ثم دخلت سنة أربع عشرة ومايتين وألف (١٧٩٩م)

استهل شهر المحرم بيوم الأربعا، فيه حضر جماعة من الفرنسيس إلى العادلية فضربوا خمسة مدافع لقدومهم، فلما كان في ثاني يوم عملوا الديوان وأبرزوا مكتوبًا مترجمًا ونسخته:

صورة جواب بونابرت من أمام أسوار عكا عشرين فريبال الموافق لحادي عشر شهر الحجة سنة ثلاث عشرة ومايتين وألف.

من بونابارته ساري عسكر أمير الجيوش الفرنساوية إلى محفل ديوان مصر: نخبركم عن سفره من بر الشام إلى مصر فإني بغاية العجلة بحضوري لطرفكم نسافر بعد ثلاثة أيام تمضي من تاريخه، ونصل عندكم بعد خمسة عشر يومًا وجايب معي جملة محابيس بكثرة وبيارق، ومحقت سراية الجزار وسور عكا وبالقنبر هدمت البلد، ما أبقيت فيها حجرًا على حجر، وجميع سكانها انهزموا من البلد إلى طريق البحر، والجزار مجروح ودخل بجماعته داخل برج من ناحية البحر وجرحه يبلغ لخطر الموت، ومن جملة ثلاثين مركبًا موسوقة عساكر الذين حضروا يساعدون الجزار ثلاثة غرقت من كثرة مدافع مراكبنا، وأخذنا منها أربعة موقرة مدافع، والذي أخذ هذه الأربعة فرقاطة من بتوعنا والباقي تلف وتبهدل والغالب منهم عدم، وإني بغاية الشوق إلى مشاهدتكم؛ لأني بشوف أنكم عملتم غاية جهدكم من كل قلبكم، لكن جملة فلاتية دايرون بالفتنة لأجل ما يحركون الشر في وقت دخولي، كل هذا يزول مثل ما يزول الغيم عند شروق الشمس «وفنتوره» مات من تشويش، هذا الرجل صعب علينا جدًّا، والسلام.

وفنتوره هذا ترجمان ساري عسكر وكان لبيبًا متبحرًا، ويعرف باللغة التركية والعربية والرومية والطلياني والفرنساوي.

ولما عجز الفرنساوية عن أخذ عكا، وعزموا على الرجوع إلى مصر أرسل بونابارته مكاتبة إلى الفرنساوية المقيمين بمصر يقول فيها:
إن الأمر الموجب للانتقال عن محاصرة عكا خمسة عشر سببًا:
  • الأول: الإقامة تجاه البلدة وعدم الحرب ستة أيام إلى أن جات الإنكليز وحصنوا عكا باصطلاح الإفرنج.
  • الثاني: الستة مراكب التي توجهت من الإسكندرية فيها المدافع الكبار أخذها الإنكليز قدام يافا.
  • الثالث: الطاعون الذي وقع في العسكر، ويموت كل يوم خمسون وستون عسكريًّا.
  • الرابع: عدم الميرة لخراب البلاد قريب عكا.
  • الخامس: وقعة مراد بك مع الفرنساوية في الصعيد مات فيها مقدار ثلثماية فرنساوي.
  • السادس: بلغنا توجه أهل الحجاز صحبة الجيلاني لناحية الصعيد.
  • السابع: المغربي محمد الذي صار له جيش كبير وادَّعى أنه من سلاطين المغرب.
  • الثامن: ورود الإنكليز تجاه الإسكندرية ودمياط.
  • التاسع: ورود عمارة الموسقو قدام رودس.
  • العاشر: ورود خبر نقض الصلح بين الفرنساوية والنمسا.
  • الحادي عشر: ورود جواب مكتوب منَّا «لتيبو» أحد ملوك الهند كنا أرسلناه قبل توجهنا لعكا، وتيبو هذا هو الذي كان حضر إلى إسلامبول بالهدية التي من جملتها طائران يتكلمان بالهندية والسرير والمنبر من خشب العود، وطلب منه الإمداد والمعاونة على الإنكليز المحاربين له في بلاده، فوعدوه ومنوه وكتبوا له أوراقًا وأوامر.

    وحضر تيبو إلى مصر وذلك في سنة اثنتين ومايتين وألف أيام السلطان عبد الحميد، وقد سبقت الإشارة إليه في حوادث تلك السنة، وهو رجل كان مقعدًا تحمله أتباعه في تخت لطيف بديع الصنعة على أعناقهم، ثم إنه توجَّه إلى بلاد فرنسا واجتمع بسلطانها، وذلك قبل حضوره إلى مصر، واتفق معه على أمر في السر لم يطَّلع عليه أحد غيرهما، ورجع إلى بلاده على طريق القلزم، فلما قدم الفرنساوية لمصر كاتبه كبيرهم بذلك السر؛ لأنه اطلع عليه عند قيام الجمهور وتملكه خزانة كتب السلطان.

    ثم إن تيبو المذكور بقي في حرب الإنكليز إلى أن ظفروا به في هذه السنة وقتلوه وثلاثة من أولاده، فهذا ملخص معنى السبب.

  • الثاني عشر: موت كفرللي الذي عملت المتاريس بمقتضى رأيه، وإذا تولى أمرها غيره يلزم نقضها، ويطول الأمر، وكفرللي هذا هو المعروف بأبي خشبة المهندس.
  • الثالث عشر: سماع أن رجلًا يقال له مصطفى باشا أخذه الإنكليز من إسلامبول، ومرادهم أن يرموه على بر مصر.
  • الرابع عشر: أن الجزار أنزل ثقله بمراكب الإنكليز، وعزم على أنه عندما نملك البلد ينزل في مراكبهم ويهرب معهم.
  • الخامس عشر: لزوم محاصرة عكا ثلاثة شهور أو أربعة وهو مضر لكل ما ذكرناه من الأسباب. ا.ﻫ.

وفي يوم الثلاثا سابعه حضر جماعة أيضًا من العسكر بأثقالهم، وحضرت مكاتبة من كبير الفرنساوية أنه وصل إلى الصالحية وأرسل دوجا الوكيل، ونبه على الناس بالخروج لملاقاته بموجب ورقة حضرت من عنده يأمر بذلك.

فلما كان ليلة الجمعة عاشره أرسلوا إلى المشايخ والوجاقات وغيرهم، فاجتمعوا بالأزبكية وقت الفجر بالمشاعل ودقت الطبول، وحضر الحكام والقلقات بمواكب وطبول وزمور ونوبات تركية وطبول شامية، وملازمون وجاويشية وغير ذلك، وحضر الوكيل وقايمقام وأكابر عساكرهم، وركبوا جميعًا بالترتيب من الأزبكية إلى أن خرجوا إلى العادلية، فقابلوا ساري عسكر بونابارته هناك وسلموا عليه، ودخل معهم إلى مصر من باب النصر بموكب هايل بعساكرهم وطبولهم وزمورهم وخيولهم وعرباتهم ونساهم وأطفالهم في نحو خمس ساعات من النهار إلى أن وصل إلى داره بالأزبكية، وانفض الجمع وضربوا عدة مدافع عند دخولهم المدينة، وقد تغيرت ألوان العسكر القادمين واصفرَّت ألوانهم، وقاسوا مشقة عظيمة من الحر والتعب، وأقاموا على حصار عكا أربعة وستين يومًا حربًا مستقيمًا ليلًا ونهارًا، وأبلى أحمد باشا وعسكره بلاءً حسنًا وشهد له الخصم.

ولصاحبنا الفاضل النجيب والأديب اللبيب السيد علي الصيرفي الرشيدي، نزيل عكا المحروسة في هذه الواقعة قصيدة لطيفة من بحر الخفيف يقول فيها:

وأراهم قبيحهم حسنَ قصد
نحو عكا ذات السعود البادي
فاستعدوا لها بآلات حرب
ورجال كثيرة كالجراد
خيموا حولها بجيش وخيش
ومتاريس ضاق منها الوادي
أشبهوا قوم صالح في فعال
ينحتون الجبال لاستعداد
في حصون من التراب تراهم
شيدوها بقوة وعماد
فكانَّ الجن الشياطين فيهم
يسرعون الأعمال عند التنادي
حاصروها وشددوا في حصار
واستمدوا بكل نوع مراد

ومنها:

ثم دارت رحى الحروب لدينا
بضروب مدامة الترداد
كل يوم وليلة في رعود
وبروق من غيم ذاك الوادي
كم نهارٍ أضحى كليلٍ بهيم
من دخان الوغى عدا في ازدياد

إلى آخر ما قال وهي طويلة.

وفيه قبضوا على إسماعيل القلق الخرَّبطلي وهو متولي كتخدا العزب، وكان ساكنًا بخط الجمالية وأخذوا سلاحه وأصعدوه إلى القلعة وحبسوه.

والسبب في ذلك أنه عمل في تلك الليلة وليمة، ودعا أحبابه وأصدقاءه وأحضر لهم آلات اللهو والطرب وبات سهرانًا بطول الليل، فلما كان آخر الليل غلب عليهم السهر والسكر، فناموا إلى ضحوة النهار وتأخر عن الملاقاة، فلما أفاق ركب ولاقاهم عند باب النصر فنقموا عليه بذلك وفعلوا معه ما ذكر.

ولما وصل ساري عسكر الفرنساوية إلى داره بالأزبكية تجمع هناك أرباب الملاهي والبهالوين وطوايف الملاعبين والحواة والقرادين والنسا الراقصات والخلابيص، ونصبوا أراجيح مثل أيام الأعياد والمواسم، واستمروا على ذلك ثلاثة أيام وفي كل يوم من تلك الأيام يعملون شنكًا وحراقات ومدافع وسواريخ.

ثم انفضَّ الجمع بعدما أعطاهم ساري عسكر دراهم وبقاشيش.

وفي يوم الأحد عزلوا «دستان» قايمقام، وتولى عوضه «دوجا» الذي كان وكيلًا عن ساري عسكر، وتهيأ المعزول للسفر إلى جهة بحري، وأصبح مسافرًا وصحبته نحو الألف من العسكر، وسافر أيضًا منهم طايفة إلى جهة البحيرة.

وفيه طلبوا من طوايف النصارى دراهم سلفة مقدار ماية وعشرين ألف ريال.

وفي خامس عشره أرسلوا إلى زوجات حسن بك الجداوي، وختموا على دورهن ومتاعهن وطالبوهن بالمال، وذلك لسبب أن حسن بك التف على مراد بك وصار يقاتل الفرنسيس معه.

وقد كانت الفرنسيس كاتبت حسن بك وأمنته وأقرته على ما بيده من البلاد، وأن لا يخالف ويقاتل مع الأخصام فلم يقبل منهم ذلك، فلما وقع لنساه ذلك ذهبن إلى الشيخ محمد المهدي، ووقعن عليه فصالح عليهن بمبلغ ثلاثة آلاف فرانسة.

وفي تاسع عشره هلك مخاييل كحيل النصراني الشامي — وهو من رجال الديوان الخصوصي — فجأة وذلك لقهره وغمه، وسبب ذلك أنهم قرروا عليه في السلفة ستة آلاف ريال فرانسة، وأخذ في تحصيلها ثم بلغه أن أحمد باشا الجزار قبض على شريكه بالشام، واستصفى ما وجده عنده من المال، فورد عليه الخبر وهو جالس يتحدث مع إخوانه حصة من الليل فخرجت روحه في الحال.

وفيه كتبوا أوراقًا وطبعوها وألصقوها بالأسواق وذلك بعد أن رجعوا من الشام واستقروا، وهي من ترصيف وتنميق بعض الفصحا، وصورتها:

من محفل الديوان الخصوصي بمحروسة مصر خطابًا بالأقاليم مصر الشرقية والغربية والمنوفية والقليوبية والجيزة والبحيرة.

