الفصل الثامن
واتخذت إنجلترا حيال السودان في الشهور القليلة التي
تلت احتلالها القطر المصري موقفًا ينطوي على الحيطة
والحذر، فأرادت قبل كل شيء أن تقف على حقيقة أحواله،
وتمسكت بما أسمته عدم الرغبة في التدخل في شئونه،
١ واقتصرت على إبلاغ حكومة الخديوي كل ما
يأتيها من معلومات عن تطور الحوادث في تلك الجهات؛
ولذلك فلم يكد يمضي شهر واحد على الاحتلال حتى أوفدت
إلى السودان الكولونيل ستيوارت
Stewart؛ للوقوف على سير الأمور هناك
بعد اشتعال ثورة المهدي، فقدَّم ستيوارت تقريرين
بأبحاثه؛ الأول: من الخرطوم في ٩ فبراير ١٨٨٣،
٢ وقد نال هذا التقرير شهرة واسعة، والثاني:
من مصوع عن السودان الشرقي في ٨ أبريل ١٨٨٣.
وقد أبلغ القنصل البريطاني العام في مصر السير إدوارد
مالت هذين التقريرين إلى شريف باشا في مايو ويوليو من
العام نفسه،
٣ وفي الوقت ذاته أصدرت الحكومة الإنجليزية
تعليماتها إلى سفيرها في الآستانة اللورد دفرين
Dufferin في ٣ نوفمبر
١٨٨٢؛ حتى يضع تقريرًا ضافيًا عما يراه من ضروب التنظيم
اللازم لإنشاء حكومة صالحة موطدة في مصر بعد حوادث
الثورة العرابية، ولم يكد يمضي على وصوله أقل من ثلاثة
شهور حتى وضع في ٦ فبراير ١٨٨٣ تقريره المشهور وقد تحدث
فيه عن السودان،
٤ وفيما عدا ذلك لم تتدخل الحكومة الإنجليزية
في شيء يتعلق بتلك البلاد.
ومما هو جدير بالملاحظة أن الكولونيل ستيوارت واللورد
دفرين لم يكن من رأيهما فيما قدَّماه من تقارير أن تترك
مصر ممتلكاتها في السودان، رغم الثورة المنتشرة في
ربوعه، وهزائم قواتها العسكرية على أيدي الدراويش؛ فقد
تناول تقرير ستيوارت «تقرير ٩ نوفمبر» الأسباب التي أدت
إلى قيام هذه الثورة، وما يلزم من إصلاحات حاسمة سريعة
لتوطيد سلطان الحكومة في الأقاليم القليلة التي بقيت في
حوزتها.
أما اللورد دفرين، فكل ما أشار به إنما هو الاعتراف
بالأمر الواقع، وذلك بأن تتخلى مصر عن دارفور، وربما عن
جزء من كردفان مكتفية بحفظ سلطتها في إقليمي الخرطوم
وسنار؛ أي الأجزاء التي ما زالت حتى ذلك الحين في
حوزتها، بل لقد كان دفرين ضد فكرة الإخلاء، ويعتبرها
أمرًا يتعارض مع مصلحة مصر فلا تقبله حكومتها، قال
اللورد: «ويميل بعض الناس إلى أن يشيروا على مصر بأن
تتخلى عن السودان نهائيًّا، وأن تترك سائر أملاكها في
تلك الجهات، غير أنه من غير المتوقع أن تقبل سياسة
كهذه؛ إذ إن استيلاءها على جهات النيل السفلى يجعلها
تميل بطبيعتها إلى الاستيلاء على جميع الجهات التي
يخترقها مجراه، وإذا أدركنا أن هذه البلاد لو أُصلحت
تربتها تعطي محصولات وافرة من القطن وقصب السكر لما بقي
بعد ذلك محل للعجب من أن مصر لا تميل إلى التخلي
عنها.»
