الأنشودة الثامنة

ألكينوس يخطب في حشد الفياكيين

ما إن بزغ الفجر الوردي الأنامل مبكرًا في أفق السماء، حتى نهض ألكينوس القوي العتيد من مخدعه، كما استيقظ أيضًا أوديسيوس سليل زوس، ومُخرِّب المدن. وتقدَّم ألكينوس، القوي العتيد، يقود ضيفه إلى مكان اجتماع الفياكيين، الذي كان قد بُني لهم بالقرب من سفنهم، فبلغا المكان، وجلسا فوق الأحجار المصقولة، كلٌّ منهما بقرب الآخر، بينما انطلقَت بالاس أثينا، تسير خلال المدينة، في صورة رسول ألكينوس الحكيم، تُدبِّر أمر عودة أوديسيوس الجسور، فكانت تقترب من كل رجلٍ وتقول له:

«هيا الآن، يا قادة ومستشاري الفياكيين، هلُموا إلى مكان الاجتماع، حتى تعرفوا خبر الغريب الذي جاء حديثًا إلى قصر ألكينوس الحكيم، بعد تجواله عَبْر البحر، وفي صورةٍ أشبه بالخالدين.»

figure
وأمسك بجلَّة أكبر وأغلظَ من سائر الجلَل.
figure

هكذا كانت تقول، فأثارت روح وقلب كل رجل، وما هي إلا فترةٌ قصيرة حتى عج مكان الحشد، وامتلأَت المقاعد بالرجال الذين اجتمعوا هناك. وقد عجب كثيرون من منظر ابن لايرتيس الحكيم؛ إذ سكبَت أثينا على رأسه ومنكبَيه جمالًا رائعًا عجيبًا، كما جعلَته يبدو أطول وأقوى أمام ناظر الرائين، كي يُرحِّب برؤيته سائر الفياكيين، ويحظى باحترامهم وتوقيرهم، وكي يستطيع إنجاز الأعمال الجسيمة العديدة التي اختبره بها الفياكيون. وبعد أن احتشدوا، واجتمعوا معًا، قام ألكينوس في وسطهم، وخاطب جمعهم بقوله:

«أصغوا إليَّ، يا قادة ومستشاري الفياكيين، حتى أُلقي على مسامعكم ما يأمرني به قلبي من وسط صدري. قدِم إلى قصري هذا الغريب — ولستُ أدري من هو — ضمن تجوالاته، سواء أكان من أقوام الشرق، أو من سكان الغرب. إنه يرجوني في أن أبعث به إلى وطنه، ويُلِحُّ في التوسل. هيا من جانبنا، كما هي عادتنا منذ غابر الأزمان، أن نُسرِع في إرساله؛ فما من رجل، أيًّا كان، ممن يأتون إلى قصري، يبقى هنا حزينًا لمدةٍ طويلة، من جرَّاء عدم إجابة طلبه في العودة إلى بلده. هلموا بنا، نُنزل سفينة سوداء إلى البحر اللامع؛ لتقوم بأول رحلاتها، ولينتخب الرجال من بينهم اثنَين وخمسين شابًّا، من خِيرة القوم نشاطًا وقوة. وبعد أن تُعِدوا المجاذيف كما يجب في فتحاتها،١ اذهبوا إلى الشاطئ، ثم خذوا طريقكم إلى قَصري، وأعِدُّوا وليمةً بسرعة، ولسوف أُقدِّم لكم الوليمة بسخاء للجميع. هذا هو ما آمر به الشبان، كما أرجو سائر الآخرين، من الملوك ذوي الصولجان، أن يتفضَّلوا بتشريف قصري الجميل، حتى نستطيع دعوة هذا الغريب في ساحاتنا، لنحتفل بمقدمه، ولستُ أقبل من أي أحد رفض دعوتي هذه، واستدعوا إلينا المنشد المقدس، ديمودوكوس Demedocus؛ إذ حباه الرب، دون سائر غيره، بالمهارة في الغناء، كي يُطرِب الناس بالفن الذي تجود به روحه، وتدفع به إلى الغناء.»
هكذا تكلَّم، وتقدَّم الجمع في الطريق، يتبعه الملوك ذوو الصولجان، بينما انطلَق أحد الرسل لاستدعاء المنشد المبجَّل. وذهب اثنان وخمسون من الشباب المختار إلى شاطئ البحر الصاخب كما أمر ألكينوس٢ فأنزلوا السفينة السوداء، إلى المياه العميقة، وبعد أن ركبوها، والبحر، ثبَّتوا الصاري في السفينة السوداء، ووضَعوا الشراع في مكانه بالسارية، وربطوا المجاذيف إلى فتحاتها بالسيور الجلدية، كلها في تنسيقٍ بديع، ونشروا الشراع الأبيض. وهكذا بمهارةٍ بالغةٍ في أفانين البحر، أنزلوا السفينة إلى اليم، ثم انطلَقوا يشُقُّون طريقهم إلى قصر ألكينوس الحكيم، المنيف. لقد كانت الأروقة والساحات والقاعات زاخرةً كلها بالرجال المحتشدين؛ إذ كانوا كثيري العدد، شيوخًا وشبانًا. لقد نحر لهم ألكينوس، اثنَي عشر خروفًا، وثمانية خنازير برية، بيض الأنياب، وثورَين سمينَين متثاقلَي المشية، فسلخوا هذه وأعدُّوها، وصنعوا منها وليمةً فاخرة.

المنشِد يُغنِّي والقوم يُولِمون

بعد ذلك اقترب الرسول بصحبة المُنشِد المجيد، الذي كانت تُحبه ربَّات الشعر أعظم حُب دون سائر الرجال، ووهَبْنه الخير والشر معًا؛ إذ جرَّدنه من بصره، ومنَحنَه موهبة الغناء الشجي، فوضع بونتونوس Pontonous، الرسول له كرسيًّا مطعمًا باللجَين، وسط المدعوين، وأسنده إلى عمودٍ طويل، وعلَّق قيثارته الواضحة النغمات على مشجبٍ قريب فوق رأسه، وأراه كيف يصل إليها بيدَيه. كما وضع إلى جواره منضدةً جميلة، وسفطًا، وكأسًا مليئة بالصهباء، كي يتناولها متى طاب له الشرب. وهكذا مدُّوا أيديهم إلى الطعام الشهي الموضوع أمامهم. حتى إذا ما انتهَوا من الطعام والشراب، دفعَت ربة الشعر المنشد إلى الغناء، فتغنى بأعمال المحاربين المجيدة، تلك الأنشودة التي بلغ صيتها وقتذاك إلى عَنان السماء الفسيحة، العراك بين أوديسيوس وأخيل Achilles ابن بيليوس Pejeus، وكيف تنازعا ذات يومٍ بألفاظٍ ثائرة في وليمة فاخرة للآلهة، فسُر أجاممنون، ملك البشر، في قرارة نفسه، من شجار خيرة الآخيين؛ فهكذا أخبره فويبوس أبولُّو، أن هذا لا بد أن يحدث في بوثو Pytho المقدسة، عندما مر فوق العتبة الصخرية ليستفتي الوحي؛ لأن بداية المحن كانت تنصب حينئذٍ نحو الطرواديين، والدانيين، تبعًا لإرادة زوس العظيم.

