الأنشودة الرابعة عشرة

أوديسيوس يعثر على راعي خنازيره

ذهب أوديسيوس من الميناء خلال الممر الوَعْر صاعدًا عَبْر الغابة ووسط المرتفعات إلى المكان الذي أوجبَت عليه أثينا أن يبحث فيه عن راعي الخنازير العظيم، والذي كان يرعى أمواله دون سائر العبيد الذين كان يمتلكهم أوديسيوس العظيم.

وجده جالسًا في رَدهةِ منزله الأمامية، حيث قد أُقيم هناك السور مرتفعًا في مكانٍ يُطل على منظرٍ متسع، ساحة عظيمة رائعة، تُحيط بها بقعة خلاء. وكان راعي الخنازير قد شيَّد هذا السور بنفسه لخنازير سيده، الذي رحل دون علم سيدته والعجوز لايرتيس، فبَناه بالحجارة الضخمة وغطَّاه من فوق بالأشواك. وبطوله كله، من الخارج، دفَع أوتادًا، هناك وهناك، أوتادًا ضخمة، متراصَّة أحدها بجانب الآخر، صنعَها بأن شَق شجرة بلُّوط حتى قلبها الأسود،١ وشيَّد خلف السور اثنتَي عشرة حظيرة، كلٌّ منها بجانب الأخرى، كفِراشٍ للخنازير، وقد حجز في كل حظيرة خمسين خنزيرةً تتمرَّغ على أرضها، أنثى للنسل، أما ذكور الخنازير فكانت تنام خارج الحظائر. وكانت هذه أقل عددًا من الإناث بكثير؛ إذ كان المغازلون شبيهو الآلهة يُولِمون عليها، فقلَّلوا من عددها؛ لأن راعي الخنازير كان يُقدِّم دائمًا أحسن جميع الخنازير المسمَّنة، التي كانت تربو على الثلاثمائة والستين. وكانت تنام بجانب هذه باستمرار، أربعةُ كلابٍ متوحشة كالحيوانات الضارية، كان قد ربَّاها راعي الخنازير، قائد البشر. أما هو نفسه فكان يلبس حول قدمَيه حذاءً طويلًا، يصنعه بقطع جلد ثورٍ جميل اللون، بينما يرحل الآخرون ثلاثتهم؛ واحدٌ هنا، والآخر هناك، والثالث مع قطعان الخنازير. أما الرابع فيرسله إلى المدينة يسوق خنزيرًا ذكرًا بالقوة، إلى المغازلين الوقحين، ليذبحوه، ويملئوا بطونهم باللحم.
figure
وبينما أوديسيوس يسير إذ أبصَرتْه الكلاب النابحة فجأة، فهجمَت عليه … وأَسقَط أوديسيوس العُكَّاز من يده.

راعي الخنازير يدفع عن أوديسيوس الكلاب النابحة

وبينما أوديسيوس يسير إذ أبصَرتْه الكلاب النابحة فجأة، فهجمَت عليه وهي تنبح نُباحًا عاليًا، غير أن أوديسيوس جلَس بدهائه وأسقط العكاز من يده. وعندئذٍ حتى في مزرعته، كان عليه أن يقاسي جرحًا بالغًا، ولكن راعي الخنازير جرى خلفها بسرعة، وهُرِع خلال الباب، فسقَط الجلد من يده. وصاح في الكلاب عاليًا، وطردها بعيدًا بسيلٍ من الأحجار، وخاطب سيده بقوله:

figure

«أيها العجوز لقد كادت الكلاب، حقًّا، أن تُمزِّقكَ إربًا على حين غِرة، وعندئذٍ كنت تُنحي عليَّ باللائمة. نعم، وكانت الآلهة تبتليني بأحزان وهمومٍ أخرى. إنني لأحزن وأبكي من أجل سيدٍ شبيه بالإلهة، طُولَ إقامتي هنا، أرعى خنازيره السمينة ليأكلها رجالٌ آخرون، بينما ربما كان هو في حاجة إلى الطعام وهو يطوفُ خلال أرض ومدينة قوم غريبي اللسان، لو كان حقًّا على قيد الحياة ويرى ضوء الشمس. هيا معي، دَعْنا نذهب إلى الكوخ، أيها العجوز، حتى إذا ما ملأتَ بطنك بالطعام والخمر، أخبرتَني من أين قدِمتَ وجميع الأهوال التي قاسيتَها.»

راعي الخنازير يستقبل أوديسيوس في كوخه

ما إن قال راعي الخنازير الطيب هذا الكلام حتى قاده إلى الكوخ، وأدخلَه، وأجلَسه، وفرشَ له أغصانًا غليظة كانت مقطوعة، وبسَط فوقها جلد ماعزٍ بري أشعث، كبيرٍ كَثِّ الشعر، كان من عادته أن ينام فوقه، فسُرَّ أوديسيوس من الترحيب بهذه الطريقة، وتكلَّم قائلًا:

«أيها الغريب، إني لأطلُب من زوس والآلهة الآخرين الخالدين أن يمنحوك أقصى ما تشتهي؛ حيث إنك قد رحَّبتَ بي بقلبٍ رضي.»

فأجابه يومايوس Eumaeus راعي الخنازير بقوله: «أيها الغريب، لا يحق لي أن أستهينَ بغريب، مهما كان، حتى ولو كان شخصًا أكثر منك وضاعة؛ لأن جميع الغرباء والسائلين من زوس، والهدية، مهما صغُرتْ، يُرحِّب بها أمثالُنا؛ حيث إنها نصيب العبيد، الذين يعيشون في خوفٍ دائم متى تَسلَّط عليهم سادتُهم أشباه الملوك — سادةٌ صغار كسادتنا — لأن الآلهة، بحقٍّ قد منعَت عودة ذلك الذي كان يُحبُّني ويعطف عليَّ العطف كله، ويهبُني أنا نفسي ممتلكاتٍ، منزلًا وقطعة أرض، وزوجة، تَقدَّم إليها كثيرٌ من المغازلين، ومثل تلك الأشياء التي يمنحها السيد الرحيم عبده الذي يتعب كثيرًا من أجله، والذي يُكلِّل الرب سائر أعماله بالفلاح، كما ينجح هذا العمل، الذي أُعيره كل اهتمامي؛ وعلى ذلك ليت سيدي قد طعَن هنا في السن، في منزله، وعندئذٍ كان يكافئني بسخاء، ولكنه هلك — كما أظن أن جميع أقارب هيلينا Helen٢ قد هلَكُوا في خرابٍ شامل؛ إذ إنها أرخَت رُكَب محاربين عديدين. ولقد رحل هو أيضًا إلى إليوس لكسب التعويض لأجاممنون، ليقاتل الطرواديين في إليوس الشهيرة بجيادها.»