ويقول السير أوكلند كلفن
Auckland colvin: إن دفرين عندما كتب
تقريره كان الرأي السائد أن مصر لن توافق على سياسة من
قواعدها إخلاء السودان،
٥ وقد أدركت الحكومة الإنجليزية هذه الحقيقة؛
ولذلك فإنه عندما قررت الحكومة المصرية إرسال الجنرال
هيكس
Hicks لقتال
المهدي في السودان امتنعت وزارة غلادستون عن التدخل في
هذا الشأن،
٦ وذلك على الرغم من أن كلًّا من الكولونيل
ستيوارت واللورد دفرين كانا يعتبران إرسال هيكس دون
إتمام الاستعدادات اللازمة من عسكرية وغيرها ضربًا من «الجنون».
٧ وكان من أثر هذه السياسة السلبية — على حد
قول كرومر فيما بعد — أن أصيب هيكس وجيشه بالهزيمة
النكراء في شيكان.
٨
على أنه كان من أثر هذه الهزيمة أن نبذ غلادستون تلك
السياسة السلبية، وتقدم إلى الحكومة المصرية يشير عليها
بإخلاء السودان؛ بحيث تنتهي حدودها الجنوبية عند وادي
حلفا، وكان ذلك في نوفمبر ١٨٨٣.
٩ وكانت هذه «النصيحة» منشأ الأزمة التي أودت
بوزارة شريف باشا؛ ذلك بأن الوزراء المصريين — كما توقع
دفرين من قبل — «كانوا مصممين على الاحتفاظ بالخرطوم،
وفتح الطريق بين سواكن وبربر.» وفضلًا عن ذلك فقد كانوا
يرون التمسك بسنار ضروريًّا لإرسال الإمدادات منها إلى الخرطوم.
١٠
وأصرت الحكومة الإنجليزية من جانبها على أن تتخلى مصر
عن جميع الأراضي الواقعة جنوبي أسوان، أو على الأقل
وادي حلفا،
١١ ولكن شريف ما لبث أن قدَّم إلى بارنج —
القنصل الإنجليزي العام في مصر منذ سبتمبر — مذكرة
بوجهة النظر المصرية، جاء فيها أن حكومته لا يمكنها أن
توافق على التخلي عن أراضٍ لا غنى عنها قط لضمان سلامة
مصر وحياتها.
وفي مذكرة أخرى، بتاريخ ٢ يناير ١٨٨٤، أظهر شريف
استعداده لأن يعيد السودان الشرقي وموانئ البحر الأحمر
إلى السلطان العثماني، وأن يركز كل جهوده للاحتفاظ
بوادي النيل حتى الخرطوم جنوبًا،
١٢ ولكن دون جدوى، بل إن وزير الخارجية
الإنجليزية، اللورد جرانڤيل، ما لبث أن أبرق إلى السير
إفلن بارنج، في ٤ يناير، بما يفيد استعداد الحكومة
الإنجليزية لتعيين وزراء إنجليز إذا تعذر وجود مصريين
يقبلون تنفيذ أوامر الخديوي تحت إرشاد الإنجليز.
١٣
وهو أمر غير متوقع في نظر اللورد جرانڤيل، وعندئذ لم
يجد شريف مناصًا من الاستقالة، فاستطاع الإنجليز تنفيذ
سياسة الإخلاء، ووقع اختيارهم على الجنرال غوردون
للقيام بهذه المهمة، وتم لهم ما أرادوا بعد أن بذل
غوردون نفسه حياته ثمنًا لذلك.
١٤
ونجم عن إخلاء السودان أن قوي شأن الدراويش، فظلوا
يهاجمون الحدود المصرية مهاجمة عنيفة في عهد الخليفة
عبد الله التعايشي، وعاد الرق في «أملاك» التعايشي
سيرته الأولى، وازدادت مكافحة الاتجار في الرقيق صعوبة؛
نظرًا لانتشار هذه التجارة الشائنة؛
١٥ ولذلك كان من الضروري أن تعمل إنجلترا على
استرجاع السودان، ومواجهة المسئوليات التي حرصت على
تفاديها يوم غادر هيكس باشا القاهرة بحملته المشئومة
إلى كردفان؛
١٦ رغبة في تأمين الحدود المصرية والقضاء على
تجارة الرقيق.
