الفصل الأول

بدأ محمد علي يفكر جديًّا في فتح السودان قبل أن يرسل حملته إليه بسنوات، ولم يكد يتم استعداده الحربي حتى أرسل يستأذن محمود الثاني في فتح هذه الأقطار، فوافق السلطان العثماني على أن يضم محمد علي ما يشاء من أراضي السودان، على أن يكون ذلك باسم السلطان،١ فأخضع جيشه — برياسة ولده إسماعيل — البلاد النوبية وسنار وكردفان باسم محمود الثاني، وقدم الزعماء والرؤساء السودانيون خضوعهم وولاءهم للسلطان العثماني، وكان من أشهرهم بادي بن طبل، ملك سنار، الذي أقسم يمين الولاء بين يدي إسماعيل لسلطان تركيا، وأعلن تنازله عن مملكة سنار رسميًّا للسلطان،٢ وهكذا دخلت هذه البلاد منذ اللحظة الأولى تحت السيادة العثمانية، كما أن الباشا المصري صار يقوم بأعباء الحكم فيها على أنها ملحقات تابعة لباشويته أو ولايته تحت السيادة العثمانية.
وتأكيدًا لهذه السيادة أصدر الباب العالي أمرًا إلى محمد علي بتعيين ابنه إسماعيل حاكمًا على سنار في يوليو ١٨٢٢،٣ على أنه مما يجب التنبيه إليه أن تقليد الحكم صدر رأسًا من محمد علي، باعتباره صاحب الولاية على مصر، ويدخل في نطاق هذه الولاية ما تستطيع مصر أن تضمه إليها من ممتلكات جديدة. وعندما زحف محمد بك الدفتردار، صهر محمد علي، بجيش آخر على كردفان، كتَب إلى حاكمها المقدوم مسلم: إنه إنما أُوفد من قبل باشا مصر حتى يطلب إليه باسم «سلطان المسلمين أن يعترف بالسيادة، شأنه في ذلك شأن جميع الأمراء المسلمين.»٤
فلما رفض المقدوم حاربه الدفتردار وانتصر عليه في معركة بارا الحاسمة، وضمت الكردفان إلى الممتلكات المصرية، وكان الدفتردار ثاني الحكمدارين بعد إسماعيل، وصدر تعيينه في منصب الحكمدارية من القاهرة في فبراير ١٨٢٣،٥ ثم عين الباشا سائر الحكمدارين الذين ولوا هذا المنصب بعد ذلك، وظل خلفاء محمد علي يُنصِّبون الحكمدارين ويعزلونهم.

وقد بدأ تنظيم شئون الحكم والإدارة في السودان منذ أيام الفتح الأولى، واسترشد محمد علي بقواعد معينة تفسر بوضوح معنى «السيادة» التي صارت من حق مصر على هذه البلاد، ومعنى «انضمام» السودان إلى مصر في نطاق ممتلكات الباشا، كما أن البحث في هذه القواعد من شأنه أن يزيل من عالم الوجود تلك الأقصوصة القديمة التي أراد مروجوها أن يلصقوا تهمة الاستغلال، وإهمال رفاهية السودانيين بالحكم المصري في السودان.

على أن هذه القواعد التي وضعت في أيام محمد علي ظل يرتكز عليها كل تنظيم لشئون الحكم والإدارة من ذلك الحين إلى وقت قيام الثورة المهدية. ولعل أهم أسس هذا التنظيم الجديد أن الباشا اعتبر مصر والسودان قطرًا واحدًا مندمجًا، حتى أصبح شأن السودان في الوضع شأن أية مديرية من تلك المديريات التي يربط بينها جميعًا وجودها في نطاق الباشوية المصرية.

وكان لهذا الاعتبار آثار بعيدة في تكوين السودان الحديث، وخروجه من حلكة ذلك الظلام الذي انتشر في عهود الفوضى السابقة إلى نور التقدم والعمران، وبَدْء السير بخطًى ثابتة، وبالقدر الذي كان متلائمًا مع أحوال شعوبه في طريق الحضارة والمدنية.

