دخل جدِّي ذكريات الدفتر الملون

عندما أطالع دفتري أتذكر جدِّي الذي كان مولعًا بقراءته كثيرًا؛ رغم أنه بالكاد يستطيع أن يقرأ لضعف نظره الشديد.

وكنت مولعة جدًّا بقراءة ما أكتب في الدفتر منذ أن اشتريته، وكل يوم أدوِّن ما أقابل.

لم أَعد كذلك، وكل شيء اليوم، لم يعُد كما في السابق.

كتبت في أول ورقة من دفتري:

مرَّت الأيام بما يُشيب الرأس من الجدار.

كنت حريصة على أن أخرج بإحساسٍ وشعور واحد، ولكني عندما فرغت اجتاحتني أحاسيسُ لا حصر لها، فطويتُ الدفتر، وألقيتُه بعيدًا، ولسان حالي يقول: ليس هناك ما يُقال.

عندما أشعر أني وحيدة تجتاحني ذكرياتي مع جدِّي، وتحاصرني.

هو الإنسان الوحيد الذي لم أشعر بالوحدة وأنا معه. كنا نجلس معًا في المزرعة بعد المغرب قريبًا من الأشجار المغروسة أمام الجدار، وكان يُصرُّ على أن يحمل كل شيء وحده نافيًا عن نفسه ما أَتَّهمُه به من أنه بلغ من الكبر عِتيًّا. يضع كرسيين و«تربيزة» صغيرة، ونجلس لشرب الشاي باللبن. عندما نجلس يمسك بيدي، ويثرثر، ويثرثر، ويقول: «أنت وحدَكِ من يستمع إلي.» فأمازحه قائلة: «سأخبر جدتي حين تأتي لي بالأحلام، وستحطم بعكازتها ما تبقَّى لك من أسنان يا جدِّي، فلا تثرثرْ بعدها، ولا تَشْكُ أنه ليس هناك من يسمعك.» تنطلق ضحكة مدوية من حنجرة جدِّي، ويسألني إن كان قد أثقل عليَّ، فأهزُّ مسرعة برأسي بعلامة النفي، وأقول: «لا لا، أنا أحبُّ أن أسمعك، وأحب أن أتحدَّث إليك.»

يصمت، ويصرُّ كعادته أن يسكب الشاي بنفسه، وكالعادة أرفع الكوب فأجده فارغًا، وأجد جدِّي قد صبَّ الشاي في الصينية، فأُهَمْهِم بكلمات تدل على الضجر، وأُمسك الإبريق، وأصب الشاي من جديد، وأقول لجدِّي: «كَبِرتَ.»

فيقول: «الظلام بُنَيَّتي.» وتعلو ضحكتي، يزجرني لأخفضَ صوتي، فأضحك حتى تدمع عيناي كعادتي، وأقول: «كبرتَ وربِّي، كبرتَ يا جدِّي، ألا ترى القمر وقد اكتمل؟ ألا ترى كل هذا الضياء والنور؟» يبتسم ويتناول كوب الشاي باللبن من دون سكر، ولعلَّ لسان حاله يقول:

ألا ليتَ الشبابَ يعود يومًا
فأخبرَه بما فعلَ المَشيبُ

جدِّي كان يحدِّثني عن التصالح مع الذات، كان يحدِّثني عن أشياء لا أفهمها في كثير من الأحيان، فأهزُّ رأسي، وقد أعقد حاجبيَّ، وأقول: «لم أفهم شيئًا.»

لم يكن يشرح لي، بل يقول فقط: «ستكبرين بُنيَّتي وستتعلمين الكثيرَ، الكثير، يكفيك أن تنصتي بهدوء لكل سكنة في الكون.» لعلَّه كان يعني أن الحياة وحدها تفسِّر نفسها.