يومايوس يُكرم أوديسيوس ويُحدِّثه عن سيده الغائب

ما إن قال هذا حتى شدَّ مدرعتَه بحزامه في سرعة، وذهب إلى الحظائر، حيث كانت قطعان الخنازير محبوسة. وبعد أن انتقى منها خنزيرَين، أحضرهما إلى الداخل ونحرهما كلَيهما، وهو يُغني، وقطع أجزاءهما، ووضعها في السفُّود وبعد أن نضج الشواء، حملَه كله ووضَعه أمام أوديسيوس ساخنًا فوق السفافيد، ونثر فوقَها مطحون الشعير الأبيض. وبعد ذلك خلط في طاس من خشب العليق خمرًا في حلاوة العسل، وجلس هو نفسه قبالة أوديسيوس، يأمره بتناول الطعام، قائلًا:

«تفضَّل الآن، أيها الغريب بتناول هذا الطعام الذي يُقدِّمه الخدم، لحم الخنانيص؛ إذ إن الخنازير المسمَّنة يأكلها المغازلون الذي لا يتَّقون غضب الآلهة في قرارة نفوسهم، وليس في قلوبهم أي عطف. حقًّا إن الآلهة المباركة لا تُحب أعمال الرعونة، بل تُبجل العدالة وأعمال البشر العادلة. أما الأعداء القساة الذين يطئون بأقدامهم أرض غيرهم، ويُعطيهم زوس الغنيمة، فيملئون سُفنهم ويرحلون إلى أوطانهم — ولكن على قلوب هؤلاء ينزل خوفٌ عظيم من غضب الآلهة — ولكن هؤلاء الرجال هنا، يُشاهِدونك ويعرفون شيئًا ما، وقد سمعوا صوت بعض الآلهة فيما يختص بميتةِ سيدي المؤسفة، حيث إنهم لا يغازلون بأيِّ حق، ولن يعودوا إلى بيوتهم بل يُطلِقون لأنفسهم الحبل على الغارب فيُبدِّدون أموالنا بطريقةٍ وقحة، فلا يبقى هناك أي فائض. وكل يومٍ وليلةٍ يأتيان من لدن زوس، لا يُقدِّمون فيهما ذبيحةً واحدة ولا اثنتَين فقط، بل يأخذون الخمر، ويُسرِفون في شربها بصفةٍ وقحة. لقد كانت أموال سيدي بحقٍّ تفوق الحصر، وما كان لديه لم يكن لدى سيدٍ آخر، لا فوق اليابسة المظلمة، ولا في إيثاكا نفسها، كلا، فلم يملك، حتى عشرون رجلًا معًا ثروةً عظيمة كتلك. وللعجب، أنني سوف أروي لك القصة، فكان له اثنا عشر قطيعًا من الأبقار فوق اليابسة، وقطعانٌ كثيرة من الأغنام، وقطعانٌ عديدة من الخنازير، وكثيرٌ من قطعان الماعز بقَدْر ما يستطيع الرعاة أن يرعَوا، سواء أكانوا من الأجانب أو من أبناء شعبه. وهنا أيضًا ترعى قطعانٌ هائمة من الماعز فوق حدود الجزيرة، تعدادها أحد عشر قطيعًا، يقوم بحراستها رجالٌ ثقات. وكل رجل من هؤلاء يأخذ باستمرار، يومًا بعد يوم عنزًا من قطيعه إلى المغازلين، خير ما عنده من المعيز المسمَّنة. أما أنا، فأحرس وأرعى هذه الخنازير، وأنتقي بعناية خيرَ الخنازير الذكور فأُرسِله إليهم.»

أوديسيوس يسأل الراعي مزيدًا من المعلومات عن سيده

هكذا قال، بينما كان أوديسيوس يلتهم اللحم في شغف٣ ويشرب الخمر، بنهمٍ وهو صامت، يُدبِّر الشر للمغازلين،٤ فلما فرغ من الطعام، وملأ بطنه،٥ أخذ راعي الخنازير الكأس التي كان من عادته أن يشرب فيها، وملأها خمرًا، وقدَّمها لأوديسيوس مملوءة بالخمر حتى نهايتها، فتناولها، وسُر في قلبه، وتكلَّم، يخاطبه بعباراتٍ مجنحة،٦ قائلًا:

«أي صديقي، من ذا الذي اشتراك بأمواله، أهو رجل في غاية الثراء والقوة، كما تصف؟ قلتَ إنه مات ليكسب التعويض لأجاممنون، أخبرني باسمه، فربما عرفتُه، إذا كان هو بذلك الوصف؛ لأنه في اعتقادي، أن زوس والآلهة الخالدين الآخرين يعلمون ما إذا كنتُ قد رأيتُه، وأستطيع أن أُخبرك عنه شيئًا؛ لأنني تجوَّلتُ في بلادٍ بعيدة.»

يومايوس يشيد بسيده وبشوقه إلى رؤيته

فَردَّ عليه بعد ذلك راعي الخنازير، قائد البشر، فقال: «أيها العجوز، ما من جائلٍ قد جاء بنبأ عنه واستطاع أن يجعل زوجته وابنه العزيز يُصدِّقانه، كلا، إن أخبارهم كلامٌ عابر كيفما اتفَق، فإذا ما احتاج أبناء السبيل إلى من يدعوهم إلى داره، ويكرمهم، جلسوا وليس في نيتهم أن يقولوا الحقيقة. وكل من أتى في رحلاته إلى بلاد إيثاكا، ذهب إلى سيدتي وقَصَّ على مسامعها حكايةً خدَّاعة. وإذ تستقبله بكرم، تُقدِّم له وليمة وتسأله عن كل شيء، فتَذرِف العبرات من مقلتَيها، وهي تبكي كما هو سبيل المرأة، عندما يموت زوجها بعيدًا، وما أسرعَكَ أنت أيضًا، أيها العجوز، أن تَحيكَ قصة، لو أن أحدًا أعطاك عباءة وجلبابًا ترتديها! أما عن سيدي، فمن المحتمل أن تكون الكلاب والطيور السريعة قد مزَّقَت اللحم من عظامه وفارقَتْه روحه، أو أن الأسماك قد أكلَته في البحر، وعظامه ملقاةٌ على أحد الشواطئ، يُغطِّيها الرمل العميق. هكذا بادَ هو هناك، وقُدِّر الحزن لأهله في الأيام المقبلة، للجميع، بل لي أنا بصفةٍ خاصة؛ لأنني لن أجد قَط سيدًا بتلك الطيبة، مهما بعُد المكان الذي أذهب إليه، ولا حتى إذا عُدتُ ثانيةً إلى بيت أبي وأمي، حيث وُلِدتُ منذ البدء، وقاما أنفسهما بتنشئتي. ومع ذلك فلن أبكيهما هكذا كثيرًا منذ الآن، رغم اشتياقي إلى أن تراهما عيناي وإلى أن أكون في وطني، كلا، فلا يتملَّكُني الشوق إلا إلى أوديسيوس، الراحل. إنني أذكر اسمه بالاحترام، أيها الغريب، بالرغم من غيابه؛ لأنه كان يحبني حبًّا جمًّا، وكان يهتم بي في قلبه غاية الاهتمام، وإنني لأدعوه مولاي المحبوب، رغم عدم وجوده هنا.»

