الفصل الرابع

السجن والليل والمسدس في اللص والكلاب

آنَ للغضب أن ينفجر وأن يحرق، وللخونة أن ييأسوا حتى الموت، وللخيانة أن تكفِّر عن سحنتها الشائبة.١

***

مقدمة

اعتمد نجيب محفوظ في كثير من رواياته على التراث والأسطورة، سواء الفرعونية أو اليونانية؛ ففي روايته «كفاح طيبة» استوحى أسطورة الإله ست الذي قتل أخاه أوزيريس حسدًا وظلمًا، وقطع جسده ونثره في أقاليم مصر، ثم جاء الإله حورس بن أوزيريس وخاض صراعًا مع عمه. وهذه القصة تلقي بظلالها على رواية «كفاح طيبة»، لا سيما الصراع بين الهكسوس ممثلًا في «أبو فيس»، والمصريين أهل طيبة ممثلًا بالفرعون سقنن رع، ثم كاموس، وأخيرًا أحمس الذي طرد «أبو فيس» من مصر.٢
وفي رواية ليالي ألف ليلة وليلة نجد العالم الخرافي والصراع الأسطوري بين الإنسان والكائنات الخرافية والأشباح والعفاريت واضحًا، فنجد السندباد ينتصر على طائر الرخ الأسطوري ويستغله لمصلحته، ونجد شهريار يواجه ماردًا جبارًا بعد أن فتح الباب المحرَّم الدال على عالم الأسطورة، الذي دخل إليه من صخرة في الخلاء، ويدرك أنه لا طاقة له بمقارعة المارد. وصنعان الجمالي يصارع العفريت قمقام، وجمصة البلطي يصارع عفريتًا آخر هو سنجام. وفي هذه الرواية يستبصر نجيب محفوظ أيضًا بحدوث حالات الاغتيال والقتل القائم باسم الدين، عندما قتل جمصة البلطي (كبير الشرطة) خليل الهمذاني (الحاكم)، فجمصة البلطي الذي نفَّذ القتل بعد مقابلة مع الشيخ عبد الله البلخي: «كلَّا يهمني أمر واحد. فسأله بلهفة: ما هو يا مولاي؟ أن تتخذ قرارك من أجل الله وحده. فقال بحيرة: لذلك أحتاج الرأي. فقال الشيخ بهدوء حازم: الحكاية حكايتك وحدك، والقرار قرارك وحدك.» وفي الرواية تحذير من الجماعات السرية التي تظن أنها تخدم الدين، وقد صاغ نجيب محفوظ ذلك في جوٍّ أسطوري خرافي، وكأنه يريد أن يقول إن ما سيحدث من صنع العفاريت والشياطين. وبدورنا نتساءل؛ هل ما تنبَّأ به نجيب محفوظ قد حدث؟ ولعل المتابع لأحداث العنف والإرهاب في مصر والعالم منذ تاريخ كتابة الرواية وحتى الآن، يؤكد أننا نعيش في عالم الأشباح والعفاريت. لقد صدقت صرخة نجيب محفوظ للتحذير من المصير المشئوم إذا سادت العفاريت العالم. ثمة ملاحظة ختامية نعرض فيها للفكرة الرئيسية التي هدف إليها نجيب محفوظ؛ وهي الحكم والحب والدين ومصر، أربعة أعمدة تقوم عليها الحياة، وليس غريبًا إذن أن يبدأ روايته بثلاث شخصيات؛ هي شهريار (الحكم)، وشهرزاد (الحب)، والشيخ (الدين)، و«مصر» معبرًا عنها بمقهى الأمراء.٣
وحول الأسطورة في رواية «الطريق» يتضح أن بسيمة أمَّ صابر هي إيزيس، المردِّدة: «أنا ما كان، وما هو كائن، وما سيكون، وما إنسان بقادر على رفع بُرقعي.» بسيمة هي الأمُّ العتيقة المتسلِّطة التي لا تترك للابن فضاءً للشوق، ولا تترك للأب مجالًا لكي يحدَّ من سلطتها. ويقوم بإخصاء رمزيٍّ للابن، بل وللأمِّ أيضًا، ولذلك اشتُقَّ اسم صابر من الصبر (الأسر)، وكان صابر أسير أمِّه وأسير اسمه: «كان صابر حبيسًا داخل فضاء بسيمة عمران الأسطوريِّ.» وتقول: «إن بسيمة وكريمة من سلالة آلهات الموت والجنس، أمازونيَّات يقتلن الذكور بعد مضاجعتهن، بل ويقتلن مواليدهن من الذكور.» بسيمة لم تقتل ابنها واقعيًّا، بل قتلته يوم اتخذته قمرًا معبودًا لا يحتاج ولا يفتقر، ألم يقل نجيب محفوظ إنها قالت لابنها: «أي أب في الدنيا كان يمكن أن يهيئ لك من أسباب السعادة بعض ما هيَّأت لك؟» وبسيمة قتلت أبا ابنها بأن غيَّبته وغيَّبت اسمه، ألم يقل صابر في نفسه عن بسيمة: «ثم أحيت أباك لتحرمك نعمة اليأس.» التي أحيت الأب قُبيل موتها هي التي قتلته عند ولادة الابن، بل قبلها. ثم تقول الكاتبة عن صابر: «إنه يوسف الجميل، صورة أبيه البهيَّة، الساقط في ظلمة الجُب، والذي ربما يتحقق ميلاده الجديد عبر غوصه في عمق هذه الظلمة.» النبي يوسف تركه أبوه، فأخذه إخوته إلى الجُب، ثم عاد إليه الأب والتقى به بعد رحلة سعي طويلة. وصابر متروك، تركه أبوه، إلا أنه لم يَعُد إليه. أحلام الأنبياء كانت نبوءات متحققة، أما حلم صابر في زمن نهاية النبوءات، فكان عين الواقع: «ما كان ممكنًا، أي لقاؤه بالأب لم يكن، وما كان بإمكانه أن يكون؛ لأن الأب أرادته الأم بسيمة أن يكون منكِرًا لأبوَّته، وهذا ما تحقَّق في الحلم، دون أن يكون الحلم نبوءة.»٤
كما تتَّضح أيضًا جدلية النص الذي يصوِّر المصير الإنساني إذا لم تتكامل عناصر البناء الرمزي؛ فالبطل صابر يشكِّل الصيغة المثالية أو الدرامية لارتهان الاستعارة الأبوية التي تنقل الطفل من مستوى العلاقة المباشرة بالأم والعلاقة الخيالية بالأنا الشبيهة، إلى مستوى العلاقة الرمزية التي تؤسس إنسانية الإنسان، وتدفعه إلى العالم الاجتماعي في إطار شبكة من العلاقات الرمزية المتبادلة، حيث يدخل الأب كوسيط حازم أو مانع عبر طريقين؛ فهو يحرم الطفل من موضوع رغبته وهو الأم، ويحرم الأم من موضوع رغبتها وهو الطفل. وتنمو لدى الطفل الأسس العقلية للبناء الرمزي، ويتصادم مع قانون الأب، ويؤدي هذا التصادم إلى اهتزاز وضع الأم بالنسبة للطفل، ويهتز وضع الطفل بالنسبة للأب أو القانون، مما يتيح له الدخول إلى مرحلة أخرى حيث يتوحَّد بالأب في الموقف الأوديبي.٥

(١) من الواقعة إلى الرواية

اللص والكلاب رواية مستوحاة من واقعة حقيقية بطلها «محمود أمين سليمان»، الذي شغل الرأي العام لعدة شهور في أوائل عام ١٩٦٠م، وقد لوحظ اهتمام الناس بهذا المجرم، وعطف الكثيرون عليه، فقد خرج «محمود أمين سليمان» عن القانون لينتقم من زوجته السابقة ومحاميه؛ لأنهما خاناه وانتهكا شرفه وحرماه من ماله وطفلته، وكان هذا سببًا مهمًّا من أسباب تعاطف الناس معه، ولتحقيق انتقامه ارتكب العديد من الجرائم في حق الشرطة وبعض أفراد المجتمع، ويوم مصرعه كان قرار تأميم الصحافة عندما نشرت الصحف خبر وفاته قبل نشر خبر زيارة جمال عبد الناصر لباكستان، وجاء الخبر على هذا النحو «مصرع السفاح عبد الناصر في باكستان». وبهذا العنوان زفَّت صحيفة الأخبار للشعب المصري نبأ مقتل السفاح محمود أمين سليمان، والذي تزامن مع خبر زيارة جمال عبد الناصر لباكستان. ويقال إن مخرج الصفحة نسي ببساطة أن يضع خطًّا فاصلًا بين الخبرين، ربما سهوًا، وربما عجلة، والمقربون من عبد الناصر أخبروه بأن أنباء السفاح أصبحت أهم من رئيس الدولة. ولم يكن قتله أمرًا سهلًا؛ فقد تم حصاره لمدة ٧٥ دقيقة، ومات بعد أن اخترق جسده ١٧ طلقة. ولم يستطِع أي فرد الحصول على تصريحات منه سوى كلمات قليلة قالها قبل أن يلفظ أنفاسه. بهذا الشكل الكوميدي انتهت مأساة محمود أمين سليمان في الواقع، لكنها بدأت تنضج في عقل عبقري الأدب «نجيب محفوظ»؛ لتخرج لنا في شكل رواية خالدة اسمها «اللص والكلاب».

