كيف يكتب الأديب

تلك كانت سذاجة الريف كما شهدتها ثلاثين عامًا. وأعود بك خمسين عامًا وراء ذلك لِأُطلِعك على صورةٍ رائعةٍ بارعة، كتبها أديبٌ مصريٌّ مطبوعٌ عن سذاجة الريفي الذي لم يكن عندئذٍ قد أصاب شيئًا من التعليم. وأمَّا الأديب فهو عبد الله النديم، الذي كتب تحت عنوان «محتاجٌ جاهلٌ في يد محتالٍ طامع» في أول عدد من مجلته «التنكيت والتبكيت» التي أصدرها في السادس من شهر يونيو عام ١٨٨١م؛ قال النديم:

احتاج أحد الزُّرَّاع لاستدانة مائة جنيه، فقصد بعض التجار، وطلب منه المبلغ، فجَرَت بينهما هذه الحكاية بحضور أحد النُّبهاء.

الزارع : عاوز مية جنيه بالفرط يا سيدي.
التاجر : فرط المية عشرين كل سنة.
الزارع : اعمل اللي تعمله.
التاجر : شيل من المية عشرين، يبقى كام؟
الزارع : لهو أنا كاتب؟ شوف يفضل كام.
التاجر : يبقى سبعين.
الزارع : يا دوب كده.
التاجر : دلوقت صار لي مية جنيه، ضم عليهم عشرين واكتب الكمبيالة.
الزارع : اكتب، وخُد الختم أهو.

(ويعود الفلاح بعد بضعة أشهر ومعه عشرة قناطير قطنًا، وعشرة قناطير سمسمًا، وعشرون إِردَبًّا من القمح، وثلاثون إِردَبًّا من الفول، وأربعون إِردَبًّا من الشعير.)

الزارع : تعالى بقى نتحاسب.
التاجر : عشرون جنيهًا للقطن وعشرة جنيهات للقمح، وثمانية للسمسم، وعشرون للفول، وعشرون للشعير؛ يبقوا كام؟
الزارع : كام؟!
التاجر : يبقوا أربعين جنيه، اطرحهم من المية وعشرين اللي عليك يفضل كام؟
الزارع : (؟)
التاجر : يفضل تسعين، حط عليهم فايدة المية عشرين، يبقوا ١١٥ جنيه، وبتقول عاوز كمان ثلاثين جنيه، يبقى المجموع مية وستين جنيه، يبقى نكتب الكمبيالة بمية وستين جنيه وخمسين قرش.
الزارع : لا، مية وستين بس، الخمسين قرش جت منين؟
التاجر : أجرة حسابي وكتابتي الكمبيالة.
الزارع : معقول.

أمَّا بعد، فقد كان التاجر أجنبيًّا يقيم في مصر، وهكذا كانت حالة الجاليات الأجنبية التي قال المستعمرون بعدئذٍ إنهم جاءوا لِيَحموا مصالحهم من إجحاف المصري الظالم! ثُمَّ هكذا كانت حالة الفلاح الذي قال عنه الطغاة يومًا إن التعليم يُفسده! لكن هكذا كان يكتب رُوَّاد الحركة المصرية في مصر منذ ثمانين عامًا! إيقاظًا للرقود وتنبيهًا للغافلِين، وكان في طليعة أولئك الرواد الأديب الموهوب عبد الله النديم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