الفصل السابع
وقد ارتبطت المفاوضات التي أسفرت عن إبرام معاهدة ٧
سبتمبر بمفاوضات أخرى كانت تدور في الوقت نفسه بين
إنجلترا ومصر، من أجل الاتفاق على الوسائل الفعالة
للقضاء على تجارة الرقيق في السودانين الشرقي والأوسط،
وفي الأقاليم المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن.١ وكانت إنجلترا منذ عام ١٨٧٣ تضغط على
الخديوي إسماعيل حتى يعقد معها معاهدة تحدد مدة معينة
لإبطال تلك التجارة الشائنة نهائيًّا في مصر والسودان؛
إذ إنه على الرغم من الجهود الجبارة التي كان يبذلها
الخديوي إسماعيل للقضاء على هذه التجارة، ظلت إنجلترا
تبغي المزيد من تلك الجهود.
ذلك بأن الحكومة الإنجليزية كانت تحت ضغط شديد من
ناحية الرأي العام في بلادها، نتيجة للنشاط الذي أبدته
جمعية
مكافحة الرق Anti slavery society،٢ وكان الخديوي يدرك أنه من المتعذر تحديد
وقت معين لإلغاء تجارة الرقيق إلغاء تامًّا، وأن هذا
الإلغاء يقتضي وقتًا ليس بالقصير، ولكن الحكومة
الإنجليزية أصرت على ضرورة إبطال تلك التجارة نهائيًّا
من مصر خلال سبع سنوات، ومن السودان والملحقات المصرية
خلال اثنتي عشرة سنة. وعلى هذا الأساس أبرمت معاهدة
إلغاء تجارة الرقيق في ٤ أغسطس ١٨٧٧.٣
وكان عقد هذه المعاهدة عملًا خاليًا من الحكمة، ولم
تكن تستدعيه أية ضرورة؛ إذ كانت السبب الذي أشعل ثورة
محمد أحمد المهدي،٤ وأدى بطريق غير مباشر إلى ضياع السودان.
ومنذ البداية كان من رأي غوردون الذي عُين حكمدارًا على
السودان لتنفيذ المعاهدة والقضاء على تجارة الرقيق،
ومطاردة الجلابين والنخاسين في ربوع السودان الشاسعة،
وأرجائه الفسيحة، أن الخديوي لن يستطيع تنفيذ معاهدته
مع إنجلترا،٥
بل إن غوردون كان يعتقد أن الإنجليز أرغموا الخديوي
على عقد هذه المعاهدة،٦ وبعد إبرامها بست سنوات كتب الكولونيل
ستيوارت Stewart،
في تقريره المشهور، أنه من المستحيل أن يتوقع إنسان
زوال الرق في عام ١٨٨٩، وأن مشكلة عويصة كمشكلة تجارة
الرقيق من المتعذر معالجتها بعقد المعاهدات.٧
وكان مبعث الخطر من تلك المعاهدة أن تضطر مصر إلى اتخاذ إجراءات متطرفة بعيدة عن الحكمة حتى تتمكن من تنفيذ نصوصها. وهذا ما حدث فعلًا؛ إذ بدأ غوردون عمله كحكمدار للسودان بمطاردة تجار الرقيق مطاردة عنيفة لا هوادة فيها، وكان من أثر هذه المطاردة أن انتشر العصيان، واشتعلت الثورات في كل مكان، وبدأت العمليات العسكرية الواسعة لإخمادها، وبخاصة في دارفور وبحر الغزال والكردفان.
ولم يكن غوردون مُوفَّقًا في حكومته هذه المرة على
خلاف ما حدث أيام أن كان مأمورًا لمديرية خط الاستواء؛
فقد ارتكب عدة أخطاء، منها: أنه عزل عددًا كبيرًا من
الموظفين المصريين، واستبدل بهم جماعة من الأوروبيين؛
إذ عين في شهر واحد «يوليو ١٨٧٨» أربعة عشر أوروبيًّا؛٨ مما أدى إلى إشعال ثورة المهدي بعد أقل من
ثلاثة أعوام،٩ وكذلك اجتهد في تَسْوِيءِ سُمعة المصريين
في السودان، فألصق بالموظفين منهم تهمة اللصوصية،١٠ وقرب إليه طائفة من السودانيين أساءوا
استخدام السلطة التي خولهم إياها؛ فساموا الأهلين صنوف
العذاب، وظلوا يتَّجرون سرًّا في الرقيق؛١١ فتذمر السودانيون من هذه الحكومة، وأخذ هذا
التذمُّر يقوى يومًا بعد يوم، سيما وقد عمد غوردون إلى
تعيين طائفة من الحكام الأوربيين في دارفور وبحر الغزال
ومديرية خط الاستواء؛ مما أثار الشعور الديني لدى
الأهلين.
وقد اشتط هؤلاء الحكام في مطاردة تُجَّار الرقيق،
فكان هؤلاء التجار قوام الثورة في دارفور وبحر الغزال
بنوع خاص، ومع أن غوردون قضى بعد جهود شاقة على هذه
الثورات بين ١٨٧٧ و١٨٧٩، إلا أن جذوتها لم تنطفئ، وظل
تجار الرقيق يتربصون بالحكومة الفرص،١٢ وقد واتتهم على عجل؛ إذ عُزل إسماعيل
العظيم من الخديوية في يونيو ١٨٧٩، وغادر غوردون
السودان في يوليو، فظهر ضعف حكومة الخرطوم على أثر ذلك
واضحًا للعيان.