(٢) قراءات سابقة لرواية اللص والكلاب

كتب كثير من النقاد عن رواية اللص والكلاب لنجيب محفوظ، ولكن أحدًا منهم لم يتناول المؤثرات الأسطورية، وبخاصة أسطورة أوديب على عقل نجيب محفوظ حين كتب روايته اللص والكلاب، في أعقاب وقوع حادثة شهيرة في المجتمع المصري في الأعوام التي سبقت كتابة روايته. ومن هنا فإن موضوع دراستنا الحالية ينصبُّ — وبشكل أساسي — على كيف يصنع المجتمع قاتلًا وسارقًا؟ وهذا واحد من الأمراض النفسية الاجتماعية التي يتعدَّى أثرها من الفرد إلى الآخر وهو المجتمع، وبيان أوجه التشابه وليس المطابقة بين رواية اللص والكلاب والواقعة (حادثة مقتل السفاح محمود سليمان) وأسطورة الملك أوديب، من حيث دور القدر في تحديد المصير المترتِّب على السعي للمعرفة الذي قاد كلًّا من البطلين (سعيد مهران وأوديب) لمصيره، وخصائص شخصية كل من سعيد مهران ومحمود سليمان وأوديب، وشخصية الشيخ علي الجنيدي والكاهن ترياسيس، ودلالات عنوان الرواية والأسماء والمسدس.

ولسوف نلاحظ أن نجيب محفوظ قد حاول صنع «أوديب مصري» هو سعيد مهران من شخصية وحكاية السفاح محمود أمين سليمان، وفي الوقت نفسه لم يكن متعاطفًا معه على الإطلاق. ولقد استعان في ذلك بتقنية المونولوج Monolog الداخلي، وهذا ييسر للباحث السيكولوجي مهمته؛ فهو يتناول الرواية على أنها تداعي طليق Free Association من شخص أشبه بجلسة التحليل النفسي، ومن خلال هذا التداعي تتحدَّد الأفعال النفسية التي تُحدِّد ملامح البطل الأساسية، وفي هذه الرواية يسهل استخراج المعطيات اللاشعورية.٦

وكان من الظواهر اللافتة للانتباه في هذه الرواية لجوء الكاتب إلى ما يسمَّى بتيار الوعي أو تيار الشعور، من خلال المونولوج الداخلي لتسليط مزيد من الأضواء على عمله الروائي، وذلك عن طريق تصوير الحالة أو الكيان النفسي للبطل ومواقفه الخاصة من الأحداث. بل ظهر سعيد في كثير من المواضع يكلِّم نفسه، بل يتكلَّم بمفرده في مناجاة للنفس تكشف عمَّا يعتمل في الذات من صراعات وأفكار جرَّاء الخوف والإحباط والتشتت والقلق الذي أصبح يسيطر عليه، فقد وجد سعيد مهران نفسه أكثر من مرة وحيدًا، سجين الذات المتصارعة مع رغباته، وكان من الطبيعي أن تَحضره الكثير من الذكريات أو المواقف، والتي على ضوئها كخلفية متداعية يحدد مواقفه وقراراته وسلوكاته، والتي يجدها تتوزع بين الرغبة والخوف.

فنجيب محفوظ استغل الدوافع والنوازع المترسبة في نفسه من أجل تحديد الأسباب التي تحرِّك توجهاته، وبالتالي فالرواية كانت تسعى إلى تقديم صورة عن القيم المتصارعة في المجتمع المصري، وبخاصة بعد وضوح الديكتاتورية في ممارسات رجال الثورة مع الثقافة والفكر والمجتمع. وفي نفس الوقت حاول أن يقدمها مقرونةً بكثير من التركيز والتدقيق في الواقع الإنساني في لحظات الحكي، عبر تصوير العمق النفسي الذي يكمن وراء موقف الذات.

وهكذا نجد أن نجيب محفوظ قد حاول أن يتجاوز حدود التقليدية في كتابة الرواية، وأن يفتح آفاقًا جديدةً من التجريب والتحديث، خاصةً في آليات السرد واستخدام تقنيات الاتجاه النفسي المتكئ على تيار الشعور، تاركًا الأمر بعد ذلك للقارئ لكي يستنتج ما يريد من خلال تجربته كقارئ.

واستناد نجيب محفوظ على الأسطورة يبرره أن الأسطورة تشير إلى وقائع بشرية صيغت على نحو مميز، لتشير إلى الصراع البشري بين الإنسان والطبيعة، والإنسان والآخر، والإنسان وذاته. أو هي الإجابات الإبداعية على سؤال طرحته الطبيعة، طبيعة الذات المنغلقة المتناقضة، وطبيعة الطبيعة المجهولة. كما أن علماء التحليل النفسي نظروا للأسطورة على نحو مغاير؛ فاعتبروها بمثابة البقايا المشوهة لتخيلات ورغبات أمم سابقة، وأنها أحلام البشرية الحديثة التي امتدَّت قرونًا طويلة، ولذا فهي حلم جماعي للناس في كل مكان.٧
وفي دراسة تحمل عنوان «سيكولوجية الآخر عند نجيب محفوظ في رواية اللص والكلاب» يتأكَّد أن الآخر وهو «رءوف علوان» قد شكَّل الأنا وهو «سعيد مهران»، وأن سعيد مهران تمرَّد على الآخر وظل متمسكًا بقيمه التي تعلمها من رءوف علوان؛ وهي «التمرد والثورة»، في الوقت الذي خان رءوف علوان قضيته وتحول إلى صفوف الكلاب الذين يجب عقابهم. وهناك آخر يشترك مع رءوف علوان وهو عليش سدرة ونبوية، ونور وسناء والشيخ علي الجنيدي، وهذه هي الدراسة النفسية الوحيدة التي وضعت تفسيرًا يعتمد على العلاقة الجدلية بين الأنا والآخر من منظور نفسي وفلسفي.٨
أمَّا فيما يتعلق بالدراسات الأدبية فهي كثيرة، وكلها تسير في اتجاه واحد تقريبًا، وسنعرض لأبرزها؛ أولًا، تقول لطيفة الزيات: «كان من السمات التي استرعت انتباهي إبان ظهور الرواية، النسيج الذي نتلقَّى بمقتضاه الحديث من وعي الشخصية مباشرة، والذي تتصالح بمقتضاه الحقيقة الداخلية مع الحقيقة الخارجية، وهذا اللون من البناء يبدأ بلحظة أشبه ما تكون بلحظة الميلاد، وهي لحظة خروج الشخصية من السجن الذي يرمز غالبًا إلى الرحم، وينتهي بلحظة الموت. ويضم ما بين البداية والنهاية رحلة الشخصية وهي تتعرَّف على الحقائق الأساسية في الحياة، على الصعيدَين الميتافيزيقي والاجتماعي.»٩
وطرح صبري حافظ رؤياه فجسَّد لنا ملامح شخصية سعيد مهران وغيره من شخصيات الرواية فيقول: «يواجهنا نجيب محفوظ دفعةً واحدةً بسعيد مهران بطل قصته وهو في قمة أزمته، بعد أن فقد أربعة أعوام في السجن غدرًا، وفقد زوجته وكُتبه، وأنكرته ابنته، ليصبح سعيد مهران وثيقة احتجاج ضد الظلم والضياع والظروف القاتلة. وداخل هذا الإطار المأساوي يتحوَّل سعيد مهران إلى دونكيشوت الذي تطيش كل محاولاته لتأديب الكلاب، وبهذا أصبح سعيد مهران وحيدًا برغم تأييد الملايين له، ويبقى وحده ليمثِّل إرادة التحدي الكبرى التي أخذت تنكشف بذاتها أمام عالم الغدر والخيانة والضياع، ولكنه رغم وحدته عظيم بكل معنى الكلمة، ولكنها عظمة مُكَلَّلة بالسواد.»١٠
ويقول جميل حمداوي: «سعيد مهران في رواية «اللص والكلاب» شخصية متأزِّمة تعيش مأزقًا مصيريًّا، إنها تذكِّرنا بالبطل الذي يحمل قيمًا أصيلةً يحاول أن يغرسها في المجتمع الذي يعيش فيه، إلا أنه يصاب بالخيبة والفشل عندما يحتك بواقعه المُنحطِّ الذي تسوده القيم الزائفة والوساطة. ولم يستطِع تغيير واقعه على الرغم من محاولاته الخاطئة التي كانت تصيب الأبرياء فقط دون أعدائه. إن سعيد مهران لم يستطِع أن ينجز الأفكار والمبادئ التي كان يؤمن بها، والتي تعلَّمها من رءوف علوان؛ لأن الواقع كان مهترئًا تسوده السلبية، كما أن هذا الواقع الذي يحاول أن يفجر فيه سعيد مهران أفعاله هو واقع غير مكتمل وغير منجز، تعبث به أيدي الإجرام والخيانة والغدر. يصوِّر نجيب محفوظ شخصيته الأساسية في الرواية باعتبارها شخصيةً مأساويةً على عتبة القرار الأخير في لحظة الأزمة، وفي لحظة انعطاف فعلها نحو اللاجدوى، واللافعل، أو نحو فعل غير منجز، وغير محسوب.»١١

