الفصل الخمسون

اليوم الخامس من الأسر

وكان الساعة تمر بها دهورًا والدقائق شهورًا، وهي تتجرع أَمَرَّ من الصبر وتتقلب على أَحَرِّ مِنَ الْجَمْر، حتى كانت الساعة العاشرة، فجاء فلتون فوضع على الباب حارسًا جديدًا ورجع من غير أن يدخلَ لأن الوقت لم يَئِنْ بَعْدُ. ثمَّ قرعت الساعة الثانية عشرة، فاستُبْدِل الحارس، وسمعت ميلادي فلتون يقول له: إياكَ ومفارقةَ الباب فيصيبك من العقاب ما أصاب رفيقَك بالأمس، وأنا داخل على هذه المرأة لأستوثقَ منها فلا تُفْلِت، فإذا ناديتُك فادخل وإذا نوديت فأبلغني، ثمَّ دخل على ميلادي فقالت: أَتَيْتَ؟ فقال: نعم على ما وعدت. قالت: وقد وعدَتني بشيء آخر. قال: وما ذاك؟ قالت: مُدْيَة تأتيني بها. قال: أَعْرِضي عن ذلك يا ميلادي، فما أظنُّ في حالات الإنسان ما يُلجئه إلى الانتحار، وأنا لا أجاريك على ذلك. قالت: إذن لا أخبرك بأمري، فاخرج عني ودعني. قال: هذا ما تطلبين. وأخرج من حزامه مُدْيَة، وهو يتردد في تسليمها إياها، فقالت: ما بالُك تتردد؟ فواللهِ لا أفعل شيئًا حتى أُتِمَّ لك قصتي، فضعها على المائدة وقِف بيني وبينها، ثمَّ أخذَتْها وتأمَّلَتْها طويلًا وردَّتْها إليه، فوضعها وراءه، فقالت: اسْمَع يا فلتون ما جرى لي.

لما كنت في إبَّان الشباب ومقْتَبل العمر وزهرة الجمال أُخذت بحيلةٍ وحاول آخذي أن يراودني عن نفسي فأبيت واعتصمت، فبالغ في الطلب بين اللطف والشدة والوعد والوعيد حتى أَعْيَتْهُ الحيلةُ واعْتاصَ عليه الأمرُ، فعمد إلى مُنَوِّم فمزجه لي بالماء وسقاني منه وأنا لا أدري، فما كاد يستقرُّ بي حتى شعرت بالدوار وغلب عليَّ النُّعاس وارتخت قُواي حتى عجزت عن القيام، فوقعت على كرسيٍّ منعقِدَةَ اللسان واهية العزْم، ثمَّ نِمْتُ نومًا ثقيلًا، فلما انتبهت إذا أنا في غرفة مدورة لا ينفذ إليها النور إلا من نافذة في السقف، ولا باب في جدارها يظهر للعين، فجعلْتُ أفكر في أين أكون وما جرى بي، فلا أهتدي إلى شيء ولا أرى حولي سوى الجدران، حتى توهمت أني في حُلْم، ثمَّ قمت إلى ثيابي فلبستها وتحققت أني لست في البيت الذي كنت فيه، وأني نمت يومًا كاملًا، ولم أَدْرِ ما جرى لي في خلاله. وكانت غرفتي مفروشة فرشًا يليق بالنساء كأنها غرفة امرأة، فجعلت أطوف فيها كالهائم، وألمس الجدران فلا أهتدي فيها إلى بابٍ، حتى أَطْبَقَ الظلام، وكان حالكًا جدًّا في غرفتي لانقطاع النور عنها. وبَيْنا أنا أقَلِّب أجفاني في ذلك الظلام إذ سمعتُ صَرِيفَ بابٍ، ثمَّ رأيت نورًا قد سطع من نافذة السقف ورجلًا على مقربة مني وإلى جنبه مائدة عليها طعام، فعرفت أنه الرجل الذي كان يتبعني أينما ذهبت ويحاول خداعي وخرق حرمتي، فكان أول ما ذكَّرني أنه تمتع بي البارحة وأنا نائمة.