وفضلًا عن ذلك فقد كان هناك ما يجعل العمل لاسترجاع
السودان أمرًا لا محيد عنه؛ إذ استقامت أحوال مصر
المالية، وصار لها جيش مدرب على الأساليب الحديثة،
واطمأن الإنجليز إلى مركزهم في مصر بعدما أدخلوه على
الإدارة المصرية من ضروب الإصلاح؛ حتى إنهم منذ عام
١٨٨٧ تقريبًا أخذت نفوسهم تمتلئ ثقة باستقرار الأوضاع
القائمة في مصر، سيما بعدما أسفرت عنه بعثة السير
درموند
وولف Drummond wolff في تركيا ومصر، تلك البعثة التي
كانت تهدف إلى عقد اتفاق بشأن جلاء الإنجليز عن القطر
المصري.
وقد استطاع وولف أن يعقد مع الباب العالي اتفاقين؛
أولهما: في ٢٤ أكتوبر ١٨٨٥، وثانيهما: في ٢٢ مايو ١٨٨٧،
على أساس أن إنجلترا لا يسعها أن تترك مصر والسودان
نهبًا للفوضى، ومسرحًا لاختلال النظام. وكان عقد هذين
الاتفاقين بمثابة اعتراف من الباب العالي باستمرار
الاحتلال الإنجليزي لمصر ما دام الإنجليز لا يطمئنون
إلى استقرار أحوالها، وإلى قيام حكومة منظمة موطدة ترعى شئونها.
١٧
ولم يقلل من قيمة هذين الاتفاقين أن الباب العالي رفض
أن يصادق عليهما، ومهما يكن من شيء فقد شرع الإنجليز
منذ اطمأنوا إلى استقرار الأوضاع في مصر يعملون على
استرجاع السودان، سيما وقد أخذت الدول الأخرى تنشط
لاقتطاع أجزاء منه. على أنه مما يجدر ذكره في هذا
المقام، أن التعليمات التي أصدرها اللورد سولسبري
Salisbury إلى السير
درموند وولف، في ٧ أغسطس ١٨٨٥، كانت تشمل الاعتراف
ببقاء السيادة العثمانية على مصر كاملة بحكم المعاهدات
والاتفاقات الدولية، كما كانت تعترف ببقاء هذه السيادة
على السودان رغم إخلائه. وقد تأيد الاعتراف بالسيادة
العثمانية المصرية على السودان في اتفاق ٢٤ أكتوبر
١٨٨٥، عندما كان الغرض من هذا الاتفاق — على حد قول
أوكلند كلڤن
١٨ — أن تحمل تركيا عبء «تحطيم الخليفة
التعايشي»؛ لأنه كان من المنتظر أن تطلب تركيا من مصر
أن تقوم بتحمل هذا العبء بدلًا عنها.
وقد اعترف درموند وولف في مفاوضاته مع الغازي أحمد
مختار باشا، القوميسير العثماني في مصر، ببقاء السيادة
العثمانية المصرية على السودان.
١٩ وعلى أساس هذا الاعتراف بالحقوق التي
استمدتها مصر من الفرمانات العثمانية لبسط سيادتها على
تلك الأقطار، استطاع الإنجليز أن يتبعوا إزاء السودان
سياسة متناقضة؛ فبينما كانوا يحاولون رد عدوان بعض
الدول التي تطمع في اقتطاع أجزاء من جنوبيه، زاعمة أن
تلك الأصقاع لم تكن ملكًا لأحد
res
nullius، أو أرضًا فضاء يستطيع أن
يستحوذ عليها من يشاء كانوا في الوقت نفسه يحاولون أن
يتخذوا من استمرار حقوق مصر في السيادة على السودان —
رغم إخلائه — تكأة يستندون إليها في عقد اتفاقات مع بعض
الدول الأخرى؛ لتقسيم الممتلكات المصرية ذاتها في
السودان الشرقي، وعلى طول الساحل الصومالي.