(٣) محمود أمين سليمان (الواقعة)

في يوليو عام ١٩٦٠م يكتب علي حسن فهمي في المجلة الجنائية القومية حول قضية محمود أمين سليمان قائلًا: «كان محمود دائم المشاكسة مع زملائه؛ فيفرض عليهم الإتاوات قسرًا، كما كان مبرَّزًا بين زملائه في الدراسة، وذا دور قيادي بين رفاقه في اللعب، وكان يسكن في أحد الأحياء القريبة من معسكرات جنود الاحتلال وقت ذاك، وشجَّع ذلك الصبية ومن بينهم محمود على ارتكاب بعض السرقات التافهة في بادئ الأمر من تلك المعسكرات، إلا أن ميدان تلك السرقات اتسع فشمل أيضًا منازل وقصور الجيران أنفسهم ومعظمهم من علية القوم ومن ذوي السلطان والنفوذ. وحدث أن تم القبض عليه بعد سرقة حديقة أحد الجيران، وتعدَّدت السرقات وكانت الأم تبالغ في عقابه. وما إن اشتد عوده حتى برع في أعمال البلطجة والسرقة، وقد جمع مالًا من هذه السرقات، ودخل السجن وخرج منه وعاد إلى السرقة من جديد؛ فصدر الحكم عليه بالسجن لمدة أربع سنوات، وخرج منه وكان ذلك في أوائل عام ١٩٥٦م، وأخذ يمارس السرقة من جديد إلى أن ضُبِط متلبسًا بالسرقة من منزل مطربة مشهورة، وحاول أن ينفي عن نفسه التهمة بادعاء أنه على علاقة بإحدى الخادمات بمنزل تلك المطربة، وتعرَّف على «بائعة هوًى» وتزوج منها، وتعرَّف بعد ذلك بفتاة وتزوَّجها. وأثناء واحدة من قضاياه اتفق مع محامٍ للدفاع عنه، وبدأ يشك في سلوك الزوجة والمحامي معًا، ودخل السجن وهرب منه وقد أبلغ عنه أحد أقارب الزوجة، وتسلَّط الشك عليه في سلوك الزوجة الخائنة والمحامي الذي يدافع عنه، وهنا صمَّم على الانتقام منهما، وهرب من السجن وحاول قتل المحامي، وحاول قتل صديق المحامي (يعمل مهندسًا)، فأطلق الرصاص عليه فأصاب فخذه بجراح، وهاجم منزل أسرة زوجته التي تقيم فيه واستطاع أن يغافل رجال الشرطة المنبثِّين حول المنزل، وتسلَّل إليه، وأطلق الرصاص من فتحة بباب الشقة قاصدًا إصابة زوجته، إلَّا أن الرصاص لم يصِبها وأصاب ابنة شقيقها الطفلة الصغيرة. وزاد نشاط الشرطة للإيقاع به، إلا أنه كان واسع الحيلة، بارع التنكر، وساعده على هذا بعض أقاربه الذين أخفَوه في مساكنهم، وهاجمته قوات الشرطة مرارًا، وأصابته في ساقه بطلقات الرصاص، واستطاع في كل مرة أن يهرب مستغلًّا في ذلك سرعته وذكاءه، إلا أن السلطات استطاعت إحكام الحلقة عليه؛ فاضطُر إلى الاختباء بمغارة في تلال المقطم بناحية حلوان، ويبدو أنه كان يعلم أن مقاومته غير مجدية، وأن مصيره محتوم؛ فأطلق على نفسه بضع رصاصات كانت كفيلةً بالقضاء عليه.»١٢

(٤) أوديب (الأسطورة)

تعد أسطورة «الملك أوديب» للمسرحي الإغريقي سوفوكليس تحفةً فريدةً في الأدب العالمي، وربما تكون أهم مسرحية وصلت إلينا من التراجيديات الإغريقية. وصفها أرسطو بأنها بلغت حد الكمال، وكانت قد عُرضت أول مرة عام ٤٢٥ قبل الميلاد. وتروي هذه المأساة أن كاهنًا أخبر «لايوس» ملك طيبة، وزوجته «جوكاستا» أنه إذا وُلِد لهما ولد فسيقتل أباه ويتزوَّج أمه، وعندما وُلِد الابن (أوديب) قررت أمه جوكاستا أن تفر من المصير الذي تنبَّأ به الكاهن بأن تقتل الطفل وتقوم بتسليمه (أوديب) إلى أحد الرعاة، الذي كان عليه أن يترك الطفل في الغابة بقدمين موثوقتين بحيث يموت أو تأكله الوحوش. على أن الراعي أخذته الشفقة بالطفل وقام بتسليمه إلى رجل يعمل في خدمة ملك مدينة كورينث، وهذا الرجل بدوره يأخذ الطفل إلى سيده الذي لا ينجب، ويتربى أوديب أميرًا صغيرًا في كنف ملك كورينث دون أن يعلم أنه ليس الابن الحقيقي لهذا الملك. ويخبره كاهن دلفي أن قدره أن يقتل أباه ويتزوَّج أمه، فيعزم أوديب على أن يهرب من هذا القدر بألَّا يعود أبدًا إلى أبويه اللذين ربياه صغيرًا. بينما هو عائد من دلفي يدخل في صراع عنيف مع عجوز متغطرس على ظهر مركبة، ويفلت من زمام نفسه فيقتل هذا الرجل دون أن يعرف أنه قتل أباه ملك طيبة. وتقوده خطاه إلى طيبة وهناك كان السفنكس (أبو الهول) يفترس شباب وشابات المدينة، ولن يكف عن ذلك إلا إذا وجد شخصًا يعرف الإجابة عن اللغز الذي يطرحه وهو «ما الشيء الذي يسير أولًا على أربع في الصباح، ثم على اثنتين عند الظهر، وعلى ثلاث عند الغروب؟» وقد وعد شعب طيبة بأنهم سينصِّبون من يستطيع حل اللغز وإنقاذ المدينة من الوحش ملكًا ويزوِّجونه بأرملة الملك. ويغامر أوديب ويجد الجواب عن اللغز «إنه الإنسان»، ويلقي أبو الهول نفسه في البحر، وتتخلَّص طيبة من الكارثة، ويصبح أوديب ملكًا ويتزوَّج جوكاستا التي لم يكن يعرف أنها أمه. وبعد أن حكم أوديب زمنًا طويلًا بسلام تصاب المدينة بوباء الطاعون، ويذهب ضحيَّته كثير من سكان طيبة، ويكلِّف أوديب أخا زوجته (كريون) بالتوجُّه إلى المعبد لمعرفة نبوءة الإله أبولو. ويبلغ الملكَ أوديب أن الكارثة ستستمر إلى أن يُقبض على قاتل الملك السابق ويقدَّم للمحاكمة؛ ويعلن أوديب أنه لن يهدأ له بال حتى يقبض على القاتل الشرير ويعاقبه، غير مدرك أنه هو القاتل نفسه. ويطالب العراف ترياسيس بأن يكشف عمَّا يعرفه من أمر ما تواجهه المدينة؛ فيرفض العراف ويستشيط أوديب غضبًا، ويتَّهم العراف بأنه متآمر مع كريون لإزالته من الحكم. ويعلن ترياسيس أن أوديب سيصاب بالهلع عندما يكتشف حقيقة أبيه وزوجته. وتحاول جوكاستا زوجة أوديب أن تخفِّف عن زوجها بأن تقول له إن النبوءات لا أساس لها، وتقص عليه أن نبوءةً ظهرت في الماضي البعيد بأن ابنها سيقتل أباه ويتزوَّجها، وقالت إنها صرفت هذا الابن بأن طلبت من أحد الخدم القضاء عليه منعًا لتحقق النبوءة، وتحاول طمأنته بأن النبوءة لم يتحقق منها شيء، ولا تدرك جوكاستا أنها فتحت بذلك بابًا للحقيقة الرهيبة. ويكشف العراف (الكاهن) ترياسيس أن الطاعون عقاب الآلهة على الإثم المزدوج الذي اقترفه أوديب وهو قتل الأب والزواج من الأم، ويعرف أوديب من الكاهن الحقيقة فيذهب ويعترف لأمه بذلك؛ فتقتل نفسها ويقوم هو بفقء عينيه ويصبح أعمى.١٣

وتنطوي المسرحية على العديد من الأفكار والقضايا الفكرية والفلسفية؛ فهي تبحث في الأخطار التي يواجهها المرء في رحلته الطويلة على طريق البحث عن الذات، وتبحث في مشاعر الذنب، وتكشف عن طبيعة القدر، وتدرس العلاقة بين الفرد وقدره. فحرص أوديب على البحث عن الذات وثقته التي لا تعرف الحدود بنفسه وسرعة غضبه — وكلها خصائص تتميز بها شخصيته — هي السبب وراء المواجهة مع قدره، وهي الحافز في تحقُّق النبوءات.