أناشيد المغني تبكي أوديسيوس

تلك كانت الأغنية التي أنشدها المغني الذائع الصيت، وعندئذٍ أمسك أوديسيوس بعباءته الفاخرة، الأرجوانية، بيدَيه القويتَين، وجذَبها إلى أسفل فوق رأسه، مخفيًا وجهه الجميل؛ لأنه أحس بالخجل أن تتساقط دموعه من تحت حاجبَيه أمام للفياكيين، وكلما كان المنشد المبجَّل يكُف عن الغناء، كان أوديسيوس يُزيح العباءة من فوق رأسه، ويمسح دموعه، ثم يتناول الكأس ذات اليدَين، ويصُب السكائب للآلهة. وعندما يأمر نبلاء الفياكيين المغني بالإنشاد، كان أوديسيوس يعود فيُغطِّي رأسه وينتحب، مخفيًا دموعه عن سائر غيره من الحاضرين، بيد أن ألكينوس وحده، هو الذي لاحظ ذلك وتَنبَّه إليه؛ لأنه كان يجلس إلى جواره، وسمعه يئنُّ بشدة، وفي الحال نهض وسط الفياكيين، مُحبي المجاذيف، وتحدَّث إليهم قائلًا:

«أصغوا إلي، يا قادة ومستشاري الفياكيين، محبي المجاذيف، لقد أشبعنا قلوبنا بالوليمة الطيبة وبالقيثارة، رفيقة الوليمة الممتعة. دعونا الآن نخرج إلى الخلاء لنقوم بجميع صنوف المباريات، حتى إذا ما عاد هذا الغريب إلى وطنه، روى لأصدقائه، إلى أي حدٍّ نبُذُّ نحن غيرنا في الملاكمة والمصارعة، وفي القفز وسرعة الجري.»٣

دعوة الأبطال إلى المباريات

قال هذا ونهض يقودهم إلى الخارج، وتَبِعه الحاضرون، وتناول الرسول القيثارة العذبة الأنغام من على المشجب، وأمسك بيد ديمودوكوس، وقاده خارج الساحة، سائرًا معه في نفس الطريق التي سار فيها الآخرون، من أشراف الفياكيين، لمشاهدة المباريات. لقد انطلقوا إلى مكان الاجتماع، يتبعهم حشدٌ عظيم لا يُحصيه عد، وقام كثيرٌ من شباب النبلاء؛ أكرونيوس Acroneüs، وأوكوالوس Ocyalus، وإلاتريوس Elatreus، وناوتيوس Nauteus، وبرومنيوس Prymneus، وأنخيالوس Anchialus، وإريتميوس Eretmeus، وبونتيوس Ponteus، وبروربوس Proreus، وثوون Thoon، وأنابيسينيوس Anabesineüs، وأمفيالوس Amphialus، ابن بولونيوس Polyneüs، ابن تيكتون Tecton، كما نهض أيضًا يوروالوس Euryalus، نظير أريس Ares قاهر البشر، ابن ناوبولوس Naubolus، الذي كان يفوق سائر الفياكيين جمالًا وقوامًا بعد لاوداماس Laodamas المنقطع النظير، ونهض أبناء النبيل ألكينوس الثلاثة، لاوداماس وهاليوس Halius، وكلوتونيوس Clytoneüs، الشبيه بالإله، فكان هؤلاء أول من اشترك في سباق الجري بالأقدام، فحُدِّد لهم طريق من نقطة الدوران، فانطلقوا جميعًا في سرعةٍ بالغة مثيرين غبار السهل، وكان النبيل كلوتونيوس أفضلهم في سرعة العدو، فسبقهم جميعًا بمسافةٍ تبلغ طول صفٍّ من مائة بغل، واحدًا وراء الآخر، فتقدمهم بهذه المسافة ووصل قبلَهم إلى الحشد، تاركًا زملاءه خلفه. بعد ذلك قاموا بمبارة المصارعة المتعبة، وفي هذه فاز يوروالوس على جميع الأمراء. وفي القفز كان أمفيالوس خير المتبارين جميعًا. أما في قذف الجلَّة فتفوق إلاتريوس على الجميع، وفي الملاكمة لاوادماس الكريم، ابن ألكينوس، وبعد أن متَّع الحاضرون أنفسهم بمشاهدة المباريات، قام لاوداماس بن ألكينوس، وتكلم وسطهم، قائلًا:

«أيها الأصدقاء، لنسأل هذا الغريب، عما يعرفه من المباريات؛ فلا شك في أنه ليس ضعيف البنية، وإنه لقوي الفخذَين وبطن الساق، والساعدَين، وإن عنقه لغليظ، وقوته هائلة، فلا يفتقر بأية حال إلى شيءٍ من قوة الشباب، ولكن أضنته المتاعب الجمة؛ فلا شيء في رأيي أسوأ من أن يُربك البحر المرء، ولا سيما إذا لم يكن جم القوة.»

فقام يوروالوس بدوره يردُّ عليه بقوله: «لقد نطقتَ بمنتهى الصواب، يا لاوداماس، فلتذهب إليه بنفسك وتتحداه، مجاهرًا بقولك أمام الجميع.»

فلما سمع ابن ألكينوس الكريم هذا، تقدَّم ووقف في الوسط وتحدَّث إلى أوديسيوس قائلًا: «وأنت سيدي الغريب، ألا تُجرب حظك في المباريات، إن كنت تُجيد شيئًا منها؟ لا بد أنك تعرف المباريات؛ فلا شيء يزيد المرء مجدًا في حياته أكثر من ربحه بيدَيه وقدمَيه. تعال يا سيدي، جرب واطرد الهم عن قلبك، فلن تتأخر رحلتك بعد الآن طويلًا. كلا؛ فقد أنزلتُ سفينتك إلى اليم، والبحارة مستعدون.»