فثارت الْحَمِيَّةُ برأس فلتون وأخذته الْغَيْرة، فقال: تبًّا له وشُلَّت يداه. قالت: نعم، لعنة الله عليه، فكأنه كان يتوهم أنه غلبني وخضعت له إذا اغتالني في نومي، فجاء يطلب رضاي ويَعِدُني بالغنَى إذا جارَيْتُه في مراده واسترسلْتُ معه في بُغْيَته، فأخذت أشتمه أقبح الشتائم وأهينه أشد الإهانة بكلام يؤثِّر في الصخر ويحرِّك الجماد، وهو واقفٌ أمامي كالصنم لا يفعل فيه الكلام ولا تأخذه الْحَمِيَّة، ثمَّ دنا مني فنفَرْت إلى المائدة فرأيت عليها سكينًا فأخذتها وسددتها إلى صدري وقلت له: ارجع فالموت ولا العار. قال: يَعِزُّ عليَّ واللهِ أن تموتي قبلَ أن أنال منك نصيبًا على رِضًى منك، وموعدنا الليلة القادمة إن شاء الله. ثمَّ نفخ في بوق كان معه فارتفع السراج من السقف وأطبق الظلام، ثمَّ سمعت صَرِيف الباب وإذا أنا وحدي، فجلست أندب طالعي وأبكي على نفسي لوقوعي بين يدي رجل لا أحبه ولا أطيق أن أراه، وهو مع ذلك ظلوم غشوم. فقال لها فلتون: من هو هذا الرجل يا ميلادي؟ فلم تُجِبْه ومَضَتْ في حديثها فقالت:

وقضيتُ الليلةَ جالسة على كرسيٍّ تَرْتَعِد فرائصي لأقل حركة، ولم يحدث لي شيء حتى طلع الصباح، فنظرت وإذا ليس في يدي من الخوان غير السكين، وكان جُلُّ اعتمادي عليها. وكان النعاس قد هوَّم في رأسي، فقمت ووضعت الْمُدْيَة تحت الوساد ونِمت، فلما أَفَقْتُ رأيت خوانًا آخر قد أُحضر، فقمت وأكلت ما يمسك الرمق وخشيت أن أشرب من ماء المائدة فذهبت إلى ماء يخرج من الجدار بأنبوبة فشربت. وقضيت سحابة يومي على حالي تلك من الضَّجَر واليأس حتى خيم الظلام، وكانت عيناني قد تَعَوَّدَتا النظرَ في الليل، فرأيت الْخِوان يُمدُّ وعليه الطعام ثمَّ سَطَعَ الْقِنْدِيلُ في غرفتي من نافذة السقف، فعزمت على أن لا آكلَ إلا ما آمَنُ من دُخول مادة سامَّة فيه، فجعلت طعامي الأثمار والبيض وشربت من الماء الذي في الجدار، فإذا أنا أجد له طعمًا غير طعمه الأول فأمسكتُ عنه ورَمَيْتُ بالقدَح قبل أن أُفْرِغَهُ، وأخذ العرَق يَسِيل على وجهي فظننت أن أحدًا رآني أشرب من ماء الأنبوبة فمزجه بشيء سامٍّ، ثمَّ أخذتْني عوارضُ الأمس من الدُّوار والنُّعاس، ولكن أخف لقلة الماء الذي شَرِبْتُه، فأخذت أحاول نفسي وأمنعها من النوم حتى أَعْيَيْتُ فجلست وأنا بين نائمة ومستيقظة، ثمَّ خطرت لي السكين فقمت لآخذها من تحت الوسادة فلم تَحْمِلْني رِجْلاي فسقطت وأنا في حالة أشبه بحال النزاع لا قوة لي على النهوض لآخذ السكين، وفيما أنا كذلك رُفع القنديل فأظلمت الغرفة ظلامًا حالكًا، ثمَّ سمعت صَرِيف الباب وشعرت برجل يدنو مني، فذعرت وحاولت الفرار فلم أستطع فسقطت في يديه. فصاح بها فلتون: ألَا تخبريني مَنْ هذا الرجل؟ فلم تُجِبْهُ واستمرَّت في حديثها فقالت: فأخذت أدفعه عني وأتقيه بيدي وهو لا يَرْجِع ولا يَلِين حتى تمتعَ بي وأنا في اليقظة منهوكة القوى لا قدرة لي على الحراك.

