الفصل الثالث

ولعله مما يلفت النظر أن فرمان ١٣ فبراير ١٨٤١ كان خاصًّا بالسودان الأوسط، فلم يذكر فيه شيء عن السودان الشرقي، ونعني به ذلك الجزء من الأراضي الواقع على ساحل البحر الأحمر ممتدًّا من شمالي سواكن إلى بوغاز باب المندب، بما فيه مصوع والحبشة. وسبب هذا الإغفال أن ذلك الجزء كان له «وضع» خاص؛ فلم يكن داخلًا في نطاق الولاية المصرية، كما أنه حتى وقت صدور الفرمان — ولعدة سنوات بعد ذلك — كان يتبع ولاية باشوية جدَّةَ.

ولم يستطع محمد علي إلا في أواخر عهده أن ينال حكم سواكن ومصوع مدة حياته فحسب، ولكن باشا جدة لم يلبث أن استرد هذه الجهات عند تولية عباس الأول؛ فظلت سواكن ومصوع من الأقاليم التابعة لولاية جدة، حتى استصدر الخديوي إسماعيل في عام ١٨٦٥ فرمانًا بأيلولتهما إلى حكمه،١ فكان هذا العمل فاتحة الخطوات التي اتخذت في السنوات التالية لتقرير مسألة السيادة المصرية، في عهد الخديوي العظيم، على السودان الشرقي بأجمعه، على طول ساحل البحر الأحمر إلى ما وراء باب المندب والساحل الصومالي حتى رأس حافون أيضًا.
ومن الضروري لإدراك قيمة الحقوق التي استند إليها الخديوي إسماعيل في تقرير هذه السيادة، أن نعرف ما كان بين مصر وسواكن من علاقات أيام محمد علي؛ فقد استطاع العثمانيون في أوائل القرن السادس عشر أن يبسطوا نفوذهم على ساحل البحر الأحمر الأفريقي إلى مضيق باب المندب،٢ ثم عينوا من أواسط القرن نفسه حاكمًا تركيًّا على مصوع، وآخر على سواكن، ووضع الحاكمان تحت إشراف والي جدة،٣ وأبقوا أحد الزعماء الوطنيين للمعاونة في أعمال الحكومة بمصوع، وآخر مثله بسواكن.٤
وحتى أواخر القرن التاسع عشر ظل الأتراك متمسكين بحقوق السيادة على شاطئ البحر الأحمر الغربي بأجمعه،٥ وكان لتَمسُّكهم هذا آثار خطيرة؛ لأن الولاية القضائية التي كانت لسواكن ومصوع شملت بلاد الحبشة إلى جانب ما يتاخم حدودها الشمالية والجنوبية من أقاليم ممتدة إلى باب المندب.٦
وعندما ثار الوهابيون ضد السلطان العثماني، وتعرضت للضياع حقوق السيادة العثمانية على الحجاز، كلَّف محمود الثاني واليه في مصر أن يخمد هذه الثورة، واستطاع إبراهيم بن محمد علي على أن يحرز عدة انتصارات مهدت لتأييد السيادة العثمانية على تلك البقاع. وفي أثناء هذا الكفاح نصب الباب العالي القائد المنتصر على ولاية جدة، ثم عاد فعينه على هذه الولاية مكافأة له على انتصاره في أوائل شوال ١٢٣٥ «يوليو ١٨٢٠».٧
ولما كانت ولاية جدة تشمل كذلك — على نحو ما أوضحنا — إقليمي سواكن ومصوع، مع ما يتبع «قضاءهما» من أصقاع ممتدة على طول ساحل البحر الأحمر الأفريقي، ومن هذه الأصقاع الحبشة؛ فقد أصبح إبراهيم باشا يُلقَّب من ذلك الحين بمُتصرِّف جدة والحبش، أو والي إيالة الحبش، ومتصرف سنجق جدة، أو شيخ الحرم المكي، وحاكم الحبش، ومتصرف جدة، ووالي جدة والملحقات.٨
وهكذا صار لمصر في جهات السودان الشرقي المتاخمة لساحل البحر الأحمر نوع من السيادة، ولكن هذه السيادة كانت غير مباشرة، فضلًا عن أنها كانت سيادة اسمية. وسبب ذلك أن العثمانيين في تلك الآونة لم يكن لهم أي نفوذ في هذه المناطق، ولم يستطيعوا استمالة الحكام الوطنيين في سواكن ومصوع إلى الاعتراف بسيادتهم إلا بفضل ما كانوا يدفعونه من رواتب لهم، وظل نفوذ الحكم التركي في جزيرة مصوع لا يتعدى هذه الجزيرة.٩