ولعله مما زاد الموقف في السودان حرجًا أن الحكومة
الإنجليزية خشيت أن يؤدي عزل إسماعيل وسفر غوردون إلى
إهمال معاهدة إلغاء تجارة الرقيق، وقلة الاكتراث
بتنفيذها؛ فأبدت مخاوفها للخديوي محمد توفيق باشا،
فسارع إلى إرسال تعليمات مشددة إلى محمد رءوف، الذي خلف
غوردون في منصب الحكمدارية، حتى يبذل كل ما لديه من جهد
في سبيل القضاء على تلك التجارة الشائنة، وسلم الخديوي
صورة من هذه التعليمات إلى السير إدوارد مالت Malet، القنصل الإنجليزي،
في مارس ١٨٨٠.١٣
وفضلًا عن ذلك فقد أُبلغ رءوف أنه — بصفته حكمدارًا
للسودان — مسئول أمام الخديوي إذا أخفق في مهمته
واستعادت تجارة الرقيق نشاطها السابق،١٤ وإزاء هذه الأوامر والتحذيرات الصريحة لم
يَسَعْ رءوف سوى إبقاء الحكام الأوربيين في مراكزهم،
وإصدار التعليمات القاطعة إلى جميع المديرين والموظفين
حتى يسيروا في سياسة «الإلغاء» في غير تراخٍ أو إبطاء،١٥ ورغم ذلك فلم يستطع رءوف التغلب على تجار
الرقيق، بل لقد عجزت الحكومة عن إنشاء الإدارة القوية
الصالحة في السودان.
وفي عام ١٨٨١، كانت البلاد تغلي مراجلها سخطًا على
سياسة الحكومة في إلغاء الاتجار بالرقيق، وعلى فداحة
الأعباء المالية التي كانت تثقل كاهل الأهلين، وتشدد
الحكومة في جمع الضرائب؛ لذلك كله لم يكد يظهر محمد
أحمد المهدي حتى التف الأهلون حوله ينشدون الراحة
النفسية في تعاليم هذا الفقيه، كما أقبل تجار الرقيق من
كل حدب وصوب يشدون أزره؛ عساه يقود الثورة ضد الحكم
المصري في السودان.١٦
أما رءوف فقد أخفق في إخماد حركة المهدي، ولم تستطع
الحكومة الخديوية بالقاهرة أن تبعث إليه بالإمدادات
اللازمة بسبب ثورة العرابيين في مصر، وعدم اهتمام
العرابيين بأمر الثورة المستفحلة في السودان، فتُرك
رءوف وشأنه دون أية تعليمات، بل ودون أن تأتيه النجدة
من القاهرة،١٧ وفي فبراير ١٨٨٢، استُدعي رءوف، وفي أبريل
من العام نفسه كانت الثورة قد نشبت في سنار،١٨ ثم سقطت الأبيض في أيدي المهديين في يناير
١٨٨٣، وفشلت المحاولات التي بذلتها الحكومة المصرية
لقمع الثورة في بداية عهد الاحتلال البريطاني، فلقي
هكس باشا Hicks
حتفه، وأبيد جيشه في موقعة شيكان «نوفمبر ١٨٨٣»؛ وذلك
لعدم اتخاذ الاستعدادات الكافية لنجاح حملته،١٩ فقوي سلطان المهديين بعد ذلك واستولوا على
دارفور وبحر الغزال، كما أشعل عثمان دقنة الثورة في
السودان الشرقي، وأطبق الدراويش على أمين باشا في
مديرية خط الاستواء، وانقطع اتصاله بالعالم الخارجي،
ولم يبق من جند الحكومة غير بعض الحاميات الصغيرة
المبعثرة هنا وهناك، حتى أصبح سلطان الحكومة مهددًا
بالزوال، وفي هذه الأثناء قررت إنجلترا إخلاء
السودان.
١
Shukry.
276.
٢
F. O 81/1371. Draft “S. T”
No. 6. f. 0. 2. 4.
1870.
٣
Shukry.
275–278.
٤
Biovés.
179.
٥
F. O 81/1511 “S. T” No. 7
“Confid” cairo 23/3/1878
.
٦
F. O 84/1511 “S. T”. No. 8.
Cairo 29/3/1870 .
٧
Blue Book. Egypt. No. 11
“1883” Report of colonel Stewart. p.
24.
٨
F. O 48/1511 “S. T”. No. 20.
Alex 13/7/1878 .
٩
Slatin
35–56.
١٠
Hill
349.
١١
Gessi. 193, 202-3,
206.
١٢
Shukry.
312-313.
١٣
F. O 48/1572 “S. T” No. 6.
Cairo 20/3/1880. Enclos. Lettre de S. A
le Khedive á S. E. le Gour Gen. Du Soudan
3. Rabi Akhar 1297 “15. 3.
80”.
١٤
F. O 84/1572. “S. T” No. 4
Cairo 17. 3. 80. Malet to
Granville.
١٥
F. O 84/1572. “S. T” No. 33.
Cairo 19. 10. 80. Enclos. Ministére de la
Guerre. Trad. d’une lettre par Geigler
pacha 20.9. 80.
١٦
Staat-Archiv. “Gen. Cons.
1881”. No. 108. Cairo 17/9/1881. Enclos.
khartoum 15. 8.
81.
١٧
Sartorius
47.
١٨
Buchta
20.
١٩
Morley. Vol III. P.
3.