الفصل الثاني
على أن محمد علي لم يغفل في نشاطه السياسي أمر
السودان، فقد ظل هذا القطر يحتل مكانًا ملحوظًا في
مشروعاته السياسية الكبرى؛ لأن الباشا ما كان يريد أن
يتقرر مستقبل مصر دون أن يلقى السودان نصيبه من
العناية، فاختط الباشا لنفسه خطة واضحة لتهيئة الأسباب
التي تكفل استمتاع البلدين: مصر والسودان بالاستقرار
السياسي؛ لما كان في هذا الاستقرار من ضمانات تصون
النهضة المصرية الجديدة من جهة، وتُؤمِّن السودانيين
على أموالهم وأرواحهم من جهة أخرى، فلا ينزلقون إلى
حياة الفوضى السياسية، والتأخر الاجتماعي والاقتصادي،
تلك الحياة التي سبقت إنشاء الحكومة الأبوية في
بلادهم.
وكان محمد علي يهدف إلى الانفصال عن الدولة العثمانية
وإعلان استقلاله، ولكنه أدرك منذ بداية الأمر أنه من
المستحيل عليه تنفيذ هذه الرغبة إذا اعترضت الدول
سبيله؛ ولذلك كان هدفه التالي أن ينقل مصر من مجرد
مقاطعة من مقاطعات الدولة إلى باشوية يقوم فيها الحكم
الوراثي، وإن كانت لا تزال داخلة في نطاق الإمبراطورية العثمانية.
١
وقد ظهرت هذه الرغبة على وجه الخصوص إبان الحرب
السورية الأولى،
٢ ثم تجددت في الأعوام التالية، وعلى ذلك فإن
الباشا كان يتوقع تغييرًا، وقد وطد العزم على أن يكون
هذا التغيير عند حدوثه في صالح مصر، وفي صالح السودان
كذلك. وعندما توترت العلاقات بين الباشا والسلطان في
عام ١٨٣٨ عوَّل الباشا على إعلان استقلاله نهائيًّا،
٣ ولكن الدول التي حالت بينه وبين اتخاذ مثل
هذه الخطوة من قبلُ كانت ما تزال آخذة بمبدأ المحافظة
على كيان الإمبراطورية العثمانية؛ فاتفقت كلمتها على
الوقوف في وجه محمد علي بكل الوسائل.
٤
لذلك قرَّ رأي الباشا أن يتريث في الأمر، وأن يعطي
الدول فسحة من الوقت علَّها تصل إلى حل حاسم مع تركيا،
واعتزم زيارة السودان، وكان يؤمِّل أن تسفر مفاوضات
الدول مع الباب العالي في أثناء غيبته عن حصوله على
الحكم الوراثي في مصر؛ حتى لا يضطر إلى امتشاق الحسام
ضد تركيا.
٥
وكانت الأسباب التي دعت محمد علي لزيارة السودان
كثيرة؛ فقد جاء الوقت بعد مضي خمسة عشر عامًا تقريبًا
من الفتح أن يزور الباشا إقليمًا يعتبره من الأقاليم
المصرية التي كان من رأيه زيارتها للتفتيش على شئونها.
وفضلًا عن ذلك، فإن التفكير فيما يجب أن يكون عليه
«الوضع» في هذه الأقطار عند الفصل النهائي في المسألة
المصرية كان — على ما يبدو — من أسباب هذه الرحلة
التاريخية؛ ذلك بأن الباشا يستمد حقوق السيادة على
السودان من تبعية باشويته مباشرة للسلطان العثماني؛ فقد
أذن له محمود الثاني بالفتح، وأدار محمد علي شئون الحكم
في السودان بوصفه واليًا على مصر؛ فكان من الطبيعي أن
يعنى به وهو مقدم على الاستقلال والانفصال بمصر؛ إذ كان
يريد أن يقف بنفسه على أحوال الأقطار السودانية، وأن
يمهد الوسائل لدعم حقوق السيادة عليها في نطاق جديد،
فلا تظل مستمدة من التبعية للسلطان العثماني، وإنما
تستند إلى حق الفتح وحده.
وكان لا بد من الوصول إلى هذه النتيجة من تقرير حقيقة
مبدئية هي أن هذه البلاد عند زحف الجيوش المصرية عليها
كانت في حالة «خلو»؛ أي إنه لم تكن بها وقتذاك دولة
تستمتع بكل أسباب السيادة في أرجائها، فإذا قضى الباشا
على فلول الهمج الذين اغتصبوا الملك كملوك الفونج في
سنار، وضم إلى ممتلكاته إقليم كردفان، فلم يعد نهبًا
بين السناريين من الشرق، والفوريين — أصحاب سلطنة
دارفور — من الغرب، ثم كبح جماح الشائقية وغيرهم من
البدو الضاربين في صحارى السودان ووديانه،
٦ نقول: إنه إذا قضى الباشا على كل هؤلاء؛
فإن ذلك لا يعني أنه قضى على حكومات أو دول ذات حقوق في
السيادة على هذه الجهات.