وقد كانت هذه السياسة من أهم الأسباب التي دعت
الإنجليز إلى أن يوطدوا العزم على استرجاع السودان؛ ذلك
بأن الإيطاليين منذ احتلالهم عصب شرعوا في الأعوام
العشرة التالية بين ١٨٧٠ و١٨٨٠ يوسعون دائرة نفوذهم،
فاحتلوا مصوع في فبراير ١٨٨٥، وأخذت ممتلكاتهم تمتد على
طول الساحل الصومالي الشرقي حتى مصب نهر جوبا عام ١٨٨٩.
وقد حدث ذلك كله منذ يوليو ١٨٨١، رغم احتجاج الحكومة
المصرية بأن حقوق السيادة العثمانية تشمل جميع الساحل
الغربي للبحر الأحمر.
٢٠
ولم يقف الطليان عند هذا الحد، بل إنهم احتلوا بوغوص
في السودان الشرقي حتى أصبحوا يهددون كسلا، غير أن هذا
التوسع من جانبهم ما عتَّمَ أن أثار اعتراضات شتى من
جانب الإنجليز الذين احتجوا بأن كسلا من الأملاك
المصرية، بل إن السودان بأجمعه ملك لخديوي مصر، وأن ما
للباب العالي من حقوق السيادة يشمل الساحل الغربي للبحر
الأحمر، ورغم ذلك فقد سلم الإنجليز للطليان في اتفاقات
أبرموها معهم في ٢٤ مارس و١٩ أبريل ١٨٩١، ثم في ٢٥ مايو ١٨٩٤
٢١ باحتلال كسلا مؤقتًا، دون مساس بما لمصر من
حقوق السيادة على هذا الإقليم، كما أعطوهم منطقة نفوذ
واسعة تشمل: هرر، وأوجادن، وشبه الجزيرة الواقعة عند
رأس غردافوي، وفي نظير ذلك تبقى للإنجليز الأراضي
الممتدة حول مينائي زيلع وبربرة.
وكانت إنجلترا قد بدأت تبسط نفوذها على ساحل الصومال
الشمالي وتضمه إلى أملاكها منذ ١٨٨٤، فاحتلت زيلع
وبربرة ضاربة عرض الأفق بتلك المعاهدة التي عقدتها مع
الخديوي إسماعيل في ٧ سبتمبر ١٨٧٧. وفي يوليو ١٨٩٤،
هاجم الطليان كسلا واحتلوها، ولكن الأحباش ما لبثوا أن
هزموهم في آخر عام ١٨٩٥ وبداية العام الذي يليه، كما
سحق «منليكُ» قواتِ القائدِ الإيطالي الكولونيل
براتيري
Baratieri
في عدوة في أول مارس ١٨٩٦،
٢٢ وأحاط الدراويش بمراكز الطليان في كسلا،
وكرروا الهجوم عليها، فرأت الحكومة الإيطالية أن يقوم
الإنجليز بعمل عسكري يُحوِّل نشاط الأحباش إلى جهات
أخرى حتى يخف الضغط الواقع على كسلا.
٢٣
وقد استجاب الإنجليز لرجاء الحكومة الإيطالية، وقرروا
في ١٢ مارس إعادة احتلال دنقلة، غير أن كرومر عاب على
حكومته أنها اتخذت هذا القرار «في عجلة بلغت الغاية في
شدتها» دون تفكير من جانبها في الصعوبات المالية
والعسكرية التي كان من الواجب تذليلها قبل أن تعلن
الحكومة عزمها على إرسال الحملة إلى السودان،
٢٤ ولكن صدور هذا القرار كان راجعًا إلى أسباب
أخرى؛ فقد اجتمع لدى الإنجليز من الأدلة ما يقطع بأن
الأحباش لم يستطيعوا الانتصار في عدوة إلا بفضل الذخائر
والأسلحة التي كانت تأتيهم من مصادر روسية وفرنسية.
