الأنشودة السابعة

ناوسيكا في عقر دارها

هكذا صلَّى هناك أوديسيوس العظيم، البالغ المعاناة، بينما كان البغلان القويان يجُرَّان العذارى إلى المدينة، فلما بلغَت ناوسيكا قصر أبيها الباذخ، أوقفَت البغال أمام الباب الخارجي، واحتشَد أشقاؤها حولها، رجال أشبه بالخالدين، فخلُّوا عن البغال، من العربة، وحملوا الملابس إلى الداخل، فانطلقَت هي إلى حجرتها، فأوقدَت النار لها وصيفتُها يوروميدوسا Eurymedusa، السيدة العجوزة الأبايرية Aperié، تلك التي جلبتها السفن المعقوفة من أبايري، واختارها القوم من بين الغنائم، جائزة شرف للملك ألكينوس، الذي كان عاهل سائر الفياكيين، وكان القوم يأتمرون بأمره كما لو كانوا يأتمرون بأمر إله. وهي التي قامت بتربية ناوسيكا الناصعة الذراعَين، واضطلَعتْ بتنشئتها في القصر، فأوقدَت لها النار. وأعدَّت لها عَشاءَها في مقصورتها.
figure
أي طفلتي، ألا يمكنكِ أن تدُلِّيني على منزل مَن يُسمُّونه ألكينوس؟
figure

أوديسيوس وسط الغمام

في ذلك الحين، نهض أوديسيوس ليذهب إلى المدينة، وألقت أثينا، حوله غمامةً كثيفة، بنيةٍ خالصة، كي لا يتحدَّث إليه أحدٌ من الفياكيين، العظيمي القلوب، إذا ما التفُّوا به، أو يسخروا منه، ويسألوه من يكون، فلما أوشك على دخول المدينة العظيمة الجميلة، قابلَتْه الربة أثينا، ذات العينَين النجلاوَين، متنكرةً في زي فتاةٍ يافعة تحمل جرَّة، ووقفَت أمامه فسألها أوديسيوس العظيم بقوله:

figure
سأُريكَ القصر، كما تريد أيها الغريب.
«أي طفلتي، ألا يمكنكِ أن تدُلِّيني على منزل مَن يُسمُّونه ألكينوس، ذلك الذي يحكم هنا كملكٍ على هذا القوم؟١ لأنني قَدِمتُ إلى هنا، غريبًا، من بلادٍ قصية، ومُنهكًا غاية الإنهاك؛ ولذا لستُ أعلم أي قومٍ يملكون هذه المدينة، وهذه البلاد.»
عندئذٍ أجابته الربة، أثينا المتألقة الناظرَين، قائلة: «إذن فسأُريك القصر، كما تريد، أيها الغريب. إنه قريب من بيت أبي الشريف. كلُّ ما عليك هو أن تمشي معي في هدوء بينما أُرشدك إلى الطريق. بيد أنه يجب ألا تلتفت بعيونك نحو أي رجل، وألا تسأل أحدًا؛ لأن القوم هنا لا يحتملون رؤية الأغراب، ولا يُرحِّبون بمن يأتي من بلدٍ آخر. إنهم والحقُّ يُقال يثقون في سرعة سفنهم الماخرة، ويعبُرون بها هوة البحر العظيمة؛ لأن هذا هو ما وهَبهُم إياه مزلزل الأرض، وسفنهم تسير بسرعةٍ بالغة كأنها طائرٌ يبسُط جناحَيه، أو فكرة تمر في سرعة.»٢
قالت بالاس أثينا هذا، وشقَّت الطريق بسرعة، بينما سار أوديسيوس٣ في أعقاب الربَّة. وبينما كان أوديسيوس يسير بين الفياكيين خلال المدينة، لم يُعِره القوم المشهورون بسفنهم أي التفات؛ لأن أثينا الربَّة المهوبة، ذات الغدائر الفاتنة، لم تكن لتحتمل هذا، وعلى ذلك أحاطَتْه بغمامةٍ عجيبة؛ إذ كان قلبها يعطف عليه. ودُهش أوديسيوس لفخامة الموانئ، والسفن الرائعة الواقفة عند مكان الاجتماع، حيث كان الأبطال أنفسهم محتشدين. كما أُعجب بالحوائط الطويلة الشاهقة التي تعلوها الطرق البديعة نزهةً للرائين، فلما بلغا قصر الملك المنيف، بادَرتْه أثينا، اللامعة الطرف، بقولها:
«هنا، يا سيدي الغريب، البيت الذي طلَبتَ مني أن أدُلَّك عليه، ستجد الملوك، نسل زوس، جالسين إلى المائدة يولمون، ادخل٤ بقلبٍ جريء، ولا تخشَ شيئًا؛ لأن الرجل المقدام مُفضَّل في كل شيء، حتى ولو كان غريبًا من بلدٍ آخر. اقتَربْ أولًا من الملكة أريتي Arete،٥ في القصر؛ فهذا اسمها الذي تُدعى به، وإنها لتنحدر من نفس سلسلة نسب الملك ألكينوس. كانت ناوسيثوس Nausithous، في البدء ابنة لبوسايدون، مزلزل الأرض وبيريبويا Periboea، عظمى النساء فتنة وجمالًا، وصغرى بنات يوروميدون Eurymedon العظيم القلب، الذي كان فيما مضى ملكًا على العمالقة المتغطرسين، ولكنه جَرَّ الخراب على قومه، وتحطَّم هو نفسه، فاضطَجَع بوسايدون مع بيرويبويا، وأنجب ابنة ناوسيثوس المقدام، الذي حكم الفياكيين، وأنجب ناوسيثوس، بدوره، ريكسينور Rhexenor، وألكينوس. ولمَّا لم ينجب ريكسينور، حتى الآن أية أولاد، ضَربَه أبولُّو ذو القوس الفضية في ساحته، رغم أنه كان حديث الزواج، وخلَّف ابنةً واحدة فقط، هي أريتي، فتزوَّجها ألكينوس، وأمعَن في إكرامها بما لم تُكرم به امرأةٌ قط على وجه الأرض، من سائر أولئك اللواتي كن يُهيمِنَّ، في تلك الأيام، على شئون بيوتهن ويرضَخن لأزواجهن، فأُكرمَت غاية الإكرام، وظلَّت دائمًا مكرَّمة، من أولادها، ومن ألكينوس نفسه، ومن الشعب الذي كان يعتبرها كربَّة،٦ ويُحيِّيها كلما مشت خلال المدينة؛ إذ كانت بالذات وبلا شكٍّ ذاتَ فطنةٍ وحكمة وإدراكٍ سليم، وكانت تفصل بحكمة بين النساء المتنازعات، فتضع حدًّا لمنازعاتهن حتى ولو كانت المنازعات مع أزواجهن، فلو نلتَ الرضى في عينَيها، لكان هناك أمل، أي أمل في أن ترى أصدقاءك، وتعود إلى منزلكَ العالي السقف، وإلى وطنك.»

