الفصل السادس

وكان للسياسة التي اتبعها العاهل العظيم في السودان الشرقي وعلى ساحل البحر الأحمر الأفريقي، وانتهت بالحرب الحبشية من جهة، وبإرسال حملة الجوبا من ناحية أخرى، أعظم الأثر في عرض مسألة السيادة برمتها على بساط البحث، وكانت إنجلترا أكثر الدول اهتمامًا بتحديد دائرة هذه السيادة. ومع أنها خشيت أن يبسط المصريون سيادتهم على زنجبار، فتدخلت لإرغامهم على الانسحاب من الجوبا، إلا أنها ما كانت تتردد قط في الاعتراف بحقوق مصر الكاملة في السيادة على السودان الشرقي، وجميع الأقاليم الممتدة على ساحل البحر الأحمر حتى رأس حافون؛ أي إلى الدرجة العاشرة تقريبًا من خطوط العرض الشمالية، مع بقاء مصر تابعة لتركيا.

وكان يدعو إنجلترا وقتذاك إلى الاعتراف بهذه السيادة تقرير الحقوق الشرعية لأصحابها، وكذلك اعتقاد ساستها أن خضوع هذه الجهات لنفوذ الحكومة الخديوية من شأنه أن يفتح الموانئ الواقعة على ساحل البحر الأحمر وخليج عدن للتجارة المشروعة، ويساعد على مكافحة الرق والنخاسة، والقضاء على تجارة الرقيق قضاء مبرمًا.

