الفصل الخامس
تشويه النازية
«حتى بعد الحرب، سيكون هناك القليل من الراحة من مأساة الوضع البشري.»
المؤلف
باعتبارهم ورثة القوة البرِّية، كان الألمان والروس على مر القرون يفكرون من منظور
الجغرافيا أكثر مما يفعل الأمريكان والبريطانيون، وهم ورثة القوة البحرية. وبالنسبة إلى
الروس، الذين لم يغب عن أذهانهم الدمار الذي أحدثته القبيلة الذهبية Golden
Horde من المغول، فإن الجغرافيا تعني ببساطة أنه من دون التوسع هناك خطر
التعرض للغزو؛ فالأراضي الكافية غير كافية أبدًا. إن حاجة روسيا لإمبراطورية من الدول
التابعة في أوروبا الشرقية خلال الحرب الباردة، واستخدامها القوة العسكرية، وقلب أنظمة
الحكم، وبنية طرق خطوط أنابيب الطاقة الخاصَّة بها كانت كلها مصممة لاستعادة جوارها القريب؛
وبالتالي فإن إعادة تشكيل الاتحاد السوفييتي السابق عمليًّا، هي عواقب انعدام الأمن المتجذر.
غير أن الألمان، على الأقل حتى منتصف القرن العشرين، كانوا أكثر وعيًا منهم بالجغرافيا.
لقد
تغيَّر شكل الأراضي الناطقة بالألمانية على خريطة أوروبا باستمرار منذ العصور المظلمة
وحتى
العصر الحديث، في حين لم توحَّد الدولة الألمانية إلا في ستينيات القرن التاسع عشر تحت
حكم
أوتو فون بسمارك Bismarck.
تقع ألمانيا في القلب من أوروبا، باعتبارها قوةً برِّية وبحرية على حدٍّ سواء؛ وبالتالي
تدرك
تمامًا علاقاتها مع أوروبا الغربية البحرية والمنطقة المركزية لروسيا وشرق أوروبا. وفي
نهاية المطاف، كانت انتصارات ألمانيا على الدنمارك، والنمسا تحت حكم آل هابسبورغ، وفرنسا
نتيجة لألمعية بسمارك الاستراتيجية، والمترسخة في إحساسه الحاد بأهمية الجغرافيا، والذي
تمثَّل في الواقع في الاعتراف بالحدود؛ وهي تلك المناطق السلافية الواقعة إلى الشرق والجنوب
الشرقي والتي لا تجرؤ ألمانيا على الذهاب إليها. أدَّى تخلي ألمانيا عن حذر بسمارك إلى
خسارتها
في الحرب العالمية الأولى؛ ما منح الألمان شعورًا أكثر حدَّة بأوجه ضعفهم — واحتمالاتهم
— من
الناحية الجغرافية.
باعتبار بلادهم متغيِّرة تاريخيًّا على الخريطة، وواقعة بين البحر إلى الشمال وجبال
الألب
في الجنوب، مع كون السهول الواقعة إلى الغرب والشرق مفتوحة أمام الغزو والتوسع على حدٍّ
سواء، عاش الألمان الجغرافيا بالمعنى الحرفي للكلمة؛ فهم الذين وضعوا وطوَّروا علم
الجغرافيا السياسية، أو
Geopolitik باللغة الألمانية، الذي
هو مفهوم المساحة المحكومة سياسيًّا وعسكريًّا. وكانت هذه النظريات الجغرافية، التي تدين
بالكثير لماكيندر خلال النصف الأول من القرن العشرين، هي التي أدَّت إلى إبطال الألمان
وتشويه سمعة الجغرافيا والجغرافيا السياسية لأجيال من الألمان منذ الحرب العالمية الثانية.
