الفصل الخامس والثلاثون

حصار روشل

وكان حصار روشل من أعظم الحوادث التي جرت في مُلْك لويس الثالث عشر وأعظم معارك الكردينال، ولا بأس أن نُلِمَّ هنا ببعض تفاصيل هذا الحصار ليكونَ الْمُطالِعُ على بَيِّنةٍ من أمر هذا التاريخ.

إن المدن التي وَهَبَها هنريكوس الرابع للبروتستان ليعتصموا بها من سطوة الكاثوليك ذهبت منهم، فلم يَبْقَ إلا روشل، فعزم الكردينال على أن يهدِمَ هذه المدينة وينزِعَ من البروتستان كل ثقة وأمن، فجاهر البروتستان فيها بالحرب، واجتمع تحت لوائهم كثيرٌ من الإسبان والإنكليز والإيطاليين على اختلاف طبقاتهم، وكان مِيناها آخِرَ مِينا بَقِيَ للإنكليز في فرنسا. فعزم الكردينال على أن لا يُبْقِيَ للإنكليز موطئَ قَدَمٍ في فرنسا، جاريًا في ذلك على سَنَن جان دارك والدوق دي كيز، ولقد كان أحد قواد فرنسا يقول: إن أخذ روشل مستحيل رابع لأنها كانت مُمَنَّعَة بجزيرة ري تُمِدُّها بالذخيرة والجنود من إنكلترا. ولم يكن سبب تلك الحرب إلا عشق بيكنهام للملكة وغيرة الكردينال عليها لأنه كان يتعشقها، فدافعه عنها بيكنهام؛ ولذلك فقد كان ريشيليه الكردينال يمزج الدفاع عن فرنسا بالانتقام من خَصْمه بيكنهام لأنه كان على يقين من أنه إذا حارب إنكلترا فإنما يحارب بيكنهام، وإذا انتصر عليها فكأنه انتصر عليه، وإذا أذلها فقد أذله في عيني الملكة. وكانت مقاصد بيكنهام في تلك الحرب كمقاصد الكردينال لا تعدوها في شيء، وكانت قصارى رغبته فيها أن يدخل فرنسا فاتحًا لأنه لم يَقْدِر على دخولها سفيرًا، فكانت الحربُ قائمةً على قَدَمٍ وساقٍ، تَذْهَب الأرواحُ فيها مع دُخَان المدافع والبنادق وتَسِيل على شفرات السيوف وشَبَا الأسنةِ في سبيل عشق يتنازعه عاشقان، ولله في خلقه شأن.

وكان النصر في بداءة الأمر للورد بيكنهام، فأخذ جزيرة ري بتسعين أصطولًا وعشرين ألف رجل، وقهر الكونت تواراك واليها من قِبَل ملك فرنسا بعد حرب شديدة، وهرب الكونت واليها فاعتصم في قلعة سان مارتين مع حامية المدينة، ووضع مئة من رجاله في حصن يُدعى حصن لابري، وهو ما دعا الكردينال إلى استلام إدارة الحصار في روشل. وكان أخو الملك قد سبق إليها بكتيبة من الجيش، وكان في عزم الملك أن يرافق الكردينال في مَسِيره لولا أنْ أَلَمَّ به مِنْ تَوَعُّك الْمِزاج ما أخَّره فتأخر معه الحراس، وانفصل دارتانيان عن أصحابه وسار مع حرس دي زيسار، فبلغوا روشل في اليوم العاشر من شهر أيلول سنة ١٦٣٧، وكان الدوق بيكنهام عند وصولهم يحاصر قلعة سان مارتين وحصن لابري ويدافع الفرنسويين عن مدينة روشل.