أوديسيوس يُقسِم للراعي بأن سيده سيعود

عندئذٍ أجابه أوديسيوس العظيم الكثير التحمُّل، قائلًا: «أيها الصديق، ما دُمتَ تُنكِر نكرانًا باتًّا، وتعلن أن أوديسيوس لن يعود ثانية، وقلبك دائمًا عديم الإيمان، إذن فسأخبرك ليس مجرد إخبارٍ كيفما اتفق ولكن بالقَسَم، أن أوديسيوس سيعود. ودعني أنل جائزةً على أنني قد حملتُ لك نبأً مفرحًا؛ فبمجرد مجيئه، ووصوله إلى البيت، عليكَ أن تُلبسَني عباءةً وجلبابًا، من الملابس الأنيقة، ولكني لن أقبل شيئًا قبل ذلك، مهما كانت حاجتي شديدة؛ لأنني أمقت ذلك الرجل، الذي، وقد استسلم لضغط الفقر، فأخذ يقُص حكاياتٍ خدَّاعة، بقَدْر مقتي لأبواب هاديس. والآن، كن شاهدي يا زوس، يا من تعلو على جميع الآلهة، وأنتِ أيتها المائدةُ المضيافة، ويا مدفأة أوديسيوس النبيل التي قد جئتُ إليها، بأنه ستتحقَّق كل هذه الأشياء التي سأُخبرك بها. في خلال نفس هذا اليوم،٧ سيأتي أوديسيوس إلى هنا، بمجرد أن يأفُل القمر القديم ويظهر القمر الجديد. إنه سيعود وينتقم من جميع أولئك الذين هنا لا يُبجِّلون زوجته ولا ابنه المجيد.»

يومايوس لا يُصدِّق كلام أوديسيوس

فرددتَ عليه إذن، يا يومايوس راعي الخنازير فقلتَ: «أيها العجوز، يبدو أنني لن أمنحك هذه الجائزة على الإتيان بالبشرى المفرحة، كما أن أوديسيوس لن يعود قَط إلى بيته، كلا يا سيدي اشرب في سلام، ودعنا نفكِّر في أشياءَ أخرى، ولا تُعِد إلى ذهني هذه الذكرى؛ إذ يتملَّك الحزن قلبي الكائن في صدري كلما ذكر أحدٌ شيئًا عن سيدي الطيب. أما قسمك، فلنتركه كما هو، ومع ذلك فإنني أتمنى أن يجيء أوديسيوس، كما أشتهي أنا وبينيلوبي، والعجوز لايريتس، وتيليماخوس الشبيه بالإله. وها أنا ذا الآن لا أكُف عن الحزن، من أجل تيليماخوس الذي أنجبه أوديسيوس؛ فعندما جعلَته الآلهة بنُموٍّ فارع الطول أشبه بعود الزان، ظننتُ أنه لن يكون بين البشر، بأية حال، أقلَّ من أبيه العزيز، رائع المنظر والقوام، ولكنَّ أحد الخالدين شوه روحه الحكيمة في داخله، أو ربما كان شخصًا ما، فذهب إلى بولوس المقدسة يستقي الأخبار عن والده، فإن المغازلين الأمجاد ليكمنون له وهو عائد من رحلته إلى الوطن، كي يَهلِك نسل أركايسيوس Arceisius الشبيه بالإله ويبيدوا من إيثاكا، فلا يبقى له اسم. بيد أننا ولا ريب سنُبقيه؛ فقد يُؤسَر، أو قد يهرب، وعندئذٍ يمُد ابن كرونوس يده ليحميَه، ولكن، هيا الآن، أيها الرجل العجوز، أخبرني عن همومك، وأعلنها لي في صراحة، كي أكون على علمٍ تام بكل شيء، من أنت بين البشر، ومن أين قَدِمتَ؟ أين مدينتك، وأين والداك؟ على أي نوعٍ من السفن أتيت، وكيف جاء بك البحارة إلى إيثاكا؟ وما جنسيتهم التي أخبروك بها؟ لأنه، حسب اعتقادي، لم تأتِ، بأية حال من الأحوال، ماشيًا على قدمَيك إلى هنا.»

أوديسيوس يصارح الراعي بكل شيء عن نفسه

عندئذٍ أجابه أوديسيوس، الكثير الحيل، بقوله: «إذن فلأَرْوين لك حقًّا كل شيء في صراحة. ليتنا الآن نحن الاثنَين نتناول الطعام والخمر العذبة في الحال، كي نُولِم هنا في كوخكَ في هدوء بينما ينصرف الآخرون هنا وهناك إلى أعمالهم؛ فعندئذٍ يكون من السهل أن أقُصَّ عليك حكايتي وأستمر في سردها سنةً كاملة، ومع ذلك فلن أنتهي من قصة المحن التي كابدَتها روحي؛ جميع المهام التي تحمَّلتُها بإرادة الآلهة.

