المبحث الأول

العبادة الهيلنستية: (أنواعها، أشكالها، مؤسَّساتها، مفاهيمها)

أنواع العبادة الهيلنستية
تنمو مع الهيلنستية نزعة التَّفريد (Henotheism)، ونزعة التوحيد (Monotheism)، لكنَّ الأخيرة لا تتحقَّق كليًّا إلا في أديان الشرق المتوسطي المُوحِّدة: المندائية، واليهودية، ثم المسيحية، ثم الإسلام.
ميزة العصر الهيلنستي أنه كان حاضنة التوحيد الحقيقية، والرَّحِم الذي وُلِدَت منه هذه الأديان؛ فقد عملت ثلاثة تيارات دينية كبرى هي «المُسارِّيَّة، والهِرْمِسية، والغُنُوصِية» على ابتكار نوع من «التوحيد الباطني» الذي يُؤمِن بإله واحد، وتُقام له طقوس تشير إلى كونه الفادي أو المخلِّص، وقد قامت هذه التيارات التوحيدية الباطنية بنشر التوحيد في نُخَب، وجمعيات، وأخويات محدودة وسِرِّية، وسرعان ما كان تأثيرها كبيرًا؛ فقد وضعت نهاية تقريبية للأديان متعدِّدة الآلهة Polytheism (التي يسمونها بقليل من الدقة المشركة)، وقد هَذَّبت الدين اليهودي الذي كان دينًا تفريديًّا (وليس توحيديًّا)، وجعلَتْه يَتَّجِه نحو التوحيد بصورة أكبر وأوضح، ثم سرعان ما بَشَّرت بالمسيح الغُنُوصي الذي ظهر — من وجهة نظرهم — في شخصية السيد المسيح يسوع بن مريم ويوسف النجار، ونشأت الكنيسة الغُنُوصِية أولًا.

لكن التيار التقليدي في اليهودية والمسيحية بدأ يَكبر ويَتَّجه لاحتلال مكان الكنيسة الغُنُوصِية المسيحية الأولى، ويُنشئ الكنيسة القَوِيمة التي هي أساس الكنيسة الأرثوذوكسية، وبذلك ينتصر، شيئًا فشيئًا، التيار الظاهري على التيار الباطني في العصر الهيلنستي الرومانستي، ويُتوَّج هذا الانتصار بِتبنِّي الإمبراطور الروماني قسطنطين للمسيحية القَويمة وتنشأ الإمبراطورية الرومانية الشرقية (البيزنطية).

(١) التعددية Polytheism

حمل الإغريق هَيكل آلهتهم وشَجرة أنسابها إلى الشرق وهم يعتقدون — في بداية الأمر — أنهم يُقدِّمون فتحًا من الفتوحات المُبِينة الروحية للشرق، لكنهم فُوجِئوا — بعد زمن — أنهم أمام شبكة راسخة من الآلهة الأشد عَراقة في التاريخ القديم، والضاربة بجذورها إلى أزمان بعيدة، بل وبدَءوا يَتلمَّسون جذور آلهتهم في الآلهة الشرقية وخصوصًا الآلهة الكنعانية/الفينيقية، والآلهة العراقية القديمة، والآلهة المصرية القديمة. وهنا لجئُوا إلى المطابَقة أو المقابَلة أو الدمج بين آلهتهم والآلهة المشابهة لها.

وضَعْنا في كتابنا «المعتقدات الإغريقية» شجرة موسَّعة جدًّا للآلهة التي عبَدَها الإغريق نَودُّ العودة إليها لنتعرف على أنسابها وعلاقاتها ببعضها، ولنتصوَّر ذلك الهيكل الدقيق لها الذي يُبتدأ بآلهة الهَيُولَى القديمة جدًّا، ثم آلهة الأرض والسماء القديمة «أورانوس وجيا»، ثم الآلهة التي تَولَّدت عنها وهي آلهة الكون القديم التي تُمثِّل العناصر الأربعة في شكلها البدائي. ثم آلهة العمالقة التيتان التي ظهر منها «كرونوس وهيرا»، وجيل الآلهة الهوائية، ثم الآلهة الأولمبية التي تَضمُّ جيل الآلهة زوس، وجيل أبنائه وبناته من آلهة الأولمب، ومعهم الآلهة غير الأولمبية، ثم أبناء وبنات وأحفاد زوس الكثيرين جدًّا.