يوحِّد فرويد بين هيكل الأسطورة والعمل الأدبي، ويترتَّب على ذلك أنه يرى أن المحتوى العميق لأسطورة أوديب ولعقدة أوديب وللمسرحية لا يتعدَّى خرق المحارم (قتل الأب – الزواج بالأم)، ولكن خلافًا لما يصفه فرويد نجد أن المعنى الخفي (القتل – الزواج) بدلًا من أن يكون مستترًا يُعرَض أمام أعيننا طوال المسرحية، ويتم فيها (المسرحية) الكشف عن رغباتنا الدفينة. وقد عارض «فريزر» هذا التصوُّر الفرويدي؛ إذ رأى أن الصراع لا يتمثَّل في الغيرة الجنسية التي يعاني منها الابن — والتي استشفَّها فرويد من نص سوفوكليس ذاته: «أما أنت فلا تخَف من فكرة الاقتران بأمك؛ فكثير من الناس اقترنوا بأمهاتهم في أحلام الليل. ومن ازدرى هذا الخوف الذي يصدر عن الوهم؛ كان خليقًا أن يحتمل الحياة في كثير من اليسر.» — بل يتمثَّل في صراع الأجيال وفي رغبة الابن البالغ في أن يتخلص من وصايا الأب الكهل. أما «جيرار» فإنه لا يقنع بتفسير «فريزر»، ويذهب في فحصه للأمر إلى التشابه اللافت الذي يلاحَظ في معظم الأساطير التي تحكي عن نشأة جماعة إنسانية؛ ذلك أن الوظيفة الاجتماعية ترتكز دائمًا على جريمة قتل مبدئية، وما من جماعة تفلت من هذا الشرط الأساسي، ومعنى هذا أن هناك بُعدًا دمويًّا في تكوين الإنسان. وأن أول عمل إنساني يجب أن يقوم به هو طرح هذا العنف خارجه، وهنا يظهر الاعتراف — من خلال الأسطورة — بوجود قوًى مظلمة داخل الإنسان، تسعى إلى تدميره، كما لو أنها ضريبة طبيعية في الوجود.١٤

(٥) سعيد مهران (الرواية)

تدور أحداث الرواية عند خروج اللص سعيد مهران إلى الحرية بعد أن قضى في السجن أربع سنوات ثم يُفرَج عنه، وقد سُجن بتهمة السرقة؛ فلقد كان لصًّا ماهرًا، ولكن كما يبدو أن الخيانة كانت تملكه بعد خروجه من السجن وسبَّبت الكثير من الكوارث والمشاكل له. ويتوجَّه سعيد مهران إلى زوجته الخائنة التي انتظرت دخول زوجها سعيد مهران السجن لتخونه وتتزوَّج شخصًا آخرَ، وتطالب سعيد مهران بالطلاق. وعندما طالب سعيد مهران بابنته، فلم يكن هناك غير أن ينتظر إجابة ابنته مع من ستعيش ومن ستختار؛ وكان خيار الابنة أمها. وهنا تبدأ الأزمات لديه مما أدَّى إلى قراره بأن يتوجَّه إلى الشيخ علي الجنيدي، مستذكرًا والده. فيلبث هناك فترةً وجيزةً من الزمن. ومن هنا يبدأ مشوار الألف ميل باحثًا عن أحد أصدقائه القدماء، وكله أمل بأن يمد له يد العون والمساعدة. فيذهب إلى رءوف علوان الذي كان محررًا في الجريدة، ويذهب إلى الجريدة مقر عمل رءوف علوان، فيجد أن له حشمًا، ومكتبًا، وسكرتارية، وقد كان مدافعًا مضحيًّا من أجل سعيد مهران. وعندما لا يتمكن سعيد من مقابلة صديقه رءوف علوان في عمله؛ يذهب ويبحث عن بيته فيجده قصرًا كبيرًا، وتخرج من ساحة البيت سيارة فخمة، فينادي سعيد على رءوف؛ فيسمعه ويوقف السيارة ويستضيفه، غير أن سعيد يرى تعبير وجه رءوف بأنه لا يرغب بمقابلته لأنه أصبح من الفئة العليا (نلاحظ اسم علوان من العُلُو).

وبدأ سعيد مهران يغرق نفسه بالتعب الشديد بالتخطيط للانتقام، فتدخل لوحة جديدة من الأشخاص المكونة من طرزان ونور، والأول يُهدي سعيد مسدسًا بعد أن طلبه منه لتصفية الحساب؛ فيبدأ سعيد بجرائمه من جديد؛ فيتسلَّل أولًا إلى بيت خائنته ليحاول قتلها وقتل زوجها، وقد عفا عن زوجته بفضل ابنته لا غير، ولكنه لا يتردَّد بقتل زوجها ويهدِّد المرأة التي صرخت (نبوية) بأن دورها هو الآتي.

ولكن يتبيَّن له بعد ذلك بأنه قتل البريء الأول في رحلة الانتقام هذه واسمه شعبان حسين؛ فقد انتقلت مطلقته وأبوها وزوجها من البيت إلى مكان آخر، وكل هذا عرفه من الصحف — نلاحظ اسم الصحيفة «أبو الهول» — فلقد كان سعيد رجلًا مثقفًا. أمَّا عملية الانتقام من رءوف علوان فقد باءت المحاولة الأولى بالفشل عندما حاول السطو على قصره؛ فقبض علوان على سعيد وعفا عنه. وأيضًا محاولته الثانية انتهت بالفشل عندما حاول اغتياله وقتله، ولكنه يكتشف من الصحيفة أيضًا أنه قتل رجلًا آخر بريئًا غير رءوف (وها هو يقتل الرجل البريء الثاني وهو البواب).

وقعت هذه الحادثة في وقت إقامته مع نور وتعلُّقها به، فهي تحبه منذ زمن بعيد ولكنه أهملها، وقد تحقَّق اللقاء معها عند طرزان الذي يمثِّل ملجأ الصعاليك. وتستمر محاولات الاغتيال الملحِّ بشتى أنواعها ولكنها تنتهي بالفشل. وفي نهاية الرواية يحاول الوصول إلى بيت نور بعد أن تركت المقام فيه، وهنا يظن بأن نور قد عادت إلى بيتها بعد أن رأى النور من شرفتها. وتنتهي عملية اغتياله بقتل رجل بريء آخر ساكن جديد في شقة نور، وهذا القتل ليس له دافع، ولكنه البريء الثالث. وتنتهي الرواية باستسلام سعيد مهران بعد أن تمت الإحاطة به من الشرطة، وقد بدأ بالصراخ: «نور»؛ فلقد ظن أنها موجودة في البيت ولكن دون أمل.١٥

(٦) التشابه بين محمود سليمان وسعيد مهران

تذهب فاطمة موسى إلى: «أن اللصين يشتركان في الضجة التي أثارها كل منهما، وإن كان نجيب محفوظ لم يركِّز أضواءه على الضجة، بل اقتصر على تصويرها من خلال أثرها على اللص نفسه؛ إذ ملأته بغرور لا يخلو من شعور بالمرارة. وكلا اللصين زلَّت قدمه قبل النهاية؛ فأُنسي جزءًا من ملابسه مكَّن منه أنوف الكلاب، وإن كان سعيد لقي حتفه لا في كهف في الجبل بل في القبور التي تقف دومًا على مرمى بصره لتذكره أن الجميع مآلهم إليها؛ الفريسة ومطاردها، ومن قُتل ظلمًا ومن قُتل عدلًا، كلهم سائرون إلى القبر حتمًا.»١٦

ولكن رؤيتنا تذهب إلى أن القبر والكهف يشتركان في دلالة رمزية واحدة؛ هي المأوى والسكن للحماية من الأضرار. فالإنسان القديم سكن الكهوف ومنها تطورت فكرة البيوت، وكذلك القبر يسكنه الجسد بعد الموت ليتحقق له الأمان والحماية والستر، وفي دلالتهما العميقة عودة لرحم الأم حيث الحماية والأمان المطلق؛ فالأرض هي أم الإنسان وإليها يعود ليذوب ويتحلَّل ويستقر فيها.