لقد أتيتُ من كريت الفسيحة، وإنني بالنسب، ابن رجلٍ ثري. وقد وُلِد ونشأ له أبناءٌ كثيرون غيري في ساحاته، أبناءٌ حقيقيون من زوجةٍ شرعية، ولكن الأم التي أنجبَتْني اشتُريت، لقد كانت خليلة. ومع ذلك فإن كاستور Castor، ابن هولاكوس Hylax الذي أُعلن أنني أنحدر منه، قد بجَّلَني تمامًا كأبنائه الحقيقيي المولد. وكان هو في ذلك الوقت مُبجَّلًا كإلهٍ وسط الكريتيين في البلاد من أجل ضَيعته العظيمة وثروته، وأبنائه الأمجاد. غير أن مقادير الموت حملَتْه بعيدًا إلى بيت هاديس، واقتسم أبناؤه المتغطرسون ثروتَه فيما بينهم، مقترعين عليها. أما أنا فأعطَوني حصةً ضئيلة وخصُّوني بمسكن، فاتخذتُ لي زوجة من بيتٍ ثري واسع الممتلكات؛ إذ حظيتُ بها بشجاعتي؛ لأنني لم أكن آنئذٍ ضعيفًا، ولا رعديدًا في القتال. والآن قد غادَرتْني كل تلك القوة، ومع ذلك فبالرغم من هذا، تستطيع إذا ما نظرتَ إلى حُطامي الباقي، أن تحكُم، حسب اعتقادي، بما كان لي من قوة؛ فالمصائب تُحيط بي، حقًّا، بأقصى درجة. غير أن أريس وأثينا، منحاني الشجاعة وقتئذٍ والقوة التي تُحطِّم صفوف الرجال، وكلما نصبتُ كمينًا لمن أختاره من خيرة المحاربين، باذرًا لعدوي بذور الشر، ما كانت روحي الشامخة ترهَب الردى، بل كنتُ البادئ بالانقضاض على العدو، وقَتلِه برمحي، وهو يُطلِق العنان لقدمَيه فرارًا من أمامي.٨ هكذا كنتُ أنا في الحرب، أما العمل في الحقل فلم يكن حبيبًا إلى نفسي إطلاقًا، ولا الاهتمام بشئون البيت، التي تُنشئ خير الأطفال، بل كنتُ أميل دائمًا إلى السفن ذات المجاذيف، شغوفًا بالحروب، والرماح المصقولة، والسهام، أدوات الجد، التي كان من عادة غيري أن يرتعد منها، ولكن تلك الأشياء، كما أعتقد، كانت عزيزة عندي؛ إذ وضَعَها الرب في قلبي؛ لأن مختلف الرجال يجدون متعةَ في شتى الأعمال؛ فقبل أن تطأ أقدام أبناء الآخيين أرض طروادة، كنتُ تسع مراتٍ قد اضطلعتُ بقيادة محاربين وسفنٍ سريعة الإبحار ضد أقوامٍ أجانب، وسقطَت في يدي الغنائم الهائلة في كل مرة، فكنتُ أختار منها ما يروقني، كما كنتُ أنال كثيرًا منها بالاقتراع. بهذه الطريقة أُثري منزلي بسرعة، وصرتُ فيما بعدُ رجلًا يُخشى بأسُه ومُبجَّلًا وسط الكريتيين.

بيدَ أنه عندما دبَّر زوس، الذي يحمل صوته نائيًا تلك الرحلة الممقوتة التي أرخَت رُكَب كثيرٍ من المحاربين؛ عندئذٍ أمروني، أنا وإيدومينوس المجيد بأن نتولى قيادة السفن إلى إليوس، ولم يكن هناك سبيل لأن نرفض؛ إذ أخذ صوتُ الشعب يضغط علينا بشدة، فحاربنا هناك، نحن أبناء الآخيين، لمدة تسعِ سنوات، وفي السنة العاشرة سلَبنا مدينة بريام، ورحلنا في السفن إلى وطننا، وبدَّد أحد الآلهة شمل الآخيين. أما أنا الرجل الشقي، فقد دبَّر لي الشر، زوس، المستشار. بقيتُ في سرور مع أولادي، لمدة شهرٍ واحد، ومع زوجتي الشرعية، وسط ثروتي، غير أن روحي أمَرتْني بعد ذلك بالسفر إلى مصر مع رفقائي الشبيهي بالآلهة، بعد أن زوَّدتُ سفني جيدًا بالمعدَّات، تسع سفنٍ أعددتُها، وتجمَّع الجيش في سرعة. راح زملائي الأوفياء، بعد ذلك، يُولِمون لمدة ستة أيام، وأعطيتُهم كثيرًا من الذبائح، كي يُقدِّموها للآلهة، ويُعِدُّوا وليمة لأنفسهم، وفي اليوم السابع ركبنا السفن وأقلعنا من كريت الفسيحة، بينما تهُب الريح الشمالية رقيقةً ومعتدلة، وأخذنا نشُق طريقنا في سرعة وسهولة كأننا مع التيار. ولم تُصَبْ أية سفينة من سفني بضررٍ ما، بل كنا نجلس في مُنحنًى من الشر والمرض، وطفِقَت الريح ومدير الدفَّة يقودان السفن.