٢٥
ويرجح أن المصادر الفرنسية أمدت الدراويش أنفسهم
بالأسلحة كذلك، وكان هناك ما يدل على أن مفاوضات قد
بدأت بين الفرنسيين والأحباش عقب الانتصار الباهر الذي
أحرزه منليك في عدوة، وأن هذه المفاوضات أسفرت عن اتفاق
الفريقين على أن يجهز الفرنسيون حملة تزحف من مراكزهم
في السودان الغربي صوب السودان الأوسط؛ لترفع العلم
المثلث الألوان على ضفاف النيل الأبيض، بينما يزحف
الأحباش بدورهم من جهة الشرق حتى يتقابلوا مع الفرنسيين
في فاشودة، ومن ثم يعمل الفريقان على توطيد سلطانهما في
جميع ربوع السودان،
٢٦ والقضاء على حقوق السيادة المصرية في تلك
الأصقاع.
وقد خشيت إنجلترا أن ينفذ الفرنسيون خطتهم؛ إذ إنها
كانت قد أبرمت في يوليو ١٨٩٠ اتفاقًا مع ألمانيا لتعيين
المناطق الاستعمارية لكل من الدولتين على ساحل أفريقية
الشرقي، واحتفظت لنفسها في هذا الاتفاق بجميع حوض النيل
الأعلى حتى الحدود المصرية، وكانت تعتبر هذه المنطقة
أرضًا لا يملكها أحد، أو شيئًا لا صاحب له
res nullius؛ إذ
إنه لم يذكر في الاتفاق أن إنجلترا تحتفظ بالمنطقة
المشار إليها نيابة عن السلطان العثماني أو الخديوي،
وكلاهما صاحب السيادة الشرعية على هذا الجزء من حوض
النيل رغم إخلاء السودان.
٢٧
وفي ١٤ مايو ١٨٩٤، عقدت إنجلترا معاهدة أخرى مع ولاية
الكنغو البلجيكية، تنازلت لها بمقتضاها عن الأراضي
الممتدة على شاطئ النيل الأيسر من بحيرة ألبرت إلى
فاشودة، دون أن يكون لها حق في هذا التنازل. وقد احتجت
فرنسا على ذلك وأعلنت أن هذا الاتفاق يناقض المعاهدات
الدولية؛ ولذا تعتبره ملغًى لا وجود له.
وفي ١٤ أغسطس ١٨٩٤، استطاعت الحكومة الفرنسية أن تعقد
مع ولاية الكنغو اتفاقًا نالت بمقتضاه منطقة نفوذ تصل
إلى مشارف بحر الغزال، وتشمل جزءًا من الإقليم الذي
تنازلت عنه إنجلترا لحكومة الكنغو،
٢٨ فارتكبت بهذا العمل نفس الخطأ الذي وقعت
فيه إنجلترا. وشرعت فرنسا إثر هذا الاتفاق تحاول بسط
سلطانها على تلك الأصقاع، فأسست مركزًا في زميو
Zemio، واتخذت العدة
لإرسال حملة إلى النيل الأعلى.
ولم تنجح احتجاجات الإنجليز وتهديداتهم في إثناء
فرنسا عن عزمها. وفي ٢٥ يونيو ١٨٩٦، غادر الكابتن
مرشان Marchand
لوانجو على رأس حملة وِجْهَتُها فاشودة، فبلغها ورفع
عليها العلم الفرنسي في ١٠ يونيو ١٨٩٨ بعد سفر طويل
شاق، وفي أغسطس اشتبك مع الدراويش وانتصر عليهم في
معركة كبيرة، ثم أخذ يفاوض رؤساء الشلوك والدنكا
والنوير لإدخال هذه الشعوب تحت الحماية
الفرنسية.
وفي ٣ ديسمبر ١٨٩٨، عقد معاهدة مع السلطان عبد الفاضل
«الملك العظيم»، وُضِعت بمقتضاها بلاد الشلك — الواقعة
على شاطئ النيل الأبيض الغربي — تحت حماية فرنسا، ولم
يبق غير التصديق على تلك المعاهدة من جانب الحكومة الفرنسية.