(٧) دلالة عنوان الرواية

يقدم عنوان «اللص والكلاب» إمكانيات غنيةً بالتساؤلات حول الدلالات والإيحاءات التي يمكن أن يحيل عليها التركيب الاسمي بمفردتيه «اللص» و«الكلاب». ولعل أوَّل تساؤل يستثير القارئ؛ علاقة عطف الجمع الواوي في الجملة بين اسمين، أحدهما مرتبط بالإنسان والآخر بالحيوان، مما يمكن أن يوهم بحقيقتهما المعجمية في ذهن المتلقي، فيجد نفسه أمام فرضية للقراءة محدودة الأفق في ضوء ما يحيل عليه المكوِّنان، من منطلق تصوُّر اشتغال الرواية على حدث أو أحداث واقعية وثيقة الصلة بعالم السرقة والمطاردة. وقد يجد نفس القارئ حاجةً لاستعراض ما يتصل باللص من صفات لها علاقة بالجريمة، دون نفي إمكانية التفكير في الظروف الواردة، كأسباب للفعل في الواقع، على اعتبار أن اللص في النهاية قد لا يكون دائمًا موضع إدانة، إن كانت ثمة دوافع موضوعية كالحاجة والضرورة في مجتمع يدفع إلى جنحة اللصوصية تحت الإكراه، خاصةً وأن اللص بصيغة المفرد قد يصدر في فعله عن موقف شخصي يعكس ذاته، دون صيغة الجمع التي يمكن أن توحي بالعمل المنظَّم ذي الطبيعة الاحترافية. وبنفس التأمُّل في دلالة المكون الثاني من العنوان «الكلاب»، يمكن أن يستحضر ما يتصل بهذا الحيوان الصديق التاريخي للإنسان، من صفات الوفاء والصدق في الملازمة، لدرجة التضحية من أجل صاحبه في مواجهة ما يتهدَّده ماديًّا من طرف الغير، لينتهي إلى حاجته لقراءة المتن الروائي، كي يحدد للمكوِّنين دلالتهما المقصودة في رؤية الكاتب، في ضوء ما راهن عليه بتأليفه للرواية.١٧

(٨) دلالة أسماء الشخصيات

على افتراض وجود نية مسبقة في اختيارها، فيمكن رصدها من خلال نماذج موحية بدلالات متصلة بالرواية، حتى لتكاد أن تبدو أقرب إلى التمثيل بالمطابقة أو بالمخالفة؛ فسعيد مهران لم يكن بشقه الأول سعيدًا، ولا كان بشقه الثاني موفقًا فيما سعى إلى التمهُّر فيه، بل ظل تعيسًا تتراكم عليه الأزمات، بقدر ما ظل فاشلًا بعجزه عن بلوغ أبسط رغباته في الانتقام، حين أخذ رصاصه يصيب الأبرياء دون الظلَمَة ممن انتهى إلى وصفهم بالكلاب. وكان لرءوف علوان شيء يمكن أن يتصل باسمه، وقد بلغ السمو المطلوب في علوان. أما الأسماء المفردة للأعلام في الرواية فبعضها متصل بمعانيها العامة، كطرزان والجنيدي وطاهرة؛ إذ تحيل في الرواية على الفتوَّة والصوفية والبراءة على الترتيب. بينما تقبل الأسماء الأخرى إمكانية الربط بينها وبين دلالاتها؛ فنور التي صاحبت سعيد مهران على امتداد تطوُّر الأحداث، ظلَّت تجسد النقطة المضيئة في حياته، إلى أن أغمض عينيه بين يديها، بالرغم من وضعيتها القاسية اجتماعيًّا كفتاة يحضنها الليل كي تجد ما تعيل به نفسها في النهار. ونبوية الزوجة الخائنة، لم تحمل من معنى النبوَّة في بُعدها الديني أي شيء، ربما كانت أقرب إلى النبو بمعنى الابتعاد والانفصال. ولا شك أن تلك الشخصيات كمكوِّن حيوي من مكونات النص السردي، لا يمكن أن تحيل على إيحاء أو معنًى خارج سياقها الروائي؛ لأن وجودها ضمن علاقات متشابكة، يطبعها الاتصال حينًا والانفصال حينًا آخر، وحده الكفيل بمنح تعدد القراءات التأويلية لرمزيتها، في ضوء تنامي الحركة الداخلية للنص، والتي ظلَّت محكومةً بالتجاذبات الثنائية على التناقض أو التكامل، بين مظاهر سلوكيات تلك القوى الفاعلة.١٨

(٩) الخروج من السجن والمدينة

سعيد مهران يعيش لحظة ميلاد منذ بداية الرواية؛ حين يخرج من السجن ليواجه العالم المضطرب الذي تسيطر عليه الفوضى: «مرةً أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يَجِد في انتظاره أحدًا. ها هي الدنيا تعود، وها هو باب السجن الأصم يبتعد منطويًا على الأسرار اليائسة. هذه الطرقات المثقلة بالشمس، وهذه السيارات المجنونة، والعابرون والجالسون، والبيوت والدكاكين، ولا شفة تفتر عن ابتسامة. وهو واحد، خسر الكثير، حتى الأعوام الغالية خسر منها أربعةً غدرًا، وسيقف عمَّا قريب أمام الجميع متحديًا. آن للغضب أن ينفجر وأن يحرق، وللخونة أن ييأسوا حتى الموت، وللخيانة أن تكفِّر عن سحنتها الشائبة.»١٩

وفي أسطورة أوديب يخرج أوديب من المدينة التي تربى فيها ليواجه مصيره؛ فيقتل رجلًا وهو لا يعرف أن الرجل أبوه؛ ليكون قدره حين يسعى للمعرفة التي ستقوده بدورها إلى القدر المحتوم وهو النهاية. ففي الأسطورة: «قرَّر أوديب أن يترك المدينة ويذهب إلى مدينة تُدعى مدينة طيبة (مسقط رأسه)، وقبل دخوله للمدينة كان هناك جسر للمرور، وأثناء عبوره لذلك الجسر واجه موكب ملك طيبة (والده الحقيقي)، فطلب منه الحرس التنحي جانبًا ليعبر الملك، إلَّا أن الغرور الذي تربَّى عليه جعله يرفض ذلك؛ فقتل الملك والحرس، ولم يكن على معرفة بأنه قتل أباه.» وفي الرواية والأسطورة (سعيد مهران وأوديب) يخرجان وكأنهما يولدان من جديد، لتكون بداية كل منهما في البحث عن المصير ودور القدر فيه، هذا يخرج من السجن وذاك يخرج من المدينة.

وعندما نقرر أن نجيب محفوظ كان متأثرًا حال كتابته لهذه الرواية بأسطورة أوديب، لا نقصد بطبيعة الحال القول بأن الرواية نسخة من الأسطورة، ولا نسخة من الواقعة الحقيقية التي حدثت في المجتمع المصري، ولكن نقصد التشابه وليس المطابقة التامة؛ فصحيح أن هذا التشابه قد لا يكون مقصودًا من الشعور Consciousness لدى نجيب محفوظ ولكنه تأثر به في اللاشعور unconsciousness؛ وذلك لسيطرة تلك الأسطورة على الإنسان، وملامستها لجانب مهم من الشخصية الإنسانية؛ فكل طفل ذكر هو أوديب نفسه. ومن هنا نجد هذا الحضور الطاغي للأسطورة في حياة الناس كلما شاهدوها في السينما أو المسرح أو قرءوها، ونستدل على ذلك التشابه بموت والد سعيد مهران، وبعده موت أمه خلال فترة طفولته ومراهقته، وكذلك الحال في موت والد أوديب وبعده موت أمه. وجود شخصية الشيخ علي الجنيدي في الرواية، ووجود شخصية الكاهن ترياسيس في الأسطورة، ودور كل منهما في التنبؤ بالمصير. والصفات الشخصية لسعيد مهران من حيث الثقافة، والثقة المفرطة بالنفس، والسعي لمعرفة المجهول، كلها صفات اتصف بها أوديب أيضًا. كما أن الحديث في الرواية عن اللغز والمأساة في الأسطورة أيضًا كان متواترًا، كذلك النهاية لدى كل منهما بالغموض وعدم الموت؛ لأن سعيد مهران لم يقتل وكذلك أوديب لم يمت. الجريدة التي عمل بها رءوف علوان اسمها «أبو الهول»، وهذه كانت مصدر المعرفة لدى سعيد مهران في معرفة الأخبار وما يحاك ضده من مؤامرات يديرها بدقة رءوف علوان، واللغز الذي حلَّه أوديب بسبب معرفته كان يلقيه عليه الوحش السفنكس والذي يترجَم ﺑ «أبي الهول»، والذي بسبب ذلك الحل بدأت النهاية لأوديب. وكذلك الحال بعد متابعة سعيد مهران للجريدة؛ بدأت نار الانتقام تشتعل داخله بقوة دون تفكير أو عمل حسابات للموقف — وكأنه يسير نحو قدره — فكأن نهايته بدأت من خلال معرفته بأخباره التي تُكتب في جريدة «أبو الهول». وثمة مشابهة تتعلَّق بالأسماء؛ حيث يشير اسم أوديب إلى صاحب القدمين المتورمتين، وتذكر الأسطورة أن أوديب عندما كان طفلًا صغيرًا قام الراعي الذي أخذه من أمه (الملكة) بربط قدميه، وقد جعل ذلك الرباط القدمين تتورمان. ويشير اسم سعيد مهران إلى المهارة واللياقة، وها هو سعيد مهران يصف نفسه وكأنه يصف اسمه: «ولكني سأنقَضُّ في الوقت المناسب كالقَدر. استعِن بكل ما أوتيت من دهاء، ولْتكن ضربتك قويةً كصبرك الطويل وراء الجدران، جاءكم من يغوص في الماء كالسمكة، ويطير في الهواء كالصقر، ويتسلَّق الجدران كالفأر، وينفُذ من الأبواب كالرصاص.»٢٠
وثمة تشابه أخير وإن كان رمزيًّا؛ وهو أن أوديب انتهت مأساته بأن فقأ عينيه وأصبح أعمى يتخبَّط في الطرقات، حتى بلغ الصحراء والجبل على غير هدًى. وسعيد مهران تنتهي حياته في الصحراء وعند القبور، كما أن سعيد مهران لا يعرف نفسه فهو أعمى جزئيًّا كأبطال المآسي ومنهم أوديب، إنه يظن نفسه عصفورةً سادرةً ويأخذه الغرور فيقول: «قلبي لا يكذبني أبدًا.»٢١ ولكن قلبه يكذبه، في الوقت الذي لم تُضلِّل فيه الغشاوة والزيف أعين أعدائه، وقد عرف الماكرون كيف يحتمون من بطشه تحت جناح القانون. وترتفع الغشاوة عن عينيه في لمحة قُبيل النهاية فيعرف نفسه حقًّا فيقول: «إنه بهلوان لا أكثر، كما يعرف مصير ابنته أن مستقبلها في مهنة نور صائدة الرجال.»٢٢