ذلك بأن الباشا كان يريد للسودان ما أراده لمصر ذاتها من حيث قيام الحكومة المُصلِحة التي تسهر على أمن الناس وراحتهم، وتُوفِّر لهم سبل العيش، وبخاصة عن طريق إنعاش الإنتاج المحلي في الزراعة والصناعة، وكذلك بتنمية التجارة. وليس أدل على ذلك من أن الباشا كتب إلى حكمدار السودان، خورشيد أغا، في يوليو ١٨٣٥، حتى «يقوم بجولات متواصلة في فيافي البلاد السودانية ليلًا ونهارًا، ويسوس كافة الأهالي بسياسة طيبة.» كما أمره «بأن يجعل نصب عينيه الاهتمام بنشر ألوية العمران، وتحقيق رفاهية الأهلين، لا فرق بين هذه البلاد في ذلك وبين الأقاليم المصرية حتى يستحق «خورشيد» زيادة العطف عليه.» من جانب محمد علي،٦ بل لقد جعل الباشا مكافأته لرجال حكومته في السودان على قدر ما يبذلون من الجهد في سبيل عمران البلاد، وإقامة الحكومة المُصلِحة.
ولما كان خورشيد أغا نفسه — وعهده من أكثر العهود ازدهارًا في السودان — قد حقَّق آمال محمد علي حتى استحق الثناء والمكافأة؛ فقد أنعم عليه الباشا برتبة الميرميران الرفيعة الشأن، وأبلغه هذا الإنعام في رسالة جاء فيها ما يوضح الأغراض التي كان يتوخاها محمد علي من الحكم في السودان، قال الباشا مخاطبًا حكمداره في الخرطوم: «اعلم أن توجيه همتك إلى العناية بسكان هذه الأقاليم التي كلفناك بتنظيم أمورها تنظيمًا حسنًا، وبإدارة شئونها إدارة طيبة، قد اقتضانا أن نكافئك بمكافأة طيبة إظهارًا لإعجابنا.»٧

ولم يكن هذا غريبًا؛ فإن محمد علي الذي نظر إلى المصريين أنفسهم كما ينظر الأب إلى أبنائه، وأقام في مصر نوعًا من الحكومة الأبوية — الباترياركية — دأبها تعويد المصريين الاضطلاع بشئونهم، وتدريبهم على ممارسة شئون الحكم في النهاية. نقول: إن محمد علي كان ينظر إلى السودانيين كذلك نظرة الأب إلى أبنائه، وأنشأ في السودان حكومة أبوية على غرار ما أنشأه في مصر.

وآية ذلك أنه انتهز فرصة زيارته المشهورة للسودان، فجمع علماء السوادنيين ومشايخهم ورؤساءهم الذين جاءوا لتقديم فروض الطاعة والولاء له، وهو ما يزال في فاشنغارو من إقليم فازوغلي، وخطبهم خطبة قيمة يتضح منها اهتمام العاهل العظيم برفاهية هذه البلاد، وعزمه على تعليم «صفوة» من أبنائها حتى يستطيعوا النهوض بأوطانهم؛ نوع الحكومة الأبوية التي أوجدها محمد علي في السودان.

قال الباشا ما معناه: «لا جدال في أن كل شعب من الشعوب يمر بدور الطفولة الذي تمرون به الآن، ولكن عناية المولى — جل شأنه — تبعث إلى كل أمة مصلحًا يسير بها قدمًا في طريق الرقي والحضارة. ولقد كان من حظي أن يقع علي الاختيار لأداء هذا الواجب النبيل نحوكم، وإني لشديد الرجاء في أن أستطيع إصلاح أحوالكم المحزنة إذا عقدتم العزم على العمل بما أبديه لكم من نصح وإرشاد. إن بلادكم فسيحة الأرجاء، بديعة المناظر، خصيبة التربة، تقع في قارة من قارات الدنيا الخمس، يسمونها أفريقيا، وليس بين سكان هذا الجزء العظيم من أجزاء الكرة الأرضية من حُرم السعادة غيركم، سواء كان هذا الحرمان من حيث المأكل والمشرب، أو من حيث السلع التي تنتجها الصناعة، وتعرضها التجارة. انظروا إلى مصر، فهي قطر صغير إذا قيس إلى بلادكم، لا يزيد طوله على ثلاثمائة وستين ميلًا، وعرضه على مائتين وتسعين، حتى إن أراضي جزيرة سنار وحدها لتفوق مصر من حيث المساحة عشر مرات، ولكن الرجال الذين يعملون لا بد وأن يحققوا أغراضهم، وجميع العالم يعرف ما عليه مصر من رخاء وانتعاش.»٨