بدأ صعود وسقوط الجغرافيا السياسية، وهي عملية قام فيها مُنظِّر بعد الآخر بالاستفادة
من
كتابات سلفه وإساءة استخدامها على حدٍّ سواء، التي بدأها عن قصدٍ فريدريش راتزِل
Ratzel، وهو جغرافي وإثنوغرافي ألماني عاش في أواخر
القرن التاسع عشر، وهو الذي صاغ فكرة المجال الحيوي
Lebensraum،
١⋆ أو «المجال الحيوي». وفي الحقيقة، يدين المفهوم بأصله إلى مهاجر ألماني إلى
أمريكا في أوائل القرن التاسع عشر، هو فريدريش لِيست
List،
وهو صحافي وأستاذ في العلوم السياسية، ومُضارب في مجال الأعمال، وصديق لهنري كلاي
Clay، الذي استلهم مبدأ مونرو
Monroe
Doctrine، بفكرته المتمثِّلة في منطقة جغرافية واسعة وذات سيادة من
الناحية العملية. أما بالنسبة إلى راتزِل، فقد تأثر كثيرًا بدوره بكتابات تشارلز داروين
Darwin؛ وبالتالي وضع مفهومًا للجغرافيا يتَّسم بكونه
عضويًّا وبيولوجيًّا إلى حدٍّ ما، وهو الذي تتطور فيه الحدود باستمرار وفقًا لحجم وتركيبة
المجموعات البشرية في المناطق المجاورة. وفي حين ننظر إلى الحدود باعتبارها ساكنة، أو
كتمثيل متجسد للديمومة، والشرعية، والاستقرار، فلم يرَ راتزِل سوى التوسع والانكماش
التدريجي، وعدم الثبات في شئون الأمم. وبالنسبة إليه، كانت الخريطة تتنفس وكأنها كائن
حي، ومن
هنا جاءت فكرة الحالة العضوية-البيولوجية التي صيغ توسيع نطاقها باعتباره قانونًا طبيعيًّا.
وصاغ أحد طلاب راتزِل، وهو السويدي رودولف كيلين Kjellén،
الذي عمل باحثًا في العلوم السياسية في جامعتَي أوبسالا وغوتبورغ، مصطلح «الجغرافيا
السياسية». كان كيلين، باعتباره قوميًّا سويديًّا متحمسًا، يخشى سياسة التوسع الروسية
سعيًا
منها إلى الوصول إلى المياه الدافئة نسبيًّا لبحر البلطيق؛ ومن ثم فقد رغب في انتهاج
السويد
وفنلندا سياسةً توسعية لمواجهة المكائد الروسية. وفي حين وجد كيلين دعمًا لآرائه بين
أفراد
الطبقتين الأرستقراطية والوسطى العليا، الذين استشعروا الحنين إلى عظمة السويد الماضية
تحت حكم
ملوك مثل غوستافوس أدولفوس Gustavus Adolfus وتشارلز الثاني
عشر Charles XII، ففي نهاية المطاف لم تلقَ آراءه سوى دعم
ضئيل من عموم الجمهور.
إن الشهية لاستعادة الحيازات السابقة للقوى العظمى في شبه جزيرة اسكندنافيا، حتى بحلول
أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، كانت بمنزلة ماضٍ بعيد. نقل كيلين كل آماله إلى
«ألمانيا كبرى»؛ تقف في مواجهة روسيا وإنجلترا، اللتين كان يكرههما على وجه
الخصوص.
إن إمبراطورية كيلين الألمانية المستقبلية، كما صنَّفها كذلك، شملت كامل أراضي أوروبا
الوسطى والشرقية، وكذلك موانئ القنال بطول الساحل الفرنسي، ومقاطعات البلطيق الروسية،
وأوكرانيا، وآسيا الصغرى، وبلاد ما بين النهرين (وهي التي سيجري ربطها ببرلين بواسطة
خطوط هائلة
للسكك الحديدية). ومن خلال تطبيق أفكار راتزِل، صنَّف كيلين المجتمعات البشرية من
الناحيتين العرقية والبيولوجية، كما تصوَّر الدولة من حيث «شعبها»
Volk، الذي — إذا كان نشيطًا وديناميكيًّا بما فيه
الكفاية — فسيحتاج إلى مقدار كبير بصفةٍ خاصَّة من المجال الحيوي. إن نفس الفصاحة والتبجُّح
الساكنين لفكر راتزِل وكيلين هما ما استخدم جيلًا من القتلة اللاحقين لتبرير أفعالهم.