وكان يقوم بكل الأفعال والأنشطة ومحاولات القتل والسرقة، حتى لحظات الحب مع نور، كل ذلك كان أثناء الليل. وفي رأينا أن تلك إشارة لكونه يشبه الأعمى الذي يتخبَّط في الحياة بدون شيء يَهديه الطريق أو يُنير له السبيل، وليس أدل على ذلك من أن المبصر حين يسير في الظلام يصبح كالأعمى تمامًا، حتى إن المثل الشعبي في مصر يقول لتأكيد ما هو أكثر من ذلك: «إن الغريب أعمى ولو كان بصيرًا.» ولعل من براعة نجيب محفوظ أن جعل الشخصية التي تقدِّم الحب لسعيد مهران اسمها نور، وفي هذا دلالة على أنه سواء كان يسير في الظلام فهو بحاجة للنور، ولو كان أعمى فهو بحاجة لشخص يحبه لكي ينير — رمزيًّا، له الطريق بحيث يجنِّبه المخاطر. وفي أسطورة أوديب تقوم ابنته أنتيجونا بما يشبه دور نور؛ حيث تقدِّم الحب والرعاية لأبيها بعد موت أمها وفقدانه البصر وضلاله في الصحراء.

(١٠) القدر والليل

في رحلة سعيد مهران للبحث عن معرفة أماكن وجود الكلاب الذين خانوه، يشير نجيب محفوظ في دلالة مهمة على القدر وكيفية سيطرته على تصرُّفات سعيد مهران؛ حيث الليل وما فيه من ظلام وغموض يجعله لا يستبين طريقه ولا وجهة سيره، ويتمثَّل ذلك في أن ذهابه إلى عليش كان في المساء، وإلى بيت الشيخ علي الجنيدي كان ليلًا، ولقاؤه مع رءوف علوان كان ليلًا، وعملية السرقة كانت ليلًا، وتعرُّفه على نور كان ليلًا، وعملية القبض عليه كانت ليلًا. وهذا الليل والقدر كانا السبب في أن يقتل ثلاثةً بالخطأ، مما قد يوحي بأنه لم يكن مجرمًا يخطِّط لعمليات القتل، بل كان القدر هو صاحب الكلمة العليا في عمليات القتل.

«اذهب إلى الجبل حتى يهبط الظلام، لا تغادره حتى يهبط الظلام، تحاشَ الضوء ولُذ بالظلام. تعب بلا فائدة؛ ذلك أنك قتلت شعبان حسين، من أنت يا شعبان؟ أما أنا فلا أعرفك وأنت لا تعرفني، أنا القاتل، لا أفهم شيئًا.»

وتقول له نور: «الانتظار في الظلام عذاب.»٢٣

وذلك ما حدث مع أوديب حيث قتل أباه بالخطأ أيضًا دون أن يعلم، وعندما سعى سعيد مهران للمعرفة كان في الحقيقة يبحث عن قدره ونهايته، وعندما بحث أوديب عن قاتل الملك وسأل الكاهن ترياسيس كان في الحقيقة يبحث عن قدره ونهايته.

(١١) اللغز

في الرواية يتكرَّر لفظ اللغز الذي يسعى سعيد مهران لحله: «وأنا القاتل لا أفهم شيئًا ولا الشيخ علي الجنيدي نفسه يستطيع أن يفهم، أردت أن أحل جانبًا من اللغز فكشفت عن لغز أغمض.» ثم يتعب سعيد مهران من محاولته فك اللغز فيقول: «ولْأترك تفسير اللغز للشيخ علي الجنيدي.» وفي الأسطورة يحاول أوديب فك اللغز الذي أدخله إلى المدينة وكان سببًا في زواجه من الملكة (أمه)، وهناك اللغز الأكبر الذي لم يعرفه إلا الكاهن ترياسيس؛ وهو أن أوديب قتل أباه وتزوَّج من أمه، وهنا تشابه بين شخصية الشيخ علي الجنيدي وبين الكاهن ترياسيس في أن كلًّا منهما متصل بالدين وبقِيَمه ومعرفته بالأسرار الكامنة وراء سلوك سعيد مهران وأوديب. ولْنستمع لكلمات الشيخ علي الجنيدي حيث يقول: «يا لك من متعب! ودنياك هي المتعبة.» ويدور حوار بين الشيخ وسعيد يكشف عن تصوُّف الشيخ ولغته المليئة بالمعاني، فيقول كلمات يستبصر فيها بمصير سعيد كما كان الكاهن يستبصر بمصير أوديب. الشيخ علي الجنيدي: «أنت تعيس جدًّا يا بني! نمت طويلًا ولكنك لا تعرف الراحة، كطفل ملقًى تحت نار الشمس، وقلبك المحترق يحن إلى الظل، ولكن يمعن في السير تحت قذائف الشمس. من غاب عن الأشياء غابت الأشياء عنه.» وفي الأسطورة يقول الكاهن ترياسيس لأوديب: «ولكنك لا ترى ما أنت فيه من شر، ولا ما اتخذت لنفسك من منزل، ولا من تعاشر من الناس، إنك تجهل أنك بغيض إلى أسرتك في الدنيا.»٢٤

وهنا نلاحظ أن ثمة تشابهًا بين مضمون كلمات الشيخ علي الجنيدي وكلمات الكاهن ترياسيس، ويكاد يتساوى دور كل منهما في الرواية والأسطورة.

(١٢) دلالة الرمزية للمسدس

في أسطورة أوديب يضاجع الابن أمه وينجب منها بدون علمه، وعندما يعرف يفقأ عينيه، لذلك يقال في التحليل النفسي: «إن العمى وريث عقدة أوديب»؛ حيث إنه كان من المفروض أن يقوم أوديب بعملية خصاء Castration الذي يُعرف بأنه سل الخصيتين ونزعهما، وقد يستعمل للدلالة على استئصال العضو الذكري، ويفضَّل هنا كلمة بتر Amputation. وفي المستوى النفسي لا يعني الخصاء إزالة الخصيتين أو العضو الذكري بالمعنى التشريحي، بل يعني ذلك فحسب فقدان العضو الذكري في مستوى المتخيل إذا ما اضطرب الرمزي، ومن ثم يضطرب إدراك الواقع، فيكون الخصاء هنا دلالةً مجازية أو استعاريةً لواقع نفسي امتنع عليه النشاط الجنسي؛ إذ إن الموقف المعيش إنما هو موقف داخلي يرتبط بعقدة الخصاء.٢٥ على المستوى الرمزي ولكنه أزاح العقاب من أسفل إلى أعلى، ومن هنا كان اهتمام التحليل النفسي بهذه العقدة ودورها في عملية نمو الطفل، والمعاناة من المرض النفسي فيما بعد. أمَّا عقدة الخصاء فتشير بحسب رؤية المحلل النفسي سامي علي بأنها تدل على الخوف اللاشعوري من فقدان الأعضاء التناسلية عقابًا على إتيان الفرد بعض الأفعال الجنسية المحرمة، أو شعوره ببعض الدوافع الجنسية تجاه موضوع محرَّم. والخوف من الخصاء ينشأ نتيجةً لوجود الموقف الأوديبي، ومن هنا يوجد ارتباط بين الموقف الأوديبي المستمد من أسطورة أوديب وعقدة الخصاء.٢٦
وفي الواقعة الحقيقية يشك محمود أمين سليمان في وجود علاقة جنسية بين زوجته وصديقه المحامي أثناء فترة بقائه في السجن، كما أنه استغل الكثير من النساء بإقامة علاقات معهن، وفي الرواية تخون نبوية زوجها سعيد مهران مع تابعه في السرقة عليش، وتطلب الطلاق منه. وفيما سبق يتبدَّى لنا أن الجنس كان المحور الرئيسي في الأسطورة والواقعة والرواية. وصحيح أن أوديب عاقب نفسه بالعمى بديلًا عن الخصاء، إلا أن سعيد مهران سيستخدم المسدس للانتقام والقتل وكأنه قام بعمل إزاحة من الموضوع الرئيسي — العضو الذكري phallus — إلى المسدس، ومن الثابت في التحليل النفسي أن المسدس يرمز — وكل ما هو مدبب — إلى العضو الذكري، ولكنه مسدس قد أُجريت له عملية خصاء على المستوى الرمزي، فهو عضو ذكري لا يفلح في تحقيق غايته، وهو مسدس تطيش كل رصاصاته في الهواء، فلا تصيب الهدف المطلوب، فكل الذين قُتلوا كانوا من الأبرياء، وكل الذين أراد قتلهم نجَوا جميعًا وهلك هو وحده. وكأن سعيد مهران أيضًا قام بعملية خصاء لنفسه بعد خيانة زوجته؛ فهو لم يَعُد بفعل خيانتها يمتلك عضوًا جذابًا أو فاعلًا. وها هو يخاطب المسدس قائلًا: «بهذا المسدس أستطيع أن أصنع أشياء جميلةً على شرط ألَّا يعاكسني القدر.» ونستدل على ذلك أيضًا حين يذكر نجيب محفوظ عند محاولته قتل رءوف علوان.