فثارت في فلتون حَمِيَّة زائدة وغَيْرَة شديدة، فجعل العرَق يسيل من جَبِينه وأخذ يمزِّق ثيابه غَيْظًا وحَنَقًا، ومضت ميلادي في حديثها فقالت: فلما أَفَقْتُ من سكرتي بحثت على السكين فوجدتها وعزمت على عمل هائل الخطر عظيم الإجراء في جانب ضعفي وهو أن أقتلَه وإن يكن عملي هذا إثمًا لا يُمحى وذنبًا لا يُغفر، فتهيَّأت لذلك ووطَّنت نفسي على ارتكاب القتل، وقضيت نهاري على ذلك حتى جاء المساء، فأكلت من بعض الأثمار وصببت ما في الإبريق لأوهم أني شربت منه، وشربت من ماءٍ صافٍ حفظته في زجاجة عندي، ثمَّ أخذت أتظاهر بالأعراض التي كانت تصيبني ونهضت إلى السرير، فتوسدْتُه ومددت يدي تحت الوسادة وأنا قابضة على نصاب السكين، وأقمت على ذلك مدة طويلة حتى خَشِيتُ أن لا يجيءَ، ثمَّ رأيت النور يرتفع وأظلمت الغرفة، فرأيت شبحًا يدنو من سَرِيري، فجمعت ما بقيَ لي من القوى وتهيَّأت للعمل، فمدَّ يده إليَّ وحاذاني، فرفعت يدي بالجارحة وطعنته في صدره فراحت ضربتي خائبة كأني أضرب صخرًا لأنه كان دارعًا، فقبض على يدي وأخذ مني الْمُدْيَة وقال لي بتهكم وازدراء: كنت أظن أنك لِنْتِ بعض اللِّين، فإذا بي أجدك أشد مِراسًا من بادئ أمرك، وما أنا مِمَّن يَحْتَبِسون النساء جَبْرًا، وسأطلق سبيلَك في غدٍ. فقلت له: إياكَ وإطلاقي، فإنك لا تأمن لساني أن يُشَهِّرَك في الآفاق. قال: كيف تقولين؟ قلت: أقول إذا خرجت من هنا أقصُّ على الناس خبرَك واغتصابَك إيَّاي، ثمَّ أدل الحكومة على قصرك هذا مقر الشر والفساد، فإنك وإن تكن وزيرًا عظيم الشأن فإن فوقك ملكًا وفوقكما ربًّا يأخذ للضعيف من القوي. وما أتممت كلامي حتى شعرت بهزَّة في يده القابضة على يدي ثمَّ قال: إذن لا تخرجين؟ قالت: بل أموت هنا وأُقْبَر حيث ضاعت حرمتي وهُتك عرضي، ولعلك لا تعدم من صدى قبري ما يذيع أفعالك بين الناس. قال: إذن أنزع منك كل سلاح. قلت: لا يعدم المرء حيلة في قتل نفسه، فإذا قصدت أموت جوعًا. قال: ألا تَرَيْنَ أن الصلح أفضل من هذا الخصام إذا مَنَنْتُ عليك بالإطلاق؟ قلت: إذا فعلت لا تأمن إفشاء معايبك وإشهار نقائصك. قال: على ذلك لا تخرجين أبدًا، وأنا لا أبخل عليكِ بلوازم الحياة، فإذا امتنعت عن الطعام حتى تموتي كان ذلك من يدك. ثمَّ خرج عني وسمعت صَرِيف الباب على أثره، ولبثت جالسة أندب نفسي لا آكل ولا أشرب بقصد أن أموت جوعًا، وقطعت على ذلك سواد ليلي وبياض يومي وأنا أدعو الله وأتوب إليه عن ذنب بلا عمد وخطيئة عن غير قصد حتى أقبل المساء، فأقبل عليَّ وهو يقول: أَمَا عزمْتِ على الطاعة بالكتمان فأُخلِّي عنك؟ فاحلفي لي يمينًا على الكتاب إذا شئتِ. فقلت: وكتابِ الله العظيم لا أحفظ لك أيمانًا ولا أحبس عن إشهارك لسانًا في زلة ارتكبتَها معي ما بعدَها زلة ولا وراءها ذنب، وأنا موالية على أن لا أتركك حتى آخذ بثأري منك. قال: احذري من أن أُجْرِيَ معك علاجًا يمنع لسانك من الكلام أو يمنع كلامك من التصديق، فانتصحي لقولي وأنا تاركٌ لك بقية هذا الليل وطول النهار لتفتكري في أمرك وتعزمي عزمًا، فإما أن تتعهدي بالصمت والكتمان أو أجري معك أفعالًا تلبسك ما لبسك جلدك فتسقط دعواك بين الناس، وموعدنا المساء المقبل. وما أتمَّت ميلادي هذه الجملة حتى رأت فلتون يتلون ويرجف حتى كاد يسقط إلى الأرض لو لم يتَّكئ على الكرسي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