النصيحة من الإيمان.

قال تعالى في محكم القرآن: وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ.

وقال تعالى وهو أصدق القايلين في الكتاب المكنون: وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ.

فعلى العاقل أن يتدبر في الأمور قبل أن يقع في المحذور، نخبركم معاشر المؤمنين أنكم لا تسمعوا كلام الكاذبين، فتصبحوا على ما فعلتم نادمين.

وقد حضر إلى محروسة مصر المحمية أمير الجيوش الفرنساوية حضرة بونابارته محب الملة المحمدية، ونزل بعسكره في العادلية سليمًا من العطب والأسقام، ودخل إلى مصر من باب النصر يوم الجمعة في موكب عظيم وشنك جليل فخيم، وصحبته العلما والوجاقات السلطانية وأرباب الأقلام الديوانية وأعيان التجار المصرية.

وكان يومًا عظيمًا مشهودًا، وخرجت أهل مصر لملاقاته فوجدوه هو الأمير الأول بذاته وصفاته، وظهر لهم أن الناس يكذبون عليه شرح الله صدره للإسلام.

والذي أشاع عنه الأخبار الكاذبة العربان الفاجرة والغز الهاربة، ومرادهم بهذه الإشاعة هلاك الرعية وتدمير أهل الملة الإسلامية، وتعطيل الأموال الديوانية ولا يحبون راحة العبيد، وقد أزال الله دولتهم من شدة ظلمهم إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ.

وقد بلغنا أن الألفي توجه إلى الشرقية مع بعض المجرمين من عربان بليَّ والعيايدة الفجرة المفسدين، يسعون في الأرض بالفساد وينهبون أموال المسلمين إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ.

ويزورون على الفلاحين المكاتيب الكاذبة، ويدعون أن عساكر السلطان حاضرة والحال أنها ليست بحاضرة، فلا أصل لهذا الخبر ولا صحة لهذا الأثر، وإنما مرادهم وقوع الناس في الهلاك والضرر، مثل ما كان يفعل إبراهيم بك في غزة حيث كان، ويرسل فرمانات بالكذب والبهتان، ويدعي أنها من طرف السلطان ويصدقه أهل الأرياف خسفاء العقول، ولا يقرون العواقب فيقعون في المصايب.

وأهل الصعيد طردوا الغز من بلادهم خوفًا على أنفسهم وهلاك عيالهم وأولادهم، فإن المجرم يؤخذ مع الجيران، وقد غضب الله على الظلمة ونعوذ بالله من غضب الديان، فكان أهل الصعيد أحسن عقلًا من أهل بحري بسبب هذا الرأي السديد.

ونخبركم أن أحمد باشا الجزار سموه بهذا الاسم لكثرة قتله الأنفس، ولا يفرِّق بين الأخيار والأشرار، وقد جمع الطموش الكثيرة من العسكر والغز والعرب وأسافل العشيرة، وكان مراده الاستيلاء على مصر وأقاليمها، وأحبوا اجتماعهم عليهم لأجل أخذ أموالها وهتك حريمها، ولكن لم تساعده الأقدار، والله يفعل ما يشا ويختاره.

وقد كان أرسل بعض هذه العساكر إلى قلعة العريش، ومراده أن يصل إلى قطيا، فتوجه حضرة ساري عسكر أمير الجيوش الفرنساوية وكسر عسكر الجزار الذين كانوا في العريش ونادوا (الفرار الفرار) بعدما حصل بعسكرهم القتل والدمار، وكانوا نحو ثلاثة آلاف، وملك قلعة العريش وأخذ غزة وهرب من كان فيها وفروا، ولما دخل غزة نادى في رعيتها بالأمان وأمر بإقامة الشعائر الإسلامية وإكرام العلما والتجار والأعيان.

ثم انتقل إلى الرملة وأخذ ما فيها من بقسماط وأرز وشعير وقِرب أكثر من ألفي قِربة كبار كان قد جهزها الجزار لذهابه إلى مصر.

ثم توجه إلى يافا وحاصرها ثلاثة أيام، ثم أخذها وأخذ ما فيها من ذخاير الجزار بالتمام، ومن نحوسات أهلها أنهم لم يرضوا بأمانه ولم يدخلوا تحت طاعته وإحسانه، فدوَّر فيهم السيف من شدة غيظه وقوة بأسه وسلطانه، وقتل منهم نحو أربعة آلاف أو يزيدون بعدما هدم سورها وأكرم من كان بها من أهل مصر، وأطعمهم وكساهم، وجهزهم في المراكب إلى مصر، وغفرهم بعسكره خوفًا عليهم من العربان، وأجزل عطاياهم.

وكان في يافا نحو خمسة آلاف من عسكر الجزار هلكوا جميعًا، وبعضهم ما نجَّاه إلا الفرار، ثم توجه من يافا إلى جبل نابلس فكسر من كان فيه من العساكر بمكان يقال له فاقوم، وحرق خمسة بلاد من بلادهم وما قدر كان، ثم أخرب سور عكا وهدم قلعة الجزار التي كانت حصينة لم يبقَ فيها حجر على حجر، حتى إنه يقال كان هناك مدينة.

وقد كان بنى حصونها وشيد بنيانها في نحو عشرين من السنين، وظلم في بنيانها عباد الله، وهكذا عاقبة بنيان الظالمين، ولما توجه إليه أهل بلاد الجزار من كل ناحية كسرهم كسرة شنيعة، فهل ترى لهم من باقية، نزل عليهم كصاعقة من السما ثم توجه راجعًا إلى مصر المحروسة لأجل شيئين: الأول: أنه وعدنا برجوعه إلينا بعد أربعة أشهر، والوعد عند الحر دين، والسبب الثاني: أنه بلغه أن بعض المفسدين من الغز والعربان يحركون في غيابه الفتن والشرور في بعض الأقاليم والبلدان، فلما حضر سكنت الفتنة وزالت الأشرار والفجرة من الرعية، وحبه لمصر وإقليمها شي عجيب، ورغبته في الخير لأهلها ونيلها بفكره وتدبيره المصيب، ويرغب أن يجعل فيها أحسن التحف والصناعة.

ولما حضر من الشام أحضر معه جملة من الأسارى من خاص وعام، وجملة مدافع وبيارق اغتنمها في الحروب من الأعدا والأخصام.

فالويل كل الويل لمن عاداه، والخير كل الخير لمن والاه، فسلموا يا عباد الله وارضوا بتقدير الله، وامتثلوا لأحكام الله، ولا تسعوا في سفك دمايكم وهتك عيالكم، ولا تتسببوا في نهب أموالكم، ولا تسمعوا كلام الغز الهربانين الكاذبين.

ولا تقولوا إن في الفتنة إعلاء كلمة الدين، حاشا لله لم يكن فيها إلا الخذلان وقتل الأنفس وذل أمة النبي — عليه الصلاة والسلام — والغز والعربان يطمعونكم ويغرونكم لأجل أن يضروكم فينهبوكم، وإذا كانوا في بلد وقدمت عليهم الفرنسيس فروا هاربين منهم كأنهم جند إبليس.

ولما حضر ساري عسكر إلى مصر أخبر أهل الديوان من خاص وعام أنه يحب دين الإسلام ويعظم النبي — عليه الصلاة والسلام — ويحترم القرآن ويقرأ منه كل يوم بإتقان، وأمر بإقامة شعاير المساجد الإسلامية وإجرا خيرات الأوقاف السلطانية، وأعطى عوايد الوجاقلية، وسعى في حصول أقوات الرعية، فانظروا هذه الألطاف والمزية ببركة نبينا أشرف البرية.

وعرفنا أن مراده أن يبني لنا مسجدًا عظيمًا بمصر لا نظير له في الأقطار، وأنه يدخل في دين النبي المختار — عليه أفضل الصلاة وأتم السلام — انتهى بحروفه.

وكان أشيع بمصر قبل مجيهم وعودهم من الشام بأن ساري عسكر بونابارته مات بحرب عكا، وتناقله الناس وأنهم ولوا أخلافه، فهذا هو السبب في قولهم في ذلك الطومار: «وقد حضر سليمًا من العطب، فوجدوه هو الأمير الأول بذاته وصفاته.» إلى آخر السياق المتقدم.

وفي ثاني عشرينه أرسل ساري عسكر جماعة من العسكر وقبضوا على ملازاده ابن قاضي العسكر، ونهبوا بعضًا من ثيابه وكتبه وطلعوا به إلى القلعة، فانزعج عليه عياله وحريمه ووالدته انزعاجًا شديدًا.

وفي صبحها اجتمع أرباب الديوان بالديوان، وحضر إليهم ورقة من كبير الفرنسيس قريت عليهم، مضمونها أن ساري عسكر قبض على ابن القاضي وعزله، وأنه وجه إليكم أن تقترعوا وتختاروا شيخًا من العلما يكون من أهل مصر ومولودًا بها، يتولى القضا ويقضي بالأحكام الشرعية كما كانت الملوك المصرية يولون القضا برأي العلما للعلما.

فلما سمعوا ذلك أجاب الحاضرون بقولهم: إننا جميعًا نتشفع ونترجى عنده في العفو عن ابن القاضي فإنه إنسان غريب ومن أولاد الناس الصدور، وإن كان والده وافق كتخدا الباشا في فعله فولده مقيم تحت أمانكم، والمرجو انطلاقه وعوده إلى مكانه، فإن والدته وجدته وعياله في وجد وحزن عظيم عليه، وساري عسكر من أهل الشفقة والرحمة.

وتكلم الشيخ السادات بنحو ذلك، وزاد في القول بأن قال: وأيضًا إنكم تقولون دايمًا إن الفرنساوية أحباب العثمانية، وهذا ابن القاضي من طرف العثمانلي، فهذا الفعل مما يسي الظن بالفرنساوية ويكذب قولهم وخصوصًا عند العامة، فأجاب الوكيل بعدما ترجم له الترجمان بقوله: لا بأس بالشفاعة، ولكن بعد تنفيذ أمر ساري عسكر في اختيار قاضٍ خلافه، وألا تكونوا مخالفين ويلحقكم الضرر بالمخالفة.

فامتثلوا وعملوا القرعة فطلعت الأكثرية باسم الشيخ أحمد العريشي الحنفي، ثم كتبوا عرضحال بصورة المجلس والشفاعة، وكتب عليه الحاضرون، وذهب به الوكيل إلى ساري عسكر وعرفه بما حصل وبما تكلم به الشيخ السادات، فتغير خاطره عليه وأمر بإحضاره آخر النهار، فلما حضر لامه وعاتبه، فتكلم بينهما الشيخ محمد المهدي ووكيل الديوان الفرنساوي بالديوان، حتى سكن غيظه وأمره بالانصراف إلى منزله بعد أن عوقه حصة من الليل.

فلما أصبح يوم الجمعة عملوا جمعية في منزل «دوجا» قايمقام، وركبوا صحبته إلى بيت ساري عسكر ومعهم الشيخ أحمد العريشي فألبسه فروة مثمنة، وركبوا جميعًا إلى المحكمة الكبيرة بين القصرين ووعدهم بالإفراج عن ابن القاضي بعد أربع وعشرين ساعة، وقد كانت عياله انتقلوا من خوفهم إلى دار السيد أحمد المحروقي وجلسوا عنده، ولما كان في ثاني يوم أفرجوا عنه ونزل إلى عياله وصحبته أرباب الديوان والأغا، ومشوا معه في وسط المدينة ليراه الناس ويبطل القيل والقال.