أوديسيوس أمام قصر الملك المنيف

قالت أثينا المتألقة الطرف هذا، وانصرفَت عَبْر البحر الصاخب، تاركة سخيريا Scheria الجميلة. ذهبَت إلى ماراثون Marathon وأثينا٧  الفسيحة الطرقات، ودخلَت بيت إريخثيوس Erechtheus٨ المتين البناء، أما أوديسيوس فاتجه نحو قصر ألكينوس الباذخ. وقف هناك يُفكِّر في نفسه، وأطال التفكير قبل أن يبلُغ العتبة البرونزية؛ إذ كان يتألق هناك شعاعٌ كأنه من أشعة الشمس أو القمر، فوق منزل ألكينوس الباسل، ذي السقف الشامخ. أما الحوائط فكانت من البرونز، وتمتد على كلا جانبَي العتبة حتى المقصورة الداخلية، بإطارٍ سفلي من الميناء الزرقاء.٩ وكانت الأبواب التي تحكُم إقفال ذلك المنزل المتين البناء، من الذهب الإبريز، ومثبَّتةً في قوائم من اللجَيْن فوق عَتبةٍ برونزية. كما كانت القواعد العليا للنوافذ من اللجَيْن كذلك. أما مقابض النوافذ والأبواب فكانت من العسجد. وتقف على جانبَي الباب كلاب من الذهب والفضة، صاغها هيفايستوس بمهارةٍ فنية، لتحرس قصر ألكينوس المقدام. لقد كانت تلك الكلاب خالدة لا تعرف الشيخوخة طوال حياتها.١٠ أما في الداخل فكانت المقاعد بطول جانبَي الحائط، ابتداءً من العتبة حتى أقصى القاعة الداخلية، وقد أُلقيَت فوقها أثوابٌ من المنسوج الناعم، قد حاكَتْه النساء بأيديها بمهارة.١١ واعتاد قادة الفياكيين أن يجلسوا على هذه المقاعد ليشربوا ويأكلوا؛ إذ كانوا يمتلكون خزينًا لا ينضب. كما كانت تقف هناك تماثيلُ ذهبية لغلمانٍ تحمل المشاعل المضيئة، في أيديها لتُنير المكان ليلًا للمدعُوِّين في القاعة، وتقف على قواعدَ راسخة. وبالقصر خمسون أَمَة؛ بعضهن يطحنَّ الحب الأصفر بالرحى، أخريات ينسجن الأقمشة، أو يلففن خيوط الغزل وهن جالسات، كأنهم أوراق١٢ شجرة صفصافٍ باسقة، ويتساقط من الكتَّان الضيق النسج، زيت الزيتون الصافي؛١٣ فكما كان الرجال الفياكيون ماهرين في قيادة السفن السريعة فوق صفحة البحر، كذلك كانت السيدات عاملاتٍ ماهرات على المنول؛ إذ وهبَتْهن أثينا، دون غيرهن، حِذق الأشغال اليدوية، والقلب المدرك. وخارج البهو، بقرب باب القصر مزرعة كرومٍ هائلة تبلغ مساحتها أربع مقطوعيات١٤ ويُحيط بها مرتفعٌ تنمو فيه أشجارٌ فاخرة باسقة، أشجار الكمَّثْرى والرمان والتفاح، قطوفها دانية تتلألأ، وأشجار التين الحلو، والزيتون الجيد. ولم تكن ثمار هذه الأشجار لتنقطع أبدًا، سواء في الشتاء أو في الصيف، بل كانت دائمة الإثمار طَوال العام. وتُساعِد الريح الغربية بهبوبها الدائم على سرعة نضج الثمار، فتنضج الكمثرى واحدةً بعد الأخرى، والتفاحة إثر التفاحة، وعنقود العنب بعد العنقود، والتينة وراء الأخرى. أما مزرعة الكروم للثمرة فكان بها منطقةٌ دافئة، بأحد أجزائها تمتد على أرضٍ منبسطة، حيث يُجفَّف العنب في الشمس، بينما يجمع الرجال العنب الطازج، ويعصرونه. كان في أول الكرمة أعنابٌ فجَّة تُظلِّل النوار، بينما البعض الآخر قد تحوَّل لونه إلى الأرجواني. وهناك أيضًا بجانبِ آخرِ صف للكروم، أحواضٌ لنباتات الأزهار المختلفة، من شتى الأنواع، تنمو وتُزهر طول العام. وبداخل الحديقة ينبوعان، يتدفَّق ماء أحدهما خلال الروض فيرويه بأكمله، بينما تتدفَّق مياه الآخر أسفل عتَبة البهو صوب القصر المنيف. من هذا الينبوع يستقي أهل المدينة. تلك كانت هدايا الآلهة المجيدة في ألكينوس.

وقف أوديسيوس العظيم، الكثير الاحتمال، مدهوشًا أمام هذه العجائب، وبعد أن نال كل شيء إعجاب قلبه، مَرَّ مسرعًا من العتبة إلى داخل القصر، فوجد قادة الفياكيين ومستشاريهم يسكبون السكائب من كئوسهم، لأرجايفونتيس الحاد البصر، الذي اعتادوا أن يسكبوا له الخمر، بعد الانتهاء من أعمالهم، واعتزامهم الذهاب لينعموا بالراحة.

أوديسيوس يتضرع إلى زوجة ألكينوس

دخل أوديسيوس العظيم، البالغ المقاساة، إلى القاعة تلفُّه الغمامة الكثيفة التي أرسلَتها أثينا حوله، حتى بلغ مكان أريتي والملك ألكينوس، فألقى يدَيه حول ركبتَي أريتي، وفي التو انقشَعَت الغمامة العجيبة من حوله، وشاع السكون على سائر من كانوا بالقاعة عندما أبصروا ذلك الرجل، وامتلأت نفوسهم عجبًا وهم يتجهون بأبصارهم نحوه، ولكن أوديسيوس شرع يتوسل قائلًا:

«هيا أريتي، يا ابنة ريكسينور الشبيه بالإله، إنني أجيء إلى زوجك وإلى ركبتَيك بعد مشاقَّ عديدة. نعم، وإلى هؤلاء الضيوف، الذين أرجو أن تهبهم الآلهة السعادة في الحياة، وكلٌّ منهم يُخلِّف لأطفاله، ثروته الموجودة بساحاته، وفروض المجد التي منحه إياها الشعب. إنني أتوسل إليك أن تعجلي بإرسالي إلى وطني، بسرعة؛ إذ ظللتُ مدةً طويلة أُقاسي المحن بعيدًا عن أصدقائي.»