ولكن محمد علي أراد أن يجعل من هذه السيادة الاسمية حقيقة واقعة، فأخذ يفكر جديًّا في فتح الحبشة منذ تقلد ولده إبراهيم ولاية جدة، وكان من الأغراض التي توخاها في فتح السودان التمهيد لضم بلاد الحبشة إلى ممتلكاته،١٠ بحجة أنه يخشى معونة أمرائها١١ لبكوات المماليك الذين نزحوا إلى السودان بعد مذبحة القلعة، ولكن محاولة فتح الحبشة سرعان ما أثارت مخاوف الإنجليز وقلقهم؛ إذ كانوا يسعون إلى إنشاء علاقات تجارية ودية مع الأحباش منذ مدة طويلة؛١٢ لذلك بذلت إنجلترا غاية جهدها عن طريق قنصلها في مصر — وكان إذا ذاك هنري سولت Salt — حتى يكف محمد علي عن تسيير حملة إلى الحبشة «ذلك البلد المسيحي الذي ما زال وحده — كما قالوا — متمسكًا بالمسيحية.» والذي لا يمكن أن تُسلِّم أوروبا عامة، وإنجلترا خاصة، بغَزْوه.١٣
فعدل محمد علي عن مهاجمة الحبشة، ولكنه استعاض عن ذلك بمحاولة فرض سلطانه على ساحل البحر الأحمر، فأرسل في عام ١٨٢٦ قوة استطاعت أن تحتل جزيرة مصوع.١٤ وكان واضحًا أن الغرض من ذلك إنما هو بسط نفوذ مصر — في ظل التبعية العثمانية — على الحبشة وجميع الساحل الأفريقي للبحر الأحمر،١٥ ولكن الأتراك رفضوا في هذه الآونة أن يتسع نفوذ محمد علي؛ فاضطر الباشا إلى إخلاء مصوع. ومع هذا فقد جدد محمد علي محاولاته حتى تأذن له تركيا في احتلال سواكن ومصوع، وقلقت إنجلترا مرة أخرى بسبب هذه المحاولات، فأرسلت تعليماتها إلى قنصلها في مصر الكولونيل كامبل Campbell، في أغسطس ١٨٣٧، حتى «ينتهز أول فرصة سانحة فيتناول هذا الموضوع مع باشا مصر، ويشعره بأن إنجلترا والهند لا تنظران بعين الرضا إلى تحرك قواته لاحتلال شاطئ البحر الأحمر الأفريقي، وأن مثل هذا العمل من شأنه إثارة المناقشات بينه وبين الحكومة البريطانية.»١٦
وعلى أثر انتهاء أزمة الحكم السياسية الكبرى أخلى محمد علي بلاد العرب، وفقد إبراهيم بذلك ولاية جدة، واستعادت تركيا عن طريق الوالي العثماني في الحجاز سيادتها المباشرة على سواكن ومصوع، وانتهز الأحباش هذه الفرصة وعملوا من جانبهم على انتزاع حقوق هذه السيادة لأنفسهم، سيما وأنهم كانوا مستقلين داخل بلادهم، ولم يستطع العثمانيون في وقت من الأوقات فرض سيطرتهم الفعلية عليهم، فعرض الرأس أوبي Oubie، حاكم تيجري على فرنسا، أن «يتنازل» لها عن خليج أمفيلا على الشاطئ الحبشي، ولكن حكومة لويس فيليب رفضت هذا العرض، كما رفضت «تنازل» شركة فرنسية كانت قد اشترت من الأحباش في الوقت نفسه مساحة شاسعة من الأراضي حول إيد Edd، وتقع في منتصف المسافة بين مصوع وباب المندب.
ويرجع ذلك إلى أن حقوق الأحباش في السيادة على ساحل البحر الأحمر كانت موضع شك كبير١٧ في عام ١٨٤٠، ووجد العثمانيون في السنوات القليلة التالية أنهم إذا ظلوا يرفضون إجابة محمد علي إلى رغبته؛ فإن ممتلكاتهم في مصوع وسواكن، وما كان يترتب على بقائها في حوزتهم من حقوق السيادة الواسعة على ساحل البحر الأحمر الأفريقي برمته، مآلها حتمًا إلى الضياع؛ بسبب ما يبديه الرءوس الأحباش من نشاط؛ لذلك وافقت تركيا في سبتمبر ١٨٤٦ على إعطاء محمد علي حكومة سواكن ومصوع مدى حياته.
