الفصل الرابع
وكان أثر نشاط السياسة المصرية في عهد محمد علي أن
تأيَّدت حقوق السيادة العثمانية على ساحل البحر الأحمر
الأفريقي، من حدود الباشوية المصرية شمالًا إلى غردافوي
جنوبًا، بما في ذلك حقوق السيادة على بلاد الحبشة، ورسم
محمد علي لخلفائه خطة واضحة لإدخال الأقاليم الأفريقية
المطلة على البحر الأحمر تحت الإدارة المصرية، وعلاوة
على ذلك فقد استطاع أن يحدد معنى السيادة على السودان
الأوسط على نحو يكفل حقوق مصر من الناحية الدولية في
ممارسة شئون الإدارة والحكم في السودان.
غير أن التمسك بالسودانين الأوسط والشرقي كان يتطلب
جهدًا عظيمًا؛ لأن السودان الأوسط بلاد واسعة يستدعي
حُكْمُها حُكمًا صالحًا سَهَرًا شديدًا، وعِناية فائقة،
ولأن البقاء في سواكن ومصوع كان يدعو إلى بذل جهد شاق
ومال وفير؛ لتعزيز السيادة المصرية العثمانية على طول
الساحل الأفريقي حتى رأس غردافوي.
ومنذ تبوَّأ عباس الأول عرش الولاية شعر بجسامة هذه
المهمة الملقاة على عاتق مصر، تلك البلاد التي خرجت من
نضالها الطويل مع الباب العالي منهوكة القوى، قليلة
الموارد، وفي أشد الحاجة إلى الاستجمام حتى تستعيد
نشاطها، وتصلح أحوالها؛ فاتخذ عباس حيال السودان بشطريه
الشرقي والأوسط خُطَّة تتفق مع قدرة مصر على تحمل عبء
الحكم والإدارة في هذه الأقطار الشاسعة من جهة، ومع
مصلحة السودان والسودانيين أنفسهم من جهة أخرى.
فقد رأى عباس أن مصوع وسواكن تبعدان كثيرًا عن
المركزين الرئيسيين للإدارة والحكومة في القاهرة
والخرطوم، ومن الصعوبة بمكان إرسال النجدات إلى هذه
الأماكن البعيدة بسرعة، فضلًا عن أنه كان يخشى حدوث
احتكاك بين السلطات المصرية وقناصل الدول وعمالها هناك،
وفي بلاد الحبشة.
١
أضف إلى ذلك أن الأحباش — كما قال القنصل الفرنسي
ساباتيه
Sabatier
في القاهرة — كانوا يشعرون في قرارة نفوسهم بأن لهم
حقوقًا قديمة على جميع ممتلكات مصر الواقعة إلى الجنوب
من أسوان.
٢ وعلى ذلك فقد عمل عباس على تجنب الاحتكاك
مع الأحباش في منطقة مصوع بكل وسيلة،
٣ وذلك بإرجاع مصوع وسواكن إلى تركيا، وكان
كل ما عني به بعد ذلك الاهتمام بتوطيد الحكومة في
السودان الأوسط، والمحافظة على أملاك السودانيين،
وتأمينهم على أرواحهم، وتذليل سبل العيش لهم بمنع
الأحباش من الاعتداء عليهم في الأقاليم السودانية الشرقية.
٤
وعلى خلاف ما حدث في أيام محمد علي، لم يصدر السلطان
فرمانًا منفصلًا يعطي حكمًا في السودان لوالي مصر، بل
اكتفى بأن يذكر في فرمان الولاية الصادر إلى عباس في
بداية المحرم ١٢٦٥ «٢٧ نوفمبر ١٨٤٨»: أن تكون لعباس
حكومة مصر «مع توابعها»، على أن يكون ذلك بالشروط التي
وردت في الفرمان المرسل آنفًا إلى محمد علي باشا؛
٥ ذلك الفرمان الذي رتب نظام الحكم الوراثي
في مصر دون أن يذكر السودان، ولم يكن يقصد بذلك أن يصبح
الحكم في السودان وراثيًّا، بل ظل تقليد الحكم فيه
«لمدى الحياة» فحسب، ويتجدد هذا التقليد عند اعتلاء
باشا مصر أريكة الولاية.