والحقيقة أن شجرة الآلهة الإغريقية لم تَعُد في ربيعها الهيليني الكبير؛ فقد كانت في خريفها الذابل الذاوي، وقد شَحبت صورتها ولم يَعُد منها إلَّا رنين الأسماء الكبيرة التي كنا نسمع بها أيام الإغريق القديمة. وفي ظَنَنَّا أن السبب الرئيسي لانهيار الآلهة الإغريقية في العصر الهيلنستي هو زوال نظام دولة المدينة الإغريقي، فقد كان آلهة الأولمب يَبْدون كما لو أنهم يُمثِّلون آلهة المدن الإغريقية، وما إن زالت المُدن الإغريقية بظهور المَلكية الهيلنستية حتى انْهَار جبل الأولمب مع آلهته … وبدت لنا الآلهة الإغريقية في آخِر مراحلها قبل الأفول.

أما الآلهة الثانوية أو الصغيرة فلم يَعُد لها وجود أصلًا، وأصبحت في مُدوَّنات الماضي فقط.

وإذا كان محرمًا تمامًا على الزعماء والقادة والملوك الإغريق قبل الإسكندر المقدوني أن يَتحوَّلوا إلى آلهة ليُعبَدوا، فقد بدأتْ منذ الإسكندر المقدوني بوادر عبادة الملوك وتحويلهم إلى آلهة. وبذلك بدأ الملوك الهيلنستيون ينافسون الآلهة الإغريقية، ويَصرِفون عنها الأنظار أيضًا، وسنتناول هذا الموضوع بالتفصيل لاحقًا.

كان الناس بشكل عامٍّ يلاحقون عبادة آلهتهم الهيلينية أو الهيلنستية التي جاءت من خَلْط آلهة الإغريق مع الآلهة المحلية الشرقية، وكانت المعابد والاحتفالات العامَّة الشعائرية طُرقًا للتعبير عن هذه العبادات متعدِّدة الآلهة.

أما الخاصَّة من الناس فكانوا يمارسون شعائر وعبادة الأسرار المرتبطة ببعض الآلهة القديمة التي كان أساسها الإغريقي يقوم على هذا النمط من العبادات؛ مثل: ديمتر، وأرفيوس، وديونسيوس … إلخ.

أما المُتعلِّمون فلم يَعودوا يُؤمِنون بالآلهة الوثنية، ولكنهم كانوا يمتدحونها من طرف اللسان كجزء من الأوضاع الشعائرية والثقافية للحياة؛ فقد اعتنقوا العقيدة التقليدية، وهي أن الإنسان هو مِعيار كل شيء، وأن لديه اعتقادًا بأن العالَم المادي أبَدِي، وأنه محكوم بقوانين ثابتة طبقًا لنظرية ديمقريطس، وهراقليطس في أفسس، وهما فيلسوفان إغريقيان مُبكِّران. أما الرِّواقيون والأبيقوريون فقد كانوا على النقيض من الأفلاطونيين، عمليين (برجماتيين) أساسًا من حيث إنهم كانوا يهدفون لا إلى اكتشاف الحقيقة بل إلى الحصول على احتياجاتهم، كما أنهم كانوا مُتشائمِين أساسًا، من حيث إنهم اعتبروا الإنسان محصورًا داخل القَدَرية الآلية للعالَم كما تراءت لديمقريطس، وهيراقليطس (مارلوا، ٢٠٠٢م، ١٢٣).

(٢) التَّفريدية Henotheism

يمكننا اعتبار التَّفريدية (أي عبادة إله مُعيَّن وجَعْله مركز الآلهة الأخرى) أبرز سمات العبادة الهيلنستية في بدايتها؛ فعلى ضوء الخريف المشترك الذي كانت تمر به الآلهة الإغريقية والآلهة الشرقية ظهرت الحاجة إلى انتخاب بعض الآلهة وجَعْلها الأكثر مقامًا بين غيرها، بل وجَعْل الآلهة الأخرى تذوب فيها وتُصبح بعض صفاتها.

كذلك يشكل الإله «سرابيس» إلهًا تفريديًّا رسميًّا جمَع في شخصيته كلًّا من إزيريس وأبيس المصريين، وزوس وديونسيوس الإغريقِيَّيْن. وهكذا يكون هذا الإله قد صَهَر في صُلبه أربعة آلهة هيلنستية؛ فأصبح مركزًا هيلنستيًّا مقدسًا للعالَم الهيلنستي كله خارج مصر وفي بحر إيجة، بل إن الرومان الفلافِيِّين عبدوه، وانتشرت عبادته في روما مع إيزيس.

رغم الشكل الإغريقي لسرابيس لكنه في حقيقة الأمر لم يكن في جوهره سوى أوزوريس؛ ولذلك كانت الطقوس تَجرِي وفق كونه إله الأسرار وإله الشعائر الجنائزية، ومما كان يزيد تفريديته اقترابُه من أصحاب النَّزعَات الصوفية الأورفية والفيثاغورية في جانبه الجنائزي. ولكن ما يجب أخذه بالاعتبار هو أن سرابيس إله رسمي وليس شعبيًّا وهو ما حدَّ من انتشاره بين طبقات الناس وظل رمزًا للدولة.

كذلك يمكننا النظر إلى الإله «يهوا» على أنه إله تفريدي خاص باليهود؛ فقد كان هذا الإله يُعبَد في مدين ثم في يهوذا على أنه إله طقس وهواء ضمن آلهة أخرى، لكن التطور التراجيدي لأقوام يهوذا وسبيهم في بابل، ثم ظهور أنبياء ما بعد السبي، وتَكتُّل أهل السبي جعَل من هذا الإله إلهًا قوميًّا خاصًّا باليهود، أما الصفات العالمية والكونية التي أضفاها اليهود على إلههم «يهوا» فكانت متأخِّرة.

كان يهوا يُمثِّل نموذجًا لإله التَّفريد. ويمكننا اعتبار الإله «هدد، حدد» نموذجًا آخر للتفريد.

(٣) التوحيدية Monotheism

جاءت النزعة التوحيدية الهيلنستية من الفلسفة في ذلك العصر، بل إن النزعة التوحيدية الفلسفية ثم الباطنية كانت الرَّحِم الذي خرجَت منه الأديان المُوحِّدة بين الهيلنستية والرومانستية وبعدهما.

لكنَّ التوحيد الهيلنستي لم يكن دينًا شاملًا … بل كان نخبويًّا فكريًّا وفلسفيًّا في بدايته، وربما ظهر على شكل الْتِماعات دينية هنا وهناك، كانت تَجرِف التَّفريد نحو التوحيد، لكنه وجد صيغته المُثلى في ظهور المسيحية.

ابتدأت نزعات التوحيد الدينية تَظهَر مُرافِقة لنمو فلسفات التوحيد، ففي وادي الرافدين، حيث لم تنتشر مدارس فلسفية منظمة تعتني بالتوحيد، ظهَر مَيْل ديني شديد لعبادة آلهة السماء من جِهة وتنزيهها عن غيرها.

التوحيد الذي جاء من الأديان متعدِّدة الآلهة القديمة كان مشوبًا بالشِّرك، ولم يكن حاسمًا في هذه المرحلة، ففي وادي الرافدين، مثلًا، عادت الحيوية لعبادة إله السماء «آنو».

أغلب الوثائق من العصر الهيلنستي تُؤكِّد انتشار عبادة «آنو Anu» رب السموات والأرض ورب رجال الدِّين. وكان النموذج الأول لكل أب في أسرته، والملك في مملكته؛ لأن السُّلطة تكليف منه، أنزلها من السماء إلى الأرض، وكِلتاهما خُلِقَتا بكلمة منه، غير أن عبادة آنو انحسرت بين الأرستقراطية الدينية، وكبار رجال العِلم والمعرفة، خاصَّة وأن هذا الرب سومري الأصل، بينما نجد الربة «عشتار» التي عُبِدَت في الوركاء كرَبَّة للسماء باسمها السومري القديم نانايا Nanaia أو أنيني (أي سيدة السماء) تحظَى عبادتها برواج شعبي كبير بين عامة الناس كربة للجمال (الناصري، ١٩٩٢م، ٣٥١).

الإلاهات المرتبطات بالكواكب السماوية حَظين بنصيب أكبر من نزعات التوحيد في الديانة الرافدينية في العصر الهيلنستي؛ حيث عادت عبادة عشتار وإنانا «بصيغة أنيني» وأناهيت التي وُجِدت في بلاد الرافدين وفارس.

عَبَرت عبادتها البحر المتوسط إلى بلاد الإغريق، حيث عُرِفت باسم أفرودويت، وانتقلَت بعد ذلك إلى الرومان ليعبدوها باسم «فينوس» ربة الحب والحرب في وقت واحد، وكان رمزها كوكب الزهرة، وإذا كانت عبادة أفروديت الإغريقية قد شهدت أعظم أيام انتشارها في العالَم الهيلنستي، فإن الأصل الشرقي لها شَهِد في نفس الوقت انتشارًا شعبيًّا، يشهد على ذلك كثرةُ القرابين التي قدَّمها لها عامة الناس في جنوب الرافدين، وكانت هذه الرَّبة تتصدَّر قائمة الربات الأُنثَيات؛ مثل: بيليت-شا-رش (Belit Sha Rash)، وبيليت سيري (Belit Seri)، وشاراحيتو (Sharahitu). بينما تصَدَّر آنو قائمة الأرباب الذكور؛ مثل: أنليل، وأيا (Ea)، وبابوسكال (Papuskal)، وشمش (الشمس)، وسن (القمر). كما ارتبطت هذه العبادات البابلية بالتنجيم؛ فقد اعتبرَت النجوم ممثلات للأرباب، وهي في السماء عالَم الآلهة يحكمها جميعًا رب واحد هو القَدَر. أما العوام من الناس فلا نعرف ماذا كانت نظرَتُها إلى هذه النظريات العقائدية؛ لأن فكر العامة كان يميل إلى التراث الآرامي الذي لم يَتبقَّ لنا منه سوى مادة محدودة. (الناصري، ١٩٩٢م، ٣٥١).

ويمكننا إجمالًا تقسيم نوعين جديدين من التوحيد في المرحلة الهيلنستية:

(٣-١) أولًا: التوحيد الباطني

  • (١)

    التوحيد المساري: كان التوحيد الباطني الذي جاء من ديانات الأسرار «المُسارِّيَّة» هو الأقدم؛ فقد نزح من عبادة الآلهة زراعية الأصل التي دفنَتْها عبادات الكواكب والطقس تحتها، وظلَّت تُمارَس سريًّا في الغالب، رغم كونها ديانات قريبة من قلوب ومشاعر الناس، وكان التوحيد المساري يتركَّز على إله واحد؛ مثل: تموز، أو أدونيس، أو أوزوريس، أو ديونسيوس، أو آتيس … إلخ، ويسعى العابدون للالتحام بهم وإعادة ولادتهم ثانية من خلال هذا الالتحام والفوز بالخلاص (وسنشرحه بالفصيل في الفصول القادمة).

  • (٢)

    التوحيد الهِرْمِسي: وهو التوحيد الذي نجده في المدوَّنات الهِرْمِسية القديمة؛ وأهمها ثلاث مُدوَّنات: «مُدوَّنة بوامندريس، المُدوَّنة المندائية في الكنزا ربَّا، مُدوَّنة هِرْمِس طوط»، وكلها تشير إلى وجود إله متعالٍ، بَعيد، واحد، لا تدركه الأبصار في عالَم النور، وهو الذي تَجِب عبادته، وهو إله الخير، وهناك إله آخر شِرِّير انفصل عنه وعصاه، وهو إله الشر، وخالِق العالَم المادي الشِّرير، والذي سَجن الروح في مادة جسدية عندما خَلق الإنسان، والخلاص برأي هذه التوحيد الهِرْمِسي يكون بتحرُّر الروح من سجنها الجسدي وعودَتها إلى أصلها الإلهي الذي هو الرب الأعلى الأسمى.

  • (٣)

    التوحيد الغُنُوصي: استثمرت الغُنُوصِية التوحيد الهِرْمِسي وجسَّدَته في أديان حقيقية، ربما كانت المندائية أقدمَها، ثم جاءت المسيحية الغُنُوصِية، ثم المانوية، وهي ترى أن الرب الأسمى بعيدٌ عن الوصف، وهنا توحيديتها النقية الخالصة، أما الإله الذي صنع العالَم والمادة فهو وريث آلهة الشِّرك، الشرير الذي يجب تجنبه، وتخلص كلُّها إلى أن الإله الأسمى سيرسل رسوله ليخلص الروح السجينة في الجسد البشري حين تَتعرَّف على نفسها أو حين يموت جسدها السجَّان وتصعد إليه.

(٣-٢) ثانيًا: التوحيد الظاهري

  • (١)

    اليهودية: من خلال «يهوا» الذي انتقل من طور التَّفريد إلى التوحيد بفضل المؤثِّرات التوحيدية الباطنية.

  • (٢)

    المسيحية: التي حوَّلت المسيح الغُنُوصي إلى ابن للآب وطابقت بين يهوا ثم إيل والإله الآب المتسامي، ثم توصَّلَت إلى فكرة الثالوث في الأب والابن والرُّوح القُدُس.

  • (٣)

    الإسلام: الذي دعا مباشرة إلى عبادة إله واحد هو الله «وتغاضى عن الهيكل الغُنُوصي أو الثالوث المسيحي»، واعتبر كل الأنبياء بشرًا أرسلهم الله عن طريق الوحي فبشروا بعبادة الله بين الناس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