أصمتُ وأرفعُ بصري إلى السماء فيَمرُّ شهاب، وتتلألأ النجوم على صفحة السماء، ويبدو القمر في أبهى حلة، فأبتسمُ، وأنظر إلى جدِّي، فأجده يُطيل النظر إلى وجوه المارَّة، يفترَّس ملامحهم، وعبثًا يحاول التعرُّف عليهم، فيسألني من هذا؟ ومن هذا؟

«هذا جارنا يا جدِّي.»

فيُلقي عليه التحية.

«والباقون؟»

«عابرو سبيل يا جدِّي.»

«مثلنا!»

«نعم.»

يغادر جدِّي مع جاره إلى المسجد، ويعود.

لدى جدِّي عادات غريبة، فهو يتناول الكوب الثاني من الشاي باللبن مع ملعقة واحدة من السكر، وقليل من البسكويت، بما تبقى له من أسنان. وأُخبره أنِّي أريد أن أنام أنا وابنتي زينة.

نعم تزوجتُ من شابٍّ يُشبه الجزائريَّ، وكانت رائحته تشبه رائحة جواد، حين حضر أول مرة لبيتنا، لم أقل لا، بل بكلِّ إصرار وافقتُ عليه. وبعد عام من الزواج رُزقتُ بزينة وأَسميتها على اسم جدَّتي.

هكذا هو جدِّي. عندما يطلب منِّي أن أتحدث، فأخبره أن ليس لديَّ ما يُقال.

«ربما، عندما أكبر قليلًا يا جدِّي، فسيكون هناك الكثير الكثير مما يُقال.»

«هل تعديني بذلك؟» ويعقد إصبعه الخنصر علامة الوعد، فأفعل مثله، ويشبك إصبعه بإصبعي، ويقول مبتسمًا: «كنا نفعل ذلك عندما كنَّا صغارًا.»

كنت أزور جدِّي كل أسبوع. آتي يوم الخميس من حارتي الجديدة، حارة زوجي، وأسهر معه حتى منتصف الليل.

يمرُّ اليوم ولا أروع منه! وأشعر بالحياة تملأ كياني، والدموع لا تفارق عيني من كثرة الضحك. نعود وعندما تفصلنا مسافة ساعة عن المزرعة، أو أقل عن الوصول إلى المنزل، يوقف جدِّي عربة الحمار، لنواصل سيرًا على الأقدام. وأسير معه، بطواعية، وأجد نفسي مع جدِّي متأبطةً ذراعه، والشمس توشك على المغيب، فنرى الشفق الأحمر، وقليلًا قليلًا تُداعبنا آخر خيوط الشمس معلنةً الرحيل، فنُسرع في خطواتنا حتى لا تَنامَ زينة على كتفي، فتشعر بالبرد.

اليومَ أَعدَّ جدِّي كلَّ شيء وحدَه، حتى الشاي، فلم يترك لي شيئًا أقوم به. جلسنا، وصبَّ الشاي. كانت الغيوم تحجب ضوء القمر، تناولتُ الكوب فوجدته ممتلئًا. وشعرتُ بالخوف، ولا أدري لِمَ تناول جدِّي كوبًا واحدًا من الشاي مع ثلاثِ ملاعق من السكر دون أن يتكلم، ثم قال: «تصبحين على خير، ديري بالِكْ على ابنتك زينة إنها تشبه جدَّتَكِ كثيرًا، أتمنى أن يكون حظها أفضل من حظِّ عائلتنا.» ثم ذهب إلى غرفته، وغادرتُ إلى غرفتي، وخَلَدتُ للنوم.

استيقظتُ الساعة الرابعة إلَّا ربعًا على صوت صراخ وعويل، انتفضتُ مذعورةً، وهرعتُ لأرى ما الأمر، وخوفي أن أسال من …؟

توفي جدِّي، وبقيت المزرعة تقاوم، والجدار يكبر يومًا بعد يوم. أبي وعمي وأولادهم كلهم يحاولون أن يقفوا أمام تهويدِ مزرعتنا.

دُفن جدِّي عند آخر شجرةِ لوز زرعَها هو وجدَّتي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