وقد أوضح هذه الحقيقة هوبر
Huber، القنصل النمساوي بالقاهرة، إذا
قال في رسالة بعث بها إلى حكومته في ٦ يناير ١٨٥٢: إن
حكومة السودان «ليست حقًّا وراثيًّا من حقوق أسرة محمد
علي؛ فإن إدارة أقاليم سنار ملحقة بإدارة الباشا في
مصر، والباشا هو الذي يعين الحاكم في الخرطوم.»
٦
وقد سلك عباس في حكم السودان نفس السبيل الذي سلكه
جده من قبل، فبقي الحكم على ما كان عليه أيام محمد علي
من حيث أساليب الإدارة،
٧ والاهتمام برفاهية السودانيين. ومع أن
كثيرين أخذوا على عباس أنه أكثر من تعيين الحكمدارين
وعزلهم، فإن أسبابًا كثيرة كانت تدعوه إلى ذلك،
٨ هذا فضلًا عن أن أولئك الحكمدارين كانوا
بشهادة السودانيين أنفسهم،
٩ وبشهادة المعاصرين الأجانب أمثال قناصل
النمسا في الخرطوم وغيرهم، رجالًا أكفاء امتازوا بالجد
وحسن تصريف الأمور، والاستماع لشكايات الأهالي، واشتهر
فريق كبير منهم — إن لم يكونوا جميعًا — بالأمانة والاستقامة.
١٠
وانتهز عباس فرصة تعيين أحدهم — وهو رستم باشا —
حكمدارًا للسودان، فأصدر «نشرة عامة» في ١١ ربيع الأول
١٢٦٨ «٤ يناير ١٨٥٢» إلى جميع المديرين تتضمن المبادئ
التي يريد أن يسترشدوا بها في حكومتهم. ومما جاء في هذه
النشرة: «حيث إن عمران هذه الجهات، وتأمين رفاهية
وسعادة الرعايا والعباد، وحصول الأمن والانضباط العام
مرغوب لدى الجميع، ومتوقف على حسن الامتزاج والتكاتف
والاتفاق والاتحاد — وهذا أمر غني عن الإيضاح والبيان —
فالمأمول والمنتظر منكم أن توجهوا كل مساعيكم وهممكم
العالية لبذل لوازم العبودية، ودواعي الذمة والغيرة …
وأن تكونوا جسمًا واحدًا، وقلبًا واحدًا في خدمة وسعادة
الرعايا الموجودين تحت إدارتكم، وفصل دعاويهم، وتسوية
أمورهم كما يوجبه العدل والقانون، وكما يرضى الضمير …
وأن تصرفوا همتكم البالغة لعدم الانحراف عن دائرة الصدق
والفلاح والاستقامة. وقد حررنا لكم هذا للاعتبار،
ولمزيد الغيرة.»
١١
وكان عباس يود أن يتفرغ تمامًا لشئون السودان لولا
تلك الأزمة الخطيرة التي أثارها الباب العالي، عندما
أراد تطبيق التنظيمات الخيرية العثمانية التي صدرت في
نوفمبر ١٨٣٩ تطبيقًا كاملًا في مصر؛ حتى ينقل بفضل ذلك
هذه البلاد من ولاية ذات نظام وراثي وحكومة داخلية
مستقلة إلى مجرد مقاطعة من مقاطعات الإمبراطورية العثمانية.
١٢
وقد أيدت فرنسا والروسيا والنمسا تركيا في سياستها،
١٣ فتعقدت الأمور، ولم يستطع عباس الخروج من
هذا المأزق والمحافظة على الوضع الذي كفلته الفرمانات
لمصر إلا بفضل معاونة إنجلترا له؛ إذ كان من أثر تفاهمه
معها أن نجحت الدبلوماسية الإنجليزية في بطرسبرج
وبرلين، والقسطنطينية خصوصًا، في استمالة الدول إلى
تأييد عباس في موقفه،
١٤ فتمكن بذلك من المحافظة على مسند الولاية
المصرية، فضلًا عن تقوية مركز حكومته فيما بعد حتى صار
لا يربطه بالباب العالي في أواخر أيامه سوى رابطة
السيادة الاسمية.
