الفصل التاسع

جغرافية التقسيمات الأوروبية

«تعيش أوروبا بالتأكيد في طور التقلُّص ديموغرافيًّا بفعل بقية بلدان آسيا وأفريقيا، وحتى الشعوب الأوروبية أنفسها أصبحت تضم أعدادًا أكبر من مواطني أفريقيا والشرق الأوسط.»

المؤلف
عندما يتعلق الأمر بالجغرافيا السياسية المعاصرة، بكل اضطراباتها وتطوراتها المتكررة، ينصبُّ التركيز بطبيعة الحال على أفرو-آسيا، من الشرق الأوسط إلى الصين. يميل التوجه إلى استبعاد أوروبا من المعادلة، وذلك باختزالها — كما يحدث في كثير من الأحيان — إلى أي قصة مالية. لكن هذا خطأ؛ فعدد سكان الاتحاد الأوروبي يبلغ ٥٠٠ مليون نسمة؛ وبالتالي فهو ثالث أكبر عدد سكان في العالم بعد الصين والهند. كما يزيد حجم اقتصاد الاتحاد الأوروبي بنحو ١٦ تريليون دولار عن نظيره في الولايات المتحدة. ومن طرفها الغربي، تواجه أوروبا قلب أمريكا الشمالية، كما تبعُد عن المخروط الجنوبي لأمريكا الجنوبية بُعد الولايات المتحدة نفسه. أما من طرفها الشرقي، فتطل أوروبا على أفرو-أوراسيا. تقع أوروبا في القلب من نصف الكرة الأرضية الشرقي أو «البري»، على مسافة واحدة بين الشرق الأقصى الروسي وجنوب أفريقيا.١ وفي الواقع، أن تفسيرنا الجغرافي للسياسة العالمية ينبغي أن يبدأ بأوروبا. إن وجهة نظر كلٍّ من ماكيندر، وسبيكمان، ومورغنثاو، وبعض المفكرين الآخرين الذين تناولناهم، هي في جزءٍ كبير منها أوروبية.
وبالتالي، لكي نتعرف على الكيفية التي تطوَّر بها العالم منذ أيامهم، فمن المفيد أن نبدأ من حيث بدءوا. وعلى الرغم من أنه من الواضح أن مارشال هودجسون Hodgson كان مُحقًّا من حيث منح الأولوية لويكومين الشرق الأدنى، فستشكِّل هذه المنطقة واحدة من المحطات النهائية لرحلتنا؛ وبالتالي فليس بنا حاجة إلى أن نبدأ بها. لا داعي للقلق، فسوف تقودنا أوروبا بطبيعة الحال إلى التدبر الجغرافي لروسيا والصين وشبه القارة الهندية، والشرق الأوسط الكبير. ولفهم الجغرافيا السياسية في القرن الحادي والعشرين، يجب أن نبدأ بالقرن العشرين، وهذا يعني أن نبدأ بأوروبا.
إن أوروبا، كما أخبرنا ماكيندر، قد تَشكَّل مصيرها بفعل تدفق القبائل الرحالة hordes الآسيوية. وبالفعل، فحتى في القرن الحادي والعشرين، ستستمر أوروبا في التأثر على نحوٍ محوري بعلاقاتها مع الشرق، وخاصَّة مع روسيا. إن الدرجة التي يمكن بها لأوروبا الوسطى والشرقية أن تشكِّل حزامًا من الدول المزدهرة والمستقرة المنبعثة من رماد الشيوعية سيكون لها تأثير كبير في حماية أوروبا من روسيا، وأثناء هذه العملية، المتمثِّلة في تحويل حلم إحياء أوروبا الوسطى Mitteleuropa إلى واقع ملموس؛ وهو حلم يتشاركه المثقفون الليبراليون بالفعل مع ماكيندر.

ومع ذلك، فإن أوروبا، وبالتحديد بسبب سعيها إلى تحقيق وحدة أوسع وأعمق، ستستمر أيضًا في المعاناة من انقساماتها الداخلية الخاصَّة، والتي، على الرغم من الشكل الاقتصادي الذي تُظهره هذه الانشقاقات حاليًّا على السطح — كما هو الحال مع الغضب الألماني بسبب أزمة الديون اليونانية — هي في الحقيقة تمثِّل تعبيرات الخالدة للجغرافيا؛ بمعنى أنها أنماط التنمية المختلفة بين ألمانيا في شمال أوروبا واليونان في أوروبا البحر المتوسط والبلقان. من المؤكد أن أوروبا سترى أن تاريخها يتشابك على نحوٍ متزايد مع أفريقيا إلى الجنوب وآسيا إلى الشرق؛ الأمر الذي يعود في معظمه إلى الطريقة التي تسهِّل بها التكنولوجيا حركة الشعوب. ولكن، وفي الوقت نفسه، فلن تُحرم أوروبا من تنوعها الداخلي. وبعبارةٍ أخرى، فإن حقيقة كون أوروبا لا تواجه في الوقت الراهن أي تهديد عسكري تقليدي قد يتركها فريسة لنرجسية الاختلافات الصغيرة. وهذا الأمر، بدوره، يمكن أن يجعل مخاوف سبيكمان حول تحدي أوروبا الموحدة للولايات المتحدة أمرًا سابقًا لأوانه.

إن التعقيد المبهج لجغرافية أوروبا، مع ثرائها في كلٍّ من البحار، وأشباه الجزر، ووديان الأنهار، وسلاسل الجبال، التي ساعدت في تشكيل مجموعات لغوية مختلفة ودول قومية منفصلة، والتي ستواصل المساهمة في الانقسامات السياسية والاقتصادية خلال السنوات المقبلة، على الرغم من المؤسسات المتعلقة بعموم أوروبا. إن أوروبا، كما تشير إليه الخريطة، سيكون لها مستقبل كبير في عناوين الصحف.

كذلك فإن أوروبا، على حدِّ تعبير عالم الآثار بجامعة أكسفورد، باري كونليف Cunliffe، هي «الزائدة الغربية» لقارة آسيا، باعتبارها شبه جزيرة واسعة النطاق تمكَّنت من الهيمنة على السياسة العالمية في أثناء الألفية الثانية للميلاد. وقد فرضت الجغرافيا هذا، كما أخبرنا ماكنيل، كما أسهب كونليف في شرح فرضية ماكنيل. تقع أوروبا في منطقة بيئية ecozone «متجانسة» بين الصحاري الأفريقية والصفائح الجليدية للقطب الشمالي، مع مناخ يلطفه تيار الخليج. كانت أوروبا غنية بالموارد، كالخشب والأحجار والمعادن والفراء. والأمر الأكثر أهميةً هو أن الخط الساحلي لأوروبا يتَّسم بكونه منحرفًا ومتكسرًا، تمتلئ نتوءاته بالعديد من الموانئ الطبيعية الجيدة، كما تكتظُّ بحارها بالجزر وأشباه الجزر. ويبلغ طول هذا الخط الساحلي ٢٣٠٠٠ كيلومتر؛ وهو طولٌ ملحمي يساوي محيط كوكب الأرض. وفي الواقع، تمتلك أوروبا نسبةً للخطوط الساحلية إلى المساحة تزيد عن مثيلاتها في أي قارة أو شبه قارة أخرى.٢ وكذلك فإن حدود أوروبا تقع على ما لا يقل عن أربعة من البحار المغلقة وشبه المغلقة التي تعتصر شبه القارة، إذا جاز التعبير، إلى شبه جزيرة ضيقة نسبيًّا: البحر الأبيض المتوسط، والبحر الأسود، وبحر البلطيق، والبحار الشمالية؛ على الرغم من أن أوروبا تمتلك تضاريس نهرية مواتية تتميز بالعديد من الطرق العابرة لشبه الجزيرة؛ نهر الراين، ونهر إلبه، وقبل كل شيء نهر الدانوب Danube. إن نهر الدانوب، كما تغنَّى به الإيطالي المتحمس لأوروبا الوسطى، كلاوديو ماغريس Magris، «يقرِّب الثقافة الألمانية، بحلمها المتمثِّل في ملحمة شعرية للروح، من الشرق؛ مما يمزجها مع الثقافات الأخرى في تحولات هجينة لا تُعد ولا تحصى.»٣ وهناك، أيضًا، الفجوة المورافية Moravian Gap، وممر برينر، والسهل العريض الذي يمر عبر فرنسا إلى وادي الرون، والتي تعمل كممرات من أحد أجزاء أوروبا إلى الآخر.
figure
figure
مفتاح الخريطة
أيسلندا Iceland
أميال Miles
كلم Km
المحيط الأطلسي Atlantic ocean
الجزر البريطانية British isles
أيرلندا Ireland
البحر الأيرلندي Irish Sea
بريطانيا العظمى Great Britain
القنال الإنجليزي English Channel
بحر الشمال North Sea
نهر إلبه Elbe r.
بروكسل Brussels
آخن Aachen
نهر الراين Rhine river
ألمانيا Germany
برلين Berlin
نهر الدانوب Danube river
السهل الأوروبي الشمالي North European Plain
بحر البلطيق Baltic Sea
اسكندنافيا Scandinavia
روسيا Russia
جمهورية التشيك Czech republic
فرنسا France
خليج بسكاي Bay of Biscay
جبال البيرينيه Pyrenees
وادي الرون Rhone valley
نهر الرون Rhone r.
جبال الألب Alps
ممر برينر Brenner pass
بولندا Poland
الفجوة المورافية Moravian gap
الدائرة القطبية الشمالية Arctic circle
المجر (هنغاريا) Hungary
البلقان Balkans
البحر الأدرياتيكي Adriatic sea
روما Rome
إسبانيا Spain
شبه جزيرة أيبيريا Iberian peninsula
البرتغال Portugal
لشبونة Lisbon
مضيق جبل طارق Strait of Gibraltar
إيطاليا Italy
البحر التيراني Tyrrhenian sea
وارسو Warsaw
كوسوفو Kosovo
مضيق صقلية Strait of Sicily
البحر الأبيض المتوسط Mediterranean Sea
البحر الأيوني Ionian sea
اليونان Greece
كريت Crete
بحر إيجه Aegean sea
القوقاز Caucasus
البحر الأسود Black sea
بلغاريا Bulgaria
رومانيا Romania
السهل الهنغاري العظيم Great Hungarian plain
جبال الكاربات Carpathian mts.
إن هذا السطح البيني البالغ التعقيد بين الأرض والمياه، وحقيقة كون أوروبا محمية من محيط شاسع — ومع ذلك يمكنها الوصول إليه بسهولة — أدَّت إلى دينامية وسهولة التنقل عبر البحر بين شعوب أوروبا، كما ساهمت في إيجاد مجموعة مكثفة من المشاهد الطبيعية داخل أوروبا نفسها. وقد أدَّى هذا، بدوره، إلى ظهور مجتمعات بشرية مختلفة على نحوٍ لافت للنظر، وفي نهاية المطاف إلى اندلاع سياسة القوة: من الأثينيين، والإسبرطيين، والرومان، والإيبيريين، والفينيقيين، والسكوثيين المتحاربين وغيرهم من أفراد القبائل البربرية الأخرى في العصور القديمة، إلى الصراعات بين الفرنسيين والألمان، والروس — وبين البروسيين، وآل هابسبورغ، والعثمانيين — في العصر الحديث. لكن على الرغم من هذه الانقسامات، فإن ممرًّا من الأراضي المنخفضة من المحيط الأطلسي إلى البحر الأسود، على سبيل المثال، سمح للمسافرين طوال قرونٍ عدة بقطع المسافة عبر أوروبا في راحة نسبية؛ مما ساهم في تماسك أوروبا وشعورها بالتفوق الذاتي، كما يتَّضح باقتدار من نثر ماغريس.٤ وبالإضافة إلى ذلك، فإن حقيقة كون المسافات قصيرة داخل أوروبا كان عامل توحيد آخر؛ فالمسافة من لشبونة إلى وارسو؛ أي من إحدى نهايتَي أوروبا إلى الأخرى، لا تزيد على ١٥٠٠ ميل.

وبعبارةٍ أخرى، فقد ساعدت الجغرافيا على التعرف على وجود فكرة تُدعى أوروبا، وهي التعبير الجغرافي عن الإنسانية الليبرالية عن طريق اندماج السيادة خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. بَيْد أن هذا الاتجاه المهدئ، فضلًا عن كونه رد فعل لصراع عسكري مدمر طوال جميع العصور التاريخية، يمثِّل أيضًا نتاجًا لعدة قرون من النهضة المادية والفكرية. ومع ذلك فهناك، أيضًا، عدة قارات أوروبية، تقع أحيانًا في صراع بعضها مع بعض. إن الانقسامات الاقتصادية التي نراها اليوم على شكل أزمة متعلقة بالعملة تمتلك، في الواقع، أساسًا من العوامل التاريخية والجغرافية.

خلال السنوات السابقة والتالية مباشرة لانهيار جدار برلين، كما رأينا في فصلٍ سابق، احتفى المثقفون بمفهوم أوروبا الوسطى — أو بوسط أوروبا — باعتبارها منارة للتسامح المتعدد الأعراق ولليبرالية التاريخية، والتي يمكن — بل ينبغي — أن تطمح لمحاكاتها بلدان البلقان المجاورة ومناطق العالم الثالث البعيدة عنها. لكن حقيقة الأمر هي أن القلب السياسي لأوروبا في القرن الحادي والعشرين يقع إلى الشمال الغربي قليلًا من أوروبا الوسطى؛ فيبدأ من دول البنلوكس Benelux، ثم يتعرج إلى الجنوب بطول الحدود الفرنسية-الألمانية إلى تخوم جبال الألب. وتضم هذه المنطقة المفوضية الأوروبية وخدماتها المدنية في بروكسل، والمحكمة الأوروبية في لاهاي، وبلدة معاهدة ماستريخت، والبرلمان الأوروبي في ستراسبورغ، وهلم جرًّا. وفي الواقع، تقع كل هذه الأماكن عبر خطٍّ يمتد جنوبًا من بحر الشمال «الذي شكَّل واسطة العقد والمسار الرئيسي لاتصالات المملكة الكارولنجية Carolingian monarchy في القرن التاسع»، كما أشار إليه الباحث الراحل توني جودت Judt، هو حجة في شئون أوروبا الحديثة.٥ وليس من قبيل المصادفة حقيقة أن الدولة الأوروبية العظمى النامية في عصرنا الحالي تتركز في قلب أوروبا القرون الوسطى؛ حيث لا تزال عاصمة شارلمان Charlemagne في آخن (إيكس لا شابيل) تقع في مركزها تمامًا. ليس هناك أيُّ مكان آخر في القارة، وخصوصًا بطول هذا العمود الفقري لحضارة العالم القديم، وهو الذي يلتقي فيه البحر بالأرض في أوروبا بمثل هذا الثراء والعمق. وفي البلدان الواطئة، هناك انفتاح على المحيط العظيم، على الرغم من أن مدخل القنال الإنجليزي وسلسلة الجزر الهولندية تشكِّل حاجزًا وقائيًّا مفيدًا، بالنظر إلى أن هذه الدول الصغيرة تستفيد بدرجةٍ غير متناسبة مع حجمها. وعند نهاية ساحل بحر الشمال هذا مباشرة، توجد ثروة من الأنهار والمجاري المائية المحمية، وكلها تعدُ بتسهيل التجارة، والحركة، وما يترتب على ذلك من التنمية السياسية. تتَّسم التربة الطفالية (اللوس: loess) الموجودة في شمال غرب أوروبا بكونها داكنة ومنتجة، حتى في الوقت الذي توفر فيه الغابات دفاعات طبيعية. وأخيرًا، فإن المناخ البارد بين بحر الشمال وجبال الألب، أكثر بكثير مما فعل المناخ الدافئ في جنوبيِّ جبال الألب، قد مثَّل تحديًا كافيًا لتحفيز التصميم البشري اعتبارًا من العصر البرونزي المتأخر فصاعدًا، حيث استقر الفرنجة Franks، والألامان Alamanni، والساكسون، والفريزلنديون Frisians في أواخر العصور القديمة في بلاد الغال، ولسان جبال الألب، والسهول الساحلية. وهنا، أيضًا، سيكون مكانًا لاختبار قوة كلٍّ من مملكة الفرنجة Francia والإمبراطورية الرومانية المقدسة في القرن التاسع، وبورغوندي، واللورين، وبرابانت، وفريزلاند، أيضًا، والدول المدينية مثل ترير Trier ولييغ Liege، والتي حلَّت جميعها على نحوٍ جماعي محلَّ روما، وتطورت إلى الدول التي تقود اليوم منظومة الاتحاد الأوروبي.

وبطبيعة الحال، فقبل كل ما سبق جاءت روما، وقبل روما اليونان القديمة: وكلٌّ منهما، وفق التعبيرات التي اختارها وليام ماكنيل، تشكِّلان أروقة العالم «المتحضر قديمًا» الذي بدأ في مصر وبلاد ما بين النهرين، وانتشر من هناك، عن طريق جزيرة كريت المينوسية والأناضول، إلى الشاطئ الشمالي للبحر المتوسط. إن جذور الحضارة، كما نعلم، قد ترسخت في وديان الأنهار الدافئة والمحمية مثل النيل ودجلة والفرات، وتواصلت هجرتها إلى المناخات المعتدلة نسبيًّا لبلاد الشام وشمال أفريقيا، وشبه الجزيرتين اليونانية والإيطالية، حيث كان العيش ميسورًا على الرغم من وجود تقنيات بدائية فقط.

ولكن على الرغم من أن ازدهار الحضارة الأوروبية قد بدأ أولًا بطول البحر المتوسط، فقد واصلت تطورها، خلال عصور تزايدت فيها التكنولوجيا وسهولة التنقل، إلى الشمال حيث المناخ أبرد.

هنا توسعت روما في العقود التي سبقت بداية الحقبة المشتركة، موفرة لأول مرةٍ نظامًا سياسيًّا وأمنًا داخليًّا من جبال الكاربات في الجنوب الشرقي إلى المحيط الأطلسي في الشمال الغربي؛ أي في أنحاء كثيرة من أوروبا الوسطى والمنطقة المتاخمة لبحر الشمال والقنال الإنجليزي. المجمعات الاستيطانية الكبيرة، التي أطلق عليها يوليوس قيصر Caesar اسم المستوطنات oppida، فقد ظهرت في جميع أنحاء هذه المنطقة المركزية الأوروبية ذات التربة السوداء والمترامية الأطراف، والمكسوَّة بالغابات، والمروية جيدًا، والتي عملت كأساسٍ بدائي لظهور مدن العصور الوسطى وتلك الحديثة.٦
figure
figure
مفتاح الخريطة
إمبراطورية هابسبورغ Habsburg empire
حدود العام ١٩١٤م 1914 boundary
مكتسبات هابسبورغ ما بين عامَي ١٦٤٨ و١٩١٣م (وهي التي خسرت بعضها خلال الفترة نفسها) Habsburg acquisitions 1648–1913 (some lost during that period)
الأراضي الواطئة النمساوية Austrian Netherlands
نهر السين Seine river
فرنسا France
نهر اللوار Loire river
دولة بورغوندي Country of Burgundy
نهر الراين Rhine river
ألمانيا Germany
فورتمبيرغ Wurttemberg
نهر الرون Rhone river
فورارلبرغ Vorarlberg
نهر الدانوب Danube river
نهر إلبه Elbe river
البحر الأبيض المتوسط Mediterranean sea
البحر التيراني Tyrrhenian sea
مملكة نابولي Kingdom of Naples
إيطاليا Italy
نهر التيبر Tiber r.
توسكانا Tuscany
الدول البابوية Papal states
البحر الأدرياتيكي Adriatic sea
مدينة إستريا Cty. Of Istria
مودينا Modena
بارما Parma
لومباردي Lombardy
مانتوا Mantua
فينيسيا Venetia
غوريزيا Gorizia
التيرول Tyrol
ترينت Trent
سالزبورغ Salzburg
كارينثيا Carinthia
كارنيولا Carniola
كرواتيا Croatia
ستيريا Styria
بوهيميا Bohemia
النمسا Austria
مورافيا Moravia
دالماتيا Dalmatia
الهرسك Herzegovina
البوسنة Bosnia
كراكوف Krakow
بولندا Poland
نهر الفيستولا Vistula river
أميال Miles
كلم Km
المجر (هنغاريا) Hungary
نهر تيسا Tisza r.
بوكوفينا Bukovina
ترانسلفانيا Transylvania
بنات تيمسفار Banat of Temesvar
صربيا Serbia
الإمبراطورية العثمانية Ottoman empire
نهر الدانوب Danube river
نهر فيستولا Vistula river
ومثلما منح التوسع الروماني مستوًى معينًا من الاستقرار لما أطلق عليه القبائل البربرية في شمال أوروبا، فقد أدَّى انهيار روما على مر القرون إلى تشكُّل الشعوب والدول القومية المألوفة لنا الآن، والتي أضفت عليها الطابع الرسمي معاهدة وستفاليا في العام ١٦٤٨م، بعد حرب الثلاثين عامًا. وكما كتب الباحث وليام أنتوني هاي Hay، فإن «الضغط الذي مارسته القبائل الرحالة على السهوب والمحيط الأوروبي قد استهل تأثيرًا متسلسلًا أدَّى إلى دفع الجماعات الأخرى التي كانت تعيش ضمن حضارات مستقرة إلى حدٍّ ما، إلى الخواء الناجم عن انهيار السلطة الرومانية.»٧ ويعني ذلك أن سقوط روما، إلى جانب الهجمات الضارية من جهة الغرب، والتي شنتها شعوب السهوب، قد ساعد على تشكيل الجماعات الوطنية في وسط وشمال غرب أوروبا.
لقد تحددت العصور القديمة، قبل كل شيء، بالمعقل الجغرافي الذي مثَّله للبحر الأبيض المتوسط، ومع «تراخي» هذا المعقل، من خلال خسارة روما لمناطقها النائية في شمال أوروبا والشرق الأدنى، فقد ولد عالم العصور الوسطى.٨ وقد تعرضت وحدة البحر المتوسط لمزيد من التحطيم بفعل الاجتياح العربي لشمال أفريقيا.٩ وبحلول القرن الحادي عشر، بدأت خريطة أوروبا تكتسب مظهرًا عصريًّا، حيث اكتسبت فرنسا وبولندا شكلهما الحالي تقريبًا، فيما تخفَّت الإمبراطورية الرومانية المقدسة وراء ستار ألمانيا الموحدة؛ أما بوهيميا — التي تقع براغ في القلب منها — فكانت نذيرًا لجمهورية التشيك. وبالتالي، فقد تحرك التاريخ شمالًا.
أما مجتمعات البحر المتوسط، على الرغم من ابتكاراتهم في مجال السياسة — كالديمقراطية الأثينية والجمهورية الرومانية — فقد تحدَّدت بدرجةٍ كبيرة، وعلى حدِّ قول المؤرخ والجغرافي الفرنسي فرنان بروديل Braudel، بفعل «التقليدية والتصلُّب».
شجعت رداءة نوعية تربة البحر المتوسط على امتلاك حيازات كبيرة، وهي التي كانت — بالضرورة — واقعةً تحت سيطرة الأثرياء. وهذا، بدوره، ساهم في خلق نظام اجتماعي يفتقر إلى المرونة. وفي الوقت نفسه، ففي الغابات الحرجية في شمال أوروبا، بتربتها الأغنى، نشأت حضارة أكثر حرية، ترسِّخها علاقات السلطة غير الرسمية للإقطاع، والتي ستكون أكثر قدرة على الاستفادة من اختراع الحروف الطباعية المتحركة وغيرها من التقنيات التي ستظهر لاحقًا.١٠
وعلى الرغم من أن تفسير بروديل قد يبدو حتميًّا deterministic، فهو يعمل بالفعل على شرح التيارات العريضة للماضي الأوروبي. من الواضح أن الفاعلية الإنسانية متمثِّلة في أشخاص رجال مثل يان هوس Hus، ومارتن لوثر Luther، وجون كالفن Calvin قد مارست دورًا محوريًّا في حركة الإصلاح البروتستانتية؛ وبالتالي في عصر التنوير؛ مما سمح بالنشوء الديناميكي لأوروبا الشمالية باعتبارها واحدةً من أهم مسارح المعارك التاريخية في العصر الحديث. ومع ذلك، فلم يكن لأن يتحقق أيٌّ من ذلك من دون الوصول الهائل إلى الأنهار والمحيط، وتربة اللوس، الغنية بالفحم ورواسب الحديد الخام، والتي شكلت خلفية لكلٍّ من الديناميات الفردية وعصر التصنيع. من المؤكد أنه كانت هناك إمبراطوريات عظيمة، وغنية بالتنوع، ومتألقة على ضفاف البحر المتوسط في العصور الوسطى، لا سيما تلك التي بناها الملك النورمندي روجر الثاني Roger II في صقلية في القرن الثاني عشر. وحتى لا ننسى، فقد ازدهر عصر النهضة أولًا في فلورنسا في أخريات العصور الوسطى، بما تضمَّنه من فن مايكل أنجلو Michelangelo والواقعية العلمانية لمكيافيلِّي Machiavelli؛ لكن المشقة الناتجة عن برودة الأطلسي هي ما فتح طرق الملاحة العالمية التي انتصرت في نهاية المطاف على البحر المتوسط المغلق. وفي حين كانت البرتغال وإسبانيا أول المستفيدين من هذه التجارة الأطلسية — بالنظر إلى موقع شبه جزيرتهم الناتئ — فإن مجتمعات البلدين خلال عصر ما قبل التنوير، والتي عانت من انتهاكات مزمنة بسبب قربها من (واحتلالها من قِبل) مسلمي شمال أفريقيا، فقد تخلفت في نهاية المطاف عن تلك الهولندية، والفرنسية، والإنجليزية في التنافس على المحيطات. ولذلك فمثلما تمكَّنت الإمبراطورية الرومانية المقدسة بقيادة شارلمان من خلافة روما، ففي الأزمنة الحديثة تمكَّن شمال أوروبا الآن من خلافة جنوب أوروبا، مع انتصار المنطقة المركزية الكارولنجية الغنية بالمعادن على هيئة الاتحاد الأوروبي: وذلك راجع في معظمه إلى الجغرافيا.
كانت منطقة البحر المتوسط نفسها منقسمة في العصور الوسطى بين الغرب الفرنجي والشرق البيزنطي. ولأن الانقسامات بين الشمال والجنوب ليست وحدها هي ما تحدِّد وتُزعج أوروبا اليوم، بل وتلك الموجودة بين الغرب والشرق، كما سنرى، وبين الشمال الغربي والوسط. لنتدبر طريق الهجرة من وادي الدانوب، وهو الذي يتواصل شرقًا إلى ما بعد السهل الهنغاري العظيم، وبلدان البلقان، والبحر الأسود، بطول الطريق عبر سهوب البحر الأسود وتلك الكازاخستانية ووصولًا إلى منغوليا والصين١١ إن هذه الحقيقة الجغرافية، جنبًا إلى جنب مع الوصول المسطح والذي لا يحول دونه عائق إلى روسيا شمالًا، تشكِّل أساس موجات الغزو التي شنتها الشعوب السلافية والتركية في معظمها من جهة الشرق، والتي ذكر تفاصيلها ماكيندر في مقالته «المحور الجغرافي للتاريخ»، والتي عملت، كما نعرف، على تشكيل المصير السياسي لأوروبا إلى حدٍّ كبير. وبالتالي، فمثلما توجد أوروبا الكارولنجية وأوروبا المتوسطية، فهناك، أيضًا، الأمر الناتج في كثير من الأحيان عن تلك الغزوات الآتية من الشرق، أوروبا البيزنطية-العثمانية، وأوروبا البروسية، وأوروبا هابسبورغ، وجميعها متميزة جغرافيًّا، والتي تعيش اليوم أنماطًا مختلفة إلى حدٍّ ما من التنمية الاقتصادية؛ وهي أنماط من الاختلاف بحيث لا يمكن محوها ببساطة عن طريق إنشاء عملة موحدة.
وعلى سبيل المثال، فخلال القرن الرابع الميلادي، انقسمت الإمبراطورية الرومانية نفسها إلى نصفين: غربي وشرقي. ظلت روما عاصمة الإمبراطورية الغربية، في حين أصبحت القسطنطينية عاصمة تلك الشرقية. استسلمت إمبراطورية روما الغربية لمملكة شارلمان الواقعة إلى الشمال وإلى الفاتيكان: إلى أوروبا الغربية، بعبارةٍ أخرى. كان سكان الإمبراطورية الشرقية — أي بيزنطة Byzantium — في معظمهم من المسيحيين الأرثوذكس الناطقين باليونانية، ومن المسلمين لاحقًا، عندما تمكَّن الأتراك العثمانيون، المهاجرون من الشرق، من فتح القسطنطينية في العام ١٤٥٣م. كانت الحدود الفاصلة بين هاتين الإمبراطوريتين الشرقية والغربية تمر عبر منتصف ما أصبح، بعد الحرب العالمية الأولى، دولة يوغوسلافيا المتعددة الأعراق. وعندما تفككت تلك الدولة على نحوٍ عنيف في العام ١٩٩١م، عكَس تقسيمها — في البداية على الأقل — الانقسامات التي تعرَّضت لها روما قبل ستة عشر قرنًا. كان السلوفينيون والكروات الكاثوليك، وهم ورثة التقليد الذي استمر من النمسا والمجر إلى روما في الغرب؛ أما الصرب فكانوا من الأرثوذكس الشرقيين وورثة التركة العثمانية-البيزنطية لرومة في الشرق. أما منطقة جبال الكاربات، التي تمتد إلى الشمال الشرقي من يوغوسلافيا السابقة وتقسم رومانيا إلى قسمين اثنين، فعملت جزئيًّا على تعزيز هذه الحدود الفاصلة بين روما وبيزنطة، وفيما بعدُ بين أباطرة آل هابسبورغ في فيينا والسلاطين الأتراك في القسطنطينية.١٢ كانت الممرات؛ وبالتالي طرق التجارة، موجودة عبر هذه الجبال الهائلة، جالبةً المستودع الثقافي لأوروبا الوسطى إلى عمق بلدان البلقان البيزنطية والعثمانية. ولكن حتى لو لم تكن جبال الكاربات تمثِّل حدودًا يصعب اختراقها، مثل جبال الألب، فكانت تمثِّل ما يشبه التدرج، أو تحول في التوازن بين إحدى قارات أوروبا وبين الأخرى. ستصبح أوروبا الجنوبية الشرقية فقيرة ليس فقط بالمقارنة بأوروبا الشمالية الغربية، ولكن أيضًا بالمقارنة بأوروبا الشمالية الشرقية، مع تقاليدها البروسية. ويعني هذا أن بلدان البلقان لم تكن فقيرة فقط بالمقارنة بدول البنلوكس، ولكن بالمقارنة مع بولندا وهنغاريا أيضًا.
أدَّى سقوط سور برلين إلى إنعاش هذه الانقسامات بصورةٍ حادة. مثَّل حلف وارسو إمبراطورية شرقية كاملة، تُحكم انطلاقًا من موسكو، وتنطوي على الاحتلال العسكري والقسري، وفقر متواصل بفعل الاقتصادات الموجَّهة command economies. وخلال أربع وأربعين سنة من حكم الكرملين، كان القسم الأكبر من أوروبا البروسية، والهابسبورغية، والبيزنطية، والعثمانية محبوسًا في السجن السوفييتي للأمم، والذي كان يعرف إجمالًا باسم أوروبا الشرقية. وفي الوقت نفسه، كان الاتحاد الأوروبي يتشكَّل في أوروبا الغربية، فاتخذ أولًا شكل مجتمع الفحم والصلب الفرنسي-الألماني، ثم السوق الأوروبية المشتركة، وأخيرًا على هيئة الاتحاد الأوروبي، متوسعًا من قاعدته الكارولنجية المتمثِّلة في فرنسا، وألمانيا، ودول البنلوكس ليشمل إيطاليا، وبريطانيا العظمى، واليونان ثم الدولتين الأيبيريتين لاحقًا. وبسبب بدايتها الاقتصادية المبكرة خلال سنوات الحرب الباردة، برزت أوروبا الكارولنجية داخل منظمة حلف شمال الأطلسي، باعتبارها أقوى، في الوقت الحاضر، من أوروبا البروسية الشمالية الشرقية وأوروبا الوسطى الدانوبية، والتي كانت تاريخيًّا مزدهرة بالقدر نفسه، لكنها ظلت داخل حلف وارسو فترة طويلة.
أدَّى الاختراق السوفييتي لأوروبا الوسطى خلال المراحل الأخيرة من الحرب العالمية الثانية إلى إحداث هذا التحول في الأحداث برمَّته، مع إثباته صحة فرضية ماكيندر القائلة إن الغزوات الآسيوية هي ما شكَّل المصير الأوروبي. وبطبيعة الحال، فينبغي لنا ألَّا نغالي كثيرًا في تقدير هذه النزعة الحتمية؛ لأنه من دون تصرفات رجل واحد، هو أدولف هتلر Hitler، لم تكن الحرب العالمية الثانية لتقع، ولما كان هناك أي غزو سوفييتي في المقام الأول.
لكن هتلر كان موجودًا بالفعل، وهكذا لم يبقَ لدينا سوى الوضع كما نراه اليوم: أوروبا شارلمان هي المتفوقة، ولكن بسبب عودة ظهور ألمانيا الموحدة، فقد يتحول ميزان القوى داخل أوروبا إلى الشرق قليلًا إلى التقاء بروسيا بأوروبا الوسطى، مع تنشيط القوة الاقتصادية الألمانية بولندا، ودول البلطيق، والجزء العلوي من نهر الدانوب؛ أما منطقة ساحل البحر المتوسط ومنطقة البلقان البيزنطية-العثمانية فتتخلف وراءها. يلتقي عالما البحر المتوسط والبلقان في اليونان الجبلية وشبه الجزيرية، التي على الرغم من إنقاذها من براثن الشيوعية في أواخر أربعينيات القرن العشرين، تظل من بين أكثر أعضاء الاتحاد الأوروبي اضطرابًا من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية. إن اليونان، التي تقع في الحافة الشمالية الغربية من ويكومين الشرق الأدنى وفقًا لهودجسون، كانت المستفيد الأكبر من الجغرافيا في العصور القديمة — لكونها المكان الذي جرى فيه ترقيق وأنسنة الأنظمة التي لا تعرف الرحمة التي سادت مصر وبلاد فارس — بلاد ما بين النهرين؛ مما أدَّى إلى اختراع الغرب، إذا جاز التعبير. ولكن في أوروبا اليوم، التي يهيمن عليها الشمال، تجد اليونان نفسها عند النهاية الخطأ، وذات التوجه الشرقي، من الأمور؛ والتي على الرغم من كونها أكثر استقرارًا وازدهارًا بكثير من أماكن مثل بلغاريا وكوسوفو، فقد تأتَّى ذلك فقط لأنها نجت من ويلات الشيوعية. إن ما يقرب من ثلاثة أرباع الشركات اليونانية مملوكة لأسر وتعتمد على العمالة العائلية، بحيث لا تنطبق قوانين الحد الأدنى للأجور، على الرغم من أنه لا يمكن ترقية أولئك الذين لا يمتلكون صلات عائلية.١٣ وتمثِّل هذه ظاهرة ذات جذور ثقافية عميقة؛ وبالتالي تمتلك جذورًا تاريخية وجغرافية.

وفي الواقع، أن الجغرافيا تفسر الكثير. وكما أشرت إليه في فصلٍ سابق، فعندما انهار حلف وارسو، تقدمت البلدان التي كانت أسيرة سابقًا من الناحيتين الاقتصادية والسياسية وفقًا لمواقعها على الخريطة بالضبط تقريبًا: كان أداء بولندا ودول البلطيق، جنبًا إلى جنب مع هنغاريا والنهاية البوهيمية من تشيكوسلوفاكيا أفضل، فيما عانت دول البلقان الواقعة إلى الجنوب الفقر الشديد والاضطرابات. وعلى الرغم من جميع تقلبات القرن العشرين — بما في ذلك الأثر الساحق للنازية والشيوعية — فإن إرث أنظمة الحكم البروسية، والهابسبورغية، والبيزنطية والعثمانية لا يزال وثيق الصلة. كانت هذه الإمبراطوريات هي أهم صنائع الجغرافيا، والتي تأثرت جميعها بأنماط الهجرة التي وصفها ماكيندر، والآتية من الشرق الآسيوي.

وبالتالي، لننظر مرةً أخرى إلى خريطة أوروبا في القرن الحادي عشر، فسنجد في وسطها الإمبراطورية الرومانية المقدسة التي تشبه ألمانيا الموحدة. وفي جميع الأنحاء، هناك دول إقليمية: بورغوندي، وبوهيميا، وبومرانيا، وإستونيا؛ مع أراغون، وقشتالة، ونافار، والبرتغال إلى جنوب غرب البلاد. فكِّر الآن في قصص النجاح الإقليمية في القرن الحادي والعشرين، لا سيما في أوروبا الكارولنجية: بادن-فورتمبيرغ، والرون-الألب، ولومبارديا، وكاتالونيا. وهذه، كما يذكرنا توني جوت، تقع في معظمها إلى الشمال، كما تُطل إلى الوراء على ما يسمى الجنوب المتوسطي الكسول والمدعوم، حتى إنها تبدو في حالة رعب من احتمال انضمام دول البلقان، مثل رومانيا وبلغاريا، إلى الاتحاد الأوروبي.١٤ يتمثَّل الوضع في مقارنة المركز مقابل المحيط، حيث يوجد الخاسرون في المحيط، عمومًا — ولكن ليس على وجه الحصر — في تلك المناطق القريبة جغرافيًّا إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ولكن بالتحديد لأن الدولة الأوروبية الفائقة التي تتخذ من بروكسل مقرًّا لها قد عملت بشكلٍ جيد بما فيه الكفاية لمصلحة المناطق الفرعية الشمالية مثل بادن-فورتمبيرغ وكاتالونيا، فقد تحررت من حكوماتها الوطنية ذات الحجم الواحد المناسب للجميع، كما لو كانت سلسلة من متاجر التجزئة؛ وبالتالي فقد ازدهرت باحتلالها بيئات اقتصادية وسياسية وثقافية ملائمة ذات مرتكز تاريخي.
وفيما وراء عدم رضاها عن الخاسرين الأوروبيين في المنطقة المحيطية Periphary، فبين دول الشمال الأوروبي المزدهرة هناك قلق حول تفكك المجتمع نفسه. تبقى المجموعات السكانية والقوى العاملة الوطنية في أوروبا في حالة ركود ديموغرافي؛ وبالتالي تتقدم في العمر. سوف تفقد أوروبا ٢٤ في المائة من سكانها ذوي الصحة الجيدة ممن هم في سن العمل بحلول العام ٢٠٥٠م، فيما سيرتفع عدد سكانها الذين تزيد أعمارهم عن ستين عامًا بنسبة ٤٧ في المائة خلال هذه الفترة الزمنية. ومن المرجَّح أن يؤدِّي هذا إلى زيادة هجرة الشبان من بلدان العالم الثالث لدعم دول الرفاه الشائخة في أوروبا. وفي حين بولغ في التقارير المتعلقة بهيمنة المسلمين على أوروبا، فإن نسبة المسلمين في الدول الأوروبية الكبرى، في الواقع، ستزيد بأكثر من ثلاثة أضعاف بحلول منتصف القرن، من ٣ في المائة في الوقت الحالي إلى نحو ١٠ في المائة من السكان. وفي حين كان سكان أوروبا في العام ١٩١٣م أكثر من سكان الصين، فبحلول العام ٢٠٥٠م، لن يزيد مجموع سكان أوروبا والولايات المتحدة، وكندا عن ١٢ في المائة من الإجمالي العالمي، انخفاضًا من ٣٣ في المائة بعد الحرب العالمية الأولى.١٥ تعيش أوروبا بالتأكيد في طور التقلص ديموغرافيًّا بفعل بقية بلدان آسيا وأفريقيا، وحتى الشعوب الأوروبية أنفسها أصبحت تضم أعدادًا أكبر من مواطني أفريقيا والشرق الأوسط.

وبالفعل، فإن خريطة أوروبا على وشك التحرك جنوبًا، مرةً أخرى لتشمل عالم البحر المتوسط بأكمله، كما فعلت ليس فقط تحت حكم روما، ولكن في ظل البيزنطيين والأتراك العثمانيين أيضًا. طوال عقود من الزمن، وبسبب الأنظمة الاستبدادية التي خنقت التنمية الاقتصادية والاجتماعية — في حين عملت على دعم السياسات المتطرفة — فقد انقطع شمال أفريقيا عمليًّا عن الحافة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط. زود شمال أفريقيا أوروبا بالمهاجرين لأسباب اقتصادية، وبالقليل فيما عدا ذلك. ولكن مع دول تطور شمال أفريقيا إلى ديمقراطيات فوضوية، فإن درجة التفاعلات السياسية والاقتصادية مع أوروبا القريبة، على الأقل بمرور الزمن، سوف تتزايد (وقد يعود بعض أولئك المهاجرين العرب إلى ديارهم مع إنشاء فرص جديدة في أوطانهم بفعل السياسات الإصلاحية). وحينئذٍ، ستعمل منطقة البحر المتوسط كموصِّل، بدلًا من عملها كمفرِّق كما كانت خلال معظم حقبة ما بعد الاستعمار.

ومثلما تحركت أوروبا شرقًا لتشمل الدول التابعة سابقًا للاتحاد السوفييتي عند اندلاع الثورات الديمقراطية في العام ١٩٨٩م، فإن أوروبا تتوسع الآن إلى الجنوب لتشمل الثورات العربية. لا توشك تونس أو مصر على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، لكنهما على وشك أن تصبحا منطقتين شبحيتين تتعمق فيهما مشاركة الاتحاد الأوروبي. وبالتالي، فإن الاتحاد الأوروبي نفسه سيصبح مشروعًا أكثر طموحًا وجموحًا من أيِّ وقتٍ مضى. ويتوافق هذا مع رأي ماكيندر، الذي جادل بأن الصحراء الكبرى تمثِّل الحدود الجنوبية الحقيقية لأوروبا؛ لأنها تعزل أفريقيا الاستوائية من جهة الشمال.١٦

ومع ذلك، فإن الاتحاد الأوروبي، على الرغم من أنه يعاني من الانقسامات، والمخاوف، وآلام النمو المبرحة، سيظل واحدًا من المحاور الكبرى في العالم خلال حقبة ما بعد التصنيع. وهكذا، فإن تحولات القوى الجارية بداخله، إلى الشرق من بروكسل-ستراسبورغ إلى برلين — أي من الاتحاد الأوروبي إلى ألمانيا — ستلعب دورًا محوريًّا في السياسة العالمية. وكما سأناقش، فإن ألمانيا، وروسيا، وكذلك اليونان، نعم، التي لا يزيد عدد سكانها على أحد عشر مليون نسمة، هي الدول التي تكشف مصير أوروبا بأوضح صورة.

إن حقيقة كون ألمانيا الموحدة يجب أن تعني تأثيرًا أقل نسبيًّا للاتحاد الأوروبي مما كان عليه في أيام ألمانيا المنقسمة، بالنظر إلى التفوق الجغرافي والديموغرافي، والاقتصادي لألمانيا الموحدة في قلب أوروبا. يبلغ عدد سكان ألمانيا الآن ٨٢ مليون نسمة، مقارنةً بنحو ٦٢ مليونًا في فرنسا، ونحو ٦٠ مليونًا في إيطاليا. ويبلغ الناتج الإجمالي المحلي في ألمانيا ٣٫٦٥ تريليون دولار، مقارنة بنحو ٢٫٨٥ تريليون دولار في فرنسا، و٢٫٢٩ تريليون دولار في إيطاليا. والأكثر أهميةً هنا هو حقيقة أنه في حين أن النفوذ الاقتصادي لفرنسا يقتصر أساسًا على بلدان أوروبا الغربية خلال الحرب الباردة، فإن النفوذ الاقتصادي الألماني يشمل كلًّا من أوروبا الغربية ودول حلف وارسو السابقة، وهو تقدير لموقعها الجغرافي الأكثر مركزيةً ولروابطها التجارية مع كلٍّ من الشرق والغرب.١٧
وإلى جانب موقع بلادهم الجغرافي على مفترق الطريق بين كلٍّ من أوروبا البحرية وأوروبا الوسطى، يمتلك الألمان توجهًا ثقافيًّا فطريًّا نحو التجارة. كما قال لي منذ فترة طويلة نوربرت فالتر Walter، الذي كان وقتها كبير الخبراء الاقتصاديين لدى دويتشه بنك: «يفضل الألمان الهيمنة على الأنشطة الاقتصادية الحقيقية بدلًا من الأنشطة المالية الصرفة. نحن نحافظ على عملائنا، ونعرف ما يحتاجون إليه؛ وبالتالي نبني بيئة ملائمة وعلاقات متينة على مدى عقود». وتدعم هذه القدرة دينامية ألمانيَّة خاصَّة؛ فكما شرح لي الفيلسوف السياسي بيتر كوسلوفسكي Koslowski ذات مرة: «لأن كثيرًا من الألمان بدءوا من الصفر بعد الحرب العالمية الثانية، فهم حداثيون modernist متعصبون. لقد ارتفعت الحداثة وثقافة الطبقة المتوسطة إلى مصافِّ الإيديولوجيات هنا.» كذلك، فإن ألمانيا الموحدة منظَّمة مكانيًّا بحيث تستفيد من عصر ازدهار المناطق الشمالية الأوروبية. وبسبب التقليد المتمثِّل في وجود دول مستقلة صغيرة، والتي ظهرت إلى الوجود بعد حرب الثلاثين عامًا في القرن السابع عشر — والتي لا تزال توجِّه النظام الاتحادي في ألمانيا — ليست هناك طنجرة ضغط واحدة تمثِّل عاصمة كبرى، بل سلسلة من الوحدات الأصغر التي نجحت في البقاء على قيد الحياة حتى العصر الذي ولدت فيه برلين من جديد. تمثِّل هامبورغ مركزًا لوسائل الإعلام، ويقع مركز الأزياء في ميونيخ، أما مركز الصناعة المصرفي فهو فرانكفورت، وهلم جرًّا، مع منظومة للسكك الحديدية تنتشر في جميع الاتجاهات من دون تمييز. ولأن توحيد ألمانيا قد تأخر حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فقد حافظت على نكهتها الإقليمية التي تمثِّل أفضلية كبرى في أوروبا اليوم. وأخيرًا، فإن سقوط جدار برلين، والذي حدث — من المنظور التاريخي — منذ فترة قصيرة، والذي ينطوي على توجهات سيستغرق ظهورها بشكلٍ كامل عقودًا من الزمن، أدَّى إلى إعادة توصيل ألمانيا بأوروبا الوسطى؛ مما يعيد — بطرقٍ خفيَّة وغير رسمية للغاية — تشكيل كلٍّ من الرايخ الأول والثاني اللذين ظهرا في القرنين الثاني عشر والتاسع عشر؛ والمقابلين تقريبًا للإمبراطورية الرومانية المقدسة.
وإلى جانب انهيار جدار برلين، فإن العامل الآخر الذي دعم القوة الجيوسياسية الألمانية كان المصالحة الألمانية-البولندية التاريخية التي حدثت خلال منتصف تسعينيات القرن العشرين. وكما كتب مستشار الأمن القومي السابق زبيغنيو بريجنسكي Brzezinski: «عبر بولندا، يمكن للنفوذ الألماني أن يشع — شمالًا — إلى دول البلطيق — وشرقا — إلى أوكرانيا وروسيا البيضاء.» وبعبارةٍ أخرى، فإن القوة الألمانية تتعزز بكلٍّ من توسُّع أوروبا، وكذلك بفعل أوروبا التي تعاود فيها أوروبا الوسطى الظهور باعتبارها كيانًا منفصلًا.١٨ سيتمثَّل أحد العوامل الحاسمة في هذا التطور في درجة قوة استمرار الحالة شبه السلامية الأوروبية، وخاصَّة تلك الألمانية، في المستقبل. وكما كتب الخبير الاستراتيجي الذي يعيش في بريطانيا، كولِن غراي Gray: «وكما عضتها الثعابين … على ضفاف نهر السوم، وفي فردان، ولدى سقوط النظام الألماني Götterdämmerung في العام ١٩٤٥م، فإن قوى أوروبا الغربية-الوسطى قد صارت تنفر من الحرب على نحوٍ مقنع.»١٩ على الرغم من أن إرث الحرب والدمار لم يكن وحده هو ما جعل الأوروبيين مبغضين للحلول العسكرية (باستثناء حفظ السلام والتدخلات الإنسانية)، فقد كانت هناك أيضًا حقيقة كون أوروبا حصلت خلال عقود الحرب الباردة على أمنها من قِبل القوة العظمى الأمريكية، في حين أنها لا تواجه اليوم أي تهديدات تقليدية ملموسة. «لا يأتي الخطر على أوروبا مرتديًا بزَّات عسكرية، بل يتمثَّل في الملابس الممزقة للاجئين.» كما يقول الأكاديمي والصحافي الألماني-الأمريكي جوزيف جوفي Joffe.٢٠ ولكن ماذا لو كان مصير أوروبا، كما رأى لماكيندر، لا يزال تابعًا للتاريخ الآسيوي، المتمثِّل في روسيا الناهضة؟٢١ وفي هذه الحالة، قد يكون هناك تهديد بالفعل. إن ما دفع الاتحاد السوفييتي لإقامة إمبراطورية في شرق أوروبا عند نهاية الحرب العالمية الثانية لا يزال قائمًا حتى اليوم؛ ثمَّة إرث من غزوات السلب والنهب ضد روسيا من قِبل الليتوانيين، والبولنديين، والسويديين، والفرنسيين، والألمان؛ مما أدَّى إلى الحاجة إلى بناء حاجز وقائي من الأنظمة الموالية في المساحة الواقعة بين روسيا التاريخية وأوروبا الوسطى.
لا شك في أن الروس لن ينشروا قوات برِّية لإعادة احتلال أوروبا الشرقية من أجل بناء حاجز وقائي جديد، ولكن من خلال توليفة من الضغوط السياسية والاقتصادية؛ الأمر الذي يرجع جزئيًّا إلى حاجة أوروبا إلى الغاز الطبيعي الوارد من روسيا، يمكن للروس ممارسة نفوذ مفرط على الدول التابعة لهم سابقًا خلال السنوات المقبلة؛ تزود روسيا نحو ٢٥ في المائة من الغاز الطبيعي الذي تستهلكه أوروبا، و٤٠ في المائة من استهلاك ألمانيا، وما يقرب من ١٠٠ في المائة من استهلاك فنلندا ودول البلطيق.٢٢ وبالإضافة إلى ذلك، فقد نستيقظ جميعًا من أزمة أوروبا الملحمية حول الاقتصاد والعملة على عالم يتَّسم بنفوذ روسي أكبر في القارة. إن الأنشطة الاستثمارية الروسية، فضلًا عن دورها الحاسم كمورد للطاقة، ستكتسب أهمية أكبر في أوروبا الضعيفة والمنقسمة حديثًا.
وبالتالي، فهل ستستسلم ألمانيا النافرة من الحرب جزئيًّا للنفوذ الروسي؛ مما يؤدِّي إلى جعل أوروبا الشرقية شبيهة بالحالة الفنلندية Finlandized إلى حدٍّ ما، ويجعل حلف شمال الأطلسي أكثر خواءً مما هو عليه؟ أم ستقف ألمانيا بدهاءٍ أمام روسيا باستخدام مختلف الوسائل السياسية والاقتصادية، على الرغم من أن مجتمعها لا يزال منغمسًا في حالة شبه سلامية بعد ملحمية؟ يهدد السيناريو السابق بإثبات صحة مخاوف ماكيندر وغيره من الجغرافيين؛ أي إنه، بالمعنى الجغرافي، ليس هناك وسط أوروبا أو أوروبا الوسطى Mitteleuropa؛ فكل ما هنالك هو أوروبا البحرية وتلك القارية، مع وجود منطقة من الحشود بينهما. ومن ناحية أخرى، فسيطرح السيناريو الأخير مصيرًا أوروبيًّا معقَّدًا على نحوٍ ثري؛ وهو مصير ستعود فيه أوروبا الوسطى إلى الظهور بشكلٍ كامل ومن ثم ستزدهر لأول مرةٍ منذ ما قبل الحرب الأولى؛ كما ستزدهر أيضًا فئة من الدول الواقعة بين ألمانيا وروسيا، كما كان ماكيندر يأمل؛ مما يدع أوروبا في سلام، حتى لو كان نفورها من التحركات العسكرية هو من الناحية الجيوسياسية غير مريح للولايات المتحدة. وفي هذا السيناريو، ستعمل روسيا على تحقيق التوافق مع بلدان بعيدة إلى الشرق منها، مع انضمام كلٍّ من أوكرانيا وجورجيا إلى أوروبا. وبالتالي، فإن فكرة أوروبا، باعتبارها تعبيرًا جغرافيًّا عن الليبرالية التاريخية، ستتحقق أخيرًا. مرت أوروبا بقرون من عمليات إعادة الترتيب السياسية في العصور الوسطى بعد انهيار روما. وفي معرض بحثها عن هذه الفكرة، فقد استمرت أوروبا في إعادة ترتيب نفسها بعد الحرب الأوروبية الطويلة التي دارت رحاها بين عامَي ١٩١٤ و١٩٨٩م.
وبالفعل، فقد كانت أوروبا — من الناحية الجغرافية — متعددة الأوجه طوال تاريخها. فبعد عصر الاستكشاف، انتقلت أوروبا أفقيًّا إلى الغرب مع تحول التجارة عبر الأطلسي؛ مما جعل مدنًا مثل كيبيك، وفيلادلفيا، وهافانا أقرب اقتصاديًّا إلى أوروبا الغربية من مدن مثل كراكوف ولفوف Lvov في أوروبا الشرقية؛ على الرغم من أن تقدم الجيوش العثمانية إلى الشمال الغربي حتى فيينا في أواخر القرن السابع عشر قد عزل منطقة البلقان عن معظم الجزء المتبقي من شبه القارة الأوروبية. وبطبيعة الحال، في وقتنا الحاضر، فإن أوروبا آخذة في التحول إلى الشرق بضمِّها البلدان الشيوعية السابقة إلى الاتحاد الأوروبي، وإلى الجنوب حيث تكافح من أجل تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي للشاطئ الجنوبي من البحر المتوسط في شمال أفريقيا.
وفي جميع عمليات إعادة الترتيب هذه، فإن اليونان، من بين جميع الأماكن، ستوفر سجلًّا متبصرًا لصحة المشروع الأوروبي؛ فاليونان هي الجزء الوحيد من منطقة البلقان الذي يمكن الوصول إليه من عدة سواحل مطلة على البحر المتوسط؛ وبالتالي فهو الموحِّد للعالمين الأوروبيين. تقع اليونان على مسافة واحدة جغرافيًّا بين بروكسل وموسكو، كما أنها على القرب الثقافي نفسه من روسيا كما هي من أوروبا، بحكم مسيحيتها الأرثوذكسية الشرقية، والتي ورثتها بدورها من بيزنطة. ظلت اليونان طوال فترات التاريخ الحديث مثقلة بالتخلف السياسي. وفي حين أن الثورات التي اندلعت في أوروبا في منتصف القرن التاسع عشر كانت في كثير من الأحيان ذات أصول تعود إلى الطبقة الوسطى وأهداف متمثِّلة في الحريات السياسية، كانت حركة الاستقلال اليونانية حركة عرقية بالدرجة الأولى، مع أسس دينية. وقد انحاز الشعب اليوناني بأغلبية ساحقة إلى روسيا لصالح الصرب وضد أوروبا خلال حرب كوسوفو في العام ١٩٩٩م، على الرغم من أن موقف الحكومة اليونانية كان أشد التباسًا. واليونان هي الدولة الأوروبية الأشد اضطرابًا اقتصاديًّا، والتي لم تكن جزءًا من الكتلة الشيوعية خلال الحرب الباردة. إن اليونان، التي تعود إلى العصور القديمة — هي المكان الذي تنتهي وتبدأ فيه أوروبا — وكذلك الغرب، عن طريق الاستدلال. أدَّت الحرب التي أرَّخ لها هيرودوت Herodotus بين اليونان وبلاد فارس إلى ترسيخ «انقسام» الغرب ضد الشرق، وهو الذي استمر لآلاف السنين.٢٣ ظلت اليونان بالكاد ضمن المعسكر الغربي في بداية الحرب الباردة؛ وذلك بسبب حربها الأهلية بين اليمينيين والشيوعيين، وكذلك المفاوضات المصيرية بين ونستون تشرشل Churchill وجوزيف ستالين Stalin، والتي أدَّت في نهاية المطاف إلى جعل اليونان جزءًا من حلف شمال الأطلسي. إن اليونان، كما كتب ماكيندر، تقع إلى الخارج قليلًا من المنطقة المركزية لأوراسيا؛ وبالتالي يمكن الوصول إليها من قِبل القوات البحرية. لكن الاستحواذ على اليونان بصورةٍ ما من قِبل إحدى قوى المنطقة المركزية (أي روسيا) «قد يحمل في طياته السيطرة على الجزيرة العالمية».٢٤

وبطبيعة الحال، فإن روسيا لن تتمكن من السيطرة على اليونان في أيِّ وقت قريب. ومع ذلك، فمن المثير للاهتمام أن نتأمل ما كان سيحدث خلال الحرب الباردة لو سارت المفاوضات بين تشرشل وستالين على نحوٍ مختلف: تخيَّل كم كان الموقف الاستراتيجي للكرملين سيصير أقوى لو كانت اليونان ضمن الكتلة الشيوعية، بتهديدها لإيطاليا عبر البحر الأدرياتيكي، فضلًا عن كامل منطقة شرق البحر المتوسط والشرق الأوسط. إن الأزمة المالية اليونانية، والمعبرة كثيرًا عن التخلف السياسي والاقتصادي لليونان، هزت نظام العملة الموحدة للاتحاد الأوروبي بدايةً من العام ٢٠١٠م، وبسبب التوترات التي أحدثها ذلك بين دول الشمال والجنوب الأوروبي، فقد مثَّلت أهم التحديات التي واجهت المشروع الأوروبي منذ حروب الانفصال اليوغوسلافية. وكما تُظهر اليونان بكل وضوح، فلا تزال أوروبا تمثِّل عملًا طموحًا لا يزال في طور التنفيذ؛ والذي سيتأثر بالاتجاهات والاضطرابات من الجنوب والشرق في عالم يترنح بفعل أزمة المتَّسع.

١  Saul B. Cohen, Geography and Politics in a World Divided (New York: Random House, 1963), p. 157.
٢  William Anthony Hay, “Geopolitics of Europe,” Orbis, Philadelphia, Spring 2003.
٣  Claudio Magris, Danube (New York: Farrar, Straus and Giroux, 1988, 1989), p. 18.
٤  Barry Cunliffe, Europe Between the Oceans: Themes and Variations: 9000 BC–AD 1000 (New Haven: Yale University Press, 2008), pp. vii, 31, 38, 40, 60, 318, 477.
٥  Tony Judt, “Europe: The Grand Illusion,” New York Review of Books, July 11, 1996.
٦  Cunliffe, Europe Between the Oceans, p. 372.
٧  Hay, “Geopolitics of Europe”.
٨  Peter Brown, The World of Late Antiquity: AD 150–750 (London: Thames & Hudson, 1971), pp. 11, 13, 20.
٩  Henri Pirenne, Mohammed and Charlemagne (ACLS Humanities e-book 1939, 2008).
١٠  Fernand Braudel, The Mediterranean: And the Mediterranean World in the Age of Philip II, translated by Sian Reynolds (New York: Harper & Row, 1949), p. 75.
١١  Cunliffe, Europe Between the Oceans, pp. 42-43.
١٢  Robert D. Kaplan, Eastward to Tartary: Travels in the Balkans, the Middle East, and the Caucasus (New York: Random House, 2000), p. 5.
١٣  Philomila Tsoukala, “A Family Portrait of a Greek Tragedy,” New York Times, April 24, 2010.
١٤  Judt, “Europe: The Grand Illusion”.
١٥  Jack A. Goldstone, “The New Population Bomb: The Four Mega-trends That Will Change the World,” Foreign Affairs, New York, January-February 2010.
١٦  Hay, “Geopolitics of Europe”.
١٧  Judt, “Europe: The Grand Illusion”.
١٨  Zbigniew Brzezinski, The Grand Chessboard: American Primacy and Its Geostrategic Imperatives (New York: Basic Books, 1997), pp. 69–71.
١٩  Colin S. Gray, Another Bloody Century: Future Warfare (London: Weidenfeld & Nicolson, 2005), p. 37.
٢٠  Josef Joffe in conversation, Madrid, May 5, 2011, Conference of the Fundación para el Análisis y los Estudios Sociales.
٢١  Geoffrey Sloan, “Sir Halford Mackinder: The Heartland Theory Then and Now,” in Geopolitics: Geography and Strategy, edited by Colin S. Gray and Geoffrey Sloan (London: Frank Cass, 1999), p. 20.
٢٢  Steve LeVine, “Pipeline Politics Redux,” Foreign Policy, Washington, DC, June 10, 2010; “BP Global Statistical Review of World Energy,” June 2010.
٢٣  Hay, “Geopolitics of Europe”.
٢٤  Halford J. Mackinder, Democratic Ideals and Reality: A Study in the Politics of Reconstruction (Washington, DC: National Defense University, 1919, 1942), p. 116.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