فأقام دارتانيان في ذلك الحصار وحيدًا لا مُؤْنِس له، يحيق به أعداؤه ويترصدون قتله وهو بعيد عن أصحابه. وفيما هو ذات يوم ماشٍ يفكِّر في أمره ووَحْدَتِه ومحبوبته وما صنعتْ بها أيدي الزمان وما عسى أن تفعلَ به ميلادي، وقد أَبْعَدَ عن الطريق ورَفْرَفَ جُنْح الظلام، وإذا به يرى رجلًا كامنًا وراءَ سِيَاج وهو يترصده، فأوجس منه وتقدَّم في طريقه فرأى رجلًا آخر كامنًا له وراء صخر، فعاد إلى الرجل الأول فأطلق الرجل عليه رصاصة فأخطأته، ثمَّ أطلق الرجل الآخر فلم يُصِبْه. وكان دارتانيان أعزلَ، فعَلِمَ أنه يُغَرِّر بنفسه إذا هاجم عَدُوَّيْهِ، فأخذ يَعْدُو إلى المعسكر. وكان الرجلان قد أطلقا عليه ثانية فأصابت الرصاصة قَلَنْسُوَتَه فخَرَقَتْها، وخلص دارتانيان بجريعة الذقن إلى المعسكر وهو يقول في نفسه: لا بدَّ لهذا الأمر من أحد أسباب ثلاثة، إمَّا انتقامًا من أهل روشل أو من الكردينال أو من ميلادي، ثمَّ نام وهو خائف من أن يداهمَه أحَدٌ، فكان يهبُّ مِنْ نومه مذعورًا كأن عدوًّا يهاجمه حتى تَبَلَّجَ الصباح وبدأ القتال. وكان الدوق دورليان يزور مراكز الجيش وهم صفوف، فنظر دارتانيان وهو بين صَفِّه فوجد دي زيسار يشير إليه بالدنوِّ، فترك الصفَّ ودنا فقال له: إن أخا الملك يُريد بعض المتطوعين لأمر خطير، فلا تَفُتْكَ هذه الْمَأْثُرَة. قال: نعم، فأنا لها. وكان البروتستان قد فتَحوا في الليل حِصنًا ويريدُ الفرنسويين أن يقفوا على بعض شأنهم، فوقف أخو الملك وقال: أحتاج في هذه الليلة إلى أربعة رجال يقودهم فتًى شجاع، فقال دي زيسار: أما الفتى الشجاع فعليَّ وجدانه، وهو هذا (وأشار إلى دارتانيان) فلْيَخْتَرْ من يشاء. فرفع دارتانيان سيفه وقال: من يتبعني للموت يا قوم؟ فوثب من فِرْقته رجلان ثمَّ تَبِعَهُما آخَرانِ من الجند، فرَدَّ دارتانيان مَنْ تَقَدَّمَ بعدَ ذلك. وكانت بعثته في أن ينظر هل في الحصن حاميةٌ أم هو مُهَدَّم مهجور. فسار برجاله الأربعة، وكان الحرسيان اللذان من فِرْقته يَمْشِيان إلى جَنْبَيْهِ والجنديان وراءَه، فلما دنا من الحصن التفت إلى الجنديين فلم يرَهما فظنَّ أنهما خافا من القتال فرجعا، فتقدم بالحرسيين حتى صار على مقربة من الحصن وإذا بالرصاص يُدَوِّي والدُّخان ينتشر من الحصن، فعَلِمَ أن فيه حاميةً وهو ما يريد عِرْفانه، فعاد برفيقيه وإذا برصاصة أصابت أحدَهما فخرَّ صريعًا، وسار رفيقُه يَعْدُو إلى المعسكر. ولم يشأ دارتانيان أن يترك القتيل، فدنا منه لِيُنْهِضَه وظن أنه جريح وإذا برصاصة أصابت رأس القتيل وأخرى أصابت الصخر ومرت بقرب دارتانيان، فعلم دارتانيان أن الرصاصتين ليستا من الحامية بل هما من الجنديين، والتفت فرآهما كامِنَيْنِ له، فسقط إلى الأرض مُتَماوِتًا، فظَنَّاهُ قد أُصيبَ فدَنَوا منه ولم يحشوا بندقيَّتَيْهِما، فلما صارا على مقربة منه وَثَبَ إليهما، ففرَّ أحدُهما إلى نحو الحصن فأصابته رصاصة من حاميته فخرَّ صريعًا، وحَمَلَ دارتانيان على رفيقه فرماه إلى الأرض وبَرَكَ على صدره، فقال له: لا تقتلْني يا سيِّدي أُخْبِرْكَ بالأمر. قال: وهل سِرُّكَ يوجِب العفوَ عنك؟ قال: نعم، قد أرسلَتْنا امرأة تُدْعَى ميلادي ولا أعرفها. قال: وكيف إذن تعرف اسمها؟ قال: عَلِمْتُه من صاحبي هذا وهو صاحبُ الأمر، وأنا تابعٌ له بالأجرة، ومعه رسالةٌ منها. قال: أعفو عنك ولكن على شرط أن تذهب إليه وهو طريح فتأتيني بالرسالة. قال: أخشى أن يصيبَني ما أصابه من حامِيَة الحصن. قال: إن لم تذهب فإني قاتلك لا محالة، وقد تَسْلَم من الحصن، وبعض الشر أَهْوَنُ من بعض. قال: أَعْفِني يا مولاي بحق حبيبتك التي تظنها قد ماتت وهي باقية. قال: ما أدراك أن لي حبيبة؟ قال: مِنْ رسالة صاحبي. قال: ذلك ما يَزيدني رغبةً في أنْ أرى الرسالة، فعجِّل بها وإلا قتلتُك. فأطاع الرجل وسار يَتَعَثَّر بأذياله وهو يُرْعِدُ فَرَقًا، فناداه دارتانيان: ارْجِعْ ثَكِلَتْكُ أمُّك فما أنتَ بصاحبها، ثمَّ أخذ يزحف على بطنه حتى انتهى إلى الجريح وجعل يبحث في جيوبه وهو لا يهتدي إليها حتى اعْتاصَ عليه وجدانُها وخشيَ أن يصيبه مكروه، فاحتمل الرجلَ على ظهره وسار به، وإذا برصاصة قد أصابت القتيل وهو على ظهر دارتانيان، فقال: تبارك الله فقد خلَّصني مَنْ كاد يقتلني. واستمر به سائرًا حتى أمن بلوغ الرصاص إليه، فوضعه وأخذ يبحث في ثيابه حتى وجد الرسالة، ففَضَّها وقرأ:

إذ كنتَ قد عجزت عن الامرأة وأفلتت منك إلى دَيْرٍ يمنعها وَجَبَ عليك أن تَتَأَثَّرَ الرجلَ أو يَحُلَّ عقابي عليك وتُحْرَمَ المال.

فعرف دارتانيان من الخط أنها من ميلادي، فوضعها في جيبه، وسأل الجريحَ عن الأمر فقال إنه قد وُكِّل إليه القبض على امرأة فتشاغل في الطريق ففاتَتْه، وأنه كان مأمورًا أن يضعَها في مكان في الشارع الملوكي، فعرف الفتى أن المكان بيت ميلادي، وأن الملكة عرفت محبسها فخلَّصَتْها إلى دَيْر، فدَعَتْه ليراها قبل أن تذهب، ثمَّ الْتَفَتَ إلى الجريح وقال له: استند عليَّ وهَلُمَّ إلى المعسكر. قال: أظنك قاتلي لا محالة يا مولاي. قال: لا تَخَفْ. وسارا حتى بلغا المعسكر وشاع خبر دارتانيان، وأخذ الناس يُهَنِّئونَه بسلامته، وأقام آمنًا مِنْ عَدُوَّيْهِ؛ إذ قُتل أحدُهما واسْتُرِقَّ الآخر، ولكن ميلادي لم تَنَمْ عنه، وعَيْنُ الْمَوْتُورِ لا تنام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