figure
وصلنا في اليوم الخامس إلى أيجوبتوس Aegyptus الهادئ الجريان، فأرسَيتُ سُفني المقبية في نهر أيجوبتوس؛ عندئذٍ أمرتُ زملائي المخلصين بالبقاء هناك بجوار السفن، وبحراستها، وأرسلتُ العيون إلى أماكن الاستطلاع. غير أن رفقائي، وقد خلعوا عذارهم للشهوة، مدفوعين بما لديهم من قوة، راحوا من فَورِهم يُخربون حقول رجال مصر الجميلة، وخطفوا النساء وصغار الأطفال، وقتلوا الرجال، فبلغ الصراخُ بسرعةٍ المدينة، فلما سمع أهلُها الصياح، هُرع الناس مع الفجر، وامتلأ السهل كله بالمُشاة، وبالعربات وببريق البرونز، ولكن زوس، الذي يقذف بالصاعقة، ألقى ذعرًا رهيبًا على رفاقي، ولم تعُد لدى أي واحدٍ منهم الشجاعة للثبات ومواجهة العدو؛ إذ أحاط بنا الأذى من كل ناحية؛ وعلى ذلك قتَلوا منا بالبرونز الحادِّ نفرًا كثيرًا، وأسروا آخرين إلى مدينتهم، ليُسخِّروهم بالقوة في أعمالهم، أما أنا فقد ألهمَني زوس هذه الفكرة — وليتني مت ولقيتُ حتفي هناك في مصر؛ إذ كان الحزن يُرحِّب بي وقتئذٍ، — فأسرعتُ بخلع خوذتي الجيدة الصنع عن رأسي، وألقيتُ بالترس عن كتفي، وتركتُ الرمح يسقُط من يدي، وانطلقتُ نحو جياد عربة الملك، وعندئذٍ أمسكتُ ركبتَيه، وقبَّلتُها فأعتقَني وأشفق عليَّ، فأركبَني في عربته وأخذني، وأنا أبكي إلى منزله. والحق أن كثيرين منهم هجموا عليَّ برماحهم الدردارية، قاصدين قتلي؛ إذ كانوا يتميَّزون حنقًا، ولكنه أبعدَهم، محترمًا غضب زوس، ربِّ الغرباء، الذي يحتقر الأعمال الشريرة أكثر من جميع الآخرين.
بقيتُ هناك سبعَ سنوات، جمعتُ في خلالها ثروةً طائلة من المصريين؛ إذ قدَّم لي الجميع الهدايا. بيد أنه عندما وافت السنة الثانية الدوَّارة، أقبل رجلٌ من فينيقيا Phoenicia،٩ على شيءٍ كثير من البراعة في الخداع، خبيث وطماع، فحاك لي الشر العظيم وسط الناس. لقد بذَّني في دهائه، وصَحِبني معه حتى بلغنا فينيقيا، حيث يُوجد بيته وممتلكاته، ومكثت معه في هذا المكان سنةً كاملة. وما إن اكتملَت الشهور والأيام أخيرًا، بمرور العام، وأقبلت الفصول، حتى وضعَني على ظهر سفينةٍ عابرة للبحار متجهةٍ نحو ليبيا،١٠ بعد أن ادَّعى كاذبًا أنني سأحمل له شحنة إلى هناك، ولكنه كان يقصد أن يبيعني بثمنٍ مرتفع؛ وعلى ذلك ركبتُ معه السفينة، وأنا أشُكُّ في نيته وخداعه، ولكن لم تكن لي حيلة، فأخذَت السفينة تمخُر عُباب اليم أمام الريح الشمالية التي كانت تهُب عليلةً هادئة، متخذة طريقها وسط البحر نحو ريح كريت، ودبَّر زوس الهلاك للرجال. وعندما غادرنا كريت، وابتعَدنا عن اليابسة فلم نعُد نراها، بل ما كنا نبصر غير السماء والبحر، أرسل ابن كرونوس غمامةً سوداء فوق السفينة الواسعة، فشمل الظلام البحر أسفلَها، وعندئذٍ أرعد زوس، وقذف صاعقتَه على السفينة، فترنَّحتْ من حيزومها إلى كوثلها، وقد أصابتها صاعقة زوس، فامتلأَت بدخان الكبريت، ووقع جميع البحارة خارج السفينة، فحملَتهم الأمواج حول السفينة السوداء، كأنهم غربان، وسلبهم الرب عودتهم. أما أنا فقد تحنَّن عليَّ زوس عندما فاض قلبي بالمحن، فوضَع في يدي صاري السفينة الدكناء المقدمة المتموِّج١١ كي أستطيع النجاة مرةً أخرى من الهلاك، فتشبَّثتُ به، وحملَتني الرياح العاتية. وهكذا بقيتُ محمولًا تسعة أيام حتى كانت الليلة العاشرة الظلماء حملتني اللجَّة المتدحرجة إلى بلاد الثيسبروتيس Thesprotians، فأخذَني السيد فايدون Pheidon ملك الثيسبروتيس، ولم يطلب مني فدية؛ إذ وجدَني ابنُه العزيز، وقد برَّح بي القَر والتعَب، فرفعَني من يدي، وقادني حتى بلغتُ قصر أبيه، وألبسَني معطفًا وعباءةً يستران جسدي.١٢
هناك سمعتُ عن أوديسيوس؛ لأن الملك قال إنه أكرم وفادته، ورحَّب به وهو في طريقه إلى وطنه، وأراني جميع الكنوز التي جمعَها أوديسيوس، من البرونز والذهب والحديد، مصنوعة بمهارة، والحق يُقال إنها لتكفي إطعام أطفاله حتى الجيل العاشر من بعده؛ فلقد كانت الثروة الموضوعة في ساحات الملك محفوظةً له، عظيمةً بالغة، ولكنه قال، إن أوديسيوس قد رحل إلى دودونا Dodona،١٣ ليعرف مشيئة زوس من شجرة بلُّوط الرب الشامخة، وكيف يستطيع العودة إلى أرض إيثاكا الخصبة بعد مثل ذلك الغياب الطويل، سواء عرف ذلك جهرًا أو سرًّا. وزيادةً على ذلك فقد أقسم في حضوري، وهو يصُب السكائب في بيته، أن السفينة قد أُنزلَت إلى الماء واستعد الرجال الذين كان عليهم أن يحملوه إلى وطنه العزيز غير أنه أرسلني أنا أولًا؛ إذ تصادَف أن كانت إحدى سفن الثيسبروتيس راحلة إلى دوليخيوم Dulichium، محمَّلةً قمحًا، فأمرهم أن ينقلوني إلى هناك في عنايةٍ كريمة، إلى الملك أكاستوس Acastus،١٤ بيد أن رأيًا شريرًا لقي الحَظْوة في قلوبهم، لكي ينالني أنا أيضًا شقاءٌ شامل؛ فما إن ابتعدَت السفينة ماخرةً البحار عن اليابسة، حتى سعَوا إلى أن يدفعوني من فورهم إلى يوم العبودية، فجرَّدوني من ملابسي، معطفي وعباءتي، وألبسوني ملابسَ أخرى، معطفًا وعباءة حقيرَين مهلهلَين، هي هذه الأسمال البالية التي تراها أمام عينَيك، ولما أقبل المساء بلغوا حقول إيثاكا المفلوحة البادية للناظرين.
فقيدوني بعد ذلك بحبلٍ مفتول، وربطوني في السفينة ذات المقاعد، ونزلوا هم أنفسهم إلى الشاطئ، وأسرعوا يتناولون عَشاءهم بجوار شاطئ البحر. أما أنا فقد حلَّت الآلهة أنفسها قيودي في سهولةٍ تامة، وبعد أن لففتُ العباءة المهلهلة حول رأسي، انزلقتُ أسفل الدفَّة١٥ الملساء، متجهًا بصدري نحو البحر، ثم أخذتُ أضربُ الماء بكلتا يدَي، وسبحتُ، وبغاية السرعة كنتُ خارج اليم، بعيدًا عنهم. بعد ذلك صَعِدتُ إلى مكانٍ دغل من الأشجار الكثيفة الأوراق، حيث بقيتُ مختبئًا.

فأخذوا يبحثون عني هنا وهناك وهم يُرسِلون الصيحات عالية، ولكن لمَّا بدا لهم عدم جدوى التوغُّل في البحث، عادوا أدراجهم إلى ظهر سفينتهم الواسعة. وكانت الآلهة أنفسها قد أخفَتْني في سهولة، وأحضَرتْني بقيادتها إلى صنيعة رجلٍ حكيم؛ لأنه كان لا يزال من حظي أن أعيش.»