وفيه كتبوا أوراقًا وطبعوا منها نسخًا وألصقوها بالأسواق، وصورتها:

جواب إلى محفل الديوان من حضرة ساري عسكر الكبير بونابارته أمير الجيوش الفرنساوية، محب أهل الملة المحمدية خطابًا إلى السادات العلما أنه وصل لنا مكتوبكم من شأن القاضي، نخبركم أن القاضي لم أعزله وإنما هو هرب من إقليم مصر، وترك أهله وأولادهم وخان صحبتنا من المعروف والإحسان الذي فعلناه معه، وكنت استحسنت أن ابنه يكون عوضًا عنه في محل الحكم في مدة غيبته ويحكم بدله، ولم يكن ابنه قاضيًا متوليًا للأحكام على الدوام؛ لأنه صغير السن ليس هو أهلًا للقضا، فعلمتم أن محل حكم الشريعة خالٍ الآن من قاضٍ شرعي يحكم بالشريعة، واعلموا أني لا أحب مصر خالية من حاكم شرعي يحكم بين المؤمنين، فاستحسنت أن يجتمع علما المسلمين ويختاروا باتفاقهم قاضيًا شرعيًّا من علما مصر وعقلاهم لأجل موافقة القرآن العظيم باتباع سبيل المؤمنين، وكذلك مرادي أن حضرة الشيخ العريشي الذي اخترتموه جميعًا أن يكون لابسًا من عندي وجالسًا في المحكمة، وهكذا كان فعل الخلفا في العصر الأول باختيار جميع المؤمنين.

وأخبركم أني تلقيت ابن القاضي بالمحبة والإكرام لما حضر لي وقابلني، ولم أزل لهذا الوقت أكرمه ولم أحب أن يضره أحد حكم أماننا له، ولما رفعناه إلى القلعة لم نرد ضرره بل رفعناه مكرمًا مثل ما يكون في بيته بالراحة والإكرام.

وسبب ما رفعناه إلى القلعة سكون الفتن والإصلاح بين الناس، وبعد لبس القاضي الجديد وجلوسه في محل الحكم مرادي أن أطلق ابن القاضي وأنزله من القلعة، وأرد له كامل تعلقاته وأطلق سبيله هو وعياله يتوجهون حيث أرادوا باختيارهم؛ لأنه في أماني وتحت حمايتي، وأعرف أن أباه ما كان يكرهني ولكنه ذهب عقله وفسد رأيه.

وأنتم يا أهل الديوان تهدون الناس إلى الصواب والنور من جنابكم لأهل العقول.

وعرفوا أهل مصر أنه انقضت وفرغت دولة العثمانلي من أقاليم مصر وبطلت أحكامها منها.

أخبروهم أن حكم العثمانلي أشد تعبًا من حكم المماليك وأكثر ظلمًا، والعاقل يعرف أن علما مصر لهم عقل وتدبير وكفاية وأهلية للأحكام الشرعية، يصلحون للقضا أكثر من غيرهم في ساير الأقاليم.

وأنتم يا أهل الديوان عرفوني عن المنافقين المخالفين أخرج من حقهم؛ لأن الله تعالى أعطاني القوة العظيمة لأجل ما أعاقبهم، فإن سيفنا طويل ليس فيه ضعف، ومرادي أن تعرفوا — أهل مصر — أن قصدي بكل قلبي حصول الخير والسعادة لهم مثل ما هو بحر النيل أفضل الأنهار وأسعدها، كذلك أهل مصر يكونون أسعد الخلايق أجمعين بإذن رب العالمين، والسلام. انتهى.

وفي تلك الليلة قتلوا شخصين: أحدهما علي جاويش ريس الريالة الذي كان بالإسكندرية عند حضور الفرنسيس، والثاني قبطان آخر، فلم يزالا بمصر يحبسونهما أيامًا ثم يطلقونهما، فحبسوهما آخرًا فلم يطلقوهما حتى قتلوهما.

وفي صبيحة ذلك اليوم قتلوا شخصين أيضًا من الأتراك بالرميلة.

وفيه أفرجوا عن زوجات حسن بك الجداوي.

وفي ثامن عشرينه جمعوا الوجاقلية وكتبوا أسماهم.

وفي تاسع عشرينه قبضوا على ثلاثة أنفار أحدهم يسمى حسن كاشف من أتباع أيوب بك الكبير، وآخر يسمى أبو كلس، والثالث رجل تاجر من تجار خان الخليلي يسمى حسين مملوك الدالي إبراهيم، فسجنوهم بالقلعة فتشفع الشيخ السادات في حسين التاجر المذكور فأطلقوه على خمسة آلاف فرانسة.

واستهل شهر صفر الخير بيوم الجمعة سنة ١٢١٤

فيه أفرجوا عن بعض قرابة كتخدا الباشا، وكان محبوسًا بالجيزة ثم نقل إلى القلعة مع كتخدا قريبه، فأُطلِق وبقي الآخر.

وفي يوم الأحد ثالثه حضر السيد عمر أفندي نقيب الأشراف سابقًا من دمياط إلى مصر، وكان مقيمًا هناك من بعد واقعة يافا ونزل مع الذين أنزلوهم من يافا إلى البحر وفيهم عثمان أفندي العباسي، وحسن أفندي كاتب الشهر وأخوه قاسم أفندي، وأحمد أفندي عرفة، والسيد يوسف العباسي، والحاج قاسم المصلي وغيرهم، فمنهم من عوق بالكرنتيلة ومنهم من حضر من البر خفية فحضر بعض الأعيان لملاقاة السيد عمر، وركبوا معه بعد أن مكث هنيهة بزاوية علي بك التي بساحل بولاق حتى وصل إلى داره، وتوجه في ثاني يوم مع المهدي وقابل ساري عسكر فبش له ووعده بخير ورد إليه بعض تعلقاته واستمر مقيمًا بداره والناس تغدو وتروح إليه على العادة.

وفي رابعه حضر أيضًا حسن كتخدا الجربان بأمان، وكان بصحبته عثمان بك الشرقاوي.

وفيه أشيع أن مراد بك ذهب إلى ناحية البحيرة فرارًا من الفرنسيس الذين بالصعيد.

وفي خامسه قتلوا عبد الله أغا أمير يافا، وكان أُخِذَ أسيرًا وحُبِسَ ثم قُتِلَ.

وفيه قتل أيضًا يوسف جربجي أبو كلس ورفيقه حسن كاشف.

وفي سادسه عمل الشيخ محمد المهدي وليمة عرس لزواج أحد أولاده، ودعا صاري عسكر وأعيان الفرنساوية فتعشوا عنده وذهبوا.

وفيه أحضروا أربعة عشر مملوكًا أسرى وأصعدوهم إلى القلعة، قيل إنهم كانوا لاحقين بمراد بالبحيرة فأووا إلى قبة يستظلون بها وتركوا خيولهم مع السواس، فنزل عليهم طايفة من العرب فأخذوا الخيول فمروا مشاة، فدل الفلاحون عليهم عسكر الفرنسيس فمسكوهم، وقيل إنهم أووا إلى بلدة وطلبوا منهم غرامة فصالحوهم، فلم يرضوا بذلك بدون ما طلبوا فوعدوهم بالدفع من الغد وكانوا أكثر من ذلك، وفيهم كاشف من جماعة عثمان بك الطنبرجي فذهب الفلاحون إلى الفرنسيس وأعلموهم بمكانهم، فحضروا إليهم ليلًا وفر من فر منهم وقتل من قتل وأسر الباقي، وأما الكاشف فيسمى عثمان كاشف التجأ إلى كبير الفرنسيس فحماه وأخذه عنده، وأحضروا الأسرى إلى مصر وعليهم ثياب زرق وزعابيط وعلى روسهم عرقى من لباد وغيره، وأصعدوهم إلى القلعة وقتلوا منهم في ثاني ليلة أشخاصًا.

وفي تاسعه أحضروا أيضًا ستة أشخاص من المماليك وأصعدوهم إلى القلعة، وفي ذلك اليوم قتلوا أيضًا نحو العشرة من الأسرى المحابيس.

وفي يوم الأحد عاشره ركب في عصريته ساري عسكر وعدى إلى بر الجيزة وتبعته العساكر ولم يعلم سبب ذلك، ولما صاروا بالجيزة ضربوا نجع البطران ودهشور بسبب نزول مراد بك عندهم.

وفي هذا اليوم ظهر أن مراد بك رجع ثانيًا إلى الصعيد، وشاع الخبر أيضًا أن عثمان بك الشرقاوي وسليمان أغا الوالي وآخرين مروا من خلف الجبل وذهبوا إلى ناحية الشرق، فخرج عليهم جماعة من العسكر وفيهم برطلمين يني الرومي ريس عسكر الأروام ومعهم عدة وافرة من أخلاط العسكر أروام وقبط والمماليك المنضمة إليهم وبعض فرنساوية، فأدركوهم بالقرب من بلبيس وأتوهم من خلاف الطريق المسلوكة فدهموهم على حين غفلة.

وكان عثمان بك يغتسل فلما أحسوا بهم بادروا للفرار، وركبوا وركب عثمان بك بقميص واحد على جسده وطاقية فوق رأسه، وهربوا وتركوا ثيابهم ومتاعهم وحملهم وقدور الطعام على النار، ولم يمت منهم إلا مملوكان وأسروا منهم اثنين، ووجدوا على فراش عثمان بك مكاتبة من إبراهيم بك يستدعيهم إلى الحضور إليه بالشام.

وفي ليلة الاثنين حادي عشره وردت أخبار ومكاتيب مع السعاة لبعض الناس من الإسكندرية وأبي قير، وأخبروا بأنه وردت مراكب فيها عسكر عثمانية إلى أبي قير، فتبين أن حركة الفرنساوية وتعديتهم إلى البر الغربي بسبب ذلك، وأخذوا صحبتهم جرجس الجوهري، وفي ضحوة اليوم الثاني عدى الكثير من العسكر أيضًا، واهتم حنا بينو المتولي على بحر بولاق بجمع المراكب وشحنها بالقومانية والذخيرة.

وداخل الفرنساوية من ذلك وهم كثير، ولما عدى كبيرهم إلى بر الجيزة أقام يوم الاثنين عند الأهرام حتى تجمعت العساكر وبعث بالمقدمة، وركب هو في يوم الثلاثا ثاني عشر، وأرسل مكتوبًا إلى أرباب الديوان بالسلام عليهم والوصية بالمحافظة وضبط البلد والرعية كما فعلوا في غيبته السابقة.

وفي سادس عشره ورد الخبر بأن عثمان خجا وصل إلى قلعة أبي قير صحبة السيد مصطفى باشا، فضربوا على القلعة وقاتلوا من بها من الفرنساوية وملكوها وأسروا من بقي بها، وعثمان خجا هذا هو الذي كان متولي إمارة رشيد من طرف صالح بك، وحج معه ورجع صحبته إلى الشام فلما توفي صالح بك سافر إلى الديار الرومية وحضر صحبة مصطفى باشا المذكور، فلما تحققت هذه الأخبار كثر اللغط في الناس وأظهروا البشر وتجاهروا بلعن النصارى.

واتفق أنه تشاجر بعض المسلمين بحارة البرابرة بالقرب من كوم الشيخ سلامة مع بعض نصارى الشوام، فقال المسلم للنصراني: إن شا الله تعالى بعد أربعة أيام نشتفي منكم، وكلامًا من هذا المعنى، فذهب ذلك النصراني إلى الفرنسيس مع عصبة من جنسه، وأخبروهم بالقصة وزادوا وحرفوا وعرفوهم أن قصد المسلمين إثارة فتنة.