تتَّسم
الأفكار بأهميتها، سواء كانت خيِّرة أو شريرة، كما أن الأفكار الضبابية قد تكون خطيرة
بصفة
خاصَّة. وفي حين أن الجغرافيا القويمة تبيِّن لنا ما سنئُول إليه في مواجهة التحديات
التي
تحتنكنا في جميع أنحاء العالم، فإن آراء راتزِل وكيلين تمثِّل جغرافيا غير منطقية تقضي
على
الفرد وتستبدل به حشدًا عنصريًّا هائلًا.
لا يمثِّل هذا كله أكثر من مقدمة لحياة كارل هاوسهوفر
Haushofer، وهو منظِّر الجغرافيا السياسية الرئيسي
للنازية والمعجب المخلص بماكيندر. إن التحريف المأساوي لأكار ماكيندر من قِبل هاوسهوفر،
وكذلك الخطر الذي شكَّلته الجغرافيا السياسية النازية، مذكوران بفصاحةٍ في كتابٍ ظل منسيًّا
إلى
حدٍّ كبير لكنه يعدُّ من الأعمال الكلاسيكية في العلوم السياسية، وهو بعنوان «الجغرافيا
السياسية: الكفاح من أجل المساحة والقوة» لمؤلفه روبرت شتراوس-هوبي
Strausz-Hupé، والمنشور
في العام ١٩٤٢م.
كان شتراوس-هوبي، وهو مهاجر نمساوي إلى الولايات المتحدة، عضوًا في هيئة التدريس
بجامعة
بنسلفانيا، وسفيرًا للولايات المتحدة في أربعة بلدان (بما فيها تركيا) خلال سنوات الحرب
الباردة. وفي العام ١٩٥٥م في فيلادلفيا، أسس معهد أبحاث السياسة الخارجية، الذي عملت
معه
على نحوٍ غير متفرغ طوال عقدين من الزمن. إن كتاب شتراوس-هوبي، الذي ألَّفه قبل أن يتحول
المد لصالح الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، كان محاولةً واضحة ليس فقط لشرح خطر
الجغرافيا السياسية النازية لمواطني البلد الذي صار وطنًا له، ولكن لشرح ماهية الجغرافيا
السياسية وسبب أهميتها، بحيث يمكن لقوى الخير أن تستفيد منها بطريقةٍ تختلف كثيرًا عما
كان
يفعل النازيون. وبالتالي، فقد عمل شتراوس-هوبي على إنقاذ سمعة ماكيندر وسمعة التخصص العلمي
في حدِّ ذاته، أثناء تأدية عمل من أعمال الفاعلية الفردية individual
agency من خلال القيام بواجبه الفكري لكسب الحرب.
ولد اللواء الأستاذ الدكتور كارل هاوسهوفر في ميونيخ في العام ١٨٦٩م. كان كلٌّ من
جدِّه، وعمه،
ووالده من الكتَّاب الذين تناولوا رسم الخرائط والسفر؛ وبالتالي كان خط حياته مرسومًا.
التحق هاوسهوفر بالجيش البافاري، وفي العام ١٩٠٩م عُيِّن مدربًا للمدفعية في الجيش الياباني.