عندئذٍ أجابه أوديسيوس الكثير الحيل، بقوله: «لِمَ تسخر مني، يا لاوداماس بهذا التحدي؟ إن الحزن ليملأ قلبي أكثر من المباريات؛ حيث إنني، فيما مضى عانيتُ الأهوال، وقاسيت الكثير، والآن أجلس في وسط هذا الملأ، متلهفًا إلى عودتي لوطني، متوسلًا إلى الملك، وإلى جميع الشعب.»

فما كان من يوروالوس، الآن، إلا أن عيَّره في وجهه، قائلًا: «أيها الغريب، إنني لا أُشبِّهك، حقًّا، بالرجل الماهر في المباريات، كمن يُشتهَرون بين الرجال، ولكن بمن يسير جيئة وذهابًا بسفينته ذات المقاعد، ونعتبره ربَّانًا على البحارة التجار، ذلك الذي يفكر في بضائعه، ولا يهتم إلا بالسلع التي يحملها إلى وطنه، وبأرباحٍ جشعة، لا يبدو عليك أي شبهٍ بالرجل الرياضي.»

أوديسيوس يشترك في المباريات

قطَّب أوديسيوس كثير الحيل ما بين حاجبَيه وحَدجَه بنظرةٍ غاضبة، قائلًا: «أيها الغريب، إنك لم تُحسن القول، وأشبه ما تكون بالأعمى في حماقته. لا شك أن الآلهة لا تقسم المواهب بالعدل بين الناس، لا في الهيئة، ولا العقل، ولا الفصاحة؛ فقد يكون الرجل أقل من غيره جمالًا، فيضع الرب على نطقه تاجًا٤ من الجمال، فيروق في نظر الناس، ويعلو قَدْره وهو يتكلم بينهم بلا خطأ، وبتواضعٍ مقبول، فتشرئب إليه أعناق الملأ الحاضر، وكلما سار خلال المدينة تطلَّع إليه القوم كما يتطلَّعون إلى إله. كما أن هناك رجلًا يشبه الخالدين جمالًا، ولا تتحلى ألفاظه بتاجٍ من الجمال. هذا حالك؛ فإنك رائع الحسن، بحيث لا يستطيع أي إله أن يُصلح فيه شيئًا، ولكنك خامل العقل. لقد أفزعتَ روحي في صدري، بعدم لياقتك في الحديث. إنه لا تُعوِزني المهارة في المباريات كما تقول. وأعتقد أنني كنتُ من الأوائل في أيام شبابي وقوة يدي. بيد أن الأهوال والآلام قيَّدَتني الآن؛ إذ عانيتُ كثيرًا بالاشتراك طويلًا في حروب الرجال، وبمقاومة اللُّجَج العتيدة. بيد أنه رغم أنني قد تكبَّدتُ الكثير، فسأُجرِّب حظي في المباريات؛ لأن كلمتك هذه قد وخَزَتْني في قلبي، وأثارني حديثك.»

فوز أوديسيوس في رمي الجلة

ما إن قال أوديسيوس هذا، حتى وثب من مكانه، وهو ملتفٌّ بعباءته كما كان، وأمسك بجلَّةٍ أكبر وأغلظ من سائر الجلَل، ولا تقل بحالٍ ما، عن أعظم ثقلٍ اعتاد الفياكيون أن يتنافسوا بقذفه، فيما بينهم. أمسك تلك الجلَّة، وبرميةٍ أرسل بها بعيدًا، من يده القوية، فأحدثَت الصخرة دويًّا وهي تطير فوق رءوس الجمع، حتى إنهم انبطحوا أرضًا؛ انبطح الفياكيون ذوو المجاذيف الطويلة، أولئك الرجال المشهورون بسفنهم، تحت هجمة الصخرة. وإلى أبعد من مدى الجميع، طارت مسرعةً بخفة من يده، وجاءت أثينا في صورة رجل، ووضعت علامة المدى بيدها، وخاطبَتْه بقولها:

«حتى الأعمى، أيها الغريب يستطيع أن يُميِّز هذه العلامة، وهو يبحث عنها، متحسسًا إياها بيدَيه؛ لأنها ليست بأية حالٍ قريبة من علامات الآخرين، بل هي أبعدُ منها جميعًا، بمراحل. إذن فلا أقل من أن تطيب خاطرًا بهذا الفوز؛ إذ لن يصل أي فرد من الفياكيين إلى هذا المدى، أو يقذف إلى أبعدَ منه.»

figure
وأمسك بجلَّة أكبر وأغلظ من سائل الجلَل.

هكذا تكلَّمَت، فسُر أوديسيوس العظيم، الكثير التحمل، واغتبط إذ رأى لديه صديقًا صدوقًا، وعلى ذلك تكلَّم وسط الفياكيين بقلبٍ أخفَّ عبئًا:

«أيها الشبان، من استطاع منكم أن يقذف إلى هذا المدى فليفعل، وعندئذٍ أعتقد أنني سأرسل غيرها إلى نفس البُعد أو أبعد. إن كان هناك من بين الباقين من يُحدِّثه قلبه بمباراتي، فليتقدم ويجرب — لأنكم أغضبتموني غاية الغضب — وليكن في الملاكمة أو في المصارعة، أو في الجري؛ فأنا لا أبالي؛ ليتقدم أي واحدٍ من الفياكيين أجمعين، ما عدا لاوداماس فقط؛ لأنه مضيفي، ومن ذا الذي يتعارك مع من أكرمه؟ إذن لكان أحمقَ ومن سقَط المتاع، من تحدَّى في مباراة مضيفه الذي رحَّب بمقدمه في أرضٍ غريبة. إنه لا يضر إلا بحظوظه، أما سائر الباقين، فلن أرفض تحدِّي أحد، ولا أستخف بأحد، ولكني أُرحِّب بمعرفتهم، وأُجرِّب حظي معهم، رجلًا في مواجهة رجل؛ فلستُ ضعيفًا في أي شيء، من شتى ألوان المباريات التي يمارسها الأقوام؛ فبمهارةٍ أستطيع استخدام القوس المصقولة، وأنا الأول دائمًا في ضرب وإصابة رجلي بين جموع الأعداء، رغم أن زملائي يقفون إلى جانبي ويُصوِّبون نحو الرجال، ولم يبُذَّني أحدٌ قَط سوى فيلوكتيتيس Philoctetes، في القوس بأرض الطرواديين، يوم أن حاربنا نحن معشر الآخيين، وها أنا ذا أعلن أنني المُبرز على سائر الباقين، من جميع البشر الذين يعيشون الآن على ظهر البسيطة، ويأكلون الخبز، ولكني لن أسعى إلى منافسة رجالات الأيام الغابرة، لا مع هرقل Heracles، ولا مع يوروتوس Eurytus، أو مع أويخاليا Oechalia، الذي ناضل حتى مع الخالدين في الرماية بالقوس. وقد مات يوروتوس العظيم بسرعة، دون أن تبلُغه الشيخوخة في ساحاته؛ لأن أبولُّو استشاط غيظًا، فقتله؛ إذ تحدَّاه في مباراة بالقوس. وفي مقدوري أن أقذف الرمح أبعدَ من أي رجلٍ يمكنه أن يصيب بالسهم، أما في سباق الجري بالأقدام. فأخشى فقط، أن يتفوق عليَّ فيه أحد من الفياكيين؛ إذ أُصبتُ بوحشية وسط الأمواج الصاخبة العديدة، حيث لم يكن بسفينتي أيةُ مئونة. وعلى ذلك تجدون أطرافي مرتخية.»

