مصر والسيادة على السودان
يربط نهر النيل بين القطرين المصري والسوداني منذ أزمنة سحيقة، ولا جدال في أن تتبع ما نشأ بينهما من مختلف العلاقات أمر له أهميته، غير أن الذي يعنينا الآن إنما هو الوقوف على حقيقة ناحية واحدة من تلك العلاقات في فترة معينة، ونقصد بذلك طبيعة الصلة التي ربطت بين هذين القطرين منذ الفتح المصري لبلاد السودان في أوائل القرن التاسع عشر، إلى أن عقد الوفاق الثنائي المشهور بين مصر وبريطانيا في آخر القرن نفسه.
وسنتناول بالبحث مسألتين على جانب كبير من الأهمية؛ هما: إظهار ما تستند إليه مصر من حقوق تاريخية في تحديد ما يجب أن يكون عليه «وضع» هذه الأقطار السودانية في ظل سيادة شرعية كاملة، وبيان نوع الحكم الذي أقامه المصريون في السودان. على أنه مما يجدر ذكره منذ البداية، أن هاتين المسألتين مرتبطتان كل الارتباط، بحيث لا يمكن التفريق بينهما بحال من الأحوال؛ إذ إن نوع الحكم الذي درج المصريون على تطبيقه في هذه الأقطار طوال تلك المدة يفسر طبيعة «السيادة» التي كانت لهم من أيام الفتح الأولى، والتي لم تتعرض قط دولة من الدول في أية مرحلة من مراحل هذا التاريخ الحافل لمناقشتها أو التشكيك فيها، بل إن هناك من الوثائق التاريخية ما يقطع بأن حقوق السيادة هذه كان معترفًا بها اعترافًا تامًّا من جانب الدول العظمى الأوروبية، وفي مقدمتها إنجلترا؛ تلك الدولة التي اشتركت مع المصريين في استرجاع السودان عقب حوادث الثورة المهدية، ثم أبرمت مع مصر وفاق الحكم الثنائي.
وفضلًا عن ذلك، فإن الحديث عن نوع الحكم الذي أقامه المصريون في السودان من شأنه أن يقضي على فكرة ظلت مسيطرة على العقول ردحًا من الزمن، ومؤداها: أن المصريين كان رأيهم من بداية الأمر استغلال السودان، فلم يعملوا لما فيه خير السودانيين ورفاهيتهم منذ عهد محمد علي إلى قيام الثورة المهدية، بل إن تلك الثورة لم تكن في عرف أصحاب هذا الرأي إلا نتيجة سوء الإدارة المصرية وتعسفها.
وأما حقوق السيادة ذاتها فقسمان: قسم يتعلق بالسودان الأوسط، ونعني به تلك الأقاليم التي يخترقها نهر النيل، وتقع على جانبيه، وتغذي أرضها وروافده؛ وهي: النوبة، وسنار، وكردفان، ودارفور، وجهات النيل العليا حول بحر الجبل إلى جنوبي غندكورو، وقسم آخر يتعلق بالسودان الشرقي؛ أي بتلك الأقاليم الممتدة على شاطئ البحر الأحمر الغربي بما فيها أرض الحبشة، وهرر، والساحل الصومالي، إلى رأس غردافوي.
وتستند مصر في سيادتها على جميع هذه الجهات إلى ما يخوله الفتح من سلطان، أو إلى ما استمدته من حقوق بحكم تبعيتها للدولة العثمانية، وانتقال أسباب السيادة إليها بفضل ما كانت تصدره تركيا من فرمانات وافقت عليها الدول، وزيادة على ذلك فإن الفتح ذاته إنما كان نتيجة استصدار فرمان من الباب العالي في بادئ الأمر.
وبفضل هذا كله أضحت حقوق مصر في السيادة على السودان بأجمعه جزءًا لا يتجزأ من تلك الحقوق التي كفلتها لمصر موافقة الدول على ذلك الوضع الممتاز، الذي تمتعت به منذ صدرت في عام ١٨٤١ تلك الفرمانات التي منحت أسرة محمد علي حكم مصر بالوراثة، بل إن هذه الحقوق ما لبثت أن تأيدت عندما استصدر إسماعيل العظيم فرمان الوراثة الصُّلبية في ٢٧ مايو ١٨٦٦ / ١٢ محرم ١٢٨٣.
وقد تقرر في هذا الفرمان «أن تنتقل ولاية مصر مع ما هو تابع لها من الأراضي، وكامل ملحقاتها، وقائم مقاميتي سواكن ومصوع إلى أكبر «أولاده» الذكور بطريق الإرث، وبالصورة نفسها إلى أكبر أولاد «ذريته» …» وقبل ذلك كان الولاة من أسرة محمد علي يُمنحون حكم السودان مدة حياتهم فحسب. ومن ذلك الحين بدا كأنما السيادة على القطرين قد توحَّدت نهائيًّا، وأصبحت ممثلة في شخص الحاكم المصري وحده، مع الاحتفاظ بضرورة تبعيته للسلطان العثماني.
وبحكم هذه التبعية وموافقة الدول على فرمانات الوراثة، أضحى متعذرًا عليه أن ينزل عن شيء من حقوق السيادة على أي إقليم من هذه الأقاليم من تلقاء نفسه دون تصريح بذلك من تركيا، وموافقة من الدول على هذا التنازل.