يومايوس لا يُصدِّق رواية أوديسيوس

فأجبتَه إذن يا راعي الخنازير يومايوس، وقلتَ: «يا لكَ من رجلٍ غريبٍ تعيس! لقد أثَّرتَ حقًّا في قلبي، تأثيرًا عميقًا، بسردك كل قصة متاعبك وتجوالاتك، ولكنك في هذا، حسب اعتقادي، لم تذكُر الحقيقة، كما أنك لن تجعلني بها أُصدِّق ما رويتَه عن أوديسيوس، لماذا تبقى أنت، يا من عانيتَ مثل هذه الأهوال، بدون قصد؟ كلا، فإنني من تلقاء نفسي أعرف جيدًا ما يتعلق بعودة سيدي، إنه كان ممقوتًا أشد المقت لدى جميع الآلهة؛ ولذلك لم يقتلوه وسط الطرواديين، أو بين سواعد أصدقائه، عندما انتهى من معمعان القتال؛ عندئذٍ كان سائر جيش الآخيين قد أقاموا له قبرًا، وكان ينال ابنه كذلك بالغ المجد في الأيام المقبلة، ولكن الذي حدث أن أرواح العاصفة جرفَتْه بعيدًا، ولم تترك عنه أي خبر. وأنا من ناحيتي، أعيش هنا منعزلًا مع خنازيري، لا أذهب إلى المدينة، إلا إذا تصادَفَ أن أَمرتْني بينيلوبي العاقلة بالتوجُّه إليها، عندما يصلها نبأٌ من أي مكان؛ عندئذٍ يجلس الناس حول مَن أتى بالأخبار، ويسألونه عن قرب، أولئك الذين يحزنون من أجل سيدهم، الذي رحل منذ مدةٍ طويلة، ومن يغتبطون وهم يأكلون أمواله بدون كفَّارة. أما أنا فلا أهتم بالسؤال أو الاستفسار، منذ أن خدعَني رجل إيتوليٌّ بقصة، رجل كان قد قتل شخصًا آخر، وبعد أن هام على وجهه عَبْر الأرض الفسيحة جاء إلى منزلي، فأحسنتُ استقباله والترحيب به، قال إنه رأى أوديسيوس وسط الكريتيين في قصر إيدومينيوس، يُرمِّم سفنه التي حطَّمَتها الأعاصير، وأخبَرنا أن أوديسيوس سيجيء إما صيفًا وإما في فصل الحصاد، يحمل معه كنزًا عظيمًا مع رفقائه الشبيهي الآلهة. كذلك أنت، أيها الرجل العجوز، يا من قاسيتَ كثيرًا من الأحزان، فطالما أن أحد الآلهة قد أحضركَ إليَّ، فلا تُحاول أن تكسب رضاي بالأكاذيب، ولا أن تتملَّقني بأية حالٍ من الأحوال، فلن أُبدي احترامي لك أو العطف نحوكَ بسبب تلك المختلَقات، وإنما خوفًا من أوديسيوس، إله الغريب، وشفقةً بك.»

أوديسيوس والراعي يعقدان ميثاق اتفاق

عندئذٍ أجابه أوديسيوس ذو الحيل العديدة، قائلًا: «حقًّا يا لكَ من رجل في صدره قلبٌ بطيء الإيمان! إذ إنني، وقد أقسمتُ لك هكذا، لم أُقنِعك ولم أُحرِّك فيك ساكنًا، ولكن هلُم بنا الآن، دعنا نعقد ميثاقًا فيما بيننا، ولسوف تكون الآلهة التي تحتل أوليمبوس شهيدةً على كلَينا مستقبلًا. إذا عاد سيدك إلى هذا المنزل، أن تُلبسني معطفًا وعباءة، وتُرسلني في طريقي إلى دوليخيوم، حيث يطيب لي المقام. أما إذا لم يأتِ سيدك كما أقول، فأطلِق العبيد عليَّ، واقذف بي من فوق صخرةٍ ضخمة، حتى أكون عِبرة لشحَّاذٍ آخر فلا يلجأ إلى الخداع.»

فردَّ عليه راعي الخنازير العظيم، وقال: «ليكن هذا، أيها الغريب، وعندئذٍ حقًّا أستطيع الفوز بالصيت الجميل بين البشر الآن وفيما بعدُ؛ إذ إنني أنا الذي آويتك في كوخي، وقدَّمتُ لك القِرى، قتلتُك، وسلبتُك، حياتك الغالية. إذن يحق لي أن أُصلي بقلبٍ مستعد إلى زوس بن كرونوس. والآن، ها قد حان موعد العَشاء، وسيأتي زملائي إلى هنا سريعًا، فيمكننا إذن أن نُعِد في الكوخ عشاءً شهيًّا.»

يومايوس يقيم وليمة لأوديسيوس

هكذا قال كلٌّ منهما للآخر، ثم اقتربَت الخنازير ورُعاتها، فأقفلوا على الخنازير حظائرها المعتادة لكي تنام، فأخذَت تُطلق صيحاتٍ عجيبة، وهي تُحبس في الحظائر، ثم نادى راعي الخنازير الطيب رفاقه، قائلًا:

«إيتوني بخيرِ ما لديكم من ذكور الخنازير كي أذبحه لهذا الضيف الغريب القادم من بلادٍ نائية، كما أننا أيضًا سوف ننال منه شيئًا، نحن الذين طالما تحمَّلنا العناء والتعب من أجل هذه الخنازير ذات الأنياب البيض بينما يأكل آخرون ثمرةَ جهودنا بدونِ وجهِ حق.»