إخينيوس يكرم أوديسيوس

ما إن قال أوديسيوس هذا، حتى جلس فوق المدفأة، على الرماد بجانب النار، بينما خيم الصمت على الجميع. وأخيرًا تكلَّم في وسطهم السيد العجوز إخينيوس Echeneus، وكان يكبر الفياكيين سنًّا، ذا لسانٍ لافظ، ويعرف سائر حِكم القدماء، فقال بضميرٍ خالص، مخاطبًا المجلس: «أي ألكينوس، للعجب أن هذه ليست طريقةً مثلى؛ فلا يليق أن يجلس غريبٌ فوق الأرض على المدفأة وسط الرماد، بينما يقف أتباعك أولاء ينتظرون كلمتَك. مُر الغريب أن ينهض، ودَعْه يجلس فوق مقعدٍ مُطعَّم باللجَيْن، ومُر الخدم أن يمزجوا الخمر، حتى يمكننا أن نسكب السكائب لزوس أيضًا، ذلك الذي يقذف بالصاعقة؛ لأنه يشرف دائمًا على المتضرعين الموقرين، وعلى ربة البيت أن تُقدِّم لهذا الغريب١٥ عَشاءً من خزين دارها.»

مظاهر الترحيب بأودويسيوس

عندما سمع ألكينوس القوي العتيد هذا، أمسك بيد أوديسيوس، العاقل والداهية، وأنهضَه من فوق المدفأة وأجلسه على كرسي يتلألأ، أمر ابنه لاوداماس Laodamas الجسور١٦ أن ينهض من فوقه ويُخلِّيه١٧ له؛ إذ كان يجلس إلى جانبه، وكان خير أحبائه. بعد ذلك أحضَرتْ إحدى الإماء جرَّة بها ماء ليغسل يدَيه، جرة من الذهب، وأفرغَت الماء في طستٍ من الفضة، ثم أحضَرتْ أمامه منضدةً مصقولة. وعندئذٍ جاءت ربة البيت الحكيمة، ووضَعَت أمامه الخبز، ومعه كثيرٌ من طيبات الطعام، لا حصر لها، وجادت بسخاء من خزينها. وهكذا شرب أوديسيوس العظيم، البالغ التحمل، وأكل، ثم خاطب ألكينوس العتيد الخادم، قائلًا:
«امزج الطاس، يا بونتونوس Pontonous، وقدِّم الخمر لجميع مَن بالقاعة، حتى يمكننا أن نسكب السكائب أيضًا لزوس، الذي يقذف بالصاعقة؛ لأن يهيمن دائمًا على المتوسِّلين الوقورين.»

قال هذا، ومزج بونتونوس الخمر العسلية المذاق، وسقى الجميع، ساكبًا أولًا بعض نقط في الكئوس للسكيبة. وبعد أن سكبوا السكائب، واحتسَوا الخمر حتى الثمالة، نهض ألكينوس وسط الحشد، وتكلم مخاطبًا إياهم قائلًا:

«أصغوا إليَّ، يا قادة ومستشاري الفياكيين، كي أتحدث إليكم بما يجول في قلبي وصدري. أما وقد انتهيتم الآن من وليمتكم، فليذهب كلٌّ منكم إلى بيته ليستريح، وعندما يطلُع الصباح سندعو مزيدًا من القادة إلى الاجتماع، كما ندعو الغريب في ساحاتنا، ونُقدِّم ذبائحَ عظيمة للآلهة. وبعد ذلك نُفكِّر في إرساله إلى وطنه، كي يستطيع بمعونتنا أن يصل إلى بلاده دون جهد ولا مشقة، ويبلغها بسرعة وغبطة، رغم أنه لا يأتينا من مكانً قصي على الإطلاق، ولن يتكبد في نفس الوقت أي أذًى أو ضرر، حتى يطأ أرض وطنه بقدمَيه، ولو أنه بعد ذلك سيعاني ما حاكه له القدر Fate والغزالات Spinners١٨ المفزعات بخيطهن عند مولده، يوم أن حملَت فيه أمه. أما إذا كان هذا الغريب، واحدًا من الخالدين الهابطين من السماء، فإنه شيءٌ جديد كل الجدَّة، تحيكه لنا الآلهة؛ إذ كانت عادتهم فيما مضى أن يظهروا لنا في صورةٍ واضحة، عندما كنا نُقدِّم لهم ذبائحَ مجيدة من مائة ثور، فيُولِموا بيننا، ويجلسوا حيث نجلس. نعم، وحتى إذا التقى بهم أحدنا مصادفة، ما كانوا يختفون؛ لأننا مقَّربون جدًّا منهم، قرب الكوكلوبيس Cyclopes،١٩ وقبائل العمالقة Giants المتوحشين.»