ألكينوس يدعو الراقصين إلى الرقص

هكذا تكلَّم أوديسيوس، فلزم الجميع الصمت، ولكن ألكينوس وحده قال: «أيها الغريب، ما دمتَ لم تنطق بقبحٍ وسطنا، ولكنك تعتزم إظهار بسالتك التي تتمتع بها، غاضبًا من أن ذلك قد ذهب إليك وعيَّرك بطريقةٍ غير لائقة، وإن من يعرف كيف يزن أقواله لا يمكن أن يستخف ببطولتك، هيا الآن، وأصغ إلى ما أقول، حتى تستطيع أن تقُصَّ لبطلٍ آخر، عندما تكون في ساحاتك تُولِم مع زوجك وأولادك، وتتذكَّر مهارتنا، أيَّ ولائم قد حبانا بها زوس منذ أيام آبائنا إلى يومنا هذا؛ لأننا لسنا معصومين من الخطأ في الملاكمة أو المصارعة، ولكننا في سباق العَدْو نجري بسرعة، كما أننا خير بَحَّارة في العالم، ونُغرم دائمًا بالمائدة والقيثارة والرقص، وتغيير الملابس، والحمامات الدافئة، والمخادع. هيا الآن يا خيرة الراقصين الفياكيين، استعرضوا رقصاتكم حتى يمكن لهذا الغريب أن يحكي لأصدقائه عندما يبلُغ وطنه، كيف نفوقُ سائر غيرنا في أفانين البحر، وفي سرعة القدم، وفي الرقص والغناء. وليذهب أحدكم فورًا فيُحضر لديمودوكوس، القيثارة العذبة الألحان، المعلَّقة بأحد الأمكنة في ساحاتنا.»

figure

الرقص على أنغام القيثارة

هكذا تكلَّم ألكينوس، الشبيه بالإله، ونهض الرسول ليُحضر القيثارة الجوفاء من قصر الملك، بعد ذلك نهض أبطال الرقص، وكانوا تسعة رجالٍ مختارين من بين الشعب، اعتادوا على تنظيم كل شيءٍ وسط الجموع، على أكمل وجه، فسوَّوا مكانًا للرقص، وحدَّدوا حلقةً مناسبة الاتساع واقترب الرسول، يحمل إلى ديمودوكوس، قيثارته الشجية الأنغام. وبعد ذلك انتقل إلى وسط الحلبة، والتفَّ حوله صبيانُ في ميعة الصبا، يجيدون الرقص بمهارةٍ أي مهارة، وراحوا يضربون أرض الرقص العظيمة بأقدامهم، فبُهت أوديسيوس وهو يُحملِق في ومضاتِ أقدامهم، ودُهش في قرارة نفسه.

أما المغني فأخذ يُوقِّع الأنغام على أوتار القيثارة بما يتمشَّى مع أنشودته العذبة، فتغنى بحب أريس٥ وأفروديتي ذات التاج الجميل، وكيف في البدء، رقدَا سويًّا، في بيت هيفايستوس، سرًّا، وأعطاها أريس هدايا عديدة، ودنَّس بالعار فراش السيد هيفايستوس. غير أن هيليوس طيَّر إليه النبأ في الحال؛ إذ كان قد أبصر بهما وهما يرقدان معًا في عشق، فلما بلغَت الغُصَّة المؤلمة مسامع هيفايستوس، ذهب، وهو في طريقه إلى مكان حدادته، يُدبِّر شرًّا في نفسه، وصنع قيودًا على السندان الهائل، قيودًا لا يُمكن تحطيمها أو فكُّها، حتى يستطيع بها تكبيل العاشقَين حيث كانَا. وبعد أن صنع، وهو في غضبه من أريس، ذلك الفخ، ذهب إلى مقصورته حيث يُوجد الفراش، ونثَر القيود في كل مكان حول قوائم الفراش، كما علَّق فوقه قيودًا كثيرة، تتدلَّى من قوائم السقف الخشبية، وكانت دقيقة جدًّا، أشبه بخيوط العنكبوت، كي لا يمكن لأحد، حتى من الآمة المباركين، أن يراها؛ إذ كانت مصنوعةً بمهارة تفوقُ الحد، وبعد أن نثَر فِخاخه كلها حول المخدع، تظاهر بالرحيل إلى ليمنوس Lemnos، القلعة المتينة البناء، التي كانت عزيزة على نفسه أكثر من جميع البلاد. ولم يكن أريس، ذو العنان العسجدي، أعمى في ملاحظته هيفايستوس؛ فعندما رأى هيفايستوس الذائع الصيت بمهارة يدَيه، يرحل، انطلَق في طريقه إلى منزل هيفايستوس الشهير، مشتاقًا إلى غرام كوثيريا Cytherea،٦ الجميلة التاج، وكانت قد حَضَرتْ لِتوِّها من بيت أبيها، ابن كرونوس، العتيد، واستوت جالسة، فدخل أريس المنزل، وأمسك بيدها، وتحدث إليها بقوله:
«تعالي يا حبيبتي، هيا إلى الفراش لنأخذ متعتنا، مضطجعَين معًا؛ لأن هيفايستوس لا يُوجَد الآن بهذه البلاد، بل رحل منذ برهة، كما أعتقد، إلى ليمنوس، لزيارة السنتيين Sintians، المتعجرفي الحديث.»
هكذا قال، فبدا لها أن الاضطجاع معه أمرٌ لذيذ مرغوب فيه؛ ومِن ثَمَّ انطلقا إلى الفراش، واستلقيا ليناما، فأطبقَت عليهما قيود هيفايستوس الحكيم الخادعة، ولم يستطيعا، بأية حالٍ من الأحوال أن يُحركا أطرافهما، ليفلتا منها. وعندئذٍ عرفا يقينًا أنْ لا منجاة منها، فاقترب منهما الرب الذائع الصيت، ذو الساعدَين المفتولَين،٧ عائدًا قبل أن يصل إلى بلاد ليمنوس؛ إذ كان هيليوس يقوم بالحراسة من أجله، وأخطره في الحال بالأمر؛ ومِن ثَمَّ انطلق إلى بيته، بقلبٍ مثقل بالأحزان، ووقف عند الباب وقد استشاط غضبًا وحَنقًا، وبقوةٍ صاح ينادي جميع الآلهة بقوله:
«أبتاه زوس، وأنتم أيها الآلهة الآخرون المباركون الخالدون، تعالَوا إلى هنا كي تُشاهِدوا أمرًا مضحكًا مُزريًا، كيف تسخر مني أفروديتي، ابنة زوس، بسبب عرجي، وتُغرم بهوى أريس المُخرِّب، بسبب جماله وقوة أطرافه، بينما قد وُلِدتُ أنا مُشوَّهًا. ومع كلٍّ، فلن يُلام على هذا سوى أبويَّ — ليتهما لم ينجباني أبدًا! إنكم ستَرون بأنفسكم كيف صَعِد هذان الاثنان إلى فراشي، واضطجعا معًا في عشق، وإن هذا المنظر ليزعجني. ومع كلٍّ، فإنهما لا يشتهيان، كما أعتقد أن يضطجعا هكذا مدةً أطول من ذلك، كلا، ولا حتى لحظة واحدة، ما أجملهما هكذا! سرعان ما سيفقد كلاهما الرغبة في النوم، وقد أمسَكَت القيود والفخاخ بتلابيبهما، إلى أن يرُدَّ لي أبوها، جميع هدايا الغَزل التي أعطيتُه إياها، من أجل ابنته عديمة الحياء؛ فإن ابنتَه جميلة، ولكنها لا تستطيع أن تُمسِك زِمامَ شهوتها.»٨
هكذا تكلَّم وتجمَّعَت الآلهة في البيت ذي العتبة البرونزية. جاء بوسايدون مُطوِّق الأرض، وجاء المساعد هيرميس، والسيد أبولُّو، الرب القوَّاس.٩ أما الربَّات فقد منعَهن الحياء من المجيء، بل بقِيَت كلٌّ منهن في بيتها. وأما الآلهة، مانحو الخيرات، فوقَفوا عند الباب، وثارت عاصفةٌ لا تخمد من الضحك، وسط الآلهة المباركين، عندما أبصروا مهارة هيفايستوس الحكيم، فنظر أحدهم إلى جاره وتحدَّث إليه بقوله:

«لن تزدهر الأعمال الشريرة؛ فالبطيء يمسك السريع، كما تفوَّق هيفايستوس الآن، رغم بطئه، على أريس، بالرغم من كونه أسرع الآلهة الذين يحتلُّون أوليمبوس؛ فمع كونه أعرج، أمسَكَه بمهارته، وعلى ذلك، فإن أريس يستحق غرامة الزاني.»

هكذا راح الآلهة يتكلُّمون فيما بينهم، أما السيد أبولُّو بن زوس، فقال لهيرميس:

«أي هيرميس بن زوس، أيها الرسول، يا مانح الخيرات، ألستَ بربك مستعدًّا، حتى ولو كنتَ مقيدًا بالأصفاد المكينة، أن ترقد فوق فراشي، إلى جانب أفروديتي الذهبية؟»

عندئذٍ أجابه الرسول، أرجايفونتيس، بقوله: «ليت هذا يحدُث، يا سيدي أبولُّو، أيها الرب القوَّاس. ليتني أُطوَّق بثلاثةِ أمثالِ هذه الأصفاد المكينة، بينما أنتم الآلهة، وجميع الإلاهات أيضًا تبصرونني، لقاء أن أرقُد إلى جانب أفروديتي الذهبية.»

ما إن قال هذا، حتى انفجر الآلهة الخالدون ضاحكين، ولكن رغم ذلك لم يضحك بوسايدون، بل طَفِق يتوسَّل إلى هيفايستوس، الصانع الذائع الصيت، أن يُطلِق سراح أريس، قائلًا بعباراتٍ مجنحة:١٠

«أطلق سراحه، وأعدك، كما تطلب مني، بأنه سوف يدفع لك كل ما يجب، في حضرة الآلهة الخالدين.»

عندئذٍ أجابه الرب الذائع الصيت، ذو السواعد المفتولة، بقوله: «أما هذا، فلا تطلب مني، يا بوسايدون، يا مُطوِّق الأرض، يجب التأكُّد أولًا، من أن ذلك الوغد نادم حقًّا. وكيف أضعك في القيود وسط الآلهة الخالدين، لو أن أريس رفض سداد الدَّين أو العودة إلى القيود، وانصرف؟»

فَردَّ عليه بوسايدون، مزلزل الأرض، بقوله: «أيا هيفايستوس، حتى إذا امتنع أريس عن الدَّين وهرب، فأنا على استعداد لأدفعه لك.»

فقال الرب، الذائع الصيت القوي الساعدَين: «لا يصح، بعدئذٍ أن أرفض مطلبك، كما أن هذا لا يليق.»

قال هيفايستوس القوي هذا وفك القيود، وما أطلق سراح الاثنَين، حتى قفزا في الحال، وانطلقا، فرحل أريس إلى تراقيا Thrace، أما أفروديتي، محبة المرح، فانطلقَت إلى قبرص Cyprus إلى بافوس Paphos، حيث يُوجد مذبحها الجميل العبق. وهُرِعَت ربَّات الحسن Graces،١١ يغسلنها ويدهنَّ جسمها بالزيت الخالد، كذلك الزيت الذي يتلألأ على الآلهة الخالدين، ودثَّرنَها بملابسَ جميلة، أعجوبة للرائين.

أنشد المغني الذائع الصيت هذه الأنشودة، فسُر أوديسيوس في قلبه وهو يُصغي. كما ابتهج أيضًا الفياكيون ذوو المجاذيف الطويلة، أولئك الرجال المشهورون بسفنهم.