«أخرج سعيد مسدسه وصوَّبه نحو الهدف، وفتح باب السيارة. نزل رءوف علوان، وصاح سعيد: رءوف!

انتبه الرجل إلى مصدر الصوت في دهشة، فصاح سعيد: أنا سعيد مهران. خذ … غير أنه في نفس الوقت انطلقت نحوه من الحديقة رصاصة أصاب أزيزها صميم أذنه. حدث ذلك قُبيل أن يطلق مسدسه، فاضطرب اضطرابًا مفاجئًا وهو يطلق النار، ولكنه رفع رأسه في تصميم يائس وحذر، وسدَّد مسدسه مرةً أخرى وأطلق رصاصةً أخرى في عجلة ولهوجة.»

ويتأكَّد فعل الخصاء حين يقول: «وأنت نفسك ميت منذ أطلقت الرصاصة العمياء، ولكن عليك أن تطلق مزيدًا من الرصاص.»

حتى في النهاية وسط القبور يطلق الرصاص بلا فائدة: «وأطلق الرصاص مرةً أخرى وقد ذُهل عن كل شيء. وواصل إطلاق النار في جميع الجهات.»٢٧

وسعيد مهران يعترف بأن الرصاص أعمى، وكأن الرصاص أُجريت له عملية إزاحة من المسدس إلى الرصاص، فيكون الخصاء الرمزي للرصاص وللمسدس أشبه بالعمى الذي أصاب أوديب.

(١٣) الرمز

ظن سعيد مهران أنه رمز على الثورة والتمرُّد مثلما كان أوديب رمزًا على القدر وأثره في حياة الإنسان، وإن سعيد مهران تتضح رمزيته أكثر من خلال صناعة البطل الذي قام به رءوف علوان: «اشتد الحصار على سعيد بفعل رجال الأمن والمخبرين والصحافة، ويظهر أن رءوف علوان لم يدَّخر جهدًا في أن يجعل من سعيد مجرمًا يتهدَّد أرواح الناس بالسلاح في كل مكان وفي كل منعطف وكل زاوية. لقد جعل منه مجرم الساعة بامتياز، ومن أخباره وأنباء غزواته زوبعةً لا تهدأ. جميع الجرائد سكتت أو كادت إلا جريدة الزهرة. ولن يهدأ رءوف علوان حتى يطوِّق عنقه بحبل المشنقة، ومعه القانون والحديد والنار.» في هذه اللحظة يقرر سعيد مهران أن يكون رءوف علوان هو الضحية الآتية والأخيرة: «لتكن آخر غضبة أُطلقها على شر هذا العالم.»

ثم تعود نور إلى البيت ومعها الأخبار التي جعلت من سعيد بطلًا: «كثيرون تحدثوا عنك أمامي بإعجاب. فقال صبي القهوة بحماس: أيُّ ضرر في سرقة الأغنياء.» وعلى لسان نور التي تقول لسعيد مهران ما يلي: «يتحدث عنك ناس كأنك عنترة.» وتقول نور أيضًا: «سائق تاكس دافع عنك بحرارة.»٢٨

هذه الأخبار كلها تؤكد أن رءوف علوان فشل في أمره، وفي الوقت الذي كان يشعل النيران في كل مكان حول سعيد مهران، كان لا يعرف أنه يصنع من سعيد بطلًا، وها هو الرأي العام أصبح متعاطفًا مع سعيد، رغم أنه لا يحب القتل، فهو في الوقت نفسه يكره الخيانة، وبالتالي يتحوَّل سعيد من سارق إلى ثائر. ويتضح هذا الرمز فيما كتبه نجيب محفوظ في المقاطع الأخيرة من الرواية.

«وصاح صوت وقور: سلِّم، وأعدك بأنك ستعامل بإنسانية.

– كإنسانية رءوف ونبوية وعليش والكلاب.

– حسن، ماذا تنوي؟ اختَر بين الموت وبين الوقوف أمام العدالة.

فصرخ بازدراء: العدالة.

– أنت عنيد، أمامك دقيقة واحدة.

ورأت عيناه المعذبتان بالخوف شبح الموت يشق الظلام، وانهال الرصاص حوله فخرق أزيزه أذنيه، وتطاير نثار القبور. وأطلق الرصاص مرةً أخرى وقد ذهل عن كل شيء، فانصبَّ الرصاص كالمطر. وفي جنون صرخ: يا كلاب! وواصل إطلاق النار في جميع الجهات، وغاص في الأعماق بلا نهاية، ولم يعرف لنفسه وضعًا ولا موضوعًا ولا غاية، وجاهد بكل قسوة ليسيطر على شيء ما ليبذل مقاومةً أخيرة، ليظفر عبثًا بذكرى مستعصية، وأخيرًا لم يجِد بُدًّا من الاستسلام فاستسلم بلا مبالاة، بلا مبالاة.»٢٩
«أوديب مصريًّا» هكذا حاول نجيب محفوظ صناعته ولكنه أبدًا لم ينسَ أن سعيد مهران لص مثله مثل الكلاب، وأبرز لنا معالم قبحه وغروره واستهانته بالآخرين، فهو يكره الكلاب ولكنه هو نفسه كلب، أو بينه وبين الكلب نسب وشبه كبير؛ فهو حاد الحواس سريع الحركة ينقضُّ في خفة، ولكن نباحه وعضته تضيع كلها هباءً. ولعل هذا الشبه ما دعا صاحبته نور إلى حبه والتعلُّق به إلى هذه الدرجة؛ لأنها على حد قولها تحب الكلاب، ولم يخلُ بيتها منها يومًا. وقد أكَّد نجيب محفوظ هذا التشابه الدقيق بصورة محسوسة بقوله: «وقرصه الجوع رغم قلقه وأفكاره، فذهب إلى المطبخ فوجد في الصحاف كِسرًا من الخبز وفتاتًا من لحم عالقةً بالعظام، وبعضًا من البقدونس، فأتى عليها في نهم شديد، وتمصمص العظام كالكلب.»٣٠

(١٤) جدل علاقة نور وسعيد مهران

في الوقت الذي يرفض فيه سعيد مهران علاقة عليش بنبوية، يقبل أن يعيش مع نور حياةً كاملة، ويأكل من طعامها الذي تشتريه من بيع جسدها للكلاب الذين تحبهم. ويؤكِّد نجيب محفوظ على أن علاقة سعيد مهران بنور لم تكُن علاقة حب من ناحيته، بل علاقة مصالح؛ فهو لم يذهب لبيتها حبًّا فيها، وإنما هدفه كان الاختباء عندها من الشرطة التي تطارده، حيث إنه عندها سيكون في مأمن ولن يفطن البوليس إلى مكانه، فيقول: «أنا هنا في مكان آمن مطمئن لن تمتدَّ إليه عين البوليس.»٣١

لقد أراد سعيد مهران استغلال نور منذ رآها لأول مرة بصحبة زبون يمتلك «سيارة أمريكاني» ليستولي على السيارة، والحديث الأول بينهما يكشف عن ذلك بوضوح.

فقالت وهي تهز رأسها لتزيح خصلة شعر عن عينيها: إنه لا يعرف رأسه من رجليه، وسنذهب بسيارته إلى مدفن الشهيد، فهو يحب الخلاء! هل أنت في حاجة إلى النقود؟

– في حاجة إلى السيارة.»٣٢

وهكذا لم تكُن نور بالنسبة لسعيد إلا وسيلةً يصل من خلالها إلى غايته؛ وهي تنفيذ خطة الانتقام. كل هذا في الوقت الذي أحبَّته فيه نور واهتز وجدانها حين رأته وخبَّأته في بيتها.

– لا يجوز أن يشعر بي أحد!

