الفصل الحادي والخمسون

تمام الحكاية

فأمسكت ميلادي قليلًا حتى هدأ رَوْعُه وسَكَنَ جَأْشُه، ثمَّ عادت فقالت: وكان قد مضى عليَّ ثلاثة أيام لم أَذُقْ فيها طعامًا ولا شرابًا حتى أضرَّ بي الجوع والعطش وضعف جسمي ووهى عزمي، فقضيت نهاري أجمع في ضَنْكٍ شديد وضيق زائد حتى كان المساء، وإذا به قد أقبل يتبعه رجلٌ وكلٌّ منهما شاكي السلاح، فقال لي: على ماذا عَزَمْتِ؟ أتحلفين؟ فقلت: أنا على ما قلت لك من أني لا أترك لك ثأري في هذه الدنيا ولا في الآخرة. قال: أما تحولين عن قصدك؟ قلت: لا واللهِ أو تُحَوَّل الرُّوح عن الجسد. قال: إذن أَضَعُ لك في جسمِك علامةً تحبس لسانك وتمنع كلامك من التصديق. ثمَّ التفت إلى الرجل وقال له: امْضِ فيما رسمتُه لك. فصاح بها فلتون: أما تخبريني عن اسمه؟ فقالت: فأخذت أَصِيح وأستغيث لعلمي أنه يقصد بي فعلًا أَمَرَّ مِنَ الموت، فلم يسمع الجلاد لي، بل طرحني إلى الأرض فوقعت على وجهي وأخذت أدعو عليه الله وأستغيث به وهو لا يسمع، وإذا به قد أتى بحديدة مُحماة إلى الْحُمْرة فوسَمني بها على كتفي. فصحت صيحة شديدة من الألم واليأس ولكن كان قد قُضيَ الأمر.