ثم شرح الباشا لمستمعيه الفوائد العظمية التي عادت على الأمم الأخرى بفضل ما أحرزته من تقدم اجتماعي، وعرض أن يصحب معه في عودته إلى مصر عددًا من أبنائهم، يقوم على تربيتهم وتعليمهم في مدارسه، وارتاح المشايخ لذلك أيما ارتياح، وقال شيخ الجزيرة، وكان شديد الحرص على إظهار ولائه وطاعته: إنه لما كان من غير ولد فقد قرر أن يذهب إلى مصر ابن أخ له.

وقال رفاعة رافع الطهطاوي تعليقًا على ذلك كله:٩ «ومما يدل على حسن مقاصد المرحوم محمد علي أنه في عودته من البلاد السودانية استصحب معه عدة غلمان من أبناء وجوه السودان إلى مصر، وأدخلهم في المدارس المصرية ليتعلموا مبادئ العلوم، ثم نقلهم إلى مكتب الزراعة، ثم إلى مدرسة الألسن، وكان القصد من ذلك أن يتذوقوا طعم المعارف التمدينية لينشروها في بلادهم.»
وكان الباشا قبل هذه الزيارة بعشرة أعوام تقريبًا، وعقب الفتح بفترة قصيرة، قد تحدث عن هذه الحكومة الأبوية التي أرادها للسودان، فجاء في جريدة الوقائع المصرية العبارة التالية: «ولعمري إن الناس القاطنين في أراضي السودان الواسعة، المعروفة عند من رآها، خالون من العلم، عارون عن معرفة النفع والضرر، فضارعوا الوحوش حالة، ومع هذا فإنه لم يتفق لهم في كل الزمان الذي عاشوا فيه حتى الآن أن يحظوا بمُربٍّ ما، ولا أدركوا أسباب المعيشة اللازمة والصنايع والحرف. إلى أن قال: فمن ثم لاح في ضمير سعادة الخديوي أن يريهم طريق حكمه يكون سببًا لتربيتهم.»١٠
وعمد محمد علي — كما فعل في مصر — إلى تدريب أهل السودان على القيام بتدبير شئونهم، فأشرك العناصر الوطنية في الحكم والإدارة،١١ وكان ذلك من القواعد الهامة التي ظل يأخذ بها الولاة المصريون في حكومة الأقطار التي اندمجت في الأقاليم المصرية؛ فقد نظمت الفتوح الجديدة على نمط يشبه في خطوطه الرئيسية التنظيم الإداري في مصر ذاتها،١٢ وأبقى محمد علي الرؤساء الوطنيين و«المكوك» — جمع مك — في أعمالهم، ولقي الفقهاء والعلماء كل احترام وتبجيل، وأصغى الحكمداريون لأقوالهم، وسألوهم الرأي والنصيحة في كثير من الأحيان، وكان١٣ الشيخ عبد القادر ود الزين صاحب حظوة كبيرة عند محو بك وخورشيد باشا بنوع خاص، وكان الشيخ إدريس عدلان عضد حكومة الخرطوم في إقليم فازوغلي،١٤ وحسن خليفة، شيخ العبابدة، يتمتع بالسلطان والنفوذ في بربر،١٥ وولي القضاء في عهد محو بك الفقيه عبد الدافع، وأرسل الباشا من القاهرة في كل مناسبة١٦ الشيلان والبنشات لإهدائها إلى «مشايخ عرب السودان»، ولإلباسهم إياها١٧ حتى صار ذلك تقليدًا عند مجيء كل حكمدار جديد إلى الخرطوم.
كتب خالد باشا خسرو عقب وصوله الخرطوم في يناير ١٨٤٦: «إن الشيوخ الذين يحملون النيشانات وغيرهم من كبار الشيوخ قد حضروا لمقابلته على نحو العادة التي سار عليها شيوخ الأقطار السودانية، ولما كان من العادة المتبعة في هذه البلاد إلباس الخُلع للشيوخ في ظل الجناب الخديوي، ووفقًا لما جرت عليه العادة قد ألبس الخلع للشيوخ الذين حضروا لمقابلته.»١٨
ومنح الباشا المكوك والزعماء المرتبات والعطايا كالملك كنبال، ابن ملك الشائقية جاويش، الذي أذعن للأمير إسماعيل وساهم في معارك الفتح الأولى إلى جانب المصريين.١٩ وقرب الحكمداريون الملك كنبال، واعتمد عليه أحمد باشا أبو ودان في تأديب بعض الأشقياء في شندي بعد ذلك عام ١٨٣٩،٢٠ وحصل مك «أو ملك» بربر نصر الدين على مرتب ثابت من محمد علي، وقدم نصر الدين في زيارة إلى الباشا في مصر، فأمر محمد علي بزيادة مرتبه، وأحاطه بكل ضروب الحفاوة والتكريم.٢١
وحرص الباشا على احترام شعور أهل البلاد وأساليب حياتهم الدينية والثقافية، فبجل فقهاءهم، وأجرى عليهم الأرزاق، واحترم ثقافة السودانيين، وكانت دينية إسلامية، فلم يشأ أن يُحدِث بها تحويرًا، أو يُدخل عليها تغييرًا، بل طفق يمنح الهبات لتعمير دور العلم القائمة، وهي المساجد، واطمأن الأهلون إلى رغبة الحكومة هذه فأكثروا من التماس المنح والعطايا لترميم المساجد القديمة، وبناء عدد من المساجد الجديدة في دنقلة،٢٢ وكسلا،٢٣ والأبيض،٢٤ والخرطوم،٢٥ وسنار،٢٦ وفازوغلي، ومروى، وحلفاية، وبربر،٢٧ وغيرها.
وحصل فقهاء عديدون في مختلف أنحاء البلاد على رواتب ثابتة من الحكومة، ومن أكثرهم شهرة الفقيه إبراهيم عيسى؛ فقد سمَح له الباشا بإنشاء مسجد في قرية كترنج بمديرية الخرطوم، ورتب له «راتبًا شهريًّا» في أثناء وجوده في السودان عام ١٨٣٨، وعندما زاد إقبال التلاميذ طلب الفقيه زيادة مرتبه، فأجابه محمد علي إلى طلبه ١٨٤٤،٢٨ ثم عاد بعد سنوات فطلب بناء حجرات جديدة «لسكنى الفقراء، وعمل سور للجامع.» فأجيب كذلك إلى طلبه «١٨٤٧»،٢٩ وقد ظل هذا المسجد قائمًا إلى أيام الثورة المهدية. وزيادة على ذلك فإن الباشا كان يشجع السودانيين على المجيء للدراسة بالأزهر الشريف، ووافق على إنشاء رواق السنارية.٣٠