انفراد راقصَين برقصة الكرة

بعد ذلك، أمر ألكينوس، هاليوس Halius، ولاوداماس أن يرقصا وحدهما؛ إذ لم يكن في استطاعة أي فردٍ أن يتحدَّاهما، فتناولا في أيديهما كأس الأرجوان، تلك الكرة الرائعة الجميلة التي كان بولوبوس Polybos العظيم قد صنَعها لهما، وشرع أحدهما ينحني إلى الوراء، ويقذف بها نحو السحب الظاهرة، وعندئذٍ ينبري الآخر، فيقفز عاليًا، من فوق الأرض، ويلقفها بمهارة قبل أن تلمس أقدامُه الأرضَ ثانية. وبعد أن عرضا مهارتهما في قذف الكرة عاليًا، أخذا١٢ يرقصان فوق الأرض الفسيحة، بينما يقذفان بالكرة غُدوًّا ورواحًا، ووقف الشبان الآخرون يُصفِّقون لهما على الوحدة فينبعث لذلك ضجيجٌ أيُّ ضجيج.
بعد ذلك تحدَّث أوديسيوس العظيم إلى ألكينوس، قائلًا: «سيدي ألكينوس، أيها المشهور أكثر من سائر الرجالات،١٣ لقد زهوتَ بأن راقصَيك أفضل راقصَين، وحق لك ذلك؛ إذ تتملَّكُني الدهشة وأنا أنظر إلى روعة رقصهما.»١٤

ألكينوس يُشيد بأوديسيوس

سُر ألكينوس القوي العتيد، لذلك القول، فنهض وسط الفياكيين، مُحبي المجذاف، وخاطَبهم بقوله:

«أصغوا إليَّ، يا قادة ومستشاري الفياكيين، يبدو لي، بحق، أن هذا الغريب رجلٌ سامي الإدراك، هيا إذن نُقدِّم له هدايا صداقة، تليق به. إن في بلادنا اثنَي عشر ملكًا عظيمًا يقبضون على زمام الملك، وأنا الثالث عشر، فهل لكم أيها الاثنا عشر ملكًا، هل لكل واحدٍ منكم أن يُحضر عباءة ومعطفًا حديثَي الغسل، وتالنتًا من الذهب البَرَّاق، ولنحضر هذا، كلنا معًا، حتى يمكن للغريب، بعد أن يتناول هدايانا بيدَيه، أن يذهب إلى عَشائه مسرورًا، في قرارة نفسه. أما يوروالوس، فليُصلِح ذات البين مع هذا الغريب، بالقول وبالهدية؛ إذ انفلتَت من بين شفتَيه كلمة، لم تكن بأية حالٍ لائقة.»

هكذا تكلَّم، وأثنَى الجميع على رأيه، وقرَّروا أن ذلك عين الصواب، وبعث كلٌّ منهم رسولًا ليُحضِر الهدايا وقام يوروالوس، وقال:

«سيدي ألكينوس، يا من يفوق صيتك، شهرة سائر الناس، إنني على أتم استعدادٍ لإصلاح ذات البين مع هذا الغريب، كما أمرت؛ فسأعطيه هذا السيف، المصنوع كله من البرونز الخالص، ومقبضه من اللجَين، وغِمده المحيط به، من العاج المنحوت حديثًا، وعندئذٍ سيكون له شيئًا عظيم القيمة.»

أوديسيوس يتلقى هدايا كثيرة

قال هذا، وقدَّم السيف المرصَّع بالفضة، بين يدَي أوديسيوس العظيم، وتحدَّث إليه بعباراتٍ مجنحة،١٥ فقال: «مرحبًا بك، أيها السيد الغريب، أرجو، إذا كان لكلماتي وقعٌ عنيف، أن تذهب بها الرياح الهوج في الحال، فتطير بها سريعًا وتحملها بعيدًا، أما أنت فهل للآلهة أن تمنحك رؤيةَ زوجك، وبلوغَ وطنك؛ إذ قد عانيتَ الأهوال مدةً طويلة بعيدًا عن أصدقائك؟»

فأجابه أوديسيوس، الكثير الحيل، بقوله: «لك السلام، كل السلام أيضًا، أيها الصديق، وإني لأطلب من الآلهة أن تهبك السعادة. وهل لك، من الآن فصاعدًا، ألا تنسى هذه العبارة الرقيقة التي أصلحتَ بها الأمور بيني وبينك؟»

ما إن انتهى من حديثه هذا، حتى علَّق السيف المرصَّع بالفضَّة، فوق كتفَيه، وعندئذٍ غَربَت الشمس، وأُحضرتْ إليه الهدايا المجيدة، وهذه حملَها الرسل المبجَّلون إلى قصر ألكينوس، فأخذ أبناء ألكينوس المنقطع النظير الهدايا الجميلة، ووضَعوها أمام والدتهم الموقَّرة. وتقدَّم ألكينوس القوي العتيد، الجمع إلى داره، فدخلوا واستوَوا فوق المقاعد العالية. وبعد ذلك تحدَّث ألكينوس العتيد إلى أريتي بقوله:

«أي زوجتي، أحضري إلى هنا، صندوقًا ضخمًا، أفضل صندوقٍ لديك، وضعي فيه بنفسكِ عباءة ومعطفًا حديثي الغسل، وهل تتفضَّلي بأن تضَعي للغريب، قِدْرًا مملوءة بالماء فوق النار، حتى يكون لديه ماءٌ ساخن يستحم به، فيرى، وهو مُتزيٍّ بأجمل الثياب، جميع الهدايا التي جاء بها إلى هنا الفياكيون النبلاء، وعندئذٍ يتمتع بالوليمة، وبسماع شَدْو الأغاني العذبة. وسأُقدِّم له هذه الكأس الجميلة المصنوعة من الذهب الإبريز، كي يتذكَّر طوال أيام حياته، وهو يسكب السكائب في ساحاته، لزوس وللآلهة الآخرين.»

أوديسيوس يحفظ الهدايا في صندوقٍ مكين

ما إن أتم ألكينوس كلامه، حتى أمرت أريتي خادماتها بأن يضعن قِدْرًا ضخمةً فوق النار، بسرعة، فأذعنَت الإماء، ووضعنَ القِدْر فوق النار المشتعلة، لملء الحمام، وصبَبْن الماء في القِدْر، ووضعن كتلًا من الخشب في النار تحتها؛ عندئذٍ اندَلعَت ألسنة اللهَب تلعب حول بطن القِدْر، وسَخنَّ الماء، وفي نفس الوقت أحضَرتْ أريتي للغريب صندوقًا جميلًا، من حجرة النفائس ووضَعَت فيه الهدايا العظيمة، من ثيابٍ وذهب، التي قدَّمها إله الفياكيون، كما وضَعَت داخله، بنفسها، عباءة ومعطفًا جميلَين، ثم خاطبَت أوديسيوس بكلماتٍ مجنحة، قائلة:

«تولَّ بنفسك الآن إحكام غطاء الصندوق، وبسرعة اربط حوله حبلًا متينًا لئلا يسلبكَ أحدٌ هداياك في أثناء الطريق، وأنت مستغرق، فيما بعدُ، في النوم اللذيذ، وسط السفينة السوداء.»

