موسم المشمش

لا وقت أكثر حبًّا عندي من موسم المشمش؛ فشوارع الحارة تمتلئ بالبائعين المتجولين للمشمش، والكلُّ يشتريه، ويهديه للآخر. المشهد يذكِّرني بأن الناس تشتري أقمارًا صغيرة. إن أردتَ أن تعرف طعم القمر، فَكُلْ حبَّة مشمش فقط، وإن أردت أن تتذوق طعم نصف القمر فقط، فاشْطُر الحبَّة نصفين. لا أعلم لماذا أشبِّه المشمش بالأقمار!

في هذا الموسم لا يُغريني الطَّعم، ومن أين يأتي المشمش بكميات كبيرة إلى الحيِّ وإلى الحارات من حولنا؟ ولكن الذي أهتمُّ له هو اللَّعب بنواة المشمش.

كنت أنا ومزيون وأطفال الحي حتى شبابنا، نجمع مئات من نوى المشمش، ونحشو بها جيوبنا. أتذكَّر هنا الهَبْلة، فأي شيء تحصل عليه من التسوُّل، أو العطف تَضعه في جيوبها، وفي مقدِّمة صدرها، وفي نهاية اليوم تبدو الهبلة كأنها كيس كبير منتفخ، ويبدو صدرها كأنه دكان بقالة صغيرة، أيُّ شيء يخطر ببالك تجده معها.

يأتي مزيون بملعقة، ويحفر حفرة صغيرة بحجم البرتقالة في أرض طينيَّة متماسكة، ويشارك باللعبة غالبًا ثلاثة أطفال، أو أربعة، حيث يضع كل واحد عشرَ نوَيَاتٍ في الحفرة، وكل واحد يمسك بيده نواتين، ويقذفهما بعنف في الحفرة، فأي نواة تخرج من الحفرة تكون ربحًا له. نظلُّ ساعاتٍ تحت الشمس نلعب، ثم يتحول اللعب إلى العراك على بذور المشمش، بتُهمة الغش في إلقاء النواتين في الحفرة. ونظل نتدافع، ويَشدُّ بعضُنا ثياب بعض، حتى يتنازل أحدنا عن نواة المشمش للآخر. وفي نهاية اليوم نعود إلى البيت بأكياس كبيرةٍ من نوى المشمش.

ليس هناك فائدة تُذكر لما نجمعه من النوى، سوى الشعور بأننا قد ربِحْنا شيئًا، فهي مجرَّد تسلية، نِهايتُها عِراك.

الوحيد الخاسر، هو الولد الأبيض، ذو الخدود المنتفخة، فحين يبدأ العراك، يحاول أن يهرب. ولكن مزيون يلحق به، ويمسكه، ويضربه، فتحمرُّ خدوده أكثر كأنها حبات طماطم طازجة.

لكن الغريب في هذا الولد، أنك تأخذ ما تشاء من ألعابه وخُبزه أو مصروفه، فلا يغضب، ولكنه يغضب بشدَّة حين تتَّسخ ملابسُه، ويصبح كثور هائج يضرب الكلَّ، حتى أنا ومزيون نفرُّ من المكان، كأنه مصارع أمريكي في الحلبة.

•••

لا يقتصر هذا الموسم الغنيُّ على اللعب بنوى المشمش، لكن الكثير من الألعاب تنتشر في هذا الصيف.

لعبة البَنانير «البِلى الكرويَّة البلوريَّة». كل عشرة أطفال يتجمعون في حلبة المنافسة لِلَّعب، يرسمون مثلثًا كبيرًا «مور» حيث يضع كل واحد خمسة بنانير داخل المثلث الكبير، ثم نرسم خطًّا مستقيمًا على بُعد مترين من المور، ويقذف كلُّ واحد بنَّورًا يُسمَّى الصياد ناحية المثلث، وحين يرتطم الصيَّادُ بالحبات يُخرجها من المثلث، فيحصدها ربحًا له، ثم يُكرِّر اللعب عشرات المرات، من قوانين اللعب الصعبة: عدمُ مغادرة اللاعب اللعبة، حتى يخسر كلَّ ما لديه من بنانير.

البنانير شهية للمشاكل، حين ترى أكثر من خمسين بنورًا داخل المثلث، وتبدأ رغبة السرقة عند الأطفال الذين لا يملكون البنانير.

كنت أراقب اللَّعِب من بعيد، وحين أشعر أن الأطفال لهم الرغبة في امتلاك بعض منها، أعطيهم الإشارة لهم بالهجوم على المثلث، فتبدأ حربٌ ضَروس كبيرة.

الأطفال البيض والأنيقون يبكون؛ لأنهم خسروا ما يملكون دون لَعِب، وثيابهم اتَّسخت من العِراك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