صار الرجل مفتونًا بالنهضة العسكرية في اليابان، التي دعا إلى تحالفها مع ألمانيا. حارب
هاوسهوفر في الحرب العالمية الأولى باعتباره قائد لواء، وكان مساعده هو الضابط النازي
رودولف هيس
Hess، الذي سيفرد لاحقًا العديد من الكتب
له. وبعد الحرب، عُيِّن هاوسهوفر رئيسًا لقسم الجغرافيا والعلوم العسكرية في جامعة ميونيخ،
حيث تبعه هيس كتلميذ. وعن طريق هيس، التقى هاوسهوفر «بالمهيِّج الصاعد» أدولف هتلر
Hitler، الذي سيزوره هاوسهوفر لتزويده ببعض الملخصات
الأكاديمية حول الجغرافيا السياسية عندما كان هتلر سجينا في قلعة لاندسبرغ، في أعقاب
فشل
انقلاب قاعة الجعة في العام ١٩٢٣م. ألَّف هتلر كتابه المعنون «كفاحي»
Mein
Kampf في ذلك الوقت، وباعتبار أنه لم يُكمل تعليمه، فقد احتاج، على الرغم من
بديهيته، إلى معرفة المزيد عن العالم الحقيقي. وهنا جاء دور هذا الأستاذ الجامعي الذي
يمكن
أن يملأ بعض الثغرات في معارفه. من المحتمل أن يكون الفصل الرابع من كتاب «كفاحي»، الذي
يحدِّد السياسة الخارجية للحزب النازي، والمثال النازي للمجال الحيوي، قد تأثر بأفكار
هاوسهوفر، الذي تأثر بدوره، من بين آخرين، بكلٍّ من راتزِل، وكيلين، وماكيندر على وجه
الخصوص.
كتب ماكيندر أن تاريخ العالم قد تشكَّل دائمًا بفعل الاندفاعات الكبرى نحو الخارج من
قِبل
الشعوب غير الساحلية الموجودة بالقرب من أوروبا الشرقية والأراضي المركزية لأوراسيا.
٢
يصطحبنا شتراوس-هوبي في رحلة بطول الخط الفكري الذي صار هاوسهوفر عبره مفتونًا بأفكار
معاصره ماكيندر. وعلى الرغم من كونه مهووسًا بالقوة البرِّية، فإن ماكيندر لم يستخفَّ
أبدًا في الواقع
بأهمية القوة البحرية. لكنه كان متشائمًا بشأن مقدرة القوة البحرية البريطانية
على منع القوة البرِّية الألمانية من الإغارة على المنطقة المركزية. وأنه بمجرد استيلائها
على
الأراضي المركزية، فإن ألمانيا ستتمكن من بناء قوة بحرية كبيرة لكي تساعدها في احتلال
الجزيرة العالمية. أوضح ماكيندر أنه خلال القرن العشرين، أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، ستحتاج
القوة
البحرية إلى وصول أوسع وأعمق إلى اليابسة للاستفادة من عصر التصنيع. يعني عصر التصنيع
عالمًا خاصًّا بالدول الكبرى، حيث القوي يأكل الضعيف. اعتمد هاوسهوفر نظرية ماكيندر هذه
«لعَكْس وجهة النظر الألمانية»، كما كتب شتراوس-هوبي، «وخلص إلى أن المسار الألماني إلى
مصافِّ القوى العالمية يقع بطول الخطوط التي ظلت تُرعب الإنجليز دومًا؛ أي توحيد «المناطق
الكبرى» الألمانية والروسية. بَيْد أن هاوسهوفر، على حدِّ تعبير شتراوس-هوبي، يصبح مبهمًا
على
نحوٍ إيجابي، وباطنيًّا
mystical، وغامضًا عندما يصف الأراضي
المركزية لماكيندر؛ فهي «مهد فاتحي العالم» و«قلعة عملاقة تمتد من نهر إلبه إلى نهر
آمور»؛ أي من وسط ألمانيا إلى منشوريا والشرق الأقصى الروسي، حيث يمكن لألمانيا أن تسحب
الصناعات الحربية الحيوية إلى أعماقه، في حين تستطيع جيوشها وبحريتها أن تضرب إلى الخارج
في
جميع الاتجاهات.»
٣
وفي حين أن ماكيندر؛ كونه متأثرًا بالولسونية وبالحاجة إلى الحفاظ على توازن القوى
في
أوراسيا، أوصى في العام ١٩١٩م بإنشاء حزام من الدول المستقلة في أوروبا الشرقية، فإن
هاوسهوفر، وعن طريق قَلْب فرضية ماكيندر، قد دعا بعد بضع سنوات إلى «انقراض تلك الدول».