وكان لهذه السياسة الأبوية الحكيمة أبلغ الأثر في استمالة السودانيين إلى تأييد الحكومة، وآية ذلك ما كتبه الشيخ إسماعيل بن عبد الله، أحد الفقهاء المتصوفين، عندما جاء محمد لزيارة السودان، وشاهد الفقيهُ العلماءَ والفقهاءَ والشيوخَ يهرعون لمقابلة الباشا في الخرطوم وفي غيرها من المدن، كتب الشيخ رسالة بعث بها إلى محمد علي — وهي تُظهر مدى ما بلغته حكومته الأبوية في السودان من نجاح عظيم — قال الشيخ: «وإن سألت عن حالي؛ فإني صاحب طريقة ودرس منقطع على باب الله، فالحمد لله منذ قدموا أولادك بأرض السودان حصلت لنا الراحة والإكرام التام، وكل ذلك بسبب إقبالك وإكرامك لأهل الدين، وحفظ حرمهم، ويرجون الله — سبحانه وتعالى — ثواب ذلك كله راجع لك. ومنذ ملكك على بلاد السودان لم تخرج عن خاطرنا، متوجهين لك بالدعاء في سائر الأوقات، في الصباح والمساء. وإن شاء الله ببركة الدعاء يبلغك مقصودك، وشرف علمكم كفاية. السلام عليكم، ورضى الله تعالى عنكم وبركاته.»

