الفصل التاسع
وقد صدرت هذه التصريحات من جانب الساسة الإنجليز وقت
أن كانت تتخذ العدة لوضع نظام للحكم في الأقطار التي
استرجعتها مصر بمعاونة البريطانيين؛ إذ لم تكد تمضي
أيام قلائل على إخلاء فاشودة حتى كان اللورد كرومر،
بالنيابة عن الحكومة الإنجليزية، وبطرس غالي باشا، عن
الحكومة المصرية، قد وقَّعا وفاقًا بين الحكومتين «بشأن
إدارة السودان في المستقبل». وذلك في ١٩ يناير ١٨٩٩.
١
وقد انعقد رأي المؤرخين على أن اللورد كرومر كان صاحب
اليد الطولى في عقد هذا الوفاق،
٢ وقد كتب كرومر نفسه أنه عند التفكير في وضع
نظام الحكم في السودان، ارتأى أن من الممكن أن يجعل من
السودان بلدًا لا هو بالمصري ولا هو بالإنجليزي، وإنما
بينَ بينَ، وكان على السير مالكولم
ماكيلريث
Malcolm Mc liwraith، المستشار القضائي منذ ١٨٩٨،
أن يترجم هذه الفكرة السياسية — التي كانت بعيدة عن
المنطق كل البعد — إلى لغة قانونية.
٣
وكان غرض كرومر من وضع نظام الحكم الثنائي في
السودان، أو فيما أسماه «الدولة المولدة» التي أوجدها،
أن يفسح مجالًا لاشتراك بريطانيا في إدارة بلاد ساهمت
في استعادة فتحها، ولم تكن تستطيع أن تتنصل من مسئولية
الإشراف على استقرار النظام فيها، بعد أن انتزعت لنفسها
— منذ احتلت مصر في عام ١٨٨٢ — حق الإشراف على استقرار
الأمور في شطر الوادي الشمالي صاحب السيادة على
السودان.
أضف إلى ذلك أنه كان يزعجه أن يرى تركيا — تلك الدولة
التي لم يغير الاحتلال شيئًا من حقوق سيادتها على مصر
وملحقاتها، ومن بينها السودان — ذات شأن، ولو من
الناحية النظرية على الأقل، في تدبير الأمور ببلاد لم
تبذل أي جهد عندما فتحها محمد علي أولًا، ولم تساهم
بشيء عندما استرجعها المصريون بمعاونة الإنجليز
أخيرًا.
هذا إلى أن عودة الحال إلى ما كانت عليه قبل ثورة
المهدي تؤدي إلى سريان الامتيازات الأجنبية في السودان
بحكم سريانها في مصر، وذلك ما كان القنصل البريطاني
يريد أن يَحُول دون وقوعه بكل وسيلة؛
٤ إذ كان كرومر شديد الكراهية لنظام
الامتيازات التي كانت تحد من سلطة الحكومة، وتعطل
«إصلاحاته»، سيما وأنه عندما أراد تدبير الأموال
اللازمة للإنفاق على الحملة المرسلة إلى دنقلة لم يلبث
أن وقع الصدام بينه وبين هذا النظام؛ إذ رفض عضوا صندوق
الدين الفرنسي والروسي الموافقة على إقراض الحكومة
المصرية حاجتها من المال، وأيدتهما المحاكم المختلطة في
موقفهما إزاء الحكومة المصرية؛
٥ لذلك كان من الضروري — على حد قوله —
«اختراع وسيلة ما يكون من شأنها اعتبار السودان مصريًّا
بالقدر الذي يحقق احترام المقتضيات السياسية والعدالة،
دون أن يقيد بريطانيا في الوقت نفسه بالقيد الذي يمنع
الإدارة الحكومية فيه من أن تعرقلها النظم الدولية التي
كانت تلازم الوضع السياسي المصري.»
٦
وقد حقق وفاق الحكم الثنائي في السودان كل ما أراده
كرومر، على أن كرومر لم يتعرض في هذا الوفاق بشيء
للمسألة الكبرى: مسألة السيادة على السودان؛ ذلك بأنه
ما كان يسعه — وهو السياسي الذي اعترف بحقوق تركيا
وحقوق مصر في كل مناسبة، وفي أثناء حادث فاشودة القريب
بوجه خاص — سوى تقرير هذه الحقوق، ولهذا كان من المبادئ
التي استرشد بها عند وضع الأسس التي قام عليها وفاق
الحكم الثنائي: «أن من الواجب اعتبار السودان أرضًا
عثمانية؛ ولذلك يجب أن يُحكم طبقًا للفرمانات الشاهانية
على يد الخديوي بما له من سلطةٍ، بفضل تبعيته للسلطان العثماني.»
٧
ومن أجل ذلك كان كل ما نصت عليه إنجلترا في هذا
الوفاق إنما هو المشاركة في إدارة السودان مُستندةً إلى
ما يُخَوِّلها إياه حق الفتح، بل إن هذا الحق نفسه كان
مقيدًا؛ إذ إن إنجلترا — رغم استنادها إليه — لم تستطع
أن تستمتع بما يُخوِّله الفتح عادة من حقوق السيادة،
فجاء في حيثيات الوفاق:
حيث إن بعض أقاليم السودان التي خرجت عن طاعة
الحضرة الفخيمة الخديوية قد صار افتتاحها
بالوسائل الحربية والمالية، التي بذلتها
بالاتحاد حكومتا جلالة ملكة الإنجليز، والجناب
العالي الخديوي.
وحيث قد أصبح من الضروري وضع نظام مخصوص لأجل
إدارة الأقاليم المفتتحة المذكورة، وسن
القوانين اللازمة لها بمراعاة ما هو عليه
الجانب العظيم من تلك الأقاليم من التأخر وعدم
الاستقرار على حالٍ إلى الآن، وما تستلزمه حالة
كل جهة من الاحتياجات المتنوعة.
وحيث إنه من المقتضى التصريح بمطالب حكومة
جلالة الملكة المترتبة على ما لها من حق الفتح،
وذلك بأن تشترك في وضع النظام الإداري
والقانوني الآنف ذكره، وفي إجراء تنفيذ مفعوله،
وتوسيع نطاقه في المستقبل.
وحيث إنه تراءى من جملة وجوه أصوبية إلحاق
وادي حلفا وسواكن إداريًّا بالأقاليم المفتتحة
المجاورة لهما.
فلذلك قد صار الاتفاق …