلية.٤٧ وفي أوائل القرن العشرين، أنشأ السوفييت عددًا من الدول الفردية من السهوب والنجود الشاسعة في آسيا الوسطى، والتي لم تكن متوافقة مع الحدود العرقية، بحيث إذا حاولت أيٌّ منها الانفصال عن الاتحاد السوفييتي لكان ذلك أمرًا مستحيلًا — إذ سيؤدي ذلك إلى حربٍ بين الأعراق. كان السوفييت يخشون النزعة القومية التركية، والنزعة القومية الفارسية، والوحدة الإسلامية، والتي مثَّل تقسيم المجموعات العرقية حلًّا سحريًّا جزئيًّا بالنسبة إليها. أدَّى ذلك إلى إيجاد عدد كبير من الحالات الشاذة. يبدأ وادي سير داريا Syr Darya في الجزء الذي يسكنه الأوزبكيون من قيرغيزستان ويمر عبر أوزبكستان، ثم عبر طاجيكستان، قبل أن يعود إلى أوزبكستان وينتهي في كازاخستان. أما الطريق الذي يربط بين العاصمة الأوزبكية طشقند وبين مقاطعة فرغانة الأوزبكية، فلا بد أن يمر عبر طاجيكستان. وللوصول من دوشانبي عاصمة طاجيكستان، إلى المنطقتين العرقيتين الطاجيكيتين — خوجنت وخوروغ — يجب أن يمر المرء عبر أوزبكستان وقيرغيزستان. إن بلدة شيمكنت، التي تقع على مقربة من أوزبكستان، تضم أغلبية أوزبكية، لكنها «مُلحقة» بكازاخستان. وكذلك فإن مدينة سمرقند ذات الأغلبية الطاجيكية تقع في أوزبكستان، وهكذا دواليك. ولذلك، فما ظهر في آسيا الوسطى كان قدرًا من القومية العرقية أقل من «السوفييتية» Sovietism كأسلوب للسيطرة والقوة. ولكن في حين ظلت النزعة السوفييتية على قيد الحياة، حتى بعد تفكُّك الاتحاد السوفييتي، فقد هُمِّش الروس العرقيون في المنطقة، كما يوجد عداءٌ قوي ضدهم في بعض الأماكن. ومع ذلك، فإن النزعة القومية التركية والنزعة القومية الفارسية تظل ضعيفة نسبيًّا. ظلت إيران شيعية منذ القرن السادس عشر، في حين أن أغلبية الطاجيك وغيرهم من المسلمين الناطقين بالفارسية في آسيا الوسطى هم من السُّنة. أما بالنسبة إلى الأتراك، فلم تسعَ تركيا الحديثة سوى مؤخرًا لأن تصبح نقطةً محورية في العالم الإسلامي.٤٨

وقد أدَّت النزعة السوفييتية وعدم وجود هوية كاملة لكل دولة من حيث وجود مجموعة عرقية واحدة — يا للسخرية! — إلى مستوًى متواضعٍ من الاستقرار في آسيا الوسطى، وإلى وقوع اضطرابات من آنٍ لآخر في وادي فرغانة وغيره من الأماكن، على الرغم من ذلك.