ما إن قال هذا حتى أخذ يشُق بعض الأخشابِ بالبرونز القاسي، وجاء الآخرون بخنزيرٍ مسمَّن ذي خمس سنوات، ووضَعوه بجانب الوطيس. ولم ينسَ راعي الخنازير الخالدين؛ إذ كان ذا قلبٍ مدرك، فرمى في النار شَعرًا خشنًا من رأس الخنزير الأبيض النابَين كتَقدمةٍ أولى، وصلَّى لجميع الآلهة طالبًا عودةَ أوديسيوس العاقل إلى منزله ثم نهض، وهوى على الخنزير بقطعةٍ من شخب البلُّوط، كان قد تركَها وهو يشُق الأخشاب، فغادَرتْ رُوحُ الخنزير جسَده، فقطع الآخرون رقبة الخنزير، وفصَلوها وبسرعةٍ قَطعوه إلى أجزاء، وكتقدمةٍ أُولى أخذ راعي الخنازير قِطعًا من اللحم النيِّئ من جميع أطرافه، ولفَّها بشيءٍ كثير من الدهن. وهذه ألقاها في النار بعد أن نثَر فوقها طحين الشعير، أما ما بقي من الخنزير فقطَّعوه وسفَّدوه، وبعد أن أتقنوا شِواءَه، أخرجوه جميعه من النار، وجعلوه أكوامًا في قَصعاتٍ. بعد ذلك وقَف راعي الخنازير ليقطع؛ إذ كان ماهرًا في التوزيع بالعدل، فأخذ الجذع وقَطعَه وقَسمَه إلى سبعة أنصبة، وضع أحدها جانبًا وهو يُصلي من أجل الحوريات وهيرميس بن ميا Maia،١٦ ثم وزَّع الباقي على كل فرد. وقد أكرم أوديسيوس فخصَّه بالسلسلة الطويلة لظهر الخنزير ذي النابَين الناصعَي البياض، فأدخل بذلك السرور إلى نفس سيده، فخاطبه أوديسيوس، ذو الحيل الكثيرة، قائلًا:

«أيا يومايوس، أرجو أن تكون عزيزًا لدى الأب زوس بقَدْر ما أنت عزيزٌ لديَّ، حيث إنكَ قد خصَصْتَني بنصيبٍ طيب، رغم كوني في مثل هذه المسغبة.»

إذن أجبتَه يا يومايوس، يا راعي الخنازير، فقلتَ: «تفضَّل،١٧ أيها الضيفُ الشقي، وتمتَّع بما هنا من طعام. إنه الرب الذي يُعطي رجلًا شيئًا ويمنعه آخر. كما يبدو حسنًا لفؤاده؛ إذ هو قادر على كل شيء.»
هكذا قال ثم قدَّم الأطراف كتقدمةٍ للآلهة الخالدين، وبعد أن صب السكائب من الخمر الصهباء، وضع الكأس في يدَي أوديسيوس، مخرب المدن، ثم استوى في مجلسه بجانب نصيبه. وقدَّم ميساوليوس Mesaulius، الذي حصل عليه راعي الخنازير لنفسه وحده، الخبز، وقد اشترى الراعي ذلك العبدَ من التافيين بأمواله دون علم سيدته أو العجوز لايرتيس. وهكذا مدُّوا أَيديَهم إلى الخير الشهي الموضوع أمامهم. وبعد أن تناولوا من الطعام والشراب ملء بطونهم، رفع ميساوليوس الطعام، وعندئذٍ رغبوا في الذهاب إلى راحتهم، بعد أن شَبِعوا من الخبز واللحم.

أوديسيوس يُعجم عُود راعي الخنازير

عندئذٍ أقبل الليل، دامسًا بدون قمر، وأمطر زوس طوال الليل كله. وهبَّت الريح الغربية، الدائمة الأمطار، في عنفٍ بالغ، فتحدَّث أوديسيوس في وسطهم، عاجمًا عود راعي الخنازير، ليرى ما إذا كان يُمكِنه أن يخلع عباءته ويُعطيه إياها، أو إذا كان سيأمر شخصًا آخر من رفاقه بأن يفعل ذلك، حيث إنه كان يحتفي به احتفاءً بالغًا فقال:

«استمع إليَّ الآن، يا يومايوس، وأنتم يا سائر رجاله جميعًا، فسأقُص عليكم حكايةً من تلقاء نفسي؛ إذ تأمرني بذلك الخمر الدنسة، التي تدفع المرء، مهما كان حكيمًا، إلى الاسترسال في الغناء والضحك، وتُزيِّن له أن ينهضَ فيرقص، نعم وتُخرج من بين شفتَيه ألفاظًا، من الحكمة الإمساك بها. ومع ذلك، فبما أنني قد صارحتُكم القول من قبل، فلن أخفي الآن شيئًا. ليتني كنتُ شابًّا في قُوتي المكينة التي كانت لي عندما أعددنا الكمين، وأحكمنا إعداده تحت أسوار طروادة. كان قادة ذلك هم أوديسيوس ومينيلاوس بن أتريوس، وأنا ثالثهم؛ لأنهما هكذا دبَّرا الأمر بأنفسهما. وعندئذٍ لما بلغنا المدينة وحائطها الشديد الانحدار، الذي يُطوِّق المدينة، فرقَدنا في الغابة الكثيفة بين القصب والأرض المُوحِلة، مُحتجبين بسواعدنا، ثم أقبل الليل، داجيًا عندما هبَّت الريح الشمالية، وكانت شديدة البرودة، وهطَل الثلج علينا من فوقنا، فغطانا كأنه الصقيع، البالغ البرودة، وتراكَم الثلج فوق دروعنا. كان لدى الجميع معاطف وعباءات، فناموا في سلام، واضعين دروعَهم فوق أكتافهم، ولكنني، عندما ظعنتُ، كنتُ قد تركتُ عباءتي ورائي، مع رفاقي في حماقتي؛ لأنني لم أكن أتصوَّر أن سيبلُغ بي القَر تلك الدرجة، وجئتُ بدرعي فقط وبخوذتي اللامعة. بيد أنه عندما كان الهزيع الثالث من الليل، وقد دارت النجوم في فلَكها، تحدَّثتُ إلى أوديسيوس الذي كان قريبًا مني، واكزًا إياه بمرفقي، فأصغى إليَّ من فوره، وقلت له:

«يا ابن لايرتيس، يا سليل زوس، يا أوديسيوس الكثير الحيل، العجيب، إنني لن أكون الآن بين الأحياء. كلا، فإن الزمهرير لَيقتلني، لعدم وجود عباءة معي؛ فإن أحد الآلهة قد خدَعني فارتديتُ عباءتي ليس غير، والآن ليس هناك أي مجالٍ للنجاة.»

هكذا قلتُ، وبعد ذلك دبَّر الخطة التالية في فؤاده؛ إذ كان داهية في وضع الخطط وفي القتال، فتكلم بصوتٍ منخفض، وقال لي: «صه الآن، خشية أن يسمعك شخصٌ آخر من الآخيين.»

بهذا رفع رأسه فوق مرفقه، وتحدَّث، قائلًا: «أصغوا إليَّ، يا أصدقائي، لقد جاءني حلم، من لدن الآلهة، في نومي. وا عجباه! لقد وصلنا بعيدًا جدًّا عن السفن، وكنت أتمنى أن يكون هناك من يحمل كلمة إلى أجاممنون بن أتريوس، قائد الجيش، عسى أن يأمر عددًا أكبر من الرجال بأن يحضر من السفن.»