أوديسيوس يروي قصة متاعبه

عندئذٍ رد عليه أوديسيوس الكثير الحيل بقوله: «لتبعد عنك هذه الفكرة، يا ألكينوس؛ فلستُ شبيهًا بالخالدين، الذين يحتلُّون السماء الفسيحة، لا شكلًا، ولا قوامًا ولكني أشبه البشر؛ فأي فردٍ من البشر تعرف أنه قاسى أهوالًا جمَّة، فإنني أُشبِّه نفسي به في أحزاني. نعم ويمكنني أن أسرد لك أطول قصة، عن جميع الويلات التي لاقيتُها بمحض إرادة الآلهة. إنك تُعذِّبني الآن بأن آكل رغم حزني، فيَّ من شيء أشد عارًا من البطن المقيت، الذي يُجبر المرء على التفكير فيه مرغمًا. ليتك لا تغتم أو تحمل ما أحمله في قلبي من غَم وأحزان، ومع ذلك فإن أحشائي تأمرني دائمًا بأن آكل وأشرب، وتجعلني بذلك أنسى كل ما لاقيته، كما تأمرني بأن آكل كفايتي، فهل لك أن تُسرِع عند الفجر، بأن تضعني أنا الشقي، فوق تربة وطني، بعد سائرِ ما عانيتُ من ويلاتٍ جسام، فلتَهجُر الحياة جسمي بعد أن أكون قد رأيتُ، مرةً أخرى، ممتلكاتي، وعبيدي، وبيتي الشاهق السقف.»

الملكة تطارح أوديسيوس الأحاديث

هكذا تكلَّم، فاستحسن الجميع قوله، ووافقوا على إرسال ذلك الغريب في طريقه، ما دام قد راعى اللياقة في حديثه، وبعد أن سكبوا السكائب، وشربوا كفايتهم، انصرف كل رجلٍ لبيته ليخلُد إلى الراحة، تاركين أوديسيوس العظيم في ساحة ألكينوس، وإلى جواره جلست أريتي وألكينوس الشبيه بالإله، بينما أخذت الجواري يحملن الصحاف من على مائدة الوليمة. وبعد ذلك كانت أريتي الناصعة الساعدَين أول من تكلَّم؛ لأنها ما إن أبصرته، حتى عَرفَت لتَوِّها الرداء الجميل، العباءة والمعطف، اللذَين صنعَتْهما بيدَيها مع وصيفاتها، فوجَّهَت إليه حديثها في عباراتٍ رزينة،٢٠ قائلة:

«أيها الغريب، سأوجِّه إليك سؤالًا شخصيًّا؛ أولًا: من تكون بين البشر، ومن أي مكانٍ أنت؟ ومن أعطاك هذا اللباس؟ ألا تقول إنكَ جئت إلى هنا جائلًا فوق صفحة البحر؟»