١٥
بيد أن انشغال عباس بدفع الخطر عن مسند الولاية لم
يترك له في الحقيقة متسعًا من الوقت لتنفيذ كل رغباته
في الإصلاح، أو إحكام الرقابة الفعلية على حكومة الخرطوم،
١٦ فقد استطاع إلغاء احتكار تجارة الصمغ
والسنا، ومنتجات سنار، وألغى نظام العهد،
١٧ ولكن الحكمدارين والمديرين كانوا لا يريدون
إبطال الاحتكار، وعمد عبد اللطيف باشا، أحد الحكمدارين،
إلى احتكار الملاحة والتجارة في النيل الأبيض، واستجاب
عباس إلى رغبات التجار وقناصل الدول فأعلن حرية الملاحة
في النيل الأبيض عام ١٨٥٢، وانتهى الأمر باستدعاء عبد
اللطيف من السودان،
١٨ وكان من أثر ذلك أن نشطت التجارة، وبخاصة
تجارة الصمغ والعاج، كما نشطت تجارة الرقيق.
١٩
وكان نشاط تجارة الرقيق من الأمور التي مهدت بمرور
الزمن لخروج أقاليم شاسعة من سلطان الحكومة،
٢٠ فقد ضج السودانيون من «الغزوة» التي كانت
تقوم من الخرطوم؛ إذ يرسلها التجار من العرب أو
الأوروبيين أو الليفانتيين لصيد الرقيق في جهات النيل
العليا، والجهات الواقعة على حدود المديريات السودانية،
فكان النخاسون يدمرون قرى الأهالي، ويصادرون مواشيهم،
ويسترقون رجالهم ونساءهم وأطفالهم،
٢١ وزاد الطين بلة أن ضعف رقابة القاهرة على
المديرين والحكام أدى إلى اشتطاطهم في فرض الضرائب
وجمعها، حتى أضحت عبئًا ثقيلًا على كواهل الأهلين،
فتصايحوا الشكوى من شدة وطأتها، وتمنوا إلغاءها أو على
الأقل تخفيفها.
٢٢
لذلك لم يكد سعيد يصل إلى أريكة الولاية في منتصف عام
١٨٥٤ حتى وجد مهمته محصورة في مكافحة تجارة الرقيق؛
استجابة لدواعي الإنسانية من ناحية، وحفظًا لممتلكات
الحكومة من الضياع
٢٣ من الناحية الأخرى، كما كان من واجبه أن
يعمل على إزالة المساوئ التي كانت مثار الشكوى من
السودانيين، والتي توقَّع شيوخهم ورؤساؤهم أن يخلصوا
منها في عهد الحكومة الجديدة.
٢٤ إزاء ذلك ألغى سعيد الاحتكار كما اتخذ
إجراءات سريعة لإبطال تجارة الرقيق،
٢٥ وعمل على إزالة أسباب الشكوى من جانب
السودانيين، وفي مارس ١٨٥٥ عين أخاه البرنس حليم باشا
حكمدارًا على السودان حتى ينفذ الإصلاحات الجديدة،
٢٦ ويعد العدة لاستقبال سعيد؛ إذ كان يعتزم
الانسحاب إلى تلك الربوع إذا تحرجت العلاقات بينه وبين
الباب العالي. وكان هناك من الأسباب ما يجعل باشا مصر
يخشى استحكام الخلاف بينه وبين السلطان في ذلك الحين.
٢٧
أما الباب العالي فكان يرى في إرسال البرنس حليم إلى
الخرطوم خطوة يمهد بها سعيد لسفره إلى السودان، ومن ثم
يعلن استقلاله وانفصاله نهائيًّا عن تركيا إذا استطاع
إلى ذلك سبيلًا.
٢٨
وقام سعيد برحلته المشهورة إلى هذه الأقطار في أواخر
العام التالي «نوفمبر ١٨٥٧»، وكان يرمي من وراء هذه
الرحلة إلى القيام بزيارة تفتيشية واسعة؛ حتى يزيل
المساوئ التي يشكو منها الأهلون، ويتخذ من الإجراءات ما
يكفل تحسين أحوالهم، كما كان يرمي إلى إعادة النظر في
تنظيم السودان الإداري،
٢٩ واستمالة الشيوخ والزعماء الوطنيين إلى
جانب الحكومة،
٣٠ والبحث في أنجع الوسائل لمكافحة تجارة
الرقيق؛ إذ كان سعيد صادق الرغبة في القضاء على الرق
والنخاسة في ممتلكاته.
٣١
وفضلًا عن ذلك فقد كان يرجو من وجوده بالخرطوم أن
يستطيع وضع حد للخلافات بين السلطات المصرية هناك،
والأحباش الذين ما فتئوا يغيرون على السودانيين في
مديريات السودان الشرقية، ويعطلون التجارة بين بلادهم
والسودان الأوسط.
