بدون إزعاج

جدَّتي تحبُّ الهدوء، وأكثر عبارة كانت تردِّدها:

«بدون إزعاج.»

يا الله، كم كانت تحب الهدوء! حبُّها للهدوء جعلها مُنظَّمة جدًّا، وكلُّ شجرة كانت تعتني بها، تُحوِّلها إلى سيِّدة أنيقة فريدةٍ، لها طراز خاصٌّ جدًّا. ثمار وشجيرات جدتي مميَّزة عن غيرها أيضًا، وهي مثال للهدوء في البلدة.

هدوءُها عَلَّمها كيف تتأمل، وتتنبَّأ ببعض الأشياء بحاسَّتها السادسة. تشعر بقدوم الماء بالخراطيم قبل وصولها إلى المزرعة. في الصباح ترتدي ثيابًا ثقيلة، رغم أن الجوَّ مُشمس، وحين يقول لها جدِّي: «الجو حار، هل أنت مجنونة تلبسين ثيابًا ثقيلة؟»

تبتسمُ، وتردُّ بهدوء: «البرد قادم يا عزيزي، أنا أَشَمُّه قبل أن يحضر، كعطر زهرات الأشجار.» وآنذاك يصمت جدِّي، ولا يدري بِمَ يردُّ.

كان هدوءُها، وتأمُّلها يساعدانها في الانتصار على جدِّي. في ذاك اليوم أصبح الجو باردًا جدًّا، وشعرَ جدِّي بقُشعريرة شديدة.

ضحكت جدَّتي منه، وقالت: «ألمْ أقل لك إنَّ البرد قادمٌ؟» فيردُّ جدِّي: «غير معقول ما يحدث معكِ!»

جدتي هي الوحيدةُ في البلدة التي شعرَتْ بموتها دون الآخرين؛ فقد وقفتْ أمام الشبَّاك الحديدي في مؤخرة البيت قائلةً: «أشعر بصوت مزعج قوي سيدمِّر مزرعتنا، الصوت له ذراع طويلة، وأشعر أني حينها سوف أموت، يا الله ما هذا الصوت الذي يصعب التعرُّف عليه؟!»

حدث ما تنبَّأت به، جاء الصوت المزعج، صوت آليَّات وجرَّافات كبيرة جدًّا وضخمة، زرعت جدارًا كبيرًا من الإسمنت طوله سبعة أمتار، قطع أشجار اللوز، وشَطَر مزرعتنا إلى نِصفيْن.

ركضنا إلى غرفة جدَّتي، لنخبرها بما حدث. كانت تُحتَضر وتَضعُ أصابعها في آذانها، وكانت تردِّد: «بدون إزعاج، بدون إزعاج، إلى الهدوء، إلى الهدوء …» وماتت قبل أن تَرى الجدار.

في ذلك الوقت أصرَّ جدِّي أن يدفنها في المزرعة بَعد الجدار، تحت أوَّل شجرة لوز، أوَّلِ هديَّةِ زواجهما. العائلةُ والجيرانُ، تعجَّبوا مما سمعوا من جدِّي.

قال الرجال في البلدة: «هذا موت، كيف ندفنها هناك؟ سوف يموت من يقترب من الجهة الأخرى، هذا صعبٌ، هذا جنونٌ.»

اقتربتْ إحدى صديقات جدَّتي قائلةً: «هناك طريقٌ مختصر للدخول من بين فتحاتٍ في الجدار إلى الجزء الآخر من مزرعتكم.»

نهض الجميع من أماكنِهم، ولم يناقش جدِّي المرأة، بل حمل جثمان جدتي، بمساعدة أولاده، ومشَوا خلف المرأة، دخلوا مِنْ فتحةٍ في الجدار بعرض مترين، وبارتفاع ثلاثة أمتار ليكون بها برج مراقبة للجنود. دخل جدِّي وأولاده وبعض الرجال بسرعةٍ، كأنهم يهربون من سِرْب دَبابير.

دُفنت جدَّتي في حفرةٍ سطحيَّة تحت أول شجرة لوز. وقبل أن يغادروا المكان وقف جدِّي ينظر إلى الأشجار، ويتحسَّس أوراقها، ويَمسح الغبار، وآثار الإسمنت والحجارة عنها، فأمسك أبي يده قائلًا: «لا وقتَ للحنين، هناك صوت دبَّابة قادمة.»

رغبت جدَّتي أن يُزرع الكرنب في المزرعة الموسمَ القادمَ، وكان جدِّي متردِّدًا، ولكنْ حين ماتت جدتي زرع الكرنب، وما زالَ يزرعه إلى يومنا هذا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