ذكر
شتراوس-هوبي أن هاوسهوفر قد وصفها بأنها «كسرات من الدول … شظايا»، وهي التي لا يفكر
سكانها
إلا بمفهوم «الحيز الضيق»؛ الأمر الذي يعني بالنسبة إلى هاوسهوفر، وكما أوضح شتراوس-هوبي،
«علامة لا لبس فيها على الاضمحلال».
ويستطرد شتراوس-هوبي، فيشرح «المنطق الأنيق» لهاوسهوفر حول انحلال الإمبراطورية
البريطانية والحاجة إلى تفتيت الاتحاد السوفييتي إلى الأجزاء العرقية المكوِّنة له، والتي
ستعتمد جميعها على ألمانيا الكبرى، التي يرى هاوسهوفر أنها الدولة الوحيدة التي يحق لها
تقرير مصيرها الوطني.
ووفق تعبير هاوسهوفر نفسه، فإن «ثلث الشعب الألماني يعيش (بالفعل) تحت حكم أجنبي
خارج
حدود الرايخ
Reich الألماني». ويحذرنا شتراوس-هوبي من أن
الجغرافيا السياسية وفق المنظور الألماني هي عالم من «الحركات البهلوانية على أرجوحة
الإيديولوجية»، والتي لها استنتاجات «صارخة البساطة». يفترض النظام العالمي الجديد الألماني
وجود شرق آسيا الكبرى تحت الهيمنة اليابانية، و«عموم أمريكا» التي تهيمن عليها الولايات
المتحدة، والأراضي المركزية لأوراسيا التي يهيمن عليها الألمان، مع إقليم فرعي يضم «البحر
المتوسط وشمال أفريقيا، ويقع تحت السيادة الخفيَّة لإيطاليا». ولكن بالنسبة إلى هاوسهوفر،
ليست هذه سوى خطوة وسيطة؛ فوفقًا لماكيندر، فإن المنطقة المركزية تسيطر على الجزيرة
العالمية؛ وبالتالي على العالم.
٤
يخبرنا شتراوس-هوبي بأن مفهوم ماكيندر عن المنطقة المركزية «متأثر بوجهة النظر الشخصية
المحضة لرجل إنجليزي من العصر الإدواردي». وطوال الجيل الذي عاش فيه ماكيندر، كانت روسيا
خصمًا لبريطانيا العظمى طوال قرن تقريبًا؛ وبالتالي فقد عاش السياسيون البريطانيون مع
الخوف
من روسيا التي قد تسيطر على مضيق الدردنيل، وتلتهم الإمبراطورية العثمانية؛ ومن ثم تهاجم
الهند. وبالتالي، فقد ركَّز ماكيندر اهتمامه على بناء طبقة عازلة من الدول المستقلة بين
روسيا وأوروبا البحرية، حتى على الرغم من تعريفه للأراضي المركزية داخل روسيا نفسها على
أنها
أداة بصرية للاستراتيجية. وفي هذا السياق، كتب وشتراوس-هوبي أن «رؤية ماكيندر لم تتوافق
جيدًا إلا مع الفلسفة المريضة لقوة عالمية أو انهيار مفاجئ، وهو ما يفسر الكثير عن
الباثولوجيا الوطنية الألمانية. يوجد في مبادئ ماكيندر نفس النوع من الغائية
finality التي تتوق إليها العقلية الفاجنرية». وعلى الرغم من
ذلك، فإن شتراوس-هوبي ينقذ، في نهاية المطاف، سمعة ماكيندر بقوله:
إن كتاب ماكيندر — الذي ألَّفه في وقت لم تكن فيه الجيوش قد عادت بعدُ من ساحات المعارك
—
يستحق التبجيل بسبب انعزاليته الباردة ولكون وجهات النظر الأوسع للتاريخ لم تغب عن ناظريه
قط. إن إيمانه بالفرد هو ما كان يفتقر إليه معجبه الألماني على نحوٍ يرثى له. وعلى الرغم
من أن
هاوسهوفر يحب التأكيد على الجزء الخاص بالبطولة في صياغة التاريخ، فإن التضحية الجماعية
في
ساحة المعركة وليس الكفاحات المجهولة للرجال والنساء العاديين … هو ما كان يدور في ذهنه.