وإذا عرفنا مقدار ما كان للفقهاء والعلماء من مكانة في نفوس الشعب، وأثر بالغ في توجيهه، أدركنا مقدار اطمئنان السودانيين إلى هذه الحكومة الأبوية الرشيدة التي أوجدها محمد علي.

وقد اقتضى إنشاء الحكومة الأبوية أن يفرض الباشا — وهو بالقاهرة — رقابة صارمة على الحكام والمديرين في الأقاليم السودانية، فهو يعمل دائمًا على إنصاف الأهلين من أي اعتداء يقع عليهم من الحكام، فقد انتصف للشيخ بشير، أحد مشايخ بربر، من خورشيد أغا الحكمدار،٣١ كما انتصف للسلطان تيمة، شيخ مشايخ كردفان، من رستم بك، مدير الكردفان،٣٢ وأرغم اثنين من الكشاف — وكانا قد وليا الحكم في الكردفان — على إرجاء ما اختلساه من الأموال،٣٣ وكان جزاء مثل هذين المختلسين الفصل والنفي.٣٤
ولا مراء في أن بعض الحكام — كما هو الحال في كل زمان ومكان — اهتموا بجمع الثروة، غير أنه كان من بينهم كثيرون٣٥ صلحت سيرتهم، وانتظمت الأمور على أيديهم؛ كأحمد باشا أبو ودان، ذلك الرجل الذي وصفه معاصر أجنبي بأنه كان كفئًا قديرًا، استطاع أن يدفع الرعب إلى قلوب موظفيه،٣٦ وكذلك مصطفى بك، أحد حكام الكردفان، ومن الذين شغلوا منصب وكيل الحكمدارية بالخرطوم،٣٧
أما السودانيون أنفسهم فقد امتدح مؤرخهم — صاحب «تاريخ الملوك الفونج بالسودان وأقاليمه إلى حكم محمد سعيد باشا» — كبار الحكمدارين، وبخاصة أمثال خورشيد باشا، وأحمد باشا أبو ودان، كما ذكر عن الموظفين الذين جاءوا مع أولهما إلى السودان أنهم «كانوا جماعة كلهم أصحاب عقل ورأي سديد.»٣٨

ولما كان محمد علي يعتبر مصر والسودان بلدًا واحدًا، فقد اتبع في السودان نفس السياسة الاقتصادية التي اتبعها في مصر، ومدارها عمار القطرين معًا، وبنى خطته الاقتصادية في السودان على نفس القواعد التي بنى عليها خطته الاقتصادية في مصر، وكان غرضه أن تسد البلاد حاجاتها بنفسها، ومن إنتاجها الداخلي؛ أي الأخذ بمبدأ الاكتفاء الذاتي.

وقد استلزم ذلك أن يكفي السودان حاجاته بنفسه، على أنه لما كانت هذه البلاد في نظر الباشا تؤلف وحدة كاملة مع مصر، فقد توسع محمد علي في تطبيق مبدأ الاكتفاء الذاتي، بحيث يمكنه أن يسد حاجة مصر مما يفيض من موارد السودان، وإعطاء السودان من موارد مصر الفائضة ما قد يكون في حاجة إليه.

وفضلًا عن ذلك، فإن الأخذ بمبدأ الاكتفاء الذاتي يتطلب تعمير السودان، وتحسين أحوال أهله؛ مما يستدعي تنمية موارده بإنعاش الزراعة، وإدخال الصناعة، وتشجيع التجارة، واستثمار جميع موارد البلاد على خير وجه، وكذلك تنظيم الضرائب، ونشر ألوية الأمن، وإقرار النظام.