فقالت ضاحكةً وكأنها وثقت من امتلاكه إلى الأبد: أحطك في عيني وأتكحل عليك.»٣٣
ولقد أدركت نور أن سعيد مهران لا يحبها، وأنه لا يزال يحب زوجته الخائنة نبوية: «أنت لا زلت تحب زوجتك، تلك الخائنة، ولكنك تعذبني أنا.»٣٤
ورغم عذابها في حبه وقسوته عليها وعدم مبالاته بمشاعرها الصادقة نحوه، وحفظها لسره رغم المكافأة السخية التي خصصتها الشرطة لمن يدل عليه: «فنور لن تخونه، ولن تسلِّمه إلى البوليس طمعًا في مكافأة؛ فقد ضجرت من المعاملات وتقدُّم العمر وباتت تحن إلى عاطفة إنسانية خالصة.»٣٥

ولم تكن نور تحظى من سعيد إلا بالرثاء لحالها؛ لأنه في كل مرة كان يعقد مقارنةً بينها وبين نبوية؛ فتخرج نور من المقارنة خاسرة. ولعل نجيب محفوظ أراد أن يصوِّر سعيد مهران وقد أصابته عقدة كراهية النساء، بالرغم من حبه لنبوية، حتى عندما تقول له نور في محاولة يائسة لتجعله يكره نبوية الخائنة التي لا تستحق حبه فتقول له: «على أي حال هي امرأة لا تستحقك!»

– «صدقتِ، ولا أي امرأة. لكنها مفعمة بحيوية وأنت تترنحين فوق الهاوية.»

هكذا كان سعيد مهران يرى نور امرأةً بلا حيوية، يقول لها: «نفخة واحدة ثم تنطفئين، وما لك في قلبي سوى الرثاء.»٣٦
وهكذا نرى أن نجيب محفوظ لم ينقل الواقع وحادثته التي شغلت المجتمع في مصر، ولم يقُم بعمل محاكاة لأسطورة أوديب، ولكنه استفاد من الأمرين معًا؛ فخلق شخصيةً لها ملامحها الخاصة من حيث سيطرة الهو — ذلك القسم الأول من الشخصية — الذي يسعى لإشباع الرغبات دون مراعاة لأي قيم مجتمعية أو أخلاقية، فهو يسرق ليعالج أمه في البداية، ويسرق لإشباع رغباته فيما بعد، ويقتل لكي يُشبع رغبته في الانتقام، ويأكل من عرق النساء في النهاية. فهو شخصية لم يكتمل نموُّها النفسي، فهو أهوج وغير مكترث بالعواقب، ويقوم بالقتل دون روية أو حذر؛ ولذا لم يفلح في تحقيق مأربه. ومن الغريب أن نقرأ في ختام مقال تقول فيه «نزهة الماموني»: «كل هذا التنوُّع في المكوِّنات السردية ميَّز الرواية بطابعها الأقرب إلى محاكاة الواقع منه إلى الخيال، وجعلنا نعيش أحداثًا وكأنها حية تمر أمامنا الحدث تلو الآخر.»٣٧ دون ما أي إشارة منها لصناعة أوديب على الطراز المصري، أو الاستفادة من الأسطورة القديمة في رواية اللص والكلاب.

ورأينا التقاطع بين الشخصيات الثلاث «أوديب وسعيد مهران ومحمود أمين سليمان»، والظروف المصاحبة لهم جميعًا، وكيف استفاد نجيب محفوظ من الأسطورة والواقعة الحقيقية في صياغة روايته اللص والكلاب، وفي صناعة شخصيات أبطالها والأجواء المحيطة بهم والمؤثرة في تكوينهم النفسي والاجتماعي والثقافي، وفي النهاية المأساوية التراجيدية، وكأنها واحدة من التراجيديات الكبرى.

١  نجيب محفوظ: اللص والكلاب، القاهرة، مكتبة مصر، ١٩٧٧م.
٢  سناء كامل شعلان: الحدث الأسطوري في روايات نجيب محفوظ، مجلة عمان الثقافية، تصدر عن أمانة عمان الكبرى بالأردن، عدد ١٤١، ٢٠٠٧م.
٣  نجيب محفوظ: ليالي ألف ليلة وليلة، ١٩٧٩م.
٤  هالة فؤاد: طريق نجيب محفوظ بين الأسطورة والتصوف، القاهرة، دار العين، ٢٠٠٦م.
٥  عبد الله عسكر: غياب الأب الرمزي، التحليل النفسي لرواية الطريق، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، ١٩٩٧م.
٦  المونولوج في اللغة هو المناجاة، وفي علم النفس هو حديث المرء مع نفسه، وأسلوب يستفاد منه في العلاج المعرفي السلوكي. وتشير الكلمة أيضًا إلى الحديث الداخلي Inner Speech، أو حديث الذات في محاولة لتغييرها (راجع في هذا المصطلح كلًّا من: إلياس أنطون وإدوارد إلياس: قاموس إلياس العصري، ط٢٣، القاهرة، مطبعة دار العالم العربي، ١٩٧٩م؛ وعبد الستار إبراهيم وآخرون: العلاج السلوكي لاضطرابات الأطفال، سلسلة عالم المعرفة، عدد ١٨٠، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والآداب، ١٩٩٣م؛ ومحمد محروس الشناوي: نظريات الإرشاد والعلاج النفسي، القاهرة، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، ب. ت).
٧  عبد الله عسكر: الأوديبية بين الأسطورة والتحليل النفسي، دراسة تحليلية ثقافية، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، ١٩٩٠م.
٨  أحمد خيري حافظ: سيكولوجية الآخر عند نجيب محفوظ، دراسة تحليلية لرواية اللص والكلاب؛ في قضايا عربية في علم النفس المعاصر، ب. د، ب. ت.
٩  لطيفة الزيات: نجيب محفوظ الصورة والمثال، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ٢٠١٢م.
١٠  اعتمدنا في عرض دراسة صبري حافظ على ما ذكره أحمد خيري حافظ: مرجع سابق، ب. د، ب. ت.
١١  جميل حمداوي: العبث الوجودي في رواية اللص والكلاب، لنجيب محفوظ، موقع http://www.jamilhamdaoui.net.
١٢  علي حسن فهمي: قضية محمود أمين سليمان، المجلة الجنائية القومية، القاهرة، يصدرها المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، المجلد الثالث، العدد الثاني، يوليو ١٩٦٠م.
١٣  سوفوكليس: أوديب ملكًا، أنتيجونا، إلكترا، ترجمة طه حسين، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ٢٠٠٤م.
١٤  هدى وصفي: المشروع الفكري وأسطورة أوديب، قراءة في فكر طه حسين، مجلة فصول، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، المجلد الرابع، العدد الأول، ١٩٨٣م.
١٥  نجيب محفوظ: مرجع سابق، ١٩٧٧م.
١٦  فاطمة موسى: نجيب محفوظ وتطوُّر الرواية العربية، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٩٩م.
١٧  فاطمة موسى: مرجع سابق، ١٩٩٩م.
١٨  محمد المهدي السقال: اللص والكلاب لنجيب محفوظ، قراءة أوَّلية، مجلة الفوانيس السينمائية، ٢٤ / ٤ / ٢٠٠٨م.
١٩  نجيب محفوظ: مرجع سابق، ١٩٧٧م.
٢٠  نجيب محفوظ: مرجع سابق، ١٩٧٧م.
٢١  نجيب محفوظ: مرجع سابق، ١٩٧٧م.
٢٢  نجيب محفوظ: مرجع سابق، ١٩٧٧م.
٢٣  نجيب محفوظ: مرجع سابق، ١٩٧٧م.
٢٤  نجيب محفوظ: مرجع سابق، ١٩٧٧.
٢٥  حسين عبد القادر وفرج طه وشاكر قنديل ومصطفى كامل: موسوعة علم النفس والتحليل النفسي، ط٤، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، ٢٠٠٩م.
٢٦  سامي علي: ثبت المصطلحات في: سيجموند فرويد، الموجز في التحليل النفسي، ترجمة سامي علي، وتقديم محمد عثمان نجاتي، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ٢٠٠٠م.
٢٧  نجيب محفوظ: مرجع سابق، ١٩٧٧م.
٢٨  نجيب محفوظ: مرجع سابق، ١٩٧٧م.
٢٩  نجيب محفوظ: مرجع سابق، ١٩٧٧م.
٣٠  نجيب محفوظ: مرجع سابق، ١٩٧٧م.
٣١  نجيب محفوظ: مرجع سابق، ١٩٧٧م.
٣٢  نجيب محفوظ: مرجع سابق، ١٩٧٧م.
٣٣  نجيب محفوظ: مرجع سابق، ١٩٧٧م.
٣٤  نجيب محفوظ: مرجع سابق، ١٩٧٧م.
٣٥  نجيب محفوظ: مرجع سابق، ١٩٧٧م.
٣٦  نجيب محفوظ: مرجع سابق، ١٩٧٧م.
٣٧  نزهة الماموني: تحليل البنية السردية لرواية اللص والكلاب لنجيب محفوظ، مجلة عمان، عدد ١٦٧، أيار ٢٠٠٩م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