٥
آمن شتراوس-هوبي وماكيندر على حدٍّ سواء بالفعالية الإنسانية، وبحرمة الفرد، كما
يقولان،
في حين لم يكن رواد الجغرافيا السياسية Geopolitikers
الألمان يؤمنون بذلك.
وفي حين أن الأراضي المركزية من منظور ماكيندر هي وسيلة لافتة لشرح الجغرافيا السياسية،
فهي تصبح بين يدَي هاوسهوفر إيديولوجية مخبولة وحالمة على حدٍّ سواء. ومع ذلك، فإن
شتراوس-هوبي يأخذها على محمل الجد تمامًا، وينصح زملاءه الأمريكيين بأن يحذوا حذوه: كتب
شتراوس-هوبي أن هاوسهوفر «نقل للنازيين شيئًا فشلت في توفيره التأملات الضبابية لأدولف
هتلر؛
وهو المذهب المتماسك للإمبراطورية». وفي حين رأى ماكيندر المستقبل من حيث توازن القوى
من
شأنه أن يصون الحرية، كان هاوسهوفر عازمًا على الإطاحة بميزان القوى تمامًا؛ وبالتالي
حرَّف
الجغرافيا السياسية. ويعني ذلك أنه كما حرَّف هاوسهوفر أفكار ماكيندر تمامًا، حرَّف كذلك
أفكار اللورد جورج ناثانيل كورزون Curzon. كان كورزون قد
ألقى محاضرة في العام ١٩٠٧م حول «الحدود». ألَّف هاوسهوفر،
مستلهمًا كورزون، كتابًا بعنوان «الحدود»، الذي كان يتعلق، في الواقع، بكيفية تحطيمها.
ووفقًا لهاوسهوفر، فإن الأمم الآفلة فقط هي التي تسعى إلى امتلاك حدود مستقرة، وأن تلك
المتدهورة وحدها تسعى إلى حماية حدودها بتحصينات دائمة؛ فالحدود هي كائنات حية. أما الأمم
القوية، فهي تبني الطرق بدلًا من ذلك. لا تمثِّل الحدود إلا عوائق مؤقتة للأمم السائدة.
ومن دون ريب، فما الجغرافيا السياسية الألمانية إلا حرب أبدية على «المساحة»؛ وبالتالي
فهي
أقرب إلى العدمية. وهنا يضيف شتراوس-هوبي ما يلي:
وعلى أي حال، ينبغي ألَّا نفترض أن هذا الاستخدام المنحرف، على الرغم من كونه مدمرًا
للسلام
في العالم، يُبطل بالضرورة جميع النظريات الجيوسياسية؛ فالأنثروبولوجيا
anthropology لا تقل باعتبارها علمًا عن كونها وسيلة
استُخدمت لدعم العنصرية.
٦
لكن هاوسهوفر، حتى ضمن منظوره العنيف للعالم، كان لديه عدد قليل من المبادئ الثابتة.
وفي
عيد ميلاد هتلر الخمسين، في العام ١٩٣٩م، وصف الفوهرر
Führer
بأنه «رجل دولة» يجمع في شخصه بين «دم كلاوزفيتز، ومساحة وتراب راتزِل».
٧
استقبل هاوسهوفر المعاهدة الروسية-الألمانية لعام ١٩٣٩م بحماس في مقالة
افتتاحية له، مشددًا على ضرورة ضم ألمانيا قواتها البرِّية إلى تلك الروسية. ومع
ذلك، فبعد غزو هتلر لروسيا في العام ١٩٤١م، كتب افتتاحية أخرى، احتفى فيها بالغزو باعتباره
وسيلة للاستيلاء على الأراضي المركزية. وبطبيعة الحال، لم يكن أحد يجرؤ على انتقاد قرار
هتلر. هناك حجة قوية لإثبات أن الروابط المحددة بين هاوسهوفر وهتلر كانت مبالغًا فيها،
حتى
على الرغم من أن هاوسهوفر — مع ذلك — صار ممثلًا نموذجيًّا للرؤية الاستراتيجية النازية.