وقد عني الباشا بالزراعة؛ لأن العناية بها تؤدي — على حد قوله — إلى «عمار البلاد، وترقية حال أهلها.»٣٩ فازدهرت الزراعة على جانبي النيل، واسترعى ازدهارها أنظار السائحين الذين تجولوا في هذه الربوع، فتحدث الرحالة الإنجليزي هوسكنس Hoskins عن وفرة الغلات الزراعية في إقليم بربر، ونجاح زراعة النيلة وقصب السكر في دنقلة،٤٠ ووصف الرحالة الألماني بوكلر مسكاو Puekler Muskau حالة الرخاء التي شاهدها، وبخاصة في دنقلة ومروى، وكثرة عدد السواقي المنتشرة في هذه الجهات، حتى لقد قدَّر ما يوجد منها في مديرية دنقلة وحدها بحوالي أربعة أو خمسة آلاف ساقية.٤١
وقد نجم عن انتعاش الزراعة رخاء ظاهر أثار إعجاب بوكلر مسكاو؛ ففي القرى الواقعة على جانبي النيل في إقليم دنقلة استبدلت المنازل بالأكواخ الحقيرة، وكان من رأي بوكلر مسكاو أن مظاهر الرخاء هذه دليل واضح على وجود قدر من الثروة لدى الأهالي، وعلى أنهم أصبحوا أكثر اطمئنانًا على ما يملكون، وتأيدت «حقوق الملكية»، وأدى ذلك إلى الاستقرار في القرى والدساكر. ولم يحدث شيء من هذا كله — على حد قول بوكلر مسكاو — إلا بفضل ما أسدته من خدمات تلك الحكومة الرشيدة التي أقامها محمد علي في السودان.٤٢
وكما عني الباشا بأمور الزراعة أراد أن يُدخل عددًا من الصناعات التي يمكن أن تعتمد في إنتاجها على محصولات البلاد، فأنشأ بالسودان بعض المصانع لتجهيز النيلة، وصنع الصابون والسكر ونحو ذلك، وأدى وجود هذه الصناعات إلى ارتفاع شأن بعض المدن، مثل: بربر، ومروى، ودنقلة، والخندق، وغيرها،٤٣ بل لقد أُسست مدن جديدة بسبب هذا النشاط الصناعي، مثل: مدينة محمد علي٤٤ والكاملين،٤٥ ثم الخرطوم التي أصبحت بعد زمن قصير من تأسيسها عاصمة السودان الجديدة،٤٦ ومركز التجارة الرئيسي في السودان.
وكان اهتمام محمد علي بالتجارة كبيرًا؛ فنشطت تجارة القوافل، وبذل الباشا كل جهد حتى ينشئ صلات تجارية كبيرة مع الحبشة٤٧ من جهة، وحتى يقنع سلطان دارفور بفتح بلاده للتجارة من جهة أخرى،٤٨ كما أنه أنشأ صلات ودية مع سلطان واداي لتشجيع تجارة القوافل.٤٩
وكان من أثر هذا النشاط الاقتصادي زيادة الاستقرار، ثم بداية عهد من الرخاء ظهر في تحسن أحوال الأهلين، وإقبالهم على العمل والإنتاج، وكان من المنتظر أن يتحمل السودان جميع النفقات اللازمة لدفع عجلة الحكم والإدارة، وظن كثيرون أن الإيرادات التي حصلتها حكومة الباشا من السودان كانت كافية لتغطية هذه النفقات، إلى جانب إمداد الخزانة المصرية في القاهرة بالأموال الجسيمة.٥٠