(وعلى الرغم من ذلك، يجب أن أقول: لا تزال المنطقة تمثِّل برميل بارودٍ يوشك على الانفجار.) إن هذه الدينامية، التي تدعمها ثروة مفرطة في الموارد الطبيعية، قد منحت بعض هذه الدول قوةً تفاوضية كبيرة أمام الدولتين الأوراسيتين الرئيسيتين — موسكو وبكين — وهو الدور الذي يمكن أن تؤديه بعضها قبالة بعض. (تحتاج روسيا إلى غاز آسيا الوسطى لنقله إلى الأسواق الأوروبية؛ وهو الأمر الذي يمنح روسيا القدرة على التأثير على أوروبا، لكن موقف روسيا مهدد بفعل شراء الصين نفسها الغاز الطبيعي من آسيا الوسطى).٤٩ يتميز ناتج آسيا الوسطى بأنه هائل، فمن المعتقد أن حقول تنجيز النفطية في كازاخستان وحدها تحتوي على أكثر من ضعفَي المخزون النفطي للمنحدر الشمالي في ألاسكا.٥٠ وكذلك فإن الإنتاج السنوي لتركمانستان من الغاز الطبيعي هو ثالث أعلى إنتاج في العالم، في حين كانت قيرغيزستان أكبر منتج للزئبق والأنتيمون في الاتحاد السوفييتي، وتمتلك احتياطيات كبيرة من الذهب، والبلاتين، والبالاديوم، والفضة.٥١ بَيْد أن هذه الثروة في الموارد الطبيعية، إضافةً إلى الامتعاض المتبقي من الاحتلال السوفييتي، قد دفعت أوزبكستان، على سبيل المثال، إلى فتح جسرها للسكك الحديدية الموصل إلى أفغانستان أمام عربات منظمة حلف شمال الأطلسي من دون استشارة روسيا في البداية على الأقل؛ كما دفعت تركمانستان إلى تنويع خطوط الطاقة لديها، بدلًا من الاعتماد كليًّا على روسيا، كما دفعت بكازاخستان إلى الاستعانة بالمهندسين الأوروبيين بدلًا من نظرائهم الروس لاستغلال احتياطياتها النفطية «الصعبة» جيولوجيًّا في جرف بحر قزوين.٥٢
وهكذا، فسيكون من الصعب المحافظة على نفوذ روسيا، كما ستظل رهينةً لدرجةٍ ما لتقلُّب أسعار الطاقة العالمية، بالنظر إلى الطريقة التي يُدار بها اقتصاد روسيا نفسها، والمعتمد أساسًا على الموارد الطبيعية، تمامًا مثل نظيره في آسيا الوسطى. ومن المرجَّح أن تكون الإمبراطورية الروسية الجديدة، إذا قُدِّر لها أن تظهر، مجرد نسخة باهتة من سابقاتها، والمقيَّدة ليس فقط من قِبل الدول المتشددة في آسيا الوسطى ولكن بفعل تزايد نفوذ الصين في آسيا الوسطى، وإلى حدٍّ أقلَّ، نفوذ كلٍّ من الهند وإيران. لقد استثمرت الصين أكثر من 25 مليار دولار في آسيا الوسطى، كما تدفع تكلفة شقِّ طريق سريع طوله ألف ميل عبر كازاخستان. وهناك رحلات جوية يومية بين مدينة ألماتي Almaty الكازاخستانية ومدينة أورومكي Urumqui الواقعة في غرب الصين، فيما تملأ البضائع الصينية أسواق آسيا الوسطى.٥٣
قد تمثِّل كازاخستان المستودع الأهم للثروات الروسية في أوراسيا. كازاخستان هي دولة متوسط الدخل، وتتسم بأنها مزدهرة بمقاييس آسيا الوسطى، أما من الناحية الجغرافية فهي تبلغ حجم أوروبا الغربية، مع ناتج محلي إجمالي يزيد على مثيله في جميع دول آسيا الوسطى الأخرى مجتمعة. تقع عاصمة كازاخستان الجديدة، أستانا Astana، في الشمال الروسي العرقي للبلاد، والذي أراد القوميون الروس المتطرفون ضمَّه إلى بلاهم بعد سقوط الاتحاد السوفييتي؛ وفي ذلك الوقت، ومن بين تسعة أقاليم تقع على طول الحدود الشمالية لكازاخستان مع روسيا، والبالغ طولها ثلاثة آلاف ميل؛ ففي ثمانية منها، كان ما يقرب من ٩٠ في المائة من سكان الأجزاء الشمالية غير كازاخستانيين.٥٤ أما المباني الرسمية في أستانا، والتي صمَّمها السير نورمان فوستر Foster، فتشكِّل رفضًا كازاخستانيًّا للطموحات الروسية بشأن بلدهم. سيكلف إعادة تصميم أستانا ١٠ مليارات دولار، كما رُبطت بجنوب البلاد بواسطة قطارات عالية السرعة.٥٥ تتحول كازاخستان حقًّا إلى قوة مستقلة في حدِّ ذاتها، فهي تعكف على تطوير ثلاثة حقول عملاقة بحجم «الفيل» للنفط والغاز ونواتج التكثيف، يقع اثنان منها على بحر قزوين، والتي ضُخَّت استثمارات كبيرة من قِبل الشركات الغربية المتعددة الجنسيات. وسيجري قريبًا الانتهاء من خط جديد لأنابيب النفط، والذي يمتد من بحر قزوين إلى غرب الصين. وتوشك كازاخستان على أن تصبح أكبر منتج لليورانيوم في العالم، وتمتلك ثاني أكبر الاحتياطيات العالمية من الكروم، والرصاص، والزنك، وثالث أكبر احتياطيات المنغنيز، وخامس أكبر احتياطيات النحاس، كما أنها من بين الدول العشر الأولى في احتياطيات الفحم، والحديد، والذهب.