فأجابها أوديسيوس الكثير الدهاء، بقوله: «كان من الصعب، يا مليكتي، أروي خاتمة محنتي؛ إذ كثيرةٌ هي المحن التي أعطَتْنيها آلهة السماء، ومع ذلك فأُخبركِ بما تسألينني عنه وتستجوبينني من أجله. تُوجد في منطقةٍ نائية من البحر جزيرة أوجوجيا، التي تسكنها ابنة أطلس Atlas، الجميلة الغدائر، كالوبسو الماكرة، تلك الربَّة المخوفة، التي لا شأن لأحدٍ من الآلهة أو البشر معها، ولكن أبى القدر إلا يزيد في تعاستي، فبعث بي، بمفردي إلى مدفأتها؛ إذ ضرب زوس سفينتي السريعة، بصاعقته البَراقة فحطَّمَها وسط البحر القاتم قتمة الخمر. هناك هلك سائر بقية مَن كنتُ أثق بهم من رفاقي، أما أنا فأمسكت بقاع سفينتي المعقوفة وتعلَّقتُ به، وهكذا بقيت طافيًا على سطح البحر تسعة أيام، وفي الليلة العاشرة الداجية، قذفَت بي الآلهة إلى جزيرة أوجوجيا، حيث تقطن كالوبسو الفاتنة الشعر، الربة المهوبة، فصَحِبتْني إلى منزلها، وأكرمَت وفادتي، وقدَّمتْ لي طعامًا، وقالت إنها ستجعلني خالدًا، لا تتطرق الشيخوخة إلى جسمي قَط، بيد إنها لم تستطع إغراء قلبي وسط صدري. بقيتُ معها هناك سبع سنوات، أُبلِّل ثوبي كل يومٍ بدموعي، ذلك الثوب الخالد الذي أعطَتْنيه كالوبسو. حتى إذا ما هلَّت السنة الثامنة، وأخذَت تسير في مجراها الزمني، أَمرَتْني بالعودة إلى وطني، إما بسبب رسالة من زوس، وإما لأن عقلها قد تغيَّر من تلقاء نفسه، فأرسلَتني في طريقي، فوق رمثٍ من أخشاب الأشجار المربوطة إلى بعضها بإحكام، وزوَّدَتني بكمياتٍ وفيرة من الخبز والخمر الحلوة، وألبسَتْني ثوبًا خالدًا، وبعثت إليَّ بريحٍ رقيقة دافئة؛ ومِن ثَمَّ بقيتُ سبعة عشر يومًا أُبحر فوق الخضم، وفي اليوم الثامن عشر، لاحت لي من بعدُ جبال بلادك الظليلة فسُرَّ لمرآها قلبي، وكنتُ سيئ الحظ؛ لأنني بحقٍّ كنتُ لا أزال رفيق محنةٍ هائلة، أرسلَها ضدي بوسايدون، مزلزل الأرض؛ فقد أثار الرياح ضدي لتعوق طريقي، وأهاج البحر الصاخب بصورة عجيبة، فقذفَتني الموجة بعيدًا عن طوفي، وأنا أئنُّ دون انقطاع. لقد حطمَّت العاصفة الطوفَ أيَّ تحطيم، فركنتُ إلى السباحة وشققتُ طريقي وسط أخطار٢١ البحر، حتى جاءت بي الريح والأمواج، وهي تحملني إلى شواطئك، ولو أني أسرعتُ إلى البر هناك، لقذفَت بي اللُّجَج على الشاطئ، فوق الصخور الضخمة في مكانٍ شديد الخطر، ولكنَّني عدتُ أدراجي وسبحتُ حتى بلغت نهرًا، بدا لي أنه خير مكانٍ ألجأ إليه؛ إذ كانت صخوره ملساء، وعلاوةً على ذلك فقد كان بعيدًا عن مهَّب الريح؛ عندئذٍ ظللتُ أتعثَّر سابحًا إلى الأمام، وغطستُ وأنا أشهق ولا أكاد أتنفَّس إلا بصعوبة، حتى خيم عليَّ الليل الخالد، وبعد ذلك خرجتُ من النهر الذي تُغذِّيه السماء، واستلقيتُ على الأرض لأنام بين الأدغال، جامعًا حولي أوراق الشجر، وسكب عليَّ أحد الآلهة نومًا بالغًا،٢٢ فنمتُ هناك وسط الأوراق وقلبي متعَبٌ غاية التعب، طَوالَ الليل كله، وإلى الصباح، وإلى الظهر، حتى استدارت الشمس مؤذنةً بالمغيب، والنوم اللذيذ لم يزل قابعًا فوق جفنَي، ثم استيقظتُ فإذا بي أرى خادمات ابنتكِ، يلعبن على الشاطئ وفي وسطهن الأميرة٢٣ الحسناء، أشبه بالربة، فتضرَّعتُ إليها، وإذا بها، بإدراكها السليم، لا تتوانى قط في أن تفعل ما لا يدور بخلدكِ أن فتاةً في مثل سنها الصغيرة قد تفعله عند لقائك؛ لأن الشباب الصغير عديم التفكير دائمًا. لقد أعطتني مقدارًا وافرًا من الخبز، وخمرًا صهباء، وجعلَتني أستحم في النهر، وأعطَتني هذا الثوب. وهكذا، أُخبركِ بالحقيقة، رغم جميع أحزاني.»