وكان من رأي بلودن Plowden، قنصل إنجلترا في مصوع، أن حكومة هذه الجهات أُعطيت لباشوية مصر لتأييد سيادة الباب العالي ونفوذه في الحبشة وغيرها من البلدان المتاخمة لها،١٨ فقد حضر إسماعيل حقي أفندي للاضطلاع بشئون الإدارة في سواكن ومصوع من قبل محمد علي في مارس ١٨٤٧، كما حضر إلياس أغا على رأس الجند، وصرح ثانيهما للقنصل الفرنسي في مصوع بأن الباشا قد كلفه القيام بكشف الجهات الواقعة على طول الشاطئ الأفريقي كشفًا دقيقًا حتى بوغاز باب المندب.١٩
وبدأ إسماعيل حقي يعد إحصاء تقريبيًّا للقبائل المنتشرة بين سواكن وبربرة على الساحل الصومالي؛ توطئةً — كما قال — لامتلاك جميع الشاطئ الأفريقي حتى رأس غردافوي باسم محمد علي،٢٠ وفي الوقت نفسه كان محمد علي يتخذ العدة لإرسال حملة تقوم من سواكن٢١ ومصوع لا لغزو الحبشة فحسب، بل ولامتلاك جميع الأراضي الواقعة على ساحل البحر الأحمر التي فتحها قديمًا السلطان سليم الأول.
وإزاء هذا النشاط الجديد — وهو نشاط يهدد الحبشة — رأت إنجلترا أن توجه نظر الباب العالي إلى ما ينطوي عليه إعطاء حكومة سواكن ومصوع لمحمد علي من «تعدٍّ» على الحبشة، من شأنه أن يُعطِّل ما تريده إنجلترا من إنشاء علاقات تجارية معها.٢٢ وأمام الأمر الواقع لم تتعرض إنجلترا لحقوق السيادة ذاتها على ساحل البحر الأحمر، ولكن محمد علي لم يلبث أن مرض مرضه الخطير بعد ذلك؛ فتعطل مشروع الغزو الذي كانت تجري الاستعدادات لإنجازه، ثم اعتزل الباشا الحكم، واعتلى أريكة الولاية إبراهيم باشا، ولكنه ما لبث أن توفي بعد قليل فخلفه عباس باشا الأول، وفي عهده عادت سواكن ومصوع إلى تركيا في الشهور الأولى من عام ١٨٤٩، وفي يونيو من العام نفسه تسلَّمت تركيا إدارتهما نهائيًّا.٢٣
١  Corresp Resp Abyss. No 333 Mossowa 20/3/1862. Cameron to Russell.
٢  Ibid No 184 Mossowa 9/7/1854 Plowden to Clarendon.
٣  Staat-Archiv-General. Consulat. 1840–1860. No 1240 Alex 28/10/1851.
٤  Corresp Resp. Abyss. Enclos. No 3 Memo. On Trade of Abyssinia 20. 8. 74. p. 8, also Combes 338–9: Junker 52.
٥  F. O 78/3186. Turkey “Egypt” No 60. Alex 3/6/1870 Stanton to Clarendon.
٦  Corresp. Resp. Abyss. Mossowa 16. 8. 48. Plowden to Palmerston p. 17.
٧  Recueil de Firmans. “Nahoum”. P. 105.
٨  Tbid. PP 96, 126, 135, 175, 228, etc.
٩  Corresp Resp. Abyss. Plowden to Addingtou 23. 8. 47.
١٠  Russell “Nubia” 170.
١١  عابدين — المعية دفتر ١ تركي، رقم ٣٤، صورة القائمة المحررة في ٢٧ جمادى الثانية ١٢٢٥.
١٢  Waddington 91-92; Russell (Nubia) 107.
١٣  F. O 78 93. Turkey “Egypt” Cairo 20/12/1820. Salt to the Secrclary.
١٤  Madden Vol. I. P. 331.
١٥  Staat-Archiv. General Cousulat zu Alex 1848–1860 No 1240 Alex 28. 10. 51.
١٦  F. O 78/3185. Turkey “Egypt”. Draft No 15. F. O 4. 8. 37 to Colonel Campbell.
١٧  Douin. t III. Ler Paatie. P. 234-235.
١٨  Corresp. Resp. Abyss. Mossowa 16. 8. 48 Plowden to Palmerston. P. 18.
١٩  Aff. Etr, Memoires et Documents. “Massawa t. II” Degoutin au Ministre 15/3/1817. 1/4/1817. Douin. p. 238.
٢٠  Aff, Etr. Mem, et Doc. “Massawa. t. ll” Degoutin au Ministre 15/10/1847.
٢١  Douin. 239.
٢٢  Corresp. Resp. Abyss. Mossowa. 16. 8. 48. p. 18.
٢٣  Blue Book “Aby ssinia” Enclos. No 100 Lieut. Adams to the Political Agent at Aden. 7/6/1849. also. Corresp. Resp. Abyss. Cairo 18. 3. 49. p. 25.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