إن كازاخستان هي المنطقة المركزية التي وصفها ماكيندر! فهي غنية بجميع الموارد الطبيعية الاستراتيجية في العالم، كما أنها منطقة متميزة في وسط أوراسيا — والتي تتراكب، كما هو الحال، فوق غرب سيبيريا وآسيا الوسطى — وتمتد على مسافة ١٨٠٠ ميل من بحر قزوين في الغرب إلى منغوليا الخارجية في الشرق. تختفي جبال الأورال في شمال غرب كازاخستان؛ في حين تبدأ سفوح تيان شان في جنوب شرق كازاخستان. يتَّسم مناخ كازاخستان بأنه قاريٌّ عند أطرافها لدرجة أن درجة حرارة أستانا قبل الفجر في فصل الشتاء قد تصل إلى ناقص ٤٠ درجة فهرنهايت. وقد اعتقد ماكيندر أن بعض القوى العظمى أو القوى الفائقة ستتمكن من السيطرة على المنطقة المركزية. ولكن في عصرنا الحالي، فإن المنطقة المركزية توجد في حوزة السكان الأصليين، حتى على الرغم من اقتتال القوى العظمى مثل روسيا والصين على مواردها من الطاقة. من الممكن أن تؤثر روسيا على كازاخستان، بل تضغط عليها بشدة بكثير من الطرق. وفي التحليل النهائي، يتَّسم الاقتصادان الروسي والكازاخستاني بتشابكهما، في حين لا يمكن لكازاخستان أن تدافع عن نفسها ضد الجيش الروسي. لكن كازاخستان ستمتلك دائمًا خيار التحوُّل نحو الصين إذا صار أمثال بوتين أو من يأتون خلفه شديدي الجور لدرجة لا تُطاق؛ وعلى أي حال، فإن احتمالات أن تكون روسيا مستعدة لأن تُعاني الاستنكار الدولي والعزلة الدبلوماسية الناتجَين عن إقدامها على غزو كازاخستان تبدو ضئيلة. وفي العام ٢٠٠٨م، فإن جورجيا، وهي بلد أصغر بأربعين مرة من كازاخستان، مع ثلث سكانها وموارد طبيعية شحيحة، ربما كشفت حدود المغامرة العسكرية الروسية في القارة الفائقة. وفي الواقع، عندما وجهت قيرغيزستان نداءً خفيًّا للقوات الروسية للتدخُّل ضد أعمال الشغب العرقية في العام ٢٠١٠م، لم تُقدِم روسيا على تدخُّل كبير، لخوفها من التورط في دولة جبلية من بلدان آسيا الوسطى تقع على الجانب الآخر من كازاخستان.

وثمَّة عاملٌ مقيِّد آخر ضد التدخل العسكري الروسي في آسيا الوسطى؛ ألا وهو الصين، التي تزايد نفوذها في المنطقة على حساب روسيا، والتي تشترك معها روسيا في حدود طويلة في الشرق الأقصى. تتَّسم العلاقات الروسية-الصينية بأنها جيدة إلى حدٍّ معقول؛ مما يوفر الزخم لمنظمة شانغهاي للتعاون؛ وهي مجموعة تضم في عضويتها كازاخستان، والتي تسعى إلى توحيد القوى الأوراسية، الاستبدادية في معظمها، في محاولة لمواجهة نفوذ الولايات المتحدة. تتَّسم تكلفة العدَاء الروسي-الصيني في تزايد نفوذ الولايات المتحدة وأوروبا في أوراسيا. وبالتالي، فإن روسيا ستهذب سلوكها في آسيا الوسطى، كما يرجح أن تنبذ أي محاولة لاستعادة أجزاء من المنطقة المركزية لماكيندر بالقوة.