وكان الإنجليز والفرنسيون والطليان قد حاولوا قبل أن يبسط إسماعيل نفوذه على السودان الشرقي وساحل البحر الأحمر الأفريقي، أن ينتزعوا لأنفسهم حقوقًا في هذه الجهات ضاربين عرض الأفق بحقوق السيادة التي كانت لتركيا على أقاليم بعيدة عنها، بحيث لا تستطيع أن توطد بها أقدامها؛ فأنشأت فرنسا قنصلية لها في مصوع عام ١٨٤١،١ وحذت إنجلترا حذوها بعد سبعة أعوام تقريبًا.٢
وفي السنوات التالية استمتع باروني Barroni الفرنسي، وبلودين Plowden الإنجليزي بنفوذ عظيم بين الأهالي في سواكن ومصوع والسودان الشرقي حتى إقليم البوغوص،٣ واستطاعت فرنسا أن تبسط في الستينيات من القرن الماضي نوعًا من «الحماية» على بوغوص،٤ كما حاولت إنجلترا أن تمد نفوذها إلى الأقاليم الواقعة جنوبي مصوع، فعقدت مع السلطان محمد، والي تاجورة، معاهدة في أغسطس ١٨٤٠، نالت بمقتضاها جزيرة موسى. وفي سبتمبر، عقدت معاهدة أخرى مع شيخ زيلع، نالت بها جزيرة أرباط، وذلك على الرغم من أن تاجورة وزيلع كلتيهما كانتا تابعتين للدولة العثمانية.٥
وفي مارس ١٨٦٢ اشترى الفرنسيون أبوك Obok من شيخ راحيتا، وكانت راحيتا تابعة لتركيا كذلك،٦ وفي عام ١٨٧٠، اشترى الطليان عصب من القبائل الضاربة حول زيلع، وهكذا اعتدى المرة بعد المرة على ما كان لتركيا من حقوق السيادة على هذه الأقاليم منذ أزمان بعيدة.٧
وكانت الاعتداءات المتكررة من الأسباب التي دعت الخديوي إسماعيل إلى بذل كل ما وسعه من جهد لصيانة حقوق السيادة الشرعية على السودان الشرقي وساحل البحر الأحمر، وقد شاهدنا كيف كللت جهوده بالنجاح في السنوات العشر التالية «١٨٦٦–١٨٧٦»، وكان الخديوي يستند إلى ما كانت تخوله إياه الفرمانات الصادرة إليه في عامي ١٨٦٥ و١٨٦٦ من حقوق السيادة على السودان الشرقي، وعلى طول ساحل البحر الأحمر إلى ما وراء باب المندب، وكذلك الشاطئ الصومالي الشمالي بما في ذلك ميناءا بلهار وبربرة، والشاطئ الشرقي إلى رأس غردافوي.٨
وفي ٨ أكتوبر ١٨٦٧، قدم جعفر مظهر باشا تقريرًا إلى إسماعيل، وُضِّحت فيه بجلاء حقوق السيادة المصرية على الشاطئ الأفريقي الشرقي من السويس إلى رأس غردافوي، عدا ميناء زيلع وحده،٩ وفي يونيو ١٨٧٠، بسط شريف باشا هذه الحقوق في رسالة إلى القنصل الإنجليزي بمصر، وهو الكولونيل ستانتون Stanton فقال: إن سيادة مصر تشمل ساحل البحر الأحمر الغربي بأكمله، ثم بلاد الصومال؛ لأن هذه الجهات من «ملحقات سواكن ومصوع».١٠
وقد سلم الإنجليز في آخر الأمر بهذه الحقوق الشرعية، فذكر سفيرهم في الآستانة السير هنري إليوت Elliot عند الحديث عن الوسائل المجدية في سبيل القضاء على تجارة الرقيق، أن الاعتراف بحقوق مصر — ذات التبعية التركية — في السيادة على ساحل البحر الأحمر الغربي وشواطئ خليج عدن الجنوبية من شأنه أن يساعد على مكافحة الرق والنخاسة،١١ كما أيد الكولونيل ستانتون للغرض نفسه احتلال بربرة بالقوات المصرية.١٢
وفي أبريل ١٨٧٦، أظهر الإنجليز استعدادهم للاعتراف بحقوق مصر — مع تبعيتها لتركيا — في السيادة على جميع الشاطئ الصومالي،١٣ وكانت إنجلترا بعد حوادث حملة الجوبا والحرب الحبشية تريد أن تحدد بوضوح ما كان لمصر من سلطة شرعية على الساحل الصومالي، وتبغي أن تقف هذه السلطة عند رأس غردافوي، ولكنها طلبت ثمنًا للاعتراف بهذا الحق أن يفتح الخديوي موانئ: زيلع، وبلهار، وبربرة، وتاجورة للتجارة الحرة، فبدأت من ذلك الحين تلك المفاوضات التي انتهت بعقد معاهدة ٧ سبتمبر ١٨٧٧ — بين مصر وإنجلترا — تعترف بسيادة مصر على هذه الأقاليم حتى رأس حافون بدلًا من رأس غردافوي.
وقد رفض الخديوي في بادئ الأمر أن يقف سلطان السيادة المصرية عند رأس غردافوي، وقال: إن حقوق هذه السيادة تشمل بلاد الصومال حتى نهر الجوبا جنوبًا، كما رفض أن يعلن أن موانئ زيلع، وبلهار، وبربرة، وتاجورة مفتوحة للتجارة الحرة؛ لأن عدم تحصيل أية رسوم على المتاجر التي ترد إلى هذه الموانئ يسبب خسارة فادحة، بينما تدفع الخزانة المصرية لتركيا جزية سنوية نظير بقاء هذه الموانئ في حوزة مصر.١٤
بيد أن إنجلترا رفضت من جانبها الاعتراف بحقوق السيادة على نهر جوبا، وفي مارس سنة ١٨٧٧، وافقت على أن تشمل السيادة المصرية الإقليم الواقع بين رأس غردافوي ورأس حافون،١٥ كما وافقت على أن يحصِّل الخديوي رسومًا معتدلة في زيلع وبربرة وسائر الموانئ على الساحل الصومالي، ما عدا بهار وبربرة اللتين وافق الخديوي على إعلان أنهما من الموانئ الحرة،١٦ وتعهدت الحكومة المصرية بأن تبذل أقصى جهودها لوقف تجارة الرقيق في الجهات الواقعة بين بربرة ورأس حافون.١٧ وطبقًا لهذه القواعد، أبرم في ٧ سبتمبر ١٨٧٧ بين مصر وإنجلترا اتفاقٌ «بشأن اعتراف حكومة صاحبة الجلالة بحقوق صاحب السمو «الخديوي إسماعيل باشا» الشرعية تحت سيادة الباب العالي على الساحل الصومالي حتى رأس غردافوي».١٨