ولما انتهت من حديثها كشفت عن كتفها وقالت له: انظر فعل الخائن الماكر بفتاة أطهر من الملائكة، واعلم قلوب الرجال ولا تغرنَّك الظواهر. فقال: إنِّي أرى زهرة زَنْبَق. قالت: نعم وهي علامة العار والعهر والتهتُّك والفجور، فلو كانت علامة إنكلترا لدعوت عليه الناس ودفعته إلى القضاة، ولكنها علامة فرنسا فلمن أشكوه. فندم فلتون على تسرعه إلى تهمتها وأثَّرت فيه حكايتها تأثيرًا شديدًا حتى صار لونه كالبهار وجعل يقول لها: السماحَ السماحَ، وعيناه تقولان: الغرامَ الغرامَ، فقالت: مِمَّ أسامحك؟ قال: من مساعدتي لأعدائك. ثمَّ مَدَّت يدها إليه فجعل يقبِّلها وهي تنظر إليه بلحظٍ لو لحظت به الصخر لغادرته هشيمًا، فأكبَّ على رجليها يقبِّلهما، ثمَّ وقف أمامَها وقال: لقد بقيَ عليَّ شيءٌ واحد أسألك عنه، وهو اسم الفاعل. قالت: عجبًا! ألم تفطن له؟ قال: مَنْ عَساهُ يكون؟ هل هو بنفسه الظالم المجرم؟ قالت: نعم هو بعينه هادم إنكلترا وعدو الله والدين، المتهتك الفاجر والخليع الماجن سفاك الدماء، لعنة الله عليه. قال: هو إذن بيكنهام؟ قالت: إن لم يكن فمَنْ؟ قال: وهل مثله يعيش بعد ذلك وهو مكرم عزيز الجانب نافذ الكلمة مُطاع القول؟! قالت: إن الله يترك من يتركه، ونَسُوا الله فنَسِيَهم. قال: إذن يجب الانتقام منه ورد كيده في نَحْرِه ليعلمَ أن في الدنيا من ينتقم لله. قالت: ومن لك به وهو أمنع من عُقَاب الجو؟ قال: إلا عليَّ، فإني لا أهابه ولا أخشاه، وإني لأعجب من اللورد ونتر كيف يخالطه وهو كذلك. قالت: إن من الناس من يكون في الخفاء نذلًا لئيمًا وفي الظاهر عزيزًا كريمًا، ولقد كان لي فيما مضى من الزمان خطيب شهم مثلك يا فلتون، وكان قديم المعرفة بي، فأطلعته على أمري وقصصت عليه القصة فما شَكَّ في صدقها، ثمَّ أخذ سيفه وخرج إلى بيكنهام يريد أن يَفْتِكَ به فلم يَجِدْه. قال: لقد أحسن فيما صنع، ولكن مع مثل بيكنهام لا يُغْنِي إلا الْخِنْجَر. فقالت: وكان بيكنهام قد رحل إلى إسبانيا في بعض شأنه، فعاد زوجي وقال لي: إنه قد رحل ولكن رويدًا حتى يرجع، ولا بدَّ للورد ونتر أن يصون شرفه وامرأته. قال: إذن أنت امرأة اللورد ونتر؟ قالت: نعم، وقد كان غياب بيكنهام في إسبانيا سنة، وقبل مجيئه بثمانية أيام مات اللورد ونتر ولا أدري كيف مات، فلا أقدر أن أَتَّهِمَ بدمه أحدًا، فبَقِيتُ أنا بعدَه وريثة المال، فاغتاظ لذلك أخوه اللورد ونتر مودبك وحاول أخذ الميراث مني، فخفت على نفسي منه ورحلت إلى فرنسا وتركت له كل ثروتي في إنكلترا حتى انقطعت الصلات ونشبت الحرب واحتجْتُ إلى المال، فأتيت لأخذ بعض مالي فوصلت من ستة أيام إذ قبضت عليَّ، وما أظنُّ إلا أن بيكنهام عرف بقدومي فوشى بي للورد بأني مدموغة وأغراه بي فانخدع له وأخذني، وفي عزمه أن يرسلني بعد غد إلى المنفى بين المومسات حيث أفقد شرفي وحرمتي، وأي سبب أعظم من هذا أحب عليه الموت؟ فأعطني الجارحة أقتل بها نفسي، فلا خير في الحياة بعد ذلك … وما أتمَّت كلامها حتى سقطت كالواهية القوى بين يدي فلتون، فضمَّها إلى صدره وقد أسكرته خمرة الهوى وثارت به سَوْرَة الغيرة والغيظ، فقال: لا تموتين، بل تحيين مَصُونة كريمة لتنتقمي من أعدائك، فدفعته عنها بلطف وقالت: الموت ولا العار يا فلتون، فلا تبخل عليَّ به. قال: لا، بل تعيشين قاهرة ظافرة. قالت: أخشى عليك يا فلتون أن يلحقك بي بعض المكروه، فدعني أموت. قال: إذن نموت معًا، ثمَّ أهوى عليها يقبِّلها وهو ثمل بخمرة الحب. وإذا بالباب يقرع، فأفلتت ميلادي من يديه وقالت: لقد سمعونا فقد هلكنا. قال: لا تخافي، فإنما هو الحارس ينبِّهني، فلا بأس علينا. قالت: إذن فاذهب وافتح الباب. فذهب وإذا بالحارس يقول له: سمعتك تَصِيح يا مولاي فهممت بفتح الباب فوجدته مقفلًا، فقرعت ودعوت رفيقي لأرى ما أصابك فأوجب صياحك. وعلمت ميلادي أن لا خلاص لها إلا بفلتون ولا خلاص لفلتون إلا بها، فوثبت إلى الجارحة وقالت: دعني أموت، فلماذا تمنعني؟ فصاح الفتى بها مرعوبًا، وكان اللورد قد سمع الضوضاء فخرج متفضِّلًا وهو متأبط سيفه حتى وقف بالباب وقال لفلتون: دعها ولا تخش عليها، فهي غادرة ماكرة ولا جسارة لها على قتل نفسها. فعلمت ميلادي أن لا خلاص لها إذا لم تُرِ فلتون طَرَفًا من شجاعتها، فقالت: كذبْتَ يا لورد، فإن الشجاعة عندي، ثمَّ ضربتْ نفسها وهي لا تقصد القتل، فجاءت الضربة على جنبها فخرقت الثوب وشقَّت الجلد قليلًا، فسال دمها حتى صبغ رداءها وسقطت صرعى. فأسرع إليها فلتون وأخذ الجارحة من يدها وقال: أرأيت يا لورد كيف أن امرأة قتلت نفسها وهي تحت حراستي؟ قال: لا تَخْشَ عليها، فإن الشيطان لا يموت، فاذهب وانتظرني في غرفتي. قال: نعم ولكن … قال: اذهب ولا تقف. فدسَّ الجارحة في حزامه وخرج. ودعا اللورد بالخادمة وقال لها: استوصي بها خيرًا. ثمَّ خرج فأرسل رسولًا يدعو الطبيب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