عندما سمع أوديسيوس العظيم الكثير التحمُّل، هذه الكلمات، قام في الحال وأحكم تثبيت الغطاء، وبسرعة لَفَّ حبلًا حوله، بعقدةٍ خفية، كانت كيركي١٦ الجليلة قد علَّمَته إياها ذات يوم. وبعد ذلك أَمرتْه ربة البيت، أن يُسرع بالذهاب إلى الحمام ليغتسل، سُر قلبه عندما أبصرَ الحمام الدافئ؛ إذ لم يعتَدْ مثل هذه العناية منذ أن ترك منزل كالوبسو، ذات الشعر الفتَّان؛ لأنه حتى ذلك الحين، كان يلقى الرعاية باستمرار، كما لو كان إلهًا.

ناوسيكا تُودِّع أوديسيوس

وبعد أن غسَّلَته الإماء، ودعَكْن جسمه بالزيت، ودثَّرنَه بعباءة ومعطفٍ جميلَين، خرج من الحمام، وذهب لينضم إلى جميع الرجال في خمرهم. ووقفَت ناوسيكا، التي حبتها الآلهة بفتنة وجمالٍ رائعين بجانب قائم باب القاعة المكينة البناء، وأُعجبَت بأوديسيوس، وهي ترمقه بنظراتها، وخاطَبتْه بعباراتٍ مجنحة، قائلة:

«وداعًا أيها الغريب، وأرجو أن تتذكَّرني، وأنت في وطنك؛ لأنك تدين لي، أولًا، بثمن حياتك.»

فأجابها أوديسوس الكثير الحيل بقوله: «هيا ناوسيكا، يا ابنة ألكينوس العظيم القلب، ليت زوس، زوج هيرا، العالي الرعد، يهبُني بلوغ وطني، والتمتُّع بيوم عودتي؛ عندئذٍ سأظل هناك أُصلي لك، كما أُصلي لإله، طوال أيامي؛ فإنك، أنت يا سيدتي التي أَعطيتِني الحياة.»

أوديسيوس يغمر المنشد بعطفه

قال أوديسيوس هذا وجلس فوق مقعدٍ بجانب الملك ألكينوس. وكان المجتمعون آنئذٍ يُوزِّعون قِطع اللحم ويخلطون الخمر، فاقترب الرسول، يقودُ المنشد الكريم، ديمودوكوس الذي يُجلُّه الشعب، وأَجلِسه وسط المدعوِّين، مسندًا مقعده إلى عمودٍ مرتفع. وعندئذٍ قطع أوديسيوس الكثير الحيل، قِطعة من سلسلة ظهر خنزيرٍ بريٍّ أبيض الناب، من بين كثيرٍ من القِطع وكانت غزيرة الدهن من كلا جانبَيها، وأعطاها الرسول، قائلًا:

«أيها الرسول، خذ هذا الجزء وقدِّمه لديمودوكوس، ليأكله، وسوف أقوم بتحيته رغم أحزاني؛ فإن المنشدين يحظَون بالمجد والاحترام بين سائر الناس الذين يسكنون الغبراء؛ لأن ربة الشعر علَّمتْهم طرق الغناء، وتُحب معشر المنشدين.»

ما إن قال هذا حتى تناول الرسول القطعة ووضعها في يدَي السيد ديمودوكوس، فتناولها هذا مسرور القلب. وهكذا شرع القوم يأكلون من أطايب الطعام الشهي الموضوع أمامهم. وبعد أن نالوا كفايتهم من الطعام والشراب، خاطب أوديسيوس، الكثير الحيل، ديمودوكوس بقوله:

«أيا ديمودوكوس، إنني والحق يُقال؛ لَأثني عليك أكثر من سائر البشر، سواء أكان الذي علَّمك الغناء هي ربة الشعر ابنة زوس، أو أبولُّو؛ لأنك تتغنَّى صادقًا وحيدًا، بمصير الآخيين، كل ما صنعوه ولاقَوه، وجميع المشاق التي قاسَوْها، كما لو كانت حاضرًا معهم بنفسك، بمحض الصدفة، أو سمعت القصة من شخصٍ آخر. والآن هيا غيِّر أغنيتك، وأنشدنا عن الجواد الخشبي، الذي صنعه إيبيوس Epeius، بمساعدة أثينا، الجواد الذي ساقه أوديسيوس، ذات مرة إلى داخل القلعة، كضربٍ من الخداع، بعد أن ملأه بالرجال الذين خرَّبوا إليوس، فلو تغنَّيتَ بحقٍّ عن هذه القصة؛ لأعلنتُ على الملأ أن الرب قد منحك، بقلبٍ رضيٍّ، موهبةَ الغناء المقدس.»

أوديسيوس يطلب سماع قصة الحصان الخشبي

ما إن انتهى أوديسيوس من حديثه هذا، حتى شرع المغني، يدفعه الرب، يُرسل أنشودته لتصل إلى الأسماع، متناولًا القصة حيث كان الأرجوسيون، قد ركبوا سفنهم ذات المقاعد، وأبحروا بعيدًا، بعد إلقاء النار على أكواخهم، بينما كان الذين يقودهم أوديسيوس المجيد يجلسون في مكانِ اجتماع الطرواديين، مختبئين داخل الحصان، الذي سحَبه الطرواديون أنفسهم إلى القلعة، فبقي واقفًا هناك، بينما جلس القوم حوله، وشرعوا يتكلَّمون طويلًا، ولم يستطيعوا الوصول إلى قرار. لقد حظيت ثلاثة آراءٍ باستحسانهم؛ إما أن يشُقُّوا الخشب الأجوف بالبرونز القاسي، أو يرفعوا الحصان إلى عُلوٍّ شاهق، ويُلقوا به من فوق الصخور، أو يتركوه حيث هو كتقدمةٍ عظيمة تليقُ بمقام الآلهة. كما قَرَّ قرارهم في النهاية؛ إذ كان مصيرهم أن يَهلِكوا بعد أن تحتوي مدينتهم الحصان الخشبي الهائل، الذي كان يجلس بداخله أفاضل الأرجوسيين، يحملون الموت والقدَر للطرواديين. كما أنشَد كيف تدفَّق أبناء الآخيين من الحصان، تاركين كمينهم الأجوف، وخرَّبوا المدينة. أما الآخرون فقد أنشَد كيف انطلقوا في مختلف الطرق يُخربون المدينة الشامخة. وأما عن أوديسيوس فذكر كيف أنه مثل أريس، ذهب إلى بيت دايفوبوس Deiphobus بصحبة مينيلاوس، الشبيه بالإله. هناك كما قال، تعرَّض أوديسيوس لأقسى ضروب القتال، ولكنه تَغلَّب في النهاية بمعونة أثينا العظيمة القلب.