وعلى هذا النحو أيد الإنجليز وجهة النظر المصرية التي بسطها شريف باشا في رسالته إلى الكولونيل ستانتون في يونيو ١٨٧٠، وهي أن بلاد الصومال إنما تؤلف جزءًا من الملحقات التي كانت لقائم مقاميتي سواكن ومصوع. ولم يكن اعتراف الإنجليز بذلك في معاهدة ٧ سبتمبر ١٨٧٧ إلا تقريرًا لذلك الوضع الدولي، الذي كان للسيادة المصرية على جميع أقطار السودان الشرقي، التي امتدت على طول ساحل البحر الأحمر الغربي من رأس علبة في الشمال إلى رأس حافون في الجنوب، وذلك بمقتضى الفرمانات التي صدرت بإعطاء إسماعيل سواكن ومصوع وزيلع في سنوات ١٨٦٥ و١٨٦٦ و١٨٧٥، بحكم ما كان للباب العالي من حق السيادة على هذه البقاع جميعها. وهي حقوق شرعية اعترفت بها الدول ولم تتعرض لمناقشتها في وقت من الأوقات.

فإذا أضفنا إلى ذلك أن الحكم في السودان الأوسط كان قد أُعطي — كذلك — لمحمد علي كجزء من التسوية التي وضعت للمسألة المصرية في عامي ١٨٤٠ و١٨٤١، ثم أصبح وراثيًّا بمقتضى فرمان الوراثة الصلبية الذي صدر لإسماعيل في ٢٧ مايو ١٨٦٦ «كتوابع وملحقات» لولايته الوراثية؛ لتبين لنا كيف أن حقوق السيادة التي كانت لمصر على السودان بشطريه الشرقي والأوسط، إنما هي حقوق شرعية قانونية أقرتها الدول واعترفت بها. وعلى ضوء هذه الاعتبارات، تحتل معاهدة ٧ سبتمبر ١٨٧٧ مكانة ممتازة؛ لأن هذه المعاهدة كانت بمثابة آخر الخطوات التي اتخذت لتأييد هذه الحقوق بصفة نهائية حاسمة.

١  Lejean 168.
٢  Markham. 59.
٣  Corresp. Resp. Abyss. No. 386. Dr Beke to Stanely 22. 11. 67. p. 733.
٤  Lejean. 145, Junker 105 et seq.
٥  Sabry 393.
٦  Abdin. Corresp. Franc. 73/1. f. 12016 “Memo Sur Obock”.
٧  Shukry. 242.
٨  F. O 78/3186 “Confid” Printed for the Use of F. O “18/7/1871”, Cocheris 266.
٩  عابدين — محفظة ٣، شميس ٧، نمرة الحفظ ٤٥، «مصوع وسواكن»، بدون تاريخ.
١٠  F. O 79/3186 No. 60 Alex 3. 6. 70. Copy of a Dep from Sherif Pasha 1. 6. 70.
١١  F. O 78/3187. Therapia 13/11/1873. Elliot to Granville.
١٢  F. O 78/3188. Memo. Affairs of the Somali Coast. Calcutta 1875.
١٣  F. O 78/3189. No. 127. Cairo 7/4/1876, Stanton to Derby.
١٤  F. O 78/3189. No. 127. Cairo 7/4/1876, No. 237. Alex 8/8/1876. Cookson to Derby.
١٥  F. O 78/3189. India Office 28/8/1877. To the Under Secretary of State F. O.
١٦  F. O 78/3189. No. 41. Cairo 21/2/1877. Vivian to Derby.
١٧  F. O 78/3189. No. 279. Alex 7/9/1877.
١٨  F. O 78/3189. No. 279. Enclos. Convention of September 7. 1877.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