الفصل الثاني والثلاثون

لا يَيْأَسَنَّ نائمٌ أنْ يَغْنَما

وظل دارتانيان يركض في سكك باريز على هيئته تلك حتى بلغ باب أتوس، فقرَعه ففتح له الخادم، فدخل من غير أن يتكلم، فصاح به الخادم وهو يظنه امرأة: ماذا تريدين أيتها المرأة؟ أفي مِثْل هذه الساعة يَغْشَوْنَ البيوت؟ فقال له دارتانيان: صَهٍ يا غلام أنا دارتانيان، فأين مَوْلَاك؟ قال: كَذَبْتِ يا لَكَاعِ، فإن دارتانيان رجل ولستِ بدارتانيان. وكان أتوس قد سمع صياح الخادم فخرج من غرفته، ولما نظر إلى دارتانيان ضَحِكَ حتى استلْقَى على قَفَاهُ، فقال له دارتانيان: أقْصِرِ الْمِزاحَ فالأمر أعظم من ذلك. فقال له: أجريحٌ أنت؟ وإلا فمالي أراك أصفر الوجه؟ قال: لا، ولكني قطعْتُ هولًا عظيمًا، فهل أنت وَحْدَك؟ قال: نعم. فوثب دارتانيان إلى الغرفة وأقفل الباب، فقال له أتوس: أَخْبِرْني هل مات الملك أم قُتل الكردينال؟ أم ماذا فعلْتَ؟ فقال: رُويْدَكَ أَقُصُّ عليك الأمر، ولكن حتى أخلعَ ثيابي هذه. ثمَّ خلع ثيابه ولبس غيرها من ثياب أتوس ودنا منه، وقال له: إن ميلادي موسومة بزهرة زَنْبَق على كتفها. فأجفل أتوس إجفالَ الْحَمَل كأنَّ صاعقةً هبطت عليه، فقال له الفتى: عساها التي أَخْبَرْتَني عنها؟ قال: أليست بيضاء اللون زرقاء العينين سوداء الحاجبين لا تبلغ الثلاثين من العمر؟ قال: هي تلك، والزهرة على كتفها تكاد تزول، وما أظنها إلا فرنسوية. قال: لا بدَّ من أن أردها. قال: إياك وإياها لئلَّا تَكِيدَ لك كَيْدًا ونحن مسافرون عن قريب إلى روشل، فدع غضَبها عليَّ وَحْدِي، ثمَّ قصَّ عليه القصة من أولها إلى آخرها، فقال له: احْذَرْ على نفسِك منها، فإني أظنُّ أن لها يدًا مع الكردينال، ولكن ما فعلت بنفقة سفرك؟ وما أراك إلا قليل الاعتداد بها لأن معك هذا الخاتم؟ قال: ذكرت لي أنه خاتم عائلة، فما شأنه؟ قال: نعم، اشتراه أبي بأَلْفَيْ قطعة من الفضة وأهداه إلى أمي، فأخذْتُه منها وأهديتُه لهذه الغادرة. قال: إذن فخُذْهُ. قال: كيف آخذه وقد دنسَّتْه الفاجرةُ بكفها؟ قال: ألَا تَبِيعَه؟ قال: مَعاذَ اللهِ أن أبيعَ هديةً من أمي. قال: إذن فارْهَنْه وتَجَهَّزْ بثمنه ثمَّ اسْتَرِدَّه. قال: أفعلُ، ولكن على شرط أن نقتسم المال. قال: ذلك فوق الحاجة وأنا في غنًى عنه، ومعي خاتم آخر. قال: ما لنا ولذلك، فإما أن تقاسِمَني ثمنَه أو أرميه في النهر. قال: إنِّي إذن أقبل. ثمَّ خرجا إلى بيت دارتانيان فلاقاهما صاحبُ الفندق. وقال للفتى: إن عندَك في الدار فتاة حسناء وهي في انتظارك، فقال: هي كاتي واللهِ، ثمَّ وَثَبَ إلى البيت فوجدها جالسة كاسفة اللون ترتعد فَرَقًا، فقالت: لقد أمَّنتني على حياتي فلا تحنث. قال: لا تخافي، فما جرى بعد ذهابي. قالت: لا أعلم سوى أنها دعت بخدمها وهي تُرْغِي وتُزْبِد، فخَشِيت أن يُصيبَني منها مكروه أو تظنُّ بي شيئًا فهربت إلى هنا. قال: وما أصنع بكِ وأنا مسافر بعد غد؟ قالت: تُخْرِجُني من باريز أو من فرنسا أو تضعني عند أحد أصحابك بحيث لا يدري بي أحد. ففكر دارتانيان قليلًا ثمَّ دعا بخادمه فقال له: اذهب إلى أراميس وادْعُه لي في الحال. فخرج ولم يَمْضِ قليلٌ حتى دخل أراميس فقصَّ عليه القصة. قال: نعم أرسِلْها إلى إحدى النساء الأشراف في فرنسا، فإنها طلبتْ مني فتاةً مثلها. ثمَّ جلس فكتب لها كتابًا بذلك، وودَّعت الفتى وخرجت، وعاد أراميس إلى منزله، ونزل دارتانيان وأتوس إلى السوق فرَهَنا الخاتم على ألفي دينار اقتسماها، وذهب أتوس وهو يقول: لا ييأسن نائمٌ أن يغنما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