٢٩ على أن إنجلترا التي قررت احتلال دنقلة منذ
مارس ١٨٩٦ كانت قد أرسلت سردار الجيش المصري، السير
هربرت كتشنر
Kitchener، على رأس جيش يتألف من ١٧٦٠٠ جندي
— على أقل تقدير — من المصريين والسودانيين، و٨٢٠٠ من البريطانيين.
٣٠ هذا عدا قوات البدو غير النظامية، وعددها
٢٥٠٠.
وقد بدأت هذه القوات سيرها في مايو ١٨٩٨، وفي أثناء
اشتباك مرشان مع الدراويش جنوبي فاشودة كانت دنقلة قد
سقطت في قبضة كتشنر «٧ أغسطس»، وبعد أسبوعين بدأ الزحف
على أم درمان، وفي ٢ سبتمبر أصيب الخليفة بهزيمة ساحقة
في معركة أم درمان،
٣١ وأمر كتشنر بهدم قبة المهدي قبل متابعة
الزحف إلى فاشودة، حتى أصبح على مقربة منها، فأرسل على
الفور كتابًا إلى مرشان أبلغه فيه نبأ انتصاره على
الدراويش، واستيلائه على الخرطوم، كما أشار إلى ما وصل
إلى علمه عن طريق أحد الدراويش من أن جماعة من
الأوروبيين قد احتلوا فاشودة.
وفي اليوم التالي، أجابه مرشان — بعد أن هنأه على
انتصاره — بأن قواته احتلت إقليم بحر الغزال بناءً على
أوامر حكومته حتى مشرع الرق، وإلى ملتقى بحر الغزال
ببحر الجبل، وكذلك بلاد الشلك على شاطئ النيل الغربي
حتى فاشودة، التي دخلها يوم ١٠ يوليو الماضي، كما نقل
إليه خبر المعاهدة التي عقدها مع عبد الفاضل.
٣٢
وكان مرشان يبغي من إرسال هذه الأخبار إلى كتشنر
تعزيز الادعاءات الفرنسية على فاشودة، مستندًا في ذلك
إلى حقوق الفتح والمعاهدة مع الوطنيين، ولكن كتشنر أصر
على أن فاشودة من الأملاك المصرية، وأن أوامر السلطان
العثماني وأوامر الخديوي تُلزمه باحتلالها؛ ولذلك فإنه
لا يجد مندوحة من الاحتجاج باسميهما ضد احتلال مرشان
لهذا الموقع، إذ «إن هذه البلاد كانت دائمًا من ممتلكات
تركيا، وإنه لهذا السبب يطلب إلى مرشان إخلاءها
وتسليمها فورًا.»
ولم يقف كتشنر عند هذا الحد، بل هدد مرشان بأنه أشد
منه قوة، وأعز نفرًا، وأنه يستطيع إذا شاء — ما دام سيد
الموقف — أن يرغمه «على الاعتراف بحقوق الباب العالي.»
٣٣ على أن الإنجليز والفرنسيين في فاشودة
استطاعوا تفادي الاصطدام؛ إذ كان مرشان يشعر بأنه لا
قدرة له على الاشتباك بقواته الضئيلة مع جيش كبير كجيش
السردار؛ لذلك نشأت بين الفريقين علاقات احترام وصداقة،
ورفع العلم المصري على فاشودة إلى جانب العلم الفرنسي،
٣٤ غير أن العلاقات بين لندن وباريس كانت في
حالة توتر شديد، حتى كادت الحرب تنشب بين الدولتين،
لولا أن فرنسا كانت إذ ذاك على غير استعداد للاشتباك في
قتال قد يعود عليها وعلى مستعمراتها بأوخم العواقب؛
لذلك أذعن وزير خارجية فرنسا، دلكاسيه
Declassé، للأمر
الواقع. وبعد مفاوضات مع اللورد سولسبري صدرت الأوامر
إلى مرشان بالانسحاب من فاشودة، وتم ذلك في ١١ ديسمبر ١٨٩٨.