٨ وعلى أي حال، فعندما تغيَّر سيْر الحرب إلى الأسوأ، فقد هاوسهوفر حظوته لدى
الفوهرر، فسُجن في معسكر داخاو
Dachau للاعتقال في العام
١٩٤٤م. وفي العام نفسه، فإن نجل هاوسهوفر، ألبرخت، وهو متخصص بدوره في الجغرافيا السياسية،
قد أُعدم لمشاركته في مؤامرة عسكرية ضد هتلر. وقد حدث هذا بعد أن سُجن هاوسهوفر وأسرته.
ثم
إن هناك حقيقة كون زوجة هاوسهوفر نصف يهودية: حظي الزوجان بالحماية من القوانين العنصرية
النازية بفضل هيس، الذي كان قد سُجن في بريطانيا في العام ١٩٤١م بعد أن سافر بمفرده جوًّا
إلى
هناك للتفاوض على سلامٍ منفصل. لا بد أن التناقضات في حياة هاوسهوفر قد صارت أكثر من
أن
تُحتمل؛ إذ صار تدريجيًّا على وعيٍ بالمذابح والدمار الهائل الذي تسببه حرب عالمية أدَّى
دورًا
في إشعالها. تمثِّل حياة هاوسهوفر درسًا إرشاديًّا حول الأخطار المتأصلة لدى المفكرين
الذين
يسعون باستماتة إلى الحصول على الحظوة لدى من هم في السلطة. وبعد فترة قصيرة من هزيمة
ألمانيا
وتحقيق الحلفاء معه بتهمة ارتكاب جرائم حرب، فقد انتحر كلٌّ من هاوسهوفر وزوجته.
لم تكن أعمال شتراوس-هوبي مصمَّمة لمجرد تشويه سمعة هاوسهوفر وإنقاذ سمعة ماكيندر،
لكن
لمناشدة الأمريكيين أن يأخذوا الجغرافيا السياسية على محمل الجد؛ لأنهم إن لم يفعلوا
ذلك،
فسيفعل ذلك البعض الآخر بدافع من سوء النية، وسيتمكنون خلال تلك العملية من قَهر الولايات
المتحدة. وكما يكتب في نهاية كتابه:
إن آلة الحرب النازية هي أداة الغزو؛ أما الجغرافيا السياسية فهي الخطة الرئيسية المصممة
لتوجيه أولئك الذين يستخدمون الأداة إلى غزو مَن وكيف. لقد تأخر الوقت، لكن الأوان لم
يفتْ
بعدُ للاستفادة من دروس الجغرافيا السياسية.
٩
ولأن شتراوس-هوبي كان واقعيًّا قلبًا وقالبًا، فإن فضح بعض الأسس الفكرية لبرنامج
الغزو
الخاص بدولة استبدادية لم يكن كافيًا بالنسبة إليه، إضافة إلى كونه عملًا غاية في السهولة.
كان يعرف الحقيقة المزعجة المتمثِّلة في أنه مثلما كان منطق ماكيندر معيبًا في العديد
من
النقاط الحاسمة، فإن منطق هاوسهوفر، على الرغم من كونه منحرفًا، يمتلك أساسًا من الواقع.
لذلك
تمثَّل هدف شتراوس-هوبي من ذلك في تشبيع الأمريكيين — الذين يعيشون في عزلة رائعة بحكم
كون بلادهم محدودة بمحيطَين اثنين — بمزيد من التقدير للتخصص الجغرافي، بحيث يمكن للولايات
المتحدة أن تضطلع بدورها ما بعد الحرب بصفتها عامل استقرار وحافظة لتوازن القوى بين أوروبا
وآسيا، وهو الذي حاول النازيون قلبَه، بمساعدة هاوسهوفر.