اشتراك ألكينوس في الحديث

فرَدَّ عليه ألكينوس بدوره يقول: «أيها الغريب، حقًّا، إن ابنتي لم تُصِب تمامًا، في كونها لم تصحبك إلى بيتنا مع وصيفاتها؛ لأنك توسَّلتَ إليها أولًا.»

فأجابه أوديسيوس الكثير الحيل، بقوله: «أيها الأمير، بربك، لا تلُم ابنتكَ في هذا الأمر، لقد أَمرتْني فعلًا أن أتبعها مع وصيفاتها، ولكني لم أفعل، بسبب الخوف والخجل، لئلا يستشيط قلبُك غضبًا عندما ترى الأمر؛ فإنا نحن قبائل البشر، القاطنين الأرض، سريعو الغضب.»

فرَدَّ عليه ألكينوس ثانية، وقال: «يا هذا الغريب، ليس على النحو، قلبي الكائن في داخل صدري، أن يملأه الغضب بدون داعٍ، وإن الواجب اللائق لأفضل في كل شيء. وبحق أبينا زوس، وأثينا، وأبولُّو، إنني لأتمنَّى أن مثلك، أيها الرجل العظيم، الذي يَعدِلني عقلًا، يتخذ ابنتي زوجة، وتُسمَّى ابني، وتبقى هنا، ولو طاب لكَ البقاء هنا، لأعطيتك بيتًا وممتلكات، ولكن لن يحتفظ بك أحدٌ من الفياكيين ضد رغبتك، ولن يسمح بهذا، الأب زوس. أما عن موضوع إرسالك إلى وطنك، فلكي يطمئن قلبك وتتأكد منه، فإنني سأُحدد له موعدًا، وليكن غدًا؛ عندئذٍ تنام ملء جفنَيك، بينما يُجدِّف الرجال من أجلك، عَبْر البحر الهادئ، حتى تبلُغ بلدكَ وبيتك، أو إلى أي مكانٍ تريده، مهما كان نائيًا، حتى ولو كان وراء يوبويا Euboea، حتى يقول من شاهدها من قومنا، عندما حملوا رادامانثوس Rhadamanthus،٢٤ الجميل الشعور، لزيارة تيتيوس Tityus ابن جيا Gaea،٢٥ إنها أقصى بلد. لقد ذهبوا إلى هناك، وأتموا رحلتهم بغير مشقةٍ ولا نصَب، ثم عادوا إلى الوطن في نفس اليوم. ولسوف تعرف أنتَ أيضًا، في قرارة نفسك، أن سفني هي خير سفن، ورجالي خيرة الشباب في شق البحر بنصل المجذاف.»
figure

قال هذا، فسُر أوديسيوس العظيم، البالغ التحمُّل وتوسَّل إليه قائلًا: «أبتاه زوس، فلتُحقِّق كل ما قاله ألكينوس. وعلى ذلك لا تُخمد صِيتَه فوق الأرض، مانحة الغلال، ولتجعلني أصل إلى وطني.»

الجميع ينامون وكذا أوديسيوس

هكذا تكلَّم كلٌّ منهما إلى الآخر، وأمرتْ أريتي البيضاء الساعدَين، وصيفاتها بإعداد فراشٍ تحت سقف الرواق، وبأن يضعن فوقه ملاءاتٍ جميلة من الأرجوان، وفوقها أغطية، ومن فوق هذه عباءات من الصوف يلبسنها. وهكذا خرجن من الساحة، يحملن المشاعل في أيديهن. ولما أعددن الفراش الفاخر، استدعين أوديسيوس وقلن له: «انهض الآن، أيها الغريب، كي تذهب إلى راحتك؛ فقد أُعد فراشك.»

ما إن سمع أوديسيوس كلامهن، حتى رحَّب بالنوم؛ ومِن ثَمَّ رقد أوديسيوس العظيم، الكثير المعاناة، فوق الفراش المكوَّن من الحبال المشدودة تحت الرواق المُدوِّي. بينما رقد ألكينوس في مخدعه الداخلي بالقصر الباذخ، ورقدَت إلى جواره السيدة زوجه، التي أعدَّت الفراش.