وقد فطن قناصل الدول في مصر إلى أهمية رحلة الباشا
إلى السودان، فعزوها إلى أسباب جمة، كان أظهرها أن
الباشا يريد أن يأتي بالذهب من هذه البلاد البعيدة، حتى
يتخذ منه أداة لإقناع السلطان بإجابة مطالبه، وتحقيق
رغباته بطريقة سلمية تنطوي على إغداق العطايا والهدايا
على السلطان ورجاله، أو بطريقة قهرية تنطوي على أن
يستكمل الباشا استعداداته العسكرية قبل أن يشتبك مع أعدائه
٧ في حرب فاصلة.
ورغم كل هذا الاهتمام من جانب القناصل، فقد ظل موضوع
السيادة بعيدًا عن تفكيرهم؛ فلم يذكر أحد منهم شيئًا
عنه مع كثرة ما كتبوا عن أسباب الرحلة، وما نقلوا إلى
حكوماتهم من أخبارها، وظل الحال كذلك حتى رجع الباشا
نفسه إلى القاهرة بعد حوالي خمسة شهور، ونشر «جرنال
الرحلة إلى السودان» بعد أسابيع قليلة من عودته.
وقد أدى نشر هذا الجرنال إلى إلقاء شيء من الضوء على
أهمية الرحلة، وحقيقة الدوافع التي دعت الباشا إلى
القيام بها، وأدرك القناصل ذلك، فكتب القنصل النمساوي
لاورين Laurin من
القاهرة إلى حكومته في ١٩ أبريل ١٨٣٩ ما معناه: إن
الباشا قد نشر جرنال الرحلة إلى السودان، وإن إصدار هذه
الجرنال يدعو إلى الاهتمام؛ إذ قيل للقنصل: إنه يشتمل
على ذكر جميع ما يريد محمد علي أن يُثبِته لنفسه من
حقوق السيادة على السودان، أي على بلاد كانت «تخلو» عند
«فتحها» من أي موئل لهذه السيادة.
ثم استمر لاورين يقول: إن فكرة تأسيس مملكة تضم بلاد
السودان التي تقطنها شعوب لم تخضع لسلطان أحد عليها لم
تكن قبل رحلة الباشا إلى فازوغلي إلا مجرد آمال. أما
الآن فقد أصبحت هذه الفكرة منذ عودته إلى القاهرة عقيدة
ثابتة، يدين بها كما يدرك أهميتها أولئك الذين ينظرون
بشيء من الإمعان إلى ما يبديه الباشا من رغائب وميول
كانت تتحقق بطريقة تدريجية منتظمة، بل إن الوقت الذي
يعلن فيه محمد علي ما وصل إليه من نتائج بفضل ذكائه
ومثابرته جد قريب، ويبدو أن نشر جرنال الرحلة لم يكن
إلا بمثابة تمهيد لإنشاء مملكة السودان الحديثة.
٨
ولذلك فلم تكد تنتهي أزمة الحكم السياسية الكبرى
بمعاهدة لندن «١٥ يوليو سنة ١٨٤٠»، التي تضمنت تلك
القواعد التي وضعت لتسوية المسألة المصرية على أساس
إعطاء الحكم الوراثي في مصر لأسرة محمد علي، بعد أن
أقرت الدول هذا المبدأ نهائيًّا في مذكراتها المشتركة
إلى الباب العالي في ٣٠ يناير ١٨٤١
٩ حتى أظهر محمد علي حرصه الشديد على أن تشمل
هذه التسوية السودان، فأصدر الباب العالي في ١٣ فبراير
١٨٤١ «٢١ ذي القعدة ١٢٥٦» فرمانين منفصلين؛ أحدهما:
بإعطاء محمد علي الحكم الوراثي في مصر، والآخر: بإعطائه
حكم السودان مدة حياته فحسب.
وقد جاء في فرمان السودان ما نصه: «لوزيري محمد علي
باشا، والي مصر، المعهودة إليه مجددًا ولاية مقاطعات:
النوبة، ودارفور، وكردفان، وسنار: إن سُدَّتنا الملكية
— كما توضح في فرماننا السلطاني السابق — قد ثبَّتكم
على ولاية مصر بطريق التوارث بشروط معلومة، وحدود
معينة، وقد قلَّدتكم فضلًا على ولاية مصر ولاية مقاطعات
النوبة، ودارفور، وكردفان، وسنار وجميع توابعها
وملحقاتها الخارجة عن حدود مصر، ولكن بغير حق التوارث.»