فأرسل قايمقام إلى الشيخ المهدي وتكلم في شأن ذلك، وحاججه وأصبحوا فاجتمعوا بالديوان فقام المهدي خطيبًا وتكلم كثيرًا، ونفى الريبة وكدَّب أقوال الأخصام وشدد في تبرية المسلمين عما نسب إليهم، وبالغ في الحطيطة والانتقاص من جانب النصارى، وهذا المقام من مقاماته المحمودة، ثم جمعوا مشايخ الأخطاط والحارات وحبسوهم.

وفيه حضرت مكاتبة من الفرنسيس المتوجهين للمحاربة مع العسكر الوارد لجهة أبي قير، وصورتها:

لا إله إلا الله محمد رسول الله، نخبركم محفل الديوان بمصر المنتخب من أحسن الناس وأكملهم بالعقل والتدبير، عليكم سلام الله تعالى ورحمته وبركاته، بعد مزيد السلام عليكم وكثرة الأشواق الزايدة إليكم، نخبركم يا أهل الديوان المكرمين العظام بهذا المكتوب أننا وضعنا جماعات من عسكرنا بجبل الطرانة، وبعد ذلك سرنا إلى إقليم البحيرة لأجل ما نرد راحة الرعايا المساكين ونقاصص أعدانا المحاربين، وقد وصلنا بالسلامة إلى الرحمانية وعفونا عفوًا عموميًّا عن كامل أهل البحيرة، حتى صار أهل الإقليم في راحة تامة ونعمة عامة.

وفي هذا التاريخ نخبركم أنه وصل ثمانون مركبًا صغارًا وكبارًا، حتى ظهروا بثغر إسكندرية وقصدوا أن يدخلوها فلم يمكنهم الدخول من كثرة البنب وجلل المدافع النازلة عليهم، فرحلوا عنها وتوجهوا يرسون بناحية أبي قير وابتدوا ينزلون في البر، وأنا الآن تاركهم وقصدي أن يتكامل الجميع في البر وأنزل عليهم أقتل من لا يطيع وأخلي بالحياة الطايعين، وآتيكم بهم محبوسين تحت السيف لأجل أن يكون في ذلك شأن عظيم في مدينة مصر.

والسبب في مجي هذه العمارة إلى هذه الطرف العشم بالاجتماع على المماليك والعربان لأجل نهب البلاد، وخراب القطر المصري.

وفي هذه العمارة خلق كثير من الموسقو الإفرنج الذين كراهتهم ظاهرة لكل من كان يوحد الله، وعداوتهم واضحة لمن كان يعبد الله ويومن برسول الله، يكرهون الإسلام، ولا يحترمون القرآن، وهم نظرًا لكفرهم في معتقدهم يجعلون الآلهة ثلاثة، وأن الله ثالث تلك الثلاثة، تعالى الله عن الشركا، ولكن عن قريب يظهر لهم أن الثلاثة لا تعطي القوة وأن كثرة الآلهة لا تنفع، بلى إنه باطل؛ لأن الله تعالى هو الواحد الذي يعطي النصرة لمن يوحده، هو الرحمن الرحيم المساعد المعين المقوي للعادلين الموحدين، الماحق رأي الفاسدين المشركين، وقد سبق في علمه القديم وقضاه العظيم أنه أعطاني هذا الإقليم، وقدَّر وحَكَمَ بحضوري عندكم إلى مصر لأجل تغييري الأمور الفاسدة وأنواع الظلم وتبديل ذلك بالعدل والراحة مع صلاح الحكم، وبرهان قدرته العظيمة ووحدانيته المستقيمة أنه لم يقدر للذين يعتقدون أن الآلهة ثلاثة قوة مثل قوتنا؛ لأنهم ما قدروا أن يعملوا الذي عملناه ونحن المعتقدين وحداينة الإله، ونعرف أنه العزيز القادر القوي القاهر المدبر للكاينات والمحيط علمه بالأرضين والسماوات، القايم بأمر المخلوقات، هذا ما في الآيات والكتب المنزلات.

ونخبركم بالمسلمين إن كانوا صحبتهم يكونوا من المغضوب عليهم لمخالفتهم وصية النبي — عليه أفضل الصلاة والسلام — بسبب اتفاقهم مع الكافرين الفجرة الليام؛ لأن أعدا الإسلام لا ينصرون الإسلام، ويا ويل من كانت نصرته بأعدا الله وحاشا لله أن يكون المستنصر بالكفار مويدًا أو يكون مسلمًا ساقتهم المقادير للهلاك والتدمير مع السفالة والرذالة، وكيف لمسلم أن ينزل في مركب تحت بيرق الصليب ويسمع في حق الواحد الأحد الفرد الصمد من الكفار كل يوم تخريف واحتقار؟! ولا شك أن هذا المسلم في هذا الحال أقبح من الكافر الأصلي في الضلال.

نريد منكم يا أهل الديوان أن تخبروا بهذا الخبر جميع الدواوين والأمصار لأجل أن يمتنع أهل الفساد من الفتنة بين الرعية من ساير الأقاليم والبلاد؛ لأن البلد الذي يحصل فيه الشر يحصل لهم مزيد الضرر والقصاص، انصحوهم يحفظوا أنفسهم من الهلاك خوفًا عليهم أن نفعل فيهم مثل ما فعلناه في أهل دمنهور وغيرها من بلاد الشرور بسبب سلوكهم المسالك القبيحة قاصصناهم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تحريرًا في الرحمانية يوم الأحد خامس عشر صفر سنة أربعة عشر ومايتين وألف.

وطبعوا من ذلك نسخًا وألصقوها بالأسواق وفرقوا منها على الأعيان. انتهى.

وفي ثامن عشره وردت أخبار وعدة مكاتيب لكثير من الأعيان والتجار، وكلها على نسق واحد تزيد عن الماية، مضمونها بأن المسلمين وعسكر العثمانيين ومن معهم ملكوا الإسكندرية في ثالث ساعة من يوم السبت سادس عشر صفر، فصار الناس يحكي بعضهم لبعض ويقول البعض: أنا قرأت المكتوب الواصل إلى فلان التاجر، ويقول الآخر مثل ذلك ولم يكن لذلك أصل ولا صحة، ولم يعلم من فعل هذه الفعلة واختلق هذه النكتة، ولعلها من فعل بعض النصارى البلديين ليوقعوا بها فتنة في الناس ينشأ منها القتل فيهم والأذية لهم، وسبحان الله علام الغيوب.

وفي ليلة الأربعا عشرينه أشيع أن الفرنساوية تحاربوا مع العساكر الواردين على أبي قير، وظهروا عليهم وقتلوا الكثير منهم ونهبوهم وملكوا منهم قلعة أبي قير، وأخذوا مصطفى باشا أسيرًا وكذلك عثمان خجا وغيرهما، وأخبر الفرنسيس أنه حضرت لهم مكاتبة بذلك من أكابرهم، فلما طلع النهار ضربوا مدافع كثيرة من قلعة الجبل وباقي القلاع المحيطة وبصحن الأزبكية، وعملوا في ليلتها — أعني ليلة الأربعا — حراقة بالأزبكية من نفوط وبارود وسواريخ تصعد في الهواء.

وفي يوم الخميس ثامن عشرينه وصلت عدة مراكب وبها أسرى وعساكر جرحى، وكذلك يوم الجمعة تاسع عشرينه حضرت مكاتبة من الفرنسيس بحكاية الحالة التي وقعت لم أقف على صورتها.

واستهل شهر ربيع الأول بيوم السبت سنة ١٢١٤

في ثانيه وصلت مراكب من بحري وفيها جرحى من الفرنساوية.

وفيه قبضوا على الحاج مصطفى البشتيلي الزيات من أعيان أهالي بولاق وحبسوه ببيت قايمقام، والسبب في ذلك أن جماعة من جيرانه وشوا عنه بأن بداخل بعض حواصله الذي في وكالته عدة قدور مملوءة بالبارود، فكبسوا على الحواصل فوجدوا بها ذلك كما أخبر الواشي، فأخذوها وقبضوا عليه وحبسوه كما ذكر، ثم نقلوه إلى القلعة.

وفي سادسه حضر أيضًا جملة من العسكر وكثر لغط الناس على عادتهم في رواية الأخبار.

وفيه حضرت حجاج المغاربة ووصلوا صحبة الحاج الشامي، وأخبروا أنهم حجوا صحبته وأمير الحاج الشامي عبد الله باشا ابن العظم.

وفي ليلة الأحد تاسعه حضر ساري عسكر الفرنساوية بونابرته، ودخل إلى داره بالأزبكية وحضر صحبته عدة أناس من أسرى المسلمين، وشاع الخبر بحضوره فذهب كثير من الناس إلى الأزبكية ليتحققوا الخبر على جليته، فشاهدوا الأسرى وهم وقوف في وسط البركة ليراهم الناس، ثم إنهم صرفوهم بعد حصة من النهار، فأرسلوا بعضهم إلى جامع الظاهر خارج الحسينية وأصعدوا باقيهم إلى القلعة.

وأما مصطفى باشا ساري عسكر فإنهم لم يقدموا به لمصر بل أرسلوه إلى الجيزة مكرمًا، وأبقوا عثمان خجا بالإسكندرية، ولما استقر ساري عسكر بونابارته في منزله ذهب للسلام عليه المشايخ والأعيان وسلموا عليه، فلما استقر بهم المجلس قال لهم على لسان الترجمان: إن ساري عسكر يقول لكم إنه لما سافر إلى الشام كانت حالتكم طيبة في غيابه، وأما في هذه المرة فليس كذلك؛ لأنكم كنتم تظنون أن الفرنسيس لا يرجعون بل يموتون عن آخرهم، فكنتم فرحانين ومستبشرين وكنتم تعارضون الأغا في أحكامه، وأن المهدي والصاوي ما هم «بونو»، أي ليسوا بطيبين ونحو ذلك، وسبب كلامه هذا الحكاية المتقدمة التي حبسوا بسببها مشايخ الحارات، فإن الأغا الخبيث كان يريد أن يقتل في كل يوم أناسًا بأدنى سبب، فكان المهدي والصاوي يعارضانه ويتكلمان معه في الديوان ويوبخانه ويخوفانه سوء العاقبة، وهو يرسل إلى ساري عسكر فيطالعه بالأخبار ويشكو منهما، فلما حضر عاتبهم في شأن ذلك، فلاطفوه حتى انجلى خاطره، وأخذ يحدثهم على ما وقع له من القادمين إلى أبي قير والنصر عليهم وغير ذلك.

وفي يوم الثلاثا حادي عشره عمل المولد النبوي بالأزبكية، ودعا الشيخ خليل البكري ساري عسكر الكبير مع جماعة من أعيانهم وتعشوا عنده، وضربوا ببركة الأزبكية مدافع وعملوا حراقة وسواريخ، ونادوا في ذلك اليوم بالزينة وفتح الأسواق والدكاكين ليلًا وإسراج قناديل واصطناع مهرجان، وورد الخبر بأن الفرنسيس أحضروا عثمان خجا ونقلوه من الإسكندرية إلى رشيد، فدخلوا به البلد وهو مكشوف الرأس حافي القدمين وطافوا به البلد يزفونه بطبولهم حتى وصلوا به إلى داره فقطعوا رأسه تحتها، ثم رفعوا رأسه وعلقوها من شباك داره ليراها من يمر بالسوق.

وفي ثالث عشره أشيع بأن كبير الفرنسيس سافر إلى جهة بحري ولم يعلم أحد أي جهة يريد، وسيل بعض أكابرهم فأخبر أن ساري عسكر المنوفية دعاه لضيافته بمنوف حين كان متوجهًا إلى ناحية أبي قير ووعده بالعود إليه بعد وصوله إلى مصر، وراج ذلك على الناس وظنوا صحته.

ولما كان يوم الاثنين سادس عشره خرج مسافرًا من آخر الليل وخفي أمره على الناس.

