أفكار في حياتنا العقلية

أنشأَت وزارة الثقافة سنة ١٩٦٥م مجلة «الفكر المعاصر»، وكنتُ أَوَّل من قام على إنشائها، وأول من أشرف على تحريرها. وقد رُوعي في تلك المجلة أن تكون مَعرَضًا للأفكار المُؤثِّرة في عصرنا، بِغض النظر عن مصادرها وألوانها، لكنني بالإضافة إلى هذا الهدف العام، وضعتُ لنفسي هدفًا آخر مُوازيًا له، ألا وهو إلقاء الأضواء على طائفةٍ كبيرة من المفهومات العقلية التي شاعت في مجتمعنا خلال الستينيات بصفةٍ خاصة، شيوعًا جعل الناس يَألَفون سمعها إلفًا أنْساهم حقيقة معانيها، فكانت — في رأيي — بحاجةٍ شديدة إلى تحليل وتوضيح، ليكون قبولها — بعد ذلك — أو رفضها، قائمًا على أساسٍ من الفهم الصحيح، لا على مُجرَّد العادة الآليَّة التي تَنتُج من تَكرارِها على ألسنة المُتكلمِين أو أقلام الكاتبِين.

لقد كان — ولا يزال — من أسهل السهل على المتكلم أو على الكاتب أن يستخدم عباراتٍ ومقابلات، من أمثال: إرادة التغيير، ووحدة التفكير، واليمين واليسار، وصلة الفكر بالحياة، والفردية والمواطنة، والثقافة والمُثقَّفون، والصراع الفكري، والمنهج الجدلي، وهكذا وهكذا، دون أن يَتأرَّق جَنبٌ لذلك المتكلم أو الكاتب، من غموضٍ يَكنِف تلك الأفكار الأساسية، التي كانت — وما زال بعضها — قائمًا في حياتنا، وكأنه المَحاوِر التي تدور حولها أرجاء الإصلاح والتغيير والتطوير التي نسعى نحو تحقيقها، فتناولتُها بالتحليل، للكشف عن مضموناتها، لعل ذلك أن يكون هاديًا لنا في السير على الطريق الصحيح.

وأَودُّ هنا أن أُلاحِظ مُلاحظتَين: الأولى، هي أنني ممن يعتقدون في أن النشاط الفلسفي، إنما هو في حقيقته نشاطٌ يُلقِي الأضواء على الأفكار الشائعة، وليس من الضروري أن يُضيف مِن عِنده فكرةً جديدة، شأنها في ذلك شأن المِنظار الذي يُوضِّح الرؤية، دون أن يزيد من عدد الكائنات المرئية. والملاحظة الثانية، هي أن طائفةً ضخمةً من أعلام الفلاسفة، كانت هذه هي رسالتَها الأساسية. خذ سقراط مثلًا لهؤلاء؛ فهو إنما سَعَى إلى تحليل المفهومات السائدة في عصره وتوضيحها وتحديدها. وأستطيع أن أسُوق لذلك أمثلةً كثيرةً أخرى.

وإذن فقد كنتُ أمينًا على رسالة الفلسفة، حين تناولتُ مفهوماتِنا الجديدة بالتحليل والتوضيح، وهما تحليلٌ وتوضيحٌ كثيرًا ما انتهيتُ بهما إلى نتائجَ كانت تُثير الدهشة عند المعارضِين، دون أن يجدوا موضع ضعفٍ في خطوات التحليل التي أدَّت إليها. ولْأضربْ لذلك مثلًا واحدًا، هو الطريقة التي حلَّلتُ بها مفهوم «الصراع الفكري»؛ فلقد كانت عبارة «الصراع الفكري» شائعةً خلال الستينيات شيوعًا يَلفِت النظر؛ إذ كان كثيرون مِنَّا يستخدمونها ليَصِفوا بها كل اختلافٍ في الرأي حول مُشكلةٍ مطروحة، دون أن يَتحمَّلوا عناء النظر في ذلك الاختلاف، أهو حقيقيٌّ بحيث يستحق أن يكون صراعًا، أم هو اختلافٌ ظاهري لا يتعدَّى الألفاظ وطرائق استعمالها؟

تَناولتُ اختلاف الرأي حول مشكلةٍ بعينها، لأُحلِّله إلى جوانبه وأبعاده، فإذا بالتحليل يهديني إلى أن لمثل هذا الاختلاف في الرأي صورًا أربعة؛ واحدةً منها فقط هي التي يجوز أن تُوصَف بأنها صراع فكري. وأمَّا الثلاثة الأخرى، فهي في الحقيقة أقرب إلى التعاوُن والتكامُل بين مختلف الأطراف، منها إلى أن تكون صراعًا، وهذه الصور الأربع هي:
  • أوَّلًا: أن تكون هنالك مشكلةٌ معينةٌ مطروحة للحل، فيُقترح لها حلَّان، بحيث إذا ثَبَت أن أحد الحلَّين هو الصحيح، تحتَّم أن يكون الحل الثاني باطلًا. وفي مثل هذه الحالة، يكون الاختلاف على طريقة الحل، هو الذي يمكن وصفه بأنه صراعٌ بين فريقين؛ فمثلًا، إذا كانت المشكلة المطروحة هي: من الذي يملك وسائل الإنتاج، كالمصانع وغيرها؟ هنا قد تكون إحدى الإجابات هي أن الذي يملكها هو الدولة، وقد تكون هناك إجابةٌ أخرى، هي أن الذي يملكها هو الفرد أو مجموعة الأفراد الذين أَنشَئوها؛ فهذان جوابان مختلفان في الأساس، بحيث إذا صحَّ أحدهما كان الآخر مرفوضًا؛ فيحقُّ لنا في حالةٍ كهذه أن نقول إن ثمة صراعًا بين الفريقين. وتلك هي الصورة الوحيدة من بين الصور الأربع لضروب الاختلاف، التي تكون صراعًا فكريًّا بحق. وأمَّا الصور الأخرى، التي سنذكرها، فليست من الصراع في شيء. وإن الصراع الفكري ليتبدَّى في مجتمعنا حول مشكلاتٍ كثيرة؛ مثل: من الذي يضطلع بنفقات التعليم: الدولة أم المُتعلِّمون أنفسهم؟ ومثل: من الذي يكون له حق الطلاق بين الزوجَين: أيكون هذا الحق لأحدهما منفردًا، أم يكون للقاضي؟ وهكذا. على أن أمثلة هذا الصراع الفكري، بالمعنى الذي حدَّدناه له، ليس فيها بأس، ما دامت تُؤدِّي في نهاية الأمر إلى حلٍّ يَرْضى عنه أكثريَّة المُواطنِين.
  • ثانيًا: هنالك صورةٌ أخرى لاختلاف الرأي، ليست صراعًا بالمعنى السابق، بل هي صورةٌ من شأن الاختلاف فيها أن يزيد الأمر وضوحًا، وتلك هي حين أن يُعْرَض للمشكلة المطروحة حلَّان، يختلفان في الصياغة اللفظية وحدها، لكن المعنى في كلتا الحالتَين واحد؛ ولذلك فإن صواب إحدى الصياغتَين، يكون هو نفسه دليلًا على صواب الصياغة الأخرى. ومن الأمثلة على ذلك مشكلةٌ كانت أُثيرت خلال الستينيات عن نظامنا الاشتراكي، هل هو اشتراكية عربية؟ أو هو تطبيقٌ عربيٌّ للاشتراكية؛ فحاولت من ناحيتي أن أُبيِّن بالتحليل أن الإجابتَين معناهما واحد، لا اختلاف بينهما إلا في طريقة الصياغة اللفظية؛ وبالتالي فهو اختلافٌ ليس من قَبيل الصراع الفكري.
  • ثالثًا: هنالك صورةٌ أخرى لاختلاف الرأي بين الناس، مما لا يبلغ أن يكون صراعًا فكريًّا؛ لأنه في حقيقته يكون تكاملًا بين مختلف الأطراف، لا تعارضًا، وذلك حين تُطرَح مشكلةٌ معينة، فيجيء لها حلَّان من ناحيتَين مختلفتَين، لكننا إذا دقَّقنا النظر في هذَين الحلَّين، وجدنا أحدهما يَحلُّ جانبًا من المشكلة، والآخر يحل من المشكلة جانبًا آخر؛ ففي هذه الحالة، أَوْلى لنا أن نجمع الحلَّين معًا في صيغةٍ واحدة، لا أن نُعارِض بينهما، ثُمَّ نَتوهَّم أنه صراعٌ فكري. خذ مثلًا لذلك مشكلةً طرحناها، وأظنها ما زالت مطروحةً بيننا، وهي خاصةٌ باللغة التي نستخدمها: أتكون هي العربية الفصحى؟ أم تكون هي العامِّية المصرية؟ فترى فريقًا يقول إنها العربية الفصحى، وفريقًا آخر يقول: بل هي العامِّية المصرية؟ لكن انظر من قربٍ إلى المشكلة تجد لها الحلَّين معًا؛ فالفصحى هي التي لا بُدَّ من استخدامها في مواقفَ بعينها، والعامِّية المصرية هي التي لا يجوز استخدامها في مواقفَ أخرى. ومعنى ذلك أن الإجابتَين لا تتعارضان بقَدْر ما يمكن لهما أن تتعاونا معًا على الحل الصحيح.
  • رابعًا: وأخيرًا هنالك حالاتٌ من اختلاف الرأي، نرى فيها أن السؤال المطروح للجواب، هو في الحقيقة مُشكلتان دُمجتا معًا في سؤالٍ واحد، وهنا قد تجيء لنا إجابتان من ناحيتَين مختلفتَين، إلا أن إحداها تُجيب عن إحدى المشكلتَين، بينما تُجيب الأخرى عن المشكلة الثانية، وهنا أيضًا لا صراع، بل تكاملٌ بين الإجابتَين.

ذلك مثَل للتحليلات التي أَخذتُ أُوضِّح بها أفكارنا. والذي عجبتُ له حقًّا، هو أنني وجدتُ من النُّقاد مَنْ يكرهون أن يُزَال عن الأفكار غموضها، خشيةً منهم أن يتحول الصراع المزعوم إلى تعاوُن وتكامُل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