١٠
ومن الواضح أن محمد علي لم يستطع الاستئثار بالسيادة
على السودان على أساس المبادئ التي أذيعت عقب عودته من
رحلة السودان، وذكرها القنصل النمساوي لاورين. ومرد ذلك
إلى أن الباشا لم يستطع إعلان استقلاله وانفصاله عن
تركيا نتيجة لتدخل الدول، فلم يكن ثمة مناص من أن تستمر
حقوق السيادة المصرية على السودان مستمدة من التبعية
للسلطان العثماني. أضف إلى ذلك أن الحكم في السودان كان
لمدى الحياة فحسب، ولم يكن وراثيًّا على نحو ما تقرر
بشأن مصر.
هذا إلى أن اشتراك الدول العظمى الأوروبية في وضع
الأسس التي قامت عليها تسوية المسألة المصرية برمتها،
وتصديقها على المبادئ التي تضمنتها الفرمانات التي
أصدرها الباب العالي إلى محمد علي، كان من شأنه أن يجعل
أي تغيير في هذه المبادئ مُتعذَّرًا بغير موافقة
الدول.
ولما كان من قواعد الاتفاق أن تخرج الشام وكريت وبلاد
العرب من حوزة محمد علي، ويبقى السودان له؛ فقد أصبح
فرمان السودان الصادر في ١٣ فبراير ١٨٤١ جزءًا من أجزاء
التسوية يسري عليه ما يسري على سائر أجزائها من أحكام
دولية، ويتعذر لذلك إلغاء هذا الفرمان من جانب واحد دون
موافقة الدول.
١١
على أنه مما يجدر ذكره أن فرمان السودان أدخل سلطنة
دارفور ضمن المقاطعات التي قلد الباب العالي محمد علي
ولايتها، والواقع أن دارفور ظلت سلطنة مستقلة. ويعلل
المؤرخون ذكرها في فرمان السودان بأن الباشا كان يفكر
جديًّا في فتح هذه البلاد في تلك الآونة، وليس في ذلك
ما يبعث على الدهشة، سيما وأن الباشا عندما سير جيوشه
إلى السودان في بادئ الأمر كان يعتزم ضم دارفور إلى أملاكه.
١٢ وآية ذلك أن التعليمات والأوامر التي
أصدرها إلى كل من الأمير إسماعيل وإبراهيم باشا
والدفتردار كانت تتضمن ضرورة إخضاع هذه السلطنة،
١٣ غيرأن محمد علي ما لبث أن أرسل إلى قواده
ما يلغي تلك التعليمات والأوامر؛ بدافع الرغبة في توطيد
دعائم الفتح الجديد في أقطار شاسعة قبل الإقدام على غزو
إقليم آخر لم يكن الباشا، أو غيره من المعاصرين، يعرف
عن أحواله غير النَّزْر اليسير،
١٤ أضف إلى ذلك أن الباشا قد شغله ما وقع من
أحداث في مقاطعات الدولة العثمانية في أوروبا، وكريت
والمورة وجزر بحر إيجة، إذ كلَّفه الباب العالي بإخضاع
الثوار في كريت
١٥ والجزر، ثم في بلاد المورة.
وقد تجددت رغبة الباشا بعد انقضاء هذه الحوادث في فتح
دارفور. ولما كان قد انقضى زمن على ذلك التصريح الأول
الذي حصل عليه من الباب العالي، عندما اعتزم فتح
السودان، فقد بذل الباشا جهده في الآستانة عام ١٨٣٠ حتى
حصل ما يُشبه أن يكون تجديدًا للتصريح الأول بفتح دارفور.
١٦ ولكن الحروب السورية صرفت محمد علي عن
الفتح. وإلى وقت صدور فرمان ١٣ فبراير ١٨٤١ لم يكن
الباشا قد أخضع هذه البلاد، وفي الأعوام التالية كان
يرجو أن تتاح له فرصة إخضاع دارفور: إما عنوة بطريق
الحرب، وإما بوسيلة سلمية عن طريق السياسة؛ إذ إن
الباشا كان يؤيد منذ مدة طويلة أبا مدين، أحد المطالبين
بعرش دارفور،
١٧ ولكن شيئًا من ذلك كله لم يتحقق، وظلت
دارفور سلطنة مستقلة.