٣٢ وقد انتهز الشيوخ والزعماء الوطنيون فرصة
وجوده بين ظهرانيهم فاحتشدوا في كل مكان لمقابلته،
وأصغى سعيد بعناية فائقة إلى شكاياتهم ومطالبهم، ووعد
بزيادة التوسع في إشراك هؤلاء الرؤساء الوطنيين والمكوك
في أعمال الحكم والإدارة.
٣٣
على أن سعيدًا حقق آمال السودانيين فأصدر وهو في
الخرطوم أربعة مراسيم، في ٢ يناير ١٨٥٧،
٣٤ لتخفيف عبء الضرائب، وتنظيم جبايتها،
واستشارة المشايخ والزعماء الوطنيين عند تقدير قيمتها.
هذا فضلًا عن إبطال الفردة — وكان سعيد قد أعلن إلغاء
الرق رسميًّا في بربر قبل ذلك
٣٥ — ثم عين الباشا طائفة من المكوك والشيوخ
بدل جماعة من موظفي الحكومة طردهم من الخدمة لسوء تدبيرهم،
٣٦ وأدخل تعديلًا على نظام الإدارة في السودان
على أساس اللامركزية، وذلك بأن يصبح كل مدير خاضعًا
لإشراف حكومة القاهرة مباشرة بدلًا من تركيز السلطة
جميعها في أيدي الحكمدارين. وكان يُرجى أن يساعد هذا
التنظيم الجديد — كما قال القنصل الفرنسيساباتييه
Sabatier — على
النهوض بأداة الحكم وتحسين أحوال السودانيين عامة.
٣٧
وليس من شك أن هذه الإصلاحات كانت تتسم بطابع الخير،
وتدل على تغلغل المبادئ الحرة في نفس صاحبها، ولو أتيحت
الفرصة أمامها حتى توضع موضع التنفيذ لعادت بأطيب
الثمرات، ولساعدت على إنعاش السودان، والقضاء على تجارة
الرقيق الشائنة،
٣٨ ولكن شيئًا من ذلك لم يتحقق؛ فقد أثبت
التنظيم الإداري الجديد أنه مصدر ضعف وتقلقل بدلًا من
أن يكون عامل استقرار وقوة،
٣٩ حتى لقد عادت المركزية القديمة بعد عام
واحد من إلغائها، ونشطت تجارة الرقيق نشاطًا واسع
النطاق، وعاد النخاسون والجلابون سيرتهم الأولى تحت سمع
الحكومة وبصرها، بل لقد كان مُضِيُّهم في هذه التجارة
الشائنة راجعًا إلى تشجيع نفر من الحكام أنفسهم.
أما الجهود التي بذلها قناصل الدول في القاهرة
والخرطوم لوقفها ومنع شرورها
٤٠ فلم تجد شيئًا، ولم تُغنِ فتيلًا، ولعل
السبب في ذلك كله راجع إلى أن سعيد باشا لم يلبث أن
شغلته شئون الحكم في مصر، عندما تلبدت سحب السياسة في
أوروبا عام ١٨٥٩، فقد كان يريد انتهاز هذه الفرصة
السانحة حتى يعلن استقلاله، فلما لم تسعفه الظروف شرع
يعمل على تثبيت دعائم الحكم في مصر والسودان على أساس
توسيع الاستقلال الذاتي، وجعل الوراثة صلبية؛
٤١ وبذلك كان من المتعذر عليه أن يتفرغ
لمراقبة الأحوال في الأقطار السودانية.
٤٢
وأفاد تجار الرقيق من هذه الظروف؛ فتألقت الشركات
التجارية من تجار الرقيق الذين اتخذوا من صيد الفيل
والحصول على العاج ستارًا لنشاطهم المرذول، واستطاعت
هذه الشركات أن تحصل من حكومة الخرطوم الضعيفة على
«حقوق» الاتجار في مساحات شاسعة في بحر الغزال، وجنوبي
دارفور، وفي الكردفان، وكذلك في مناطق النيل العليا،
وبخاصة ما وراء غندكرو. وعند وفاة سعيد كانت هذه الجهات
خارجة تمامًا عن دائرة نفوذ الحكومة، حتى إن إعادة
الحكم المصري إليها كان يقتضي إعداد الحملات لاستردادها
عنوة من أيدي تجار الرقيق.
٤٣