٣٥
ووجه الأهمية في حادث فاشودة: أن حقوق مصر في السيادة
على السودان قد تأيدت بشكل يقضي على كل ادعاء من جانب
الدول التي كان من رأيها محاولة اقتطاع أجزاء منه، بحجة
أن إخلاء المصريين للسودان بعد اشتعال ثورة المهدي قد
ترك هذه البلاد، أو على الأقل شطرًا كبيرًا منها، أرضًا
خالية لا يملكها أحد
res
nullius، وأن لكل وافد عليها الحق
في امتلاكها ما دام ذلك في مقدوره. وكانت فرنسا كما
مرَّ بنا على رأس الدعاة إلى هذه النظرية، والعاملين
على نشرها، تلك النظرية التي عبَّر عنها دلكاسيه بقوله
— في إحدى برقياته إلى سفير دولته في لندن، بتاريخ ٤
أكتوبر ١٨٩٨:
٣٦ «إنه لمن العسير عليه أن يعتقد أن في
احتلال فاشودة أي اعتداء على أرض مصرية؛ إذ إن مصر —
عملًا بنصيحة إنجلترا — قد أخلت منذ عهد بعيدٍ
مديرياتها السودانية القديمة، وبخاصة مديرية خط
الاستواء وبحر الغزال.» لذلك عمد المصريون في حادث
فاشودة إلى تقرير حقوقهم في السيادة على السودان، كما
أصدر البريطانيون من جانبهم كثيرًا من التصريحات تعترف
بهذه الحقوق على نحو قاطع.
قال الوزير المصري بطرس باشا غالي، في ٩ أكتوبر ١٨٩٨،
ردًّا على مذكرة من اللورد كرومر: «لم يبعد عن نظر
حكومة سمو الخديوي — كما تعرف سعادتكم — استرجاع
مديريات السودان؛ لأن هذه الأقاليم بالنسبة لمصر هي
ينبوع حياتها، ولأن مصر لم تُرغم على الانسحاب منها إلا
بسبب وجود قوات متفوقة على قواتها، بَيْدَ أنَّ عدم
استعادة وادي النيل الذي كلَّف مصر تضحيات جسيمة
يُفْقِد استرجاع السودان كل قيمة. ولما كانت الحكومة
الخديوية تعرف أن مسألة فاشودة موضع مفاوضات سياسية في
الوقت الحاضر بين إنجلترا وفرنسا، كلفتني أن أرجو
سعادتكم أن تتوسطوا لدى اللورد سولسبري؛ كي يتم
الاعتراف بحقوق مصر الثابتة، وتعاد إليها تلك المديريات
جميعها التي كانت تحتلها عند قيام ثورة محمد أحمد.»
٣٧
وجاء في كتاب اللورد سولسبري إلى السفير الإنجليزي في
باريس، بتاريخ ٥ أكتوبر ١٨٩٨: «صحيح أن مصر قد تأثرت
حقوقها في امتلاك شاطئ النيل بسبب نجاح المهدي، فأضحت
هذه الحقوق معطلة مؤقتًا، ولكنها منذ انتصار المصريين
على الدراويش لم تعد موضع نزاع أو مناقشة.» وفي حديثه
مع كورسل Courcel،
السفير الفرنسي في لندن، في ١٢ أكتوبر، حرص سولسبري على
أن يبرز بجلاء أن وادي النيل كان وما يزال ملكًا لمصر،
وأن كل اعتداء على هذه الحقوق من جانب المهدي قد انتهى
بفضل هزيمة الدراويش في أم درمان.
وفي ٢٢ أكتوبر، ألقى اللورد روزبري خطابًا في
برث
Perth جاء
فيه: «إنما نحن نعمل الآن كي نعيد إلى مصر أرضًا تملكها
مصر نفسها طبقًا لتصريحات جميع الحكومات الفرنسية
المتعاقبة.» وقال اللورد كمبرلي
Kimberley في الحفل الذي أقيم في ١٤
نوفمبر لتكريم كتشنر، قائد الحملة التي استرجعت
السودان: إن إخلاء فاشودة ليس فيه امتهان لكرامة فرنسا؛
لأن الحكومة الفرنسية نفسها أعلنت «أن هذه الأراضي
المتنازع عليها إنما هي ملك لمصر.»
٣٨