ثمَّة تحذير واجب بشأن هذا التحليل: ربما ضعف نفوذ روسيا في آسيا الوسطى بسبب صعود الصين ورغبة بلدان آسيا الوسطى في إجراء المزيد من الأعمال مع البلدان التي لا تمثِّل تهديدًا، والعالية التكنولوجيا مثل كوريا الجنوبية واليابان. ولكن في حين تتَّسم الخيارات العسكرية الروسية بأنها مقيدة إلى حدٍّ ما، فلا يزال في وسع روسيا أن تحرِّك قواتها عبر جميع أنحاء آسيا الوسطى بطريقةٍ لا تستطيعها أي قوة أخرى، كما أن بلدان آسيا الوسطى لا تزال تحمل بعض الحنين، في هذه الأزمنة المضطربة سياسيًّا، للسلام والأمن الذي كان سائدًا في أيام الاتحاد السوفييتي القديم.

ومع ذلك، فإن ديمتري ترينين من مركز كارنيغي في موسكو قد يكون على حق: إن أفضل أمل حقيقي لروسيا على المدى الطويل هو تحرير اقتصادها وسياساتها، من أجل جعل روسيا جذابة للكازاخستانيين وغيرهم من الشعوب التي كانت خاضعة لهم في السابق. أما المنطقة المركزية، فمع انهيار الشيوعية وظهور العولمة، فقد صارت قوة في حدِّ ذاتها. أما كازاخستان، التي تبلغ مساحتها أكثر من ضعف مساحة دول آسيا الوسطى الأخرى مجتمعةً، فتوضح ذلك.

إن ماكيندر، الذي كان يخشى التقسيم الأفقي للعالم إلى طبقات وإيديولوجيات، كان يعتقد أنه جنبًا إلى جنب مع توازن القوى، فإن الإقليمية provincialism — أو التقسيم الرأسي للعالم إلى مجموعاتٍ ودول صغيرة — هو ما يساعد على ضمان الحرية.٥٦
١  Alexander Solzhenitsyn, August 1914, translated by Michael Glenny (New York: Farrar, Straus and Giroux, 1971, 1972), p. 3.
٢  Saul B. Cohen, Geography and Politics in a World Divided (New York: Random House, 1963), p. 211.
٣  G. Patrick March, Eastern Destiny: Russia in Asia and the North Pacific (Westport, CT: Praeger, 1996), p. 1.
٤  Philip Longworth, Russia: The Once and Future Empire from Pre-History to Putin (New York: St. Martin’s Press, 2005), pp. 16-17.
٥  March, Eastern Destiny, pp. 4-5; W. Bruce Lincoln, The Conquest of a Continent: Siberia and the Russians (New York: Random House, 1994), p. xx, 2007 Cornell University Press edition.
٦  التتري من المسلمين السُّنة الناطقين بالتركية، والذين تضمنت الجيوش المغولية كثيرًا منهم؛ مما أدَّى إلى استخدام التسمية بشكلٍ متبادل.
٧  March, Eastern Destiny, p. 18.
٨  James H. Billington, The Icon and the Axe: An Interpretive History of Russian Culture (New York: Knopf, 1966), p. 11.
٩  Ibid., pp. 18-19, 26.
١٠  Longworth, Russia, p. 1.
١١  Lincoln, The Conquest of a Continent, p. 19.
١٢  Longworth, Russia, pp. 48, 52-53.
١٣  Robert Strausz-Hupé, The Zone of Indifference (New York: G. P. Putnam’s Sons, 1952), p. 88.
١٤  Longworth, Russia, pp. 94-95; March, Eastern Destiny, p. 28.
١٥  Robert D. Kaplan, introduction to Taras Bulba, translated by Peter Constantine (New York: Modern Library, 2003).
١٦  Alexander Herzen, My Past and Thoughts, translated by Constance Garnett (Berkeley: University of California Press, 1968, 1982), p. 97.
١٧  Longworth, Russia, p. 200.
١٨  Denis J. B. Shaw, Russia in the Modern World: A New Geography (Oxford: Blackwell, 1999), pp. 230–32.
١٩  Ibid., pp. 5, 7; D. W. Meinig, “The Macrogeography of Western Imperialism,” in Settlement and Encounter, edited by F. H. Gale and G. H. Lawson (Oxford: Oxford University Press, 1968), pp. 213–40.
٢٠  Lincoln, The Conquest of a Continent, p. xix.
٢١  Longworth, Russia, p. 322.
٢٢  Colin Thubron, In Siberia (New York: HarperCollins, 1999), pp. 99, 122.
٢٣  Lincoln, The Conquest of a Continent, p. 57.
٢٤  Ibid., pp. 89, 395.
٢٥  هناك، أيضًا، مسألة ارتفاع درجة حرارة القطب الشمالي، التي من شأنها إذابة البحار المتجمدة التالية: الأبيض، وبارنتس، وكارا، ولابتيف، وبحر شرق سيبيريا، التي تصب فيها جميع أنهار سيبيريا الهائلة؛ مما يُطلق العنان للإمكانيات الاقتصادية للمنطقة.