أما بالنسبة إلى فرضية الأراضي المركزية نفسها، فإن شتراوس-هوبي، الذي كان متشككًا
فيها
للغاية بادئ ذي بدء، يقول إن القوة الجوية — مثلها مثل تلك التجارية والعسكرية — قد تجعلها
بلا معنى. ومع ذلك، فهو يعتقد أن تكنولوجيا عصر التصنيع قد زوَّدت الدول الكبرى بأفضلية:
فقد تمت الاستفادة من المصانع الكبيرة، وخطوط السكك الحديدية، والدبابات وحاملات الطائرات،
من قِبل الدول التي تمتلك عمقًا من حيث المسافة والأرض. «يبدو أن التاريخ في عصرنا هذا
يعكس،
بشؤم خبيث، التوجه نحو الإمبراطوريات والدول العظمى التي تنبَّأ بها أتباع راتزِل، وشبنغلر،
وماكندر.»
١٠ وبطبيعة الحال، فإن عصر ما بعد التصنيع، بتركيزه على صغر الحجم — الرقائق
المكروية
microchips، والهواتف النقالة، والمتفجرات
البلاستيكية — قد مكَّن ليس الدول الكبري وحدها، ولكن الأفراد والجماعات عديمي الجنسية،
أيضًا، ما أضاف مزيدًا من التعقيد والتوتر إلى الجغرافيا السياسية. لكن شتراوس-هوبي قد
استشعر بحدسه بعض هذا في مناقشته للحدود؛ الأمر الذي تقبَّله باعتباره ناتجًا عن إساءة
هاوسهوفر لاستخدام أفكار كورزون حول هذا الموضوع.
وعلى الرغم من عدمية هاوسهوفر، فإن شتراوس-هوبي لم يصِب بالتهديد لدرجة أن يفضحه بغير
تحفُّظ. إن
الحقيقة المحضة للحدود تُظهر عالمًا يُعاني من الانقسامات السياسية والعسكرية. وكما كتب
شتراوس-هوبي، فإن «الدولة ذات السيادة هي، على الأقل من حيث جذورها، قوَّة منظمة. يبدأ
تاريخها في غمار الحرب؛ وبالتالي فإن حدودها — سواء كانت «جيدة» أو «سيئة» — هي حدود
استراتيجية.»
وهو يختار عن قصدٍ اقتباسًا من كورزون، لاحظ فيه الأخير أن الحروب الحدودية ستزداد
في العدد والكثافة في حين «ينكمش العالم الصالح للسكنى» في الوقت الذي «تتصادم فيه طموحات
دولة مع مصالح دولة أخرى على نحوٍ حادٍّ ولا يقبل المصالحة».
١١ وبعبارةٍ أخرى، فلم يكن هاوسهوفر مخطئًا تمامًا في افتراضه وقوع صراع سرمدي.
حتى بعد الحرب، سيكون هناك القليل من الراحة من مأساة الوضع البشري. فإن اكتظاظ كوكب
الأرض
بسكانه خلال العقود الأخيرة، مقرونًا بتطور التكنولوجيا العسكرية، الذي انهار فيه الوقت
والمسافة، يعني أنه ستكون هناك أزمة في «المساحة» على خريطة العالم.
١٢ وتنبع أزمة المساحة هذه من فكرة ماكيندر عن «نظام مغلق». أما الآن، فدعونا
نلاحظ أنه مما يضيف إلحاحًا إلى دعوة شتراوس-هوبي إلى أن أمريكا، التي تمثِّل بالنسبة
إليه في
نهاية المطاف مصدرًا للخير في عالم القوى الكبرى، لا يمكنها أن تتحمل أبدًا عواقب الانسحاب
من الجغرافيا السياسية. ولأن الجغرافيا السياسية والتنافس على «المساحة» سرمديان؛ لذا
يجب
على الدول الليبرالية أن تُعد أنفسها للقيام بهذه المهمة خشية أن تترك الساحة نهبًا لأمثال
هاوسهوفر.