هكذا قال، فقفز ثواس Thoas١٨ ابن أندرايمون Andraemon، ناهضًا في سرعة وخلع عنه عباءته الأرجوانية وشَرع يجري إلى السفن، فأخذتُ رداءه، ورقدتُ فيه مسرورًا بعد ذلك، ثم لاح الفجر الذهبي العرش. كم أتمنى أن أكون شابًّا يافعًا كما كنتُ في ذلك الوقت، في قوتي البالغة؛ عندئذٍ كان أحد رعاة الخنازير في هذه الضيعة يُعطيني عباءته بدافع الشفَقة وبدافع تبجيل محاربٍ مقدام، ولكنهم يحتقرونني، كما هو الحال؛ لأنني أرتدي أسمالًا بالية.»

يومايوس يفوز بثقة أوديسيوس

إذن رددتَ عليه يا يومايوس، يا راعي الخنازير، فقلتَ: «ما أجمل القصة التي رويتَها، أيها الرجل العجوز! وحتى الآن لم تنطق بشيءٍ خارج أو عديم الجدوى؛ ومِن ثَمَّ فلن يفتقر مُتضرِّع في شدة التعب، إلى ملبسٍ أو إلى أي شيءٍ آخر، عندما يقابل امرأً — لهذه الليلة على الأقل. أما في الصباح فسوف تخلع عنك هذه الملابس الرثة؛ إذ ليس هنا عباءاتٌ كثيرة أو معاطفُ يمكنك أن ترتديها، ولكن لكل رجلٍ عباءةٌ واحدة فقط. وعندما يجيء ابن أوديسيوس العزيز، سيعطيكَ أنت نفسك معطفًا وعباءة تلبسُهما، وسيُرسِلكَ إلى أي مكانٍ يريد قلبه وروحه أن يُرسلاك إليه.»

ما إن قال هذا، حتى نهض وأعد فراشًا لأوديسيوس، بالقرب من الوطيس، ووضع فوقه جلود الأغنام والماعز، فرقَد أوديسيوس هناك، وغطَّاه راعي الخنازير بعباءةٍ عظيمة سميكة، كان يحتفظ بها كرداءٍ له إذا ما هبَّت ريحٌ عاتية.

وهكذا نام أوديسيوس هناك، ونام إلى جانبه الرجال الشبان. أما راعي الخنازير فلم يكن يروقُه فِراشٌ في ذلك المكان؛ إذ لا يَودُّ أن يرقُد بعيدًا عن الخنازير وعلى ذلك تأهب للخروج، فسُر أوديسيوس أنه كان يعتني كثيرًا بأموال سيده في أثناء غيابه، فبدأ يومايوس بأن علَّق سيفه الحاد فوق كتفَيه القويتَين، ثم الْتفَّ بعباءةٍ كثيفة، تدرأ عنه الريح، والتقط جزَّة ماعزٍ كبيرة مُسمَّنة جيدًا، وتناول رمحًا حادًّا ليدفع به الكلاب والرجال، ثم ذهب ليرقُد حيث كانت الخنازير ذات الأنياب البيض ترقُد أسفل صخرةٍ ضخمة، في مكانٍ لا تصل إليه الريح الشمالية.

١  ويترجمها البعض: «بشق اللحاء الأسود».
٢  أجمل نساء عصرها، وابنة زوس وليدا، وزوجة مينيلاوس ملك لاكيدايمون الذي أنجبَت منه هيرميوني. وأحبها باريس الطروادي الذي خطفها بحرًا إلى طروادة، فنَشبَت بسببها الحرب الطروادية المشهورة.
٣  وفي كل مكانٍ آخر تبدو هذه الكلمة بمعنى: «بِرِقَّة»، ولكن تركيب الكلمة اليوناني غير مؤكَّد.
٤  الترجمة الحرفية: يبذر حبوب الشر للمغازلين.
٥  حرفيًّا: بالطعام.
٦  أي حماسية.
٧  رأَينا أن نأخذ برأي بعض الدارسين الذين ترجموا هذه الكلمة اليونانية: «بيوم» بدلًا من «عام»، وعلى رأسهم العلامة مونرو.
٨  أو: «كل من كان أقل مني في سرعة القدمَين».
٩  قطاعٌ جبلي بطول شاطئ سوريا ما بين البحر الأبيض المتوسط ولبنان. من المحتمل أن يكون أصل الاسم إغريقيًّا بمعنى «أحمر كالدم»، وفي هذا إشارة إلى الأرجوان الذي كان الفينيقيون يُتاجرون فيه.
١٠  إنها الاسم الإغريقي لقارة أفريقيا.
١١  الترجمة الحرفية «الثائر»، ولكن هناك من يترجمها «الضخم» أو «البالغ الطول».
١٢  الترجمة الحرفية: «ككساء».
١٣  كاهن زوس وهو من أقدم كهنة بلاد الإغريق. كان يعطي إجاباته بواسطة حفيف أشجار البلُّوط والزان الصادر عن هبوب الريح. وكانت تُعلَّق أوانٍ نحاسية فوق الأشجار حتى يُصبح الصوت قويًّا عندما تصطدم الواحدة بالأخرى.
١٤  ابن الملك بيلياس، ملك إيولكوس. لعب دورًا خطيرًا في حملة الأرجو وفي الصيد الكالودوني، وقد اتهمَته زوجته عند أكاستوس بسوء السلوك وذلك لحبها لبيليوس وزجره لها، فجرد أكاستوس بيليوس من سيفة أثناء الصيد بينما كان يغُط في نومٍ عميق حتى لا يُحرك ساكنًا أمام القنطوري، ولكن القنطور خيرون أنقذ حياته.
١٥  هذه الكلمة مشكوك في ترجمتها، فمونرو Monro يقترح المترجمة التي أخذنا بها هنا في حين يترجمها يوستاثيوس Eustathius وأنصاره «المجذاف الموجة».
١٦  ابنة أطلس وأكبر وأجمل البلاياديس، ووالدة هيرميس من زوس الذي أنجبته في كهف على جبل كوليني Cyllene.
١٧  الترجمة الحرفية: «كُلْ».
١٨  أحد العاشقين العديدين لهيلينا؛ ولذا ذهب إلى الحرب الطروادية قائدًا أسطولًا مكونًا من أربعين سفينة. كانوا يرمزون إليه كمحاربٍ جسور وخطيبٍ مفوه في القتال عند طروادة. كان أحد الأبطال الذين خُبِّئوا داخل الحصان الخشبي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