ووصف آخرون حكومة الباشا بأنها كانت حكومة نهمة شرهة لا تبغي سوى استغلال البلاد إلى أقصى حدود الاستغلال، على أن المعاصرين الذين راقبوا الأمور عن كثب يكاد إجماعهم ينعقد على أن إيرادات السودان ما كانت تكفي لسد النفقات التي استلزمها ذلك النشاط العمراني الواسع، فيقول فرن Werne: إن خورشيد باشا كان يشكو دائمًا من خلو خزانة الحكومة من الأموال، كما ذكر أن الأموال كانت تأتيه بانتظام من القاهرة،٥١ ويقول روبل Riippell: إن إيرادات السودان لم تكن كافية قط لتغطية نفقاته.٥٢
أما الرحالة الإنجليزي آرثر هلرويد Holroyd، فيؤكد أن نفقات السودان كانت تزيد على إيراداته بحوالي أربعة عشر ألفًا من الجنيهات الإنجليزية،٥٣ وقد تحملت مصر هذه النفقات الجسيمة في سبيل تعمير السودان ورفاهية أهله، ذلك بأن الباشا يعتبر السودان — كما سلف القول — أحد الأقاليم المصرية، فاشتملت حسابات الدولة على جميع ما كان يحصله الباشا من السودان، أو ينفقه من مال على هذه الأقطار.
وفي الميزانيات المصرية القليلة التي أمكن معرفة شيء عنها يتعلق بذلك العهد كان المتحصل من السودان وما ينفق عليه يدرج ضمن أبواب الإيرادات والمصروفات العامة.٥٤ زد على ذلك أن قانون السياستنامة، الذي أصدره الباشا في يوليو ١٨٣٧ لتنظيم مصالح وإدارات الدولة، أدخل ضمن حسابات جميع المديريات في مصر حسابات الأقطار السودانية،٥٥ فلم يكن للسودان «مالية» أو ميزانية خاصة في وقت من الأوقات، بل إن مصر والسودان من هذه الناحية كانا يؤلفان في نظر محمد علي وحدة مالية كاملة.
١  Robinson “Conquest” p. 47.
٢  Mengin t. ll p. 213.
٣  Driault. P. 274.
٤  Cadalvene t. ll p. 215.
٥  Robinson. “Rulers”. p. 40.
٦  عابدين — المعية دفتر ٦٦ تركي رقم ٦٨، أمر من محمد علي إلى خورشيد باشا في ٢٨ ربيع أول ١٢٥١ «٢٢ / ٧ / ١٨٣٥».
٧  عابدين — المعية دفتر ٦٦ الوثيقة السابقة.
٨  الوثائق النمساوية. عثرنا ضمن هذه الوثائق على ترجمة كاملة لجرنال رحلة محمد علي، كما صدر في عدد الوقائع المصرية بالإسكندرية في ٦ صفر ١٢٥٥ / ٢١ أبريل ١٨٣٩، وقام بهذه الترجمة «فيشر هوسر» Wichèrhauser من موظفي القنصلية النمساوية بالإسكندرية. مرفق بالوثيقة رقم ٣٣٦ ن رسالة البارون شتورمر Stürmer إلى مترنخ من القسطنطينية في ١٥ مايو ١٨٣٩ «مجلد رقم ٥٠ من تقارير القسطنطينية».
٩  رفاعة ص٢٦٣.
١٠  الوقائع المصرية عدد ١٢ في ٦ رمضان ١٢٤٤ / ١٢ مارس ١٨٢٩.
١١  Lepsius-p. 167.
١٢  Cadalvene ll. 264.
١٣  شقير: ج٣، صفحات ١٨، ١٩.
١٤  تاريخ مدينة سنار، ص٣٣.
١٥  Lepsius. 146.
١٦  تاريخ مدينة سنار، ص٧٩.
١٧  عابدين — المعية دفتر ٧٩ تركي، أمر رقم ٥٥٢، في ٢٤ رمضان ١٢٥٢ «١٢ / ١ / ١٨٣٧».
١٨  عابدين — محفظة ١٩، وثيقة ٧٤، من خالد خسرو إلى الجناب العالي. الخرطوم في ٩ صفر ١٢٦٢ «٦ / ٢ / ١٨٤٦».