١  الترجمة الحرفية: «الذي هو صيد القوم هنا».
٢  الكلمات: «تمر في سرعة» مضافة ولا وجود لها بالنص اليوناني.
٣  الترجمة الحرفية: «هو».
٤  الترجمة الحرفية: «امرق إلى الداخل».
٥  زوجة ألكينوس ووالدة ناوسيكا. رحَّبَت هي وزوجها بمقدم أوديسيوس، وأكرما وفادته، ووعدا بمساعدته ليعود إلى وطنه.
٦  الترجمة الحرفية: الذي كان ينظر إليها نظرته إلى ربة.
٧  أثينا المدينة.
٨  في غابر الأزمان كان فوق أكروبول مدينة أثينا معبد مُكرَّس للربة أثينا وإريخثيوس.
٩  وُجدَت كِسَر من هذه الميناء في تيرونز Tiryns.
١٠  رغم كون الكلاب من الذهب والفضة، كانوا يظنُّونها حية؛ إذ كان الفياكيون يعيشون في أرض الخرافات.
١١  الترجمة الحرفية: من المنسوج الناعم، المنسوج بمهارة، صنَعتْه النساء بأيديها.
١٢  هذه إشارة إلى نشاطهن المستمر.
١٣  من المحتمل أن تكون الكلمة هنا إشارة إلى لمعان الكتَّان، ويٌفسِّرها آخرون بأن نسج الكتان كان ضيقًا لدرجة لا تسمح للزفت أن يقطر منه.
١٤  يبدو أن الكلمة هنا معناها مساحةٌ تستغرق في الحرث أربعة أيام.
١٥  الترجمة الحرفية: للغريب.
١٦  وقد يُترجَم اللفظ اليوناني المرادف بكلمة: «الطيب».
١٧  أضفنا هذه العبارة من عندنا حيث لا ضرر من ذلك ولا إخلال بالنص مطلقًا.
١٨  يسميهن الرومان باركاي Parcae أو فاتا Fata. ويختلفون في عددهن ولكن يقولون إن عددهن ثلاث؛ كلوثر Clotho التي تنسج خيط الحياة، ولاخيسيس Lachesis التي تُحدِّد طوله وأتروبوس Atropos التي تقطعه. وهن بنات زوس وثيميس، وشقيقات الهواري (الساعات)، ولو أنهم يقولون أحيانًا إنهن بنات نوكس (الليل) وشقيقات ربات الموت (الكيريس). كمن يراقبن القضاء المقدَّر للإنسان ومتى يتم وينقضي، وليس لأي امرئٍ أن ينجو أن يغير ما فَرضْن عليه. ولمَّا كان الميلاد والموت هما اللحظتان الرئيسيتان المحددتان للحظ في الحياة، فقد كن يُعتبَرن كذلك ربات الميلاد والموت خاصة، وكان من المستطاع التوسل إليهن في حالاتٍ هامة كالزواج أو القيام بمشروعٍ جديد. وكن يُصوَّرن أحيانًا كنساءٍ بشعات الخلقة، وكن يُصوَّرن أحيانًا كعذارى سَمحاتِ الخلقة يلبسن ملابسَ طويلة. وكان المنسج من مستلزمات كلوثر، والكرة (أو البكرة) مستلزمات لاخيسيس، أما أتروبوس فإن كفَّتَي الميزان من مستلزماتها.
١٩  هم أبناء أورانوس (السماء) والأرض. كانوا ثلاثة وكانوا عمالقة لكل واحدٍ منهم عينٌ واحدة، وهم أقوياءُ للغاية أوتوا مهارةً إلهية عظيمة.
٢٠  يقول النص: «في كلماتٍ مجنحة».
٢١  الترجمة الحرفية، هاوية.
٢٢  الترجمة الحرفية: «لا حد له».
٢٣  الترجمة الحرفية: «وفي وسطهن كانت هي، حسناء أشبه بالربَّات».
٢٤  ابن زوس. يُرمز إليه في بعض القصص كمساعدٍ خاضع لذلك للملك مينوس في كريت، وفي بعضها الآخر كملكٍ على جزر البحر. ويُصوَّر على الدوام كمؤسس للقوانين والإجراءات الشرعية، وكقاضٍ عادل.
٢٥  هي الأرض ووالدة السماء والبحر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