بكاء أوديسيوس يثير فضول ألكينوس

أنشَد المغني الذي طبَّقَت شُهرته الآفاق، هذه الأغنية، بينما ذاب قلب أوديسيوس، وبلَّلَت الدموع وجنتَيه من تحت حاجبَيه، وكما تنتحب المرأة، وتُمزِّق نفسها حول زوجها العزيز، المجنون أمام مدينته وشعبه، ساعيًا إلى أن يصُد عن مدينته وأطفاله يوم الكريهة القاسي، وعندما تراه يُحتضَر ويلفظ أنفاسه، تتعلَّق به ويعلو صراخها، بينما الأعداء من خلفها، يضربون ظهرها وكتفَيها برماحهم، ويقودونها بعيدًا في الأسر، لتُقاسي الآلامَ والمشاقَّ، فتذوي وجنتاها تحت وطأة الحزن المُمِض. هكذا أيضًا ترك أوديسيوس دموعه السواجم تنهمر من تحت حاجبَيه، وأخفى تلك العبارات التي ذرفها، عن الجميع. بيد أن ألكينوس وحده لاحظه والتفَت إليه؛ إذ كان يجلس بجواره، وسمع أنينه العنيف، فنهض في الحال، يتكلم وسط الفياكيين، محبي المجاذيف، قائلًا:

«أصغوا إليَّ، يا قادة ومستشاري الفياكيين، دَعُوا ديمودوكوس يُوقف الآن قيثارته الصافية اللحن، فإنه لا يقسم السرور بهذه الأغنية على الجميع سواسية؛ فمنذ أن بدأنا نتعشَّى، وانساب المغني في الإنشاد، لم يكُفَّ هذا الغريب عن البكاء قَط. إنني لأعتقد بحقٍّ، أن الحزن لا بد قد بخَع قلبه، فليكُف المغني الآن، كي نمرح جميعًا ضيوفًا ومُضيفين على حدٍّ سواء، طالما أن هذا أفضلُ بكثير، فمن العجيب أننا أعدَدنا كل هذه الأشياء من أجل الغريب المُبجَّل، إرساله، وهدايا الصداقة التي نُقدِّمها بمحض حبنا؛ فهذا الغريب المتضرع، قد أعززناه كأخ، وإنه لذو إدراكٍ ليس بالقليل. لا تُخفِ بعد الآن في نفسك ما سأسألك عنه؛ فالصراحة أجدى بكثير. خبِّرني عن الاسم الذي اعتاد القوم أن ينادوك به في وطنك، أمك وأبوك وجيرانك، وأهل بلدتك، والسكان المحيطون بها؛ إذ لا أحد من البشر بغير اسم، سواء أكان وضيعًا أم نبيلًا؛ حيث إنه قد وُلِدَ في يومٍ من الأيام؛ لأن الآباء يهَبون الأسماء للجميع عندما يُنجبونهم. كذلك خبِّرني عن بلادكَ وشعبكَ ومدينتك، حتى تستطيع سفننا أن تحملك إلى هناك، تشق طريقها بمهارة؛ إذ ليس للفياكيين بحَّارة، ولا دفَّات كما للسفن الأخرى، ولكن سفنهم تفهم آراء وعقول البشر، من تلقاء نفسها، وتعرف مدن سائر الأقوام وحقولهم الخصبة، وبمنتهى السرعة تشُق عُباب اليم، مختفيةً وسط الضباب والسحب، لا تخشى الأذى أو التحطيم إطلاقًا. ومع كلٍّ فقد سمعتُ، ذات مرة قصةً يرويها أبي ناوسيثوس Nausithous؛ إذ اعتاد أن يقول إن بوسايدون كان غاضبًا منَّا، لأننا نُهيِّئ لجميع الناس سفرًا آمنًا. لقد ذكر أنه سيأتي يوم، بينما تكون إحدى سفن الفياكيين المتينة البناء عائدةً من رحلة عَبْر الخِضَم المظلم، سيضربها بوسايدون، ويشُق جبلًا شاهقًا حول مدينتنا.١٧ هذا ما قاله ذلك الرجل العجوز، ولكن الرب إما أن يُحقِّق ذلك الأمر، وإما أن يتركه دون أن يتحقَّق، تبعًا لمشيئته الكريمة. هيا الآن، وخبِّرني عن هذا صراحة إلى أين رحلت، وإلى أي بلدان البشر ذهبَت، واروِ لي ما تعرفه عن أولئك الأقوام، وعن مدنهم المتينة البناء، من منهم قساةٌ ظالمون متوحشون، ومن منهم يُحبون الغرباء ويخشَون الآلهة في قلوبهم؟ وأفصح لي عن سبب بكائك ونحيبك، عند سماع مصير الدانيين الأرجوسيين وإليوس، هذا صُنع الآلهة الذين حاكوا خيوط الدمار للبشر كي يمكن أن تكون هناك أغنيةٌ لمن هم على وشك الولادة. هل سقط أحد ذوي قُرباكِ أمام إليوس، رجل طيب القلب صادق القول، أو زوج ابنتك، أو حموك، فهؤلاء هم أقرب الأقرباء للمرء من أبناء جلدته ودمه؟ أو هل هو صديقٌ عزيز على قلبك، كريمٌ صادق؟ فلا أسوأ من أن يفقد المرء أخًا رفيقًا، ذا قلبٍ فطين.»
١  أو: «مقاعد التجذيف».
٢  الترجمة: كما أمر.
٣  الترجمة الحرفية: وسرعة الجري بالأقدام.
٤  إن اللفظ اليوناني المستعمل ليس معناه «تاجًا»، ولكن المعنى المفهوم هنا لا يمكن التعبير عنه بغير كلمة «تاج».
٥  أحد آلهة أوليمبوس وابن زوس وهيرا. وكان إله الحرب فينشرح صدره بضوضاء وضجيج القتال، وكذا برؤية الدماء والقتل.
٦  لقب من ألقاب أفروديتي، ربَّة الحب والجمال.
٧  تترجم أحيانًا: «الأعرج الساقين».
٨  وأحيانًا تُترجم: «ولكنها تفتقر إلى الحصافة».
٩  ويُحتمل أن يكون المعنى هنا «مانع الشرور» أو «الذي يعمل من بعيد».
١٠  أي: حماسية.
١١  كن ثلاث.
١٢  الترجمة الحرفية: أخذ الاثنان.
١٣  أو: «الأناسي».
١٤  يقول النص اليوناني: وأنا أنظر إليهما.
١٥  أي: حماسية.
١٦  ساحرة تقطُن جزيرة إيايا التي وصل إليها أوديسيوس في أثناء جولاته.
١٧  أي لكي يفصلهم عن البحر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