١٩  عابدين — المعية دفتر ٢٦ تركي، أمر رقم ٣١٦، في ٢٨ ذي القعدة ١٢٤٣ «١١ / ٦ / ١٨٢٨».
٢٠  عابدين — المعية دفتر ٤٢ تركي، أمر رقم ٣١١، في ٢٣ شعبان ١٢٤٦ «٦ / ٢ / ١٨٣١».
٢١  عابدين — المعية دفتر ١٨٩ تركي، مكاتبة رقم ١٨٩، في غرة جمادى الآخرة ١٢٥٢ «١٣ / ٩ / ١٨٣٦».
٢٢  عابدين — المعية دفتر ٣٧٧ تركي، مكاتبة رقم ٦٤٩، في ٣ ربيع الثاني ١٢٦٠ «٢٢ / ٤ / ١٨٤٤».
٢٣  عابدين — المعية دفتر ١٩٠٤ «أوامر عربي»، في ٣ ذو القعدة ١٢٧٩.
٢٤  عابدين — المعية دفتر ١٠٧١ وارد عرضحلات الدواوين.
٢٥  عابدين — المعية دفتر ١٠٧١ «عربي»، رقم ١٥، في ٢٣ صفر ١٢٨١.
٢٦  عابدين — المعية دفتر ٥٢٩ تركي، رقم ٢، في ١٨ جمادى الأولى ١٢٨١.
٢٧  عابدين — المعية دفتر ١٠٧٢ وارد عرضحلات رقم ٢، غرة جمادى الآخرة ١٢٨٢، ثم دفتر رقم ١٣٦٦، في ١٩ جماد أول ١٢٨٢، ثم دفتر ٥٢٩ تركي، أوامر وعرائض رقم ٨، في ١٦ ذو القعدة ١٢٨١.
٢٨  عابدين — المعية دفتر ٣٧٩ تركي، رقم ٣٤٣٢، في ١٤ ذو القعدة ١٢٦٠ «٢٥ / ١١ / ١٨٤٤».
٢٩  عابدين — المعية دفتر ٤٠٨ تركي، رقم ١١١٠، في ٨ ربيع أول ١٣٦٣ «٢٤ / ٤ / ١٨٤٧».
٣٠  عابدين — المعية دفتر ٤١١ تركي، رقم ٣٤٨، في ١٦ صفر ١٢٦٣ «١٣ / ٢ / ١٨٤٧».
٣١  عابدين — المعية دفتر ٢٦ تركي، رقم ١٢٥، في ٢٨ شعبان ١٢٤٢ «٢٧ / ٣ / ١٨٢٧».
٣٢  عابدين — المعية دفتر ٥١ تركي، رقم ١٣، في ١٢ جمادى الأولى ١٢٤٨ «٢٠ / ١٠ / ١٨٣١».
٣٣  عابدين — المعية دفتر ٧٧٠ تركي، رقم ٢٤٥، في ٤ ربيع الثاني ١٢٤٦ «٢٢ / ٩ / ١٨٣٠».
٣٤  عابدين — المعية محفظة ٣، وثيقة رقم ١١٤، في ٢٢ شوال ١٢٥١ «١٠ / ٢ / ١٨٣٦».
٣٥  Werne “Feldzug” p. 102, Also Werne “Expedition” pp. 28–31.
٣٦  Werne “Feldzug” pp. 21, 28-29.
٣٧  Russeger. 123.
٣٨  تاريخ ملوك السودان، ص١٣٢.
٣٩  عابدين — المعية دفتر ١٩ تركي، أمر ٣٥٤، في ٢٨ جمادى الثانية ١٢٤١ «٧ / ٢ / ١٨٢٦».
٤٠  Hoskins. 51–54, 162-163.
٤١  Puckler Muskau. 172, 181.
٤٢  Puckler Muskau. 164.
٤٣  Bowring. 204-205: Hoskins. 162-163.
٤٤  Staat-Archiv.Turquie. No. 328 Const. 25. 3. 39 Enclos. L’Echo d’Orient-Smyrna, 16/3/1839.
٤٥  Lepsius. 163–165.
٤٦  Aff. Etr. Egypte. “18”. No. 70 Caire 16/12/1846. Barro’á Guizot.
٤٧  Shukry. 85 “Note 2”.
٤٨  Driault. Doc No. 41. Alex. 30/9/1817 p 82, Also Ensor p 147.
٤٩  Tounsey. “Ouaday” 218.
٥٠  Hamont. 591.
٥١  Werne. “Expedition” 29.
٥٢  Ruppell. 24.
٥٣  Bowring 210.
٥٤  راجع ميزانيات: ١٨٢٩، ١٨٣٣، ١٨٣٥، ١٨٤٢، ١٨٤٦.
٥٥  خليل صبحي: ج٥، ص٤٥، أمين سامي: ج٢، ص٣٣٠، جرجس حنين: ١٨، ١٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