٢٦  March, Eastern Destiny, pp. 51, 130.
٢٧  Simon Saradzhyan, “Russia’s Red Herring,” ISN Security Watch, Zurich, May 25, 2010.
٢٨  March, Eastern Destiny, p. 194.
٢٩  Shaw, Russia in the Modern World, p. 31.
٣٠  تضمنت الخرائط السوفييتية لأوروبا من الآن فصاعدًا كلًّا من روسيا الأوروبية، وهي طريقة لرسم الخرائط تضمن ألا يُنظر إلى موسكو على أنها دخيلة؛ كما أنها جعلت دول أوروبا الشرقية تظهر وكأنها أكثر مركزية، حيث أصبحت الجمهوريات السوفييتية مثل أوكرانيا ومولدوفا، في الواقع، تمثِّل أوروبا الشرقية الجديدة. المصدر: Jeremy Black, Maps and History: Constructing Images of the Past (New Haven: Yale University Press, 2009), p. 151.
٣١  Shaw, Russia in the Modern World, pp. 22-23.
٣٢  March, Eastern Destiny, pp. 237-38.
٣٣  Saradzhyan, “Russia’s Red Herring”.
٣٤  Zbigniew Brzezinski, The Grand Chessboard: American Primacy and Its Geostrategic Imperative (New York: Basic Books, 1997), p. 98.
٣٥  John Erickson, “‘Russia Will Not Be Trifled With’: Geopolitical Facts and Fantasies,” in Geopolitics, Geography and Strategy, edited by Colin S. Gray and Geoffrey Sloan (London: Frank Cass, 1999), pp. 242-43, 262.
٣٦  Brzezinski, The Grand Chessboard, p. 110.
٣٧  Dmitri Trenin, “Russia Reborn: Reimagining Moscow’s Foreign Policy,” Foreign Affairs, New York, November-December 2009.
٣٨  Shaw, Russia in the Modern World, p. 248.
٣٩  Trenin, “Russia Reborn”.
٤٠  Paul Bracken, Fire in the East: The Rise of Asian Military Power and the Second Nuclear Age (New York: HarperCollins, 1999), p. 17.
٤١  W. H. Parker, Mackinder: Geography as an Aid to Statecraft (Oxford: Clarendon Press, 1982), p. 157.
٤٢  Philip Stephens, “Putin’s Russia: Frozen in Decline,” Financial Times, London, October 14, 2011.
٤٣  Paul Dibb, “The Bear Is Back,” The American Interest, Washington, DC, November-December 2006.
٤٤  Brzezinski, The Grand Chessboard, p. 46.
٤٥  Richard B. Andres and Michael Kofman, “European Energy Security: Reducing Volatility of Ukraine-Russia Natural Gas Pricing Disputes,” National Defense University, Washington, DC, February 2011.
٤٦  Dibb, “The Bear Is Back”.
٤٧  Martha Brill Olcott, The Kazakhs (Stanford: Hoover Institution Press, 1987, 1995), pp. 57-58.
٤٨  Olivier Roy, The New Central Asia: The Creation of Nations (New York: New York University Press, 1997, 2000), pp. xiv–xvi, 8-9, 66–69, 178.
٤٩  Andres and Kofman, “European Energy Security”.
٥٠  Olcott, The Kazakhs, p. 271.
٥١  Dilip Hiro, Inside Central Asia: A Political and Cultural History of Uzbekistan, Turkmenistan, Kazakhstan, Kyrgyzstan, Tajikistan, Turkey, and Iran (New York: Overlook Duckworth, 2009), pp. 205, 281, 293.
٥٢  Martin C. Spechler and Dina R. Spechler, “Is Russia Succeeding in Central Asia?,” Orbis, Philadelphia, Fall 2010.
٥٣  James Brooke, “China Displaces Russia in Central Asia,” Voice of America, November 16, 2010.
٥٤  Olcott, The Kazakhs, p. 273.
٥٥  Hiro, Inside Central Asia, p. 262.
٥٦  Parker, Mackinder, p. 83.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