وفي يوم الاثنين رابع عشرينه الموافق لتاسع مسرى القبطي كان وفا النيل المبارك فنودي بوفائه على العادة، وخرج النصارى البلدية من القبطة والشوام والأروام، وتأهبوا للخلاعة والقصف والتفرج واللهو والطرب، وذهبوا تلك الليلة إلى بولاق ومصر العتيقة والروضة، واكتروا المراكب ونزلوا فيها وصحبتهم الآلات والمغاني، وخرجوا في تلك الليلة عن طورهم ورفضوا الحشمة وسلكوا مسلك الأمرا سابقًا، من النزول في المراكب الكثيرة المقاديف، وصحبتهم نساهم وقحابهم وشرابهم، وتجاهروا بكل قبيح من الضحك والسخرية والكفريات ومحاكاة المسلمين، وبعضهم تزيا بزي أمرا مصر ولبس سلاحًا وتشبه بهم وحاكى ألفاظهم على سبيل الاستهزا والسخرية وغير ذلك، وأجرى الفرنساوية المراكب المزينة وعليها البيارق، وفيها أنواع الطبول والمزامير في البحر ووقع في تلك الليلة بالبحر وساحله من الفواحش والتجاهر بالمعاصي والفسوق ما لا يكيف ولا يوصف، وسلك بعض غوغا العامة وأسافل العالم ورعاعهم مسالك تسفل الخلاعة ورذالة الرقاعة بدون أن ينكر أحد على أحد من الحكام أو غيرهم، بل كل إنسان يفعل ما تشتهيه نفسه وما يخطر بباله، وإن لم يكن من أمثاله.

إذا كان رب الدار بالدف ضاربًا
فشيمة أهلِ الدار كلِّهم الرقص

وأكثرَ الفرنسيس في تلك الليلة وصباحها من رمي المدافع والسواريخ من المراكب والسواحل، وباتوا يضربون أنواع الطبول والمزامير.

وفي الصباح ركب دوجا قايمقام وصحبته أكابر الفرنسيس وأكابر أهل مصر، وحضروا إلى قصر السد وجلسوا به، واصطفت العساكر بين الروضة وبر مصر القديمة بأسلحتهم وطبولهم، وبعضهم في المراكب لضرب المدافع المتتالية إلى أن انكسر السد وجرى الما في الخليج فانصرفوا.

وفي خامس عشرينه طلبوا من كل طاحون من الطواحين فرسًا.

وفي سادس عشرينه كتبوا أوراقًا وألصقوها بالأسواق، مضمونها أن الناس يذهبون إلى بولاق يوم التاسع والعشرين ليحضروا سوق الخيل ويشتروا ما أحبوا من الخيل.

وفيه ألصقوا أوراقًا أيضًا مضمونها بأن من كان عليه مال ميري ملزوم بغلاقه، ومن لم يغلق ما عليه بعد مضي عشرين يومًا عوقب بما يليق به، ونادوا بموجب ذلك بالأسواق.

وفي سابع عشرينه كتبوا أوراقًا أيضًا مضمونها انقضا سنة مؤجرات أقلام المكوس، ومن أراد استئجار شي من ذلك فليحضر إلى الديوان ويأخذ ما يريده بالمزاد.

وفيه أفرج عن الأنفار التي قدم بها الفرنساوية من غزة، وحبست بالقلعة على مصلحة خمسة وسبعين كيسًا دفعوا بعضها، وضمنهم أهل وكالة الصابون في البعض الباقي، فأنزلوهم من القلعة على هذا الاتفاق بشرط أن لا يسافر منهم أحد إلا بعد غلاق ما عليه.

وفي ثامن عشرينه تشفع أرباب الديوان في أهل يافا المسجونين بالقلعة أيضًا، فوقع التوافق معهم على الإفراج عنهم بمصلحة ماية كيس، فاجتمع الرويسا والتجار وترووا واشتوروا في مجلس خاص بينهم فاتفق الحال على تقسيطها وتأجيلها في كل عشرين يومًا خمسة وعشرون كيسًا، فدفع التجار خمسة وعشرين كيسًا، وأفرج عنهم من القلعة وأجلوا الباقي على الشرح المذكور.

وفيه ورد من بونابارته ساري عسكر الفرنساوية كتاب من الإسكندرية خطابًا لأهل مصر وسكانها، فأحضر قايمقام دوجا الرويسا المصرية وقرأ عليهم الكتاب، مضمونه: أنه سافر يوم الجمعة حادي عشرين الشهر المذكور إلى بلاد الفرنساوية لأجل راحة أهل مصر وتسليك البحر، فيغيب نحو ثلاثة أشهر ويقدم مع عساكره، فإنه بلغه خروج عمارتهم ليصفو له ملك مصر، ويقطع دابر المفسدين وأن المولى على أهل مصر وعلى رياسة الفرنساوية جميعًا كليبر ساري عسكر دمياط.

فتحير الناس وتعجبوا في كيفية سفره ونزوله البحر مع وجود مراكب الإنكليز ووقوفهم بالثغر، ورصدهم الفرنساوية من وقت قدومهم الديار المصرية صيفًا وشتًا، ولكيفية خلوصه وذهابه أنبا وحيل لم أقف على حقيقتها.

وفي يوم السبت تاسع عشرينه قدم ساري عسكر كليبر صبيحة ذلك اليوم، فضربوا لقدومه المدافع من جميع القلاع، وتلقته كبار الفرنساوية وأصاغرهم، وذهب إلى بيت بونابرته الذي كان ساكنًا به وهو بيت الألفي بالأزبكية وسكن مكانه، وفي ذلك اليوم قدمت طايفة من العسكر من جهة الشرقية، وصحبتهم منهوبات كثيرة من بلد عصت عليهم فضربوها ونهبوها ومعهم نحو السبعين من الرجال والصغار وبعض النسا وهم موثوقون بالحبال فسجنوهم بالقلعة.

وفيه ذهب أكابر البلد من المشايخ والأعيان لمقابلة ساري عسكر الجديد للسلام عليه، فلم يجتمعوا به ذلك اليوم ووعدوا إلى الغد، فانصرفوا وحضروا في ثاني يوم فقابلوه، فلم يروا منه بشاشة ولا طلاقة وجه مثل بونابرته، فإنه كان بشوشًا ويباسط الجلسا ويضحك معهم.

واستهل شهر ربيع الثاني بيوم الأحد سنة ١٢١٤ (١٧٩٩م)

في أوايله ابتدوا في عمل مولد المشهد الحسيني، وقهروا الناس وكرروا المناداة بفتح الحوانيت والسهر ووقود القناديل عشر ليالٍ متوالية آخرها ليلة الخميس ثاني عشره.

وفيه طلب ساري عسكر الجديد من النصارى القبط ماية وخمسين ألف ريال فرانسة في مقابلة بواقي سنة اثنتي عشرة ومايتين وألف وشرعوا في تحصيلها.

وفي يوم الجمعة سادسه ركب ساري عسكر الجديد من الأزبكية، ومشى في وسط المدينة في موكب حافل حتى صعد إلى القلعة، وكان أمامه نحو الخمسماية قواس وبأيديهم النبابيت وهم يأمرون الناس بالقيام والوقوف على الأقدام لمروره، وكان صحبته عدة كثيرة من خيالة الإفرنج، وبأيديهم السيوف المسلولة والوالي والأغا وبرطلمين بمواكبهم، وكذلك القلقات والوجاقلية وكل من كان مولى من جهتهم ومنضمًّا إليهم ما عدا رويسا الديوان من الفقها، فلم يطلبوهم للحضور ولا للمشي في ذلك الموكب، ولما صعد إلى القلعة ضربوا له عدة مدافع، وتفرج على القلعة ثم نزل بذلك الموكب إلى داره.

وفي يوم السبت سابعه ركب أغات الينكجرية في أبهة عظيمة وجبروت، وأمامه عدة من عسكر الفرنسيس وأمامه المنادي يقول: حكم ما رسم ساري عسكر خطابًا للأغا أن جميع الدعاوى والقضايا العامية لا تعمل إلا ببيت الأغا، وكل من تعدى من الرعايا أو وقع منه قلة أدب يستاهل ما يجري عليه.

وفيه ركب ساري عسكر الكبير في موكب دون الأول، ووصل إلى بيت ريس الديوان الشيخ عبد الله الشرقاوي ثم رجع إلى داره.

وفي يوم الأحد ثامنه عمل ساري عسكر وليمة في بيته، ودعا الأعيان والتجار والمشايخ فتعشوا عنده ثم انصرفوا إلى دورهم.

وفي يوم الثلاثا عاشره كان آخر المولد الحسيني، وحضر ساري عسكر الفرنساوية مع أعيانهم إلى بيت شيخ السادات بعد العصر في موكب عظيم وأمامه الأغا والوالي والمحتسب، وعدة كبيرة من عسكرهم وبيدهم السيوف المسلولة، فتعشوا هناك وركبوا بعد المغرب وشاهدوا وقود القناديل.

وفي سادس عشره نودي بنشر الحوايج وكتبوا بذلك أوراقًا وألصقوها بالأسواق، وشددوا في ذلك بالتفتيش والنظر بجماعة من طرف مشايخ الحارات، ومع كل منهم عسكري من طرف الفرنساوية وامرأة أيضًا للكشف عن أماكن النسا، فكان الناس يأنفون من ذلك ويستثقلونه ويستعظمونه وتحدثهم أوهامهم بأمور يتخيلونها كقولهم إنما يريدون بذلك الاطلاع على أماكن الناس ومتاعهم، مع أنه لم يكن شي سوى التخوف من العفونة والوبا.

وفي عشرينه نودي بعمل مولد السيد علي البكري المدفون بجامع الشرايبي بالأزبكية بالقرب من الرويعي، وأمروا الناس بوقود قناديل بالأزقة في تلك الجهات، وأذنوا لهم بالذهاب والمجي ليلًا ونهارًا من غير حرج.

وقد تقدم ذكر بعض خبر هذا السيد وأنه كان رجلًا من البُلْه، وكان يمشي بالأسواق عريانًا مكشوف الراس والسوأتين غالبًا، وله أخ صاحب دها ومكر لا يلتم به، واستمر على ذلك مدة سنين، ثم بدا لأخيه فيه أمر لما رأى من ميل الناس لأخيه واعتقادهم فيه، كما هي عادة أهل مصر في أمثاله فحجر عليه ومنعه من الخروج من البيت، وألبسه ثيابًا وأظهر للناس أنه أذن له بذلك، وأنه تولى القطبانية ونحو ذلك، فأقبلت الرجال والنسا على زيارته والتبرك به، وسماع ألفاظه والإنصات إلى تخليطاته وتأويلها بما في نفوسهم، وطفق أخوه المذكور يرغبهم، ويبث لهم في كراماته وأنه يطلع على خطرات القلوب والمغيبات وينطق بما في النفوس فانهمكوا على الترداد إليه، وقلد بعضهم بعضًا وأقبلوا عليه بالهدايا والنذور والإمدادات الواسعة من كل شي، وخصوصًا من نسا الأمرا والأكابر، وراج حال أخيه واتسعت أمواله ونفقت سلعته وصادت شبكته وسمن الشيخ من كثرة الأكل والدسومة والفراغ والراحة حتى صار مثل البو العظيم، فلم يزل على ذلك إلى أن مات في سنة سبع بعد المايتين كما تقدم، فدفنوه بمعرفة أخيه في قطعة حجر عالية من هذا المسجد من غير مبالاة ولا مانع، وعمل عليه مقصورة ومقامًا وواظب عنده بالمقريين والمداحين وأرباب الأشاير والمنشدين بذكر كراماته وأوصافه في قصايدهم ومدحهم ونحو ذلك، ويتواجدون ويتصارخون ويمرغون وجوههم على شباكه وأعتابه، ويغرفون بأيديهم من الهوا المحيط به ويضعونه في أعبابهم وجيوبهم، كما قال البدر الحجازي في بعض منظوماته:

ليتنا لم نعش إلى أن رأينا
كل ذي جنة لدى الناس قطبًا
عَلَمًا هم به يلوذون بل قد
اتخذوه من دون ذي العريش ربًّا
إذا نسوا الله قائلين فلان
عن جميع الأنام يفرج كربًا
وإذا مات يجعلوه مزارًا
وله يهرعون عجمًا وعربا
بعضهم قبَّل الضريح وبعض
عتبَ الباب قَبَّلوه وتربا

هكذا المشركون تفعل مع أصنامهم تبتغي بذلك قربًا.

إلى أن قال:

كل ذا من عمى البصيرة والويـ
ـل لشخص أعمى له الله قلبًا
والحجازي من سمى حسنًا ينـ
ـظر ما خالف الشريعة صعبًا

وفي المعنى:

ألا قل لمكى مقول نصوح
وحق النصيحة أن تستمع
متى سمع الناس في دينهم
بأن الغنا سنة تتبع
وأن يأكل المرء أكل البعير
ويرقص في الجمع حتى يقع
ولو كان طاوي الحشا جايعًا
لما زاد من طرب واستمع
وقالوا سكرنا بحب الإله
وما أسكر القوم إلا القصع
كذاك الحمير إذا أخصبت
تنهق من ريها والشبع

فهرعت لزيارة قبره النسا والرجال بالنذور والشموع وأنواع المأكولات، وصار ذلك المسجد مجمعًا وموعدًا، فلما حضر الفرنساوية إلى مصر تشاغل عنه الناس وأُهمِلَ شأنه في جملة المهملات وتُرِكَ مع المتروكات، فلما فُتِحَ أمر الموالد والجمعيات ورخص الفرنساوية ذلك للناس لِمَا رأوا فيه من الخروج عن الشرايع، واجتماع النسا واتباع الشهوات والتلاهي وفعل المحرمات، أعيد هذا المولد مع جملة ما أعيد.

واستهل شهر جمادى الأولى بيوم الجمعة سنة ١٢١٤

فيه اهتم الفرنسيس بعمل عيدهم المعتاد وهو عند الاعتدال الخريفي وانتقال الشمس لبرج الميزان، فنادوا بفتح الأسواق والدكاكين ووقود القناديل وشددوا في ذلك، وعملوا عزايم وولايم وأطعمة ثلاثة أيام آخرها يوم الاثنين، ولم يعملوه على هيئة العام الماضي من الاجتماع بالأزبكية عند الصاري العظيم المنتصب والكيفية المذكورة؛ لأن ذلك الصاري سقط وامتلأت البركة بالماء.

فلما كان يوم الأحد نبهوا على الأمرا والأعيان بالبكور إلى بيت ساري عسكر، فاجتمع الجميع في صبح يوم الاثنين فركب ساري عسكر معهم في موكب كبير، وذهبوا إلى قصر العيني، فمكثوا هناك حصة، وعرضت عليهم العساكر جميعها على اختلاف أنواعها من خيالة ورجالة وهم بأسلحتهم وزينتهم ولعبوا لعبهم في ميدان الحرب، وخلع ساري عسكر على الشيخ الشرقاوي والقاضي وأغات الينكجرية خلع سمور، ثم رجعوا إلى منازلهم ثم نودي في جميع الأسواق بوقود أربع قناديل على كل دكان في تلك الليلة، ومن لم يفعل ذلك عوقب، ثم عملوا بالأزبكية حراقة نفوط ومدافع وسواريخ ولعبوا في المراكب طول ليلهم.

وفي سابعه بعد عيد الصليب نقص ما النيل، وكان من أول زيادته قاصرًا عن العادة وزيادته شحيحة، فضج الناس وانكبوا على شرا الغلة وازدحموا في الرقع والسواحل وطلب باعة الغلة الزيادة في السعر، فجمع الفرنساوية كل من كان له مدخل في تجارة الغلال وزجروهم وخوفوهم، وقالوا لهم: هذه الغلة الموجودة الآن إنما هي زراعة العام الماضي، وأما هذا العام فلا تخرج زراعته إلا في العام المستقبل، فانزجروا وباعوا بالسعر الحاضر، وقد كاد يقع الغلا العظيم لولا ألطاف الله حفت، ونعمه العميمة الشاملة حصلت.

وفيه أرسلوا جملة عساكر من الفرنساوية إلى مراد بك بناحية الفيوم وعليهم كبير، فوقع بينهم وبينه أمور لم أتحقق تفصيلها، وترددت بينه وبين ساري عسكر الرسل والمراسلات، ووقع بينه وبينهم الهدنة والمهاداة واصطلح معهم على شروط منها تقليد إمارة الصعيد تحت حكمهم.

وفي هذا الشهر كثرت الإشاعة باجتماع عساكر عثمانية جهة الشام، فكثر اهتمام الفرنساوية بإخراج الجبخانات والمدافع وآلات الحرب والقومانية والعساكر وتحصين الصالحية والقرين وبلبيس.

واستهل شهر رجب بيوم الجمعة سنة ١٢١٤

وفيه كثرت الأقوال وتواترت الأخبار بوصول الوزير الأعظم يوسف باشا إلى الديار الشامية، وصحبته نصوح باشا وعثمان أغا كتخدا الدولة وحسين أغا نزله أمين ومصطفى أفندي الدفتردار وباقي رجال الدولة، وعسفوا في البلاد الشامية وضربوا عليهم الضرايب العظيمة، وجبوا الأموال وفعلوا ما لا خير فيه من الظلم وقتل الأنفس بسبب استخلاص الأموال، فلما كان في منتصفه وردت الأخبار بوصولهم إلى غزة والعريش، وأنهم حاصروا قلعة العريش، وقاتلوا من بها من عسكر الفرنساوية حتى ملكوها في تاسع عشره، واحتووا على ما كان فيها من الذخيرة والجبخانة وآلات الحرب، وصعد مصطفى باشا الذي باشر أخذ القلعة مع جملة من العسكر وبعض الأجناد المصرية، وضربت النوبة وحصل لهم الفرح العظيم.

فاتفق أنه وقعت نار على مكان الجبخانة والبارود المخزون بالقلعة، وكان شيًّا كثيرًا فاشتعلت وطارت القلعة بمن فيها واحترقوا وماتوا وفيهم الباشا المذكور ومن معه ومحمد أغا أرنؤد الجلفي وغيره من المصرلية، ومات كثير ممن كان خارجًا عنها وبقربها مما نزل عليهم من النار والأحجار المتطايرة في أسرع وقت.

ولما تحقق الفرنساوية أخذ العريش، وأن عساكر العثمانيين زاحفة إلى جهة الصالحية، تهيأ ساري عسكر الفرنساوية، واستعد للخروج والسفر في أسرع وقت وخرج بعساكره وجنوده إلى الصالحية، وقد كان قبل أخذ العثمانيين قلعة العريش أرسل الفرنساوية إلى سيدني كبير الإنكليز مراسلات ليتوسط بينهم وبين العثمانيين.

ثم ورد فرمان من حضرة الوزير قبل وصوله لجهة العريش خطابًا إلى جمهور الفرنساوية باستدعا رجلين من روساهم وعقلاهم ليتشاور معهم ويتفق معهم على أمر يكون فيه المصلحة للفريقين على ما سيشترطونه بينهم، فوجهوا إليه من طرفهم «بوسليك» ريس الكتاب وديزه ساري عسكر الصعيد، فنزلوا في البحر على دمياط وطالت مدة غيابهم، وبعث كليبر ساري عسكر رسلًا من طرفه لاستفسار الأخبار.

واستهل شهر شعبان المعظم سنة ١٢١٤

فورد الخبر بقدومهما في اثنين وعشرين فيه إلى الصالحية فأرسلوا لهم الخيول وما يحتاجان إليه، وحضرا إلى مصر وشاع أمر الصلح، وحضر من طرف العثمانيين ريس الكتاب والدفتردار لتقرير الصلح، وجنح كل من الفريقين إلى ذلك لما فيه من كف الحرب وحقن الدما.

وأظهر الفرنساوية الخداع والخضوع حتى تم عقد الصلح على اثنين وعشرين شرطًا رسمت وطبعت في طومار كبير، وورد الخبر بذلك إلى مصر، وفرح الناس بذلك فرحًا شديدًا.

وأرسل ساري عسكر الفرنساوية مكاتبة بصورة الحال إلى دوجا قايمقام، فجمع أهل الديوان وقرا عليهم ذلك، ولما ورد ذلك الطومار المتضمن لعقد الصلح والشروط، وعربوه وطبعوا منه نسخًا كثيرة فرقوا منها على الأعيان، وألصقوا منها بالأسواق والشوارع.

وصورته بما فيه من الفصول والشروط بالحرف الواحد ما عدا ترجمة الأسطر التي باللغة الفرنسية:
هذه صورة الشروط الواقعة لخلو مصر ما بين حضرة الجنرال ديزه متفرقة، وحضرة بوسليك مدبر الحدود العام نواب سر العسكر العام كليبر المفوضين بكامل السلطان، وجناب سامي المقام مصطفى رشيد أفندي دفتردار ومصطفى راسيسه أفندي ريس كتاب الوكلا المفوضين بكامل السلطان عن جناب حضرة الوزير سامي المقام، إن للجيش الفرنساوي بمصر عندما قصد أن يوضح ما في نفسه من وفور الشوق لحقن الدما، ويرى نهاية الخصام المضر الذي قد حصل ما بين المشيخة الفرنساوية والباب العالي، فقد ارتضى أن يسلم بخلو الإقليم المصري بحسب هذه الشروط الآتي ذكرها، يأمل أن بهذا التسليم يمكن أن يتجه ذلك إلى الصلح العام في بلاد المغرب قاطبة.
  • الشرط الأول: أن الجيش الفرنساوي يلزمه أن يتنحى بالأسلحة والعزال بالأمتعة إلى الإسكندرية ورشيد وأبو قير لأجل أن يتوجه وينتقل بالمراكب إلى فرنسا إن كان ذلك في مراكبهم الخاصة بهم، أم في تلك التي يُقتضَى للباب العالي أن يقدمها لهم بقدر الكفاية، ولأجل تجهيز المراكب المذكورة بأقرب نوال فقد وقع الاتفاق أنه من بعد مضي شهر واحد من تقرير هذه الشروط يتوجه إلى قلعة إسكندرية نايب من قِبَل الباب العالي وصحبته خمسون نفرًا.
  • الشرط الثاني: فلا بد عن المهلة وتوقف الحرب بمدة ثلاثة أشهر بالإقليم المصري، وذلك من عهد إمضاء شروط الاتفاق هذه، وإذا صادف الأمر أن هذه المهلة تمضي قبل أن المراكب الواجب تجهيزها من قبل الباب العالي تحضر جاهزة، فالمهلة المذكورة يُقتضَى مطاولتها إلى أن ينجز الرحيل على التمام والكمال، ومن الواضح أنه لا بد عن إصراف الوسايط الممكنة من قبل الفريقين؛ لكي لا يحصل ما يمكن وقوعه من التجسس كان ذلك من الجيش أم من أهل البلاد، إذا كانت هذه المهلة قد حصل الاتفاق بها لأجل راحتهم.
  • الشرط الثالث: فرحيل الجيش الفرنساوي يقتضي تدبيره بيد الوكلا القادمين لهذه الغاية من قبل الباب الأعلى وسر العسكر كليبر، وإذا حصل خصام ما بين الوكلا المذكورين بوقت الرحيل في هذا الصدد فلينتخب من قِبَل حضرة سيدني سميث رجل لينهي المخاصمات المذكورة بحسب قواعد السياسة البحرية السالكون عليها ببلاد الإنكليز.
  • الشرط الرابع: قطية والصالحية لا بد عن خلوهما عن الجيش الفرنساوي في ثامن يوم، وأعظم ما يكون في عاشر يوم من إمضا شروط الاتفاق هذه، ومدينة المنصورة يكون خلوها من بعد خمسة عشر يومًا، وأما دمياط وبلبيس فمن بعد عشرين يومًا، وأما السويس فيكون خلوه ستة أيام قبل مدينة مصر، وأما المحلات الكاينة في الجهة الشرقية من بحر النيل فيكون خلوها في اليوم العاشر والدلط، أي الأقاليم البحرية يكون خلوها خمسة عشر يومًا من بعد خلو مصر.

    والجهة الغربية وما يتعلق بها تستمر بيد الفرنسيس إلى حد خلو مدينة مصر، ولكن من حيث إنها لا بد أن تستمر بيد الفرنساوية إلى أن يكون انحدار العسكر من جهات الصعيد فجهة الغربية وتعلقاتها كما ذكر، فممكن أنه لا يتيسر خلوها إلا من بعد انقضا وقت المهلة المعين إذا لم يمكن خلوها قبل هذا الميعاد، والمحلات التي تترك من الجيش فتسلم إلى الباب الأعلى كما هي في حالتها الآن.

  • الشرط الخامس: ثم إن مدينة مصر إن أمكن ذلك يكون خلوها بعد أربعين يومًا وأكثر بمدة خمسة وأربعين يومًا من وقت إمضا الشروط المذكورة.
  • الشرط السادس: أنه لقد وقع الاتفاق صريحًا على أن الباب الأعلى يصرف كل اعتناه في أن الجيش الفرنساوي الموجود في الجهة الغربية من بحر النيل عندما يقصد التنحي بكامل ما له من السلاح والعزال لنحو معسكرهم لا تصير عليه مشقة، ولا أحد يشوش عليه إن كان ذلك مما يتعلق بشخص كل واحد منهم أو بأمتعته أو بكرامته، وذلك إما من أهالي البلاد وإما من جهة العسكر السلطاني العثماني.
  • الشرط السابع: وحفظًا لإتمام الشرط المذكور أعلاه، وملاحظة لمنع ما يمكن وقوعه من الخصام والمعاداة، فلا بد عن استعمال الوسايط وأن عسكر الإسلام يكون دايمًا متباعدًا عن العسكر الفرنساوي.
  • الشرط الثامن: فمن تقرير وإمضا هذه الشروط، فكل من كان من الإسلام أم من باقي الطوايف من رعايا الباب الأعلى بدون تميز الأشخاص أوليك الواقع عليها الضبط أم الذين واقع عليهم الترسيم ببلاد فرنسا أو تحت أمر الفرنساوية بمصر يعطى لهم الإطلاق والتعلق، وبمثل ذلك فكل الفرنساوية المسجونين في كامل البلدان والأساكل من مملكة العثملي، وكذلك كامل الأشخاص من إيما طايفة كانت أوليك الذين كانوا في تعلق خدمة المراسلات والقناصل الفرنساوية لا بد عن انعتاقهم.
  • الشرط التاسع: فترجيع الأموال والأملاك المتعلقة بسكان البلاد والرعايا من الفريقين أم دفع مبالغ أثمانها لأصحابها فيكون الشروع به حالًا من بعد خلو مصر، والتدبير في ذلك يكون بيد الوكلا في إسلامبول المقامين بوجه خاص من الفريقين لهذا المقصد.
  • الشرط العاشر: فلا يحصل التشويش لأحد من سكان الإقليم المصري من أي ملة كانت، وذلك لا في أشخاصهم ولا في أموالهم نظرًا إلى ما يمكن أن يكون قد حصل من الاتحاد ما بينهم وبين الفرنساوية من إقامتهم بأرض مصر.
  • الشرط الحادي عشر: ولا بد أن يُعطَى للجيش الفرنساوي إن كان من قبل الباب الأعلى أو من قبل المملكتين المرتبطتين معه أعني بهما مملكة إنكليزة ومملكة الموسكوب — فرمان الإذن والأوراق المحافظة بالطريق، وبمثل ذلك السفن اللازمة لرجوع الجيش المذكور بالأمن والأمان إلى بلاد فرنسا.
  • الشرط الثاني عشر: وعند نزول الجيش الفرنساوي المذكور الكاين بمصر الآن، فالباب الأعلى وباقي الممالك المتحدة معه يعاهدون بأجمعهم أنهم من وقت ينزلون بالمراكب إلى حين وصولهم إلى أراضي فرنسا لا يحصل عليهم شي قط مما يكدرهم، وبنظير ذلك فحضرة الجنرال كليبر سر العسكر العام يعاهد من قبله وصحبته الجيش الفرنساوي الكاين بمصر بأنه لا يصدر منهم مما يؤول إلى المعاداة على الإطلاق ما دامت المدة المذكورة، وذلك لا ضد العمارة ولا ضد بلدة من بلدان الباب الأعلى وباقي الممالك المرتبطة معه، وكذلك إن السفن التي يسافر بها الجيش المشار إليه ليس لها أن تُرَى في حد من الحدود إلا بتلك التي تختص بأراضي فرنسا، ما لم يكن ذلك في حادث ما ضروري.
  • الشرط الثالث عشر: ونتيجة ما قد وقع الاتفاق عليه من الإمهال المشترط أعلاه بما يلاحظ خلو الإقليم المصري، فالجهات الواقع بينهم هذا الاشتراط قد اتفقوا على أنه إذا حضر في حد هذه المدة المذكورة مركب من بلاد فرنسا بدون معرفة غلايين الممالك المتحدة، ودخل بمينا إسكندرية، فلازم عن سفره حالًا، وذلك من بعد أن يكون قد تحوج بالما والزاد اللازم، ويرجع إلى فرنسا وذلك بسندات أوراق الإذن من قبل الممالك المتحدة، وإذا صادف الأمر أن مركبًا من هذه المراكب تحتاج إلى الترقيع فهذه لا غير يباح لها الإقامة إلى أن ينتهي إصلاحها المذكور، وفي الحال من ثم تتوجه إلى بلاد فرنسا نظير التي قد تقدم القول عنها عند أول ريح يوافقها.
  • الشرط الرابع عشر: وقد يستطيع حضرة الجنرال كليبر ساري العسكر العام أن يرسل خبرًا إلى أرباب الأحكام الفرنساوية في الحال، ومن يصحب هذا الخبر لا بد أن تعطى له أوراق الإذن بالإطلاق، كما يُقتضَى ليسهل بهذه الوساطة وصول الخبر إلى أصحاب الحكم بفرنسا.
  • الشرط الخامس عشر: وإذا قد اتضح أن الجيش الفرنساوي يحتاج إلى المعاش اليومي ما دامت الثلاثة أشهر المعينة لخلو الإقليم المصري، وكذلك لمعاش الثلاثة الأشهر الأخرى التي يكون مبتداها من يوم نزولهم بالمراكب فقد وقع الاتفاق على أنه يقدم له مقدار ما يلزمه من القمح واللحم والأرز والشعير والتبن، وذلك بموجب القايمة التي تقدمت الآن من وكلا الجمهور الفرنساوي إن كان ذلك مما يخص إقامتهم أو ما يلاحظ سفرهم والذي يكون قد أخذه الجيش المذكور مقدار ما كان من شونه، وذلك من بعد إمضا هذه الشروط فينخصم مما قد لزم ذاته بتقدمته الباب الأعلى.
  • الشرط السادس عشر: ثم إن الجيش الفرنساوي منذ ابتدا وقوع إمضا هذه الشروط المذكورة ليس له أن يفرد على البلاد فردة ما من الفوايد قطعًا بالإقليم المصري، لا بل وبالعكس فإنه يخلي للباب الأعلى كامل فرد المال وغيره مما يمكن توجب قبضه، وذلك إلى حين سفرهم، وبمثل ذلك الجمال والهجن والجبخانة والمدافع وغير ذلك مما يتعلق بهم ولا يريدون أن يحملوه معهم، ونظير ذلك شون الغلال الواردة لهم من تحت المال، وأخيرًا مخازن الخرج فهذه كلها لا بد عن الفحص عنها وتسعيرها من أناس وكلا موجهين من قبل الباب الأعلى لهذه الغاية ومن أمين البحر الإنكليزي وبرفقة الوكلا المتصرفين بأمر الجنرال كليبر ساري العسكر، وهذه الأمتعة لا بد عن قبولها من وكلا الباب الأعلى المتقدم ذكرهم بموجب ما وقع عليه السعر إلى حد قدر مبلغ ثلاثة آلاف كيس التي تُقتضَى للجيش الفرنساوي المذكور لسهولة انتقاله عاجلًا ونزوله بالمراكب، وإذا كانت الأسعار في هذه الأمتعة المذكورة لا توازي المبلغ المرقوم أعلاه، فالخسيس والنقص في ذلك لا بد من دفعه بالتمام من قبل الباب الأعلى على جهة السلفة تلك التي يلزم بوفائها أرباب الأحكام الفرنساوية بأوراق التمسكات المدفوعة من الوكلا المعينين من الجنرال كليبر ساري العسكر العام لقبض واستلام المبلغ المذكور.
  • الشرط السابع عشر: ثم إنه إذا كانت تُقتضَى للجيش الفرنساوي بعض مصاريف لخلوهم مصر فلا بد أن تقبض، وذلك من بعد تقرير تمسك الشروط المذكورة القدر المحدد أعلاه بالوجه الآتي ذكره، أعني فمن بعد مضي خمسة عشر يومًا خمسماية كيس، وفي غلاق الثلاثين يومًا خمسماية كيس أخرى، وبتمام الأربعين يومًا ثلثماية كيس أخرى، وعند تمام الخمسين يومًا ثلثماية كيس شرحه، وعند غلاق الستين يومًا ثلثماية كيس أخرى، وفي السبعين يومًا ثلثماية كيس أخرى، وعند تمام الثمانين يومًا ثلثماية كيس أخرى، وعند غلاق التسعين يومًا خمسماية كيس أخرى، وكل هذه الأكياس المذكورة هي عن كل كيس خمسماية غرش عثملي، ويكون قبضها على سبيل السلفة من يد الوكلا المعينين لهذه الغاية من قبل الباب الأعلى، ولكي يسهل إجرا العمل بما وقع الاعتماد عليه، فالباب الأعلى من بعد وضع الإمضا على النسختين من الفريقين يوجه حالًا الوكلا إلى مدينة مصر وإلى بقية البلاد المستقر بها الجيش.
  • الشرط الثامن عشر: ثم إن فرد المال الذي يكون قد قبضه الفرنساوية من بعد تاريخ تحرير الشروط المذكورة وقبل أن يكون قد اشتهر هذا الاتفاق في الجهات المختلفة بالإقليم المصري، فقد تخصم من قدر مبلغ الثلاثة آلاف كيس المتقدم القول عنها.
  • الشرط التاسع عشر: ثم إنه لكي يسهل خلو المحلات سريعًا، فالنزول في المراكب الفرنساوية المختصة بالحمولة والموجودة في البر بالإقليم المصري مباح به ما دامت مدة الثلاثة أشهر المذكورة المعينة للمهلة، وذلك من دمياط ورشيد حتى إلى الإسكندرية، ومن إسكندرية حتى إلى رشيد ودمياط.
  • الشرط العشرون: فمن حيث إنه للطمان الكلي في جهات البلاد الغربية يُقتضَى الاحتراس الكلي لمنع الوبا الطاعوني عن أنه يتصل هناك، فلا يباح ولا لشخص من المرضى أو من أوليك الذين مشكوك بهم بريحة من هذا الدا الطاعوني أن ينزل بالمراكب، بل إن المرضى بعلة الطاعون أو بعلة أخرى أينما كانت تلك التي بسببها لا يُقتضَى أن يسمح بسفرهم بمدة خلو الإقليم المصري الواقع عليها الاتفاق يستمرون في بيمارستان المرضى حيث هم الآن تحت أمان جناب الوزير الأعظم عالي الشان، ويعالجهم الأطبا من الفرنساوية أوليك الذين يجاورونهم بالقرب منهم إلى أن يتم شفاهم يسمح لهم بالرحيل الشي الذي لا بد عن اقتضا الاستعجال به بأسرع ما يمكن، ويحصل لهم ويبدو نحوهم ما ذكر في الشرطين الحادي عشر والثاني عشر من هذا الاتفاق، نظير ما يجري على باقي الجيش، ثم إن أمير الجيش الفرنساوي يبذل جهده في إبراز الأوامر الأشد صرامة لرويسا العساكر النازلة بالمراكب بأن لا يسمحوا لهم بالنزول بمينا خلاف المين التي تتعين لهم من رويسا الأطبا، تلك المين التي يتيسر لهم بها أن يقضوا أيام الكارنتينة بأوفر السهولة، من حيث إنها من مجرى العادة ولا بد عنها.
  • الشرط الحادي والعشرون: فكل ما يمكن حدوثه من المشاكل التي تكون مجهولة، ولم يمكن الاطلاع عليها في هذه الشروط، فلا بد عن نجازها بوجه الاستحباب ما بين الوكلا المعينين لهذا القصد من قبل الجناب الوزير الأعظم عالي الشان وحضرة الجنرال كليبر ساري العسكر العام بوجه يسهل ويحصل الإسراع بالخلو.
  • الشرط الثاني والعشرون: وهذه الشروط لا تعد صحيحة إلا من بعد إقرار الفريقين وتبديل النسخ، وذلك بمدة ثمانية أيام، ومن بعد حصول هذا الإقرار لا بد عن حفظ هذه الشروط الحفظ اليقين من الفريقين كليهما، صح وثبت وتقرر بختوماتنا الخاصة بنا بالعسكر، حيث وقعت المداولة بحد العريش في شهر بلويوز سنة ثمانٍ من إقامة المشيخة الفرنساوية، وفي رابع عشرين شهر كانون الثاني عربي من سنة ألف وثمانماية الواقع في ثماني عشرين شعبان هلالية سنة أربعة عشر ومايتين وألف هجرية، الممضيين الجنرال متفرقة دزه البلدي وبوسليك المفوضين بكامل سلطان الجنرال كليبر وجناب سامي مقام مصطفى رشيد أفندي دفتردار ومصطفى راسيسه أفندي ريس الكتاب المفوضين بكامل سلطان جناب الوزير الأعظم عالي الشان منقولة عن النسخة الأصلية الموافقة لتلك الموجهة بالفرنساوية إلى الوكلا العثملي بدلًا من التي قد وجهوها باللغة التركية، ممضي دزه وبوسليك تقرير الجنرال ساري العسكر العام محرر في آخر السنة التركية التي بقيت محفوظة بيد الوزير الأعظم، إنني أنا الواضع اسمي أدناه الجنرال سري العسكر العام أمير الجيش الفرنساوي بالإقليم المصري أثبت وأقرر شروط الاتفاق المذكور أعلاه للحصول على إجرايه بالعمل بالنوع والصورة إن كان من اللازم أن أتيقن بأن الاثنين وعشرين شرطًا المشروحة إلى الآن هي موافقة على التدقيق باللغة الفرنساوية الممضي عليها من الوكلا أصحاب ولاية الوزير الأعظم، والمقررة من جناب عالي الشان، الترجمة التي لا بد عن الاعتماد بإجرايها كل مرة إن كان لسبب أم لآخر يمكن حصول بعض الاختلافات، ومن ثَمَّ فتقلد بعض المشاكل.

    صح وجرى بمحل العسكر العام بالصالحية في ثامن شهر بليفيوز سنة ثمانٍ من المشيخة، ممضي كليبر عن نسخة صحيحة الجنرال متفرقة رأس صاحب ختام في الجيش الفرنساوي ممضي داماس.

انتهى بحروفه، وما فيه من خطأ وتحريف فيه طبق الأصل المطبوع بالمطبعة الفرنساوية باللغة العربية، ولم أغيِّر منه سوى ما في تواريخ الأشهر والسنين بالأرقام الهندية، والله أعلم.

واستهل شهر رمضان المعظم بيوم الأحد سنة ١٢١٤ (٢٦ يناير ١٨٠٠م)

في ثانيه حضر ساري عسكر الفرنساوية كليبر إلى ناحية العادلية، وصحبته أغا من رجال الدولة العثمانية يُسمَّى محمد أغا، فأرسل ساري عسكر إلى حسن أغا نجاتي المحتسب يأمره بأن يتلقاه، وينزله في بيته ويكرمه إكرامًا زايدًا، فلما كان بعد العشا دخل ذلك الأغا إلى مصر في موكب، فحصل للناس ضجة عظيمة وازدحموا على مشاهدتهم له والفرجة عليه، وارتفعت أصواتهم وعلا ضجيجهم وركبوا على مصاطب الدكاكين والسقايف وانطلقت النسا بالزغاريت من الطيقان، واختلفت آراهم في ذلك القادم ولم يعلموا ما هو، فدخل من باب النصر وشق القاهرة، ولم يزل سايرًا حتى وصل إلى بيت حسن أغا بسويقة اللالا، فنزل هناك، فلما استقر به الجلوس ازدحم الناس والأعيان للسلام عليه ولمشاهدته بالمشاعل والفوانيس.

فلما كان صبح تلك الليلة عمل ديوانًا، وجمع العلما والوجاقلية وأعيان الناس وكبار النصارى من الأقباط والشوام، فلما تكلموا أبرز لهم فرمانًا من الوزير فقُرِيَ عليهم بالمجلس، فدل مضمونه على أنه أغات الجمارك، أي المكوس بمصر وبولاق ومصر القديمة، وفيه التحكير على جميع الواردات من أصناف الأقوات فيشتريها بالثمن الذي يسعره هو بمعرفة المحتسب، ويودعه في المخازن.

وأبرز فرمانًا آخر قُرِيَ بالمجلس، مضمونه أن الوزير أقام مصطفى باشا الذي كان أُسِرَ بأبي قير وكيلًا عنه، وقايمقام بمصر إلى حين حضوره، وأن السيد أحمد المحروقي كبير التجار ملزوم، ومقيد بتحصيل الثلاثة الآلاف كيس المعينة لترحيل الفرنساوية.

وانفض المجلس على ذلك، وأخذ السيد أحمد المحروقي في تحصيل ذلك القدر من الناس، وفرضوه على التجار وأهل الأسواق والحرف، وشرعوا في تحكير الأقوات، فغلت أسعارها وضاقت مون الناس، ودُهِيَ الناس من أول أحكامهم بهاتين الداهيتين.

وكان أول قادم منهم أمير المكوسات ومحكر الأقوات، وأول مطلوبهم مصادرة الناس وأخذ المال منهم وتغريمهم، واجتهد السيد أحمد المحروقي في توزيع ذلك وجمعه في أيام قليلة، فكان كل من توجه عليه مقدار من ذلك اجتهد في تحصيله وأخرجه عن طيب قلب وانشراح خاطر، وبادر بالدفع من غير تأخير، لعلمه أن ذلك لترحيل الفرنساوية، ويقول: سنة مباركة ويوم سعيد بذهاب الكلاب الكفرة، كل ذلك بمشاهدة الفرنسيس ومسمعهم وهم يحقدون ذلك عليهم.

وحضر مصطفى باشا من الجيزة، وسكن ببيت عبد الرحمن كتخدا بحارة عابدين، وأرسل الوزير فرمانات إلى البلاد وعين المعينين والمباشرين بطلب المال والغلال والكلف من الأقاليم.

وأرسل إلى البنادر وجعل في كل بندر أميرًا ووكيلًا لجمع الغلال والمطلوبات من الذخيرة وجمعها بالحواصل، ولا يخفى ما يحصل في ضمن ذلك من الجزئيات التي سيتضح بعضها فيما بعد.

وأما الرعايا وهمج الناس من أهل مصر، فإنهم استولى عليهم سلطان الغفلة ونظروا للفرنسيس بعين الاحتقار، وأنزلوهم عن درجة الاعتبار، وكشفوا نقاب الحيا معهم بالكلية، وتطاولوا عليهم بالسب واللعن والسخرية، ولم يفكروا في عواقب الأمور ولم يتركوا معهم للصلح مكانًا، حتى إن فقها المكاتب كانوا يجمعون الأطفال ويمشون بهم فرقًا وطوايف حسبة، وهم يجهرون ويقولون كلامًا مقفى بأعلى أصواتهم بلعن النصارى وأعوانهم وأفراد رويساهم كقولهم: الله ينصر السلطان ويهلك فرط الرمان، ونحو ذلك، وظنوا فروغ القضية ولم يملكوا لأنفسهم صبرًا حتى تنقضي الأيام المشروطة.

على أن ذلك لم يثمر إلا الحقد والعداوة التي تأسست في قلوب الفرنسيس، وأوجبت ما حصل بعد ذلك من وقوع العذاب البئيس، كقول القايل:

أمور تضحك السفهاء منها
ويبكي عندها الحبر اللبيب

وأيضًا:

وكم ذا بمصر من المضحكات
ولكنه ضحك كالبكا

وقد قيل: قاتل بجد وإلا فدع.

وقال الشعبي من جملة كلام:

وصادفنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقيا ولا فجرة أقويا.

وأخذ الفرنساوية في أُهْبَة الرحيل، وشرعوا في مبيع أمتعتهم وما فضل عن سلاحهم ودوابهم، وسلموا غالب الثغور والقلاع كالصالحية وبلبيس ودمياط والسويس، ثم إن العثمانيين تدرجوا في دخول مصر، وصار في كل يوم يدخل منهم جماعة بعد جماعة، وأخذوا يشاركون الناس في صناعاتهم وحرفهم مثل القهوجية والحمامية والخياطين والمزينين وغيرهم، فاجتمع العامة وأصحاب الحرف إلى مصطفى باشا قايمقام، وشكوا إليه فلم يلتفت لشكواهم؛ لأن ذلك من سنن عساكرهم وطرايقهم القبيحة.

وورد الخبر بوصول حضرة الوزير إلى بلبيس وصحبته الأمرا المصرية، وأرسلوا إلى مراد بك ومن معه بالحضور إلى العرضي، فأجاب بالاعتذار عن الحضور لأنه في الصعيد فلم يقبلوا عذره، فأكدوا عليه بالحضور فاستأذن الفرنساوية سرًّا فأذنوا له في المقابلة، وكان سفيره في ذلك عثمان بك البرديسي، ثم إنه حضر وقابل الوزير بصحبة إبراهيم بك وخلع عليهما.

ورجع مراد بك فخيم جهة العادلية، وحضر حسن أغا نزله أمين ودخل مصر وأخلى الفرنساوية قلعة الجبل وباقي القلاع التي أحدثوها ونزلوا منها، فلم يطلع إليها أحد من العثمانيين ولم يلتفتوا لتحصينها ولا ربطها بالعساكر والجبخانة، وأعرضوا عن المحاذرة وركبهم الغرور لأجل نفاذ المقدور.

وحضر أيضًا غالب المصريين الفارين من مصر وقت مجي الفرنساوية إليها من الأغوات والوجاقلية والأفندية والكتبة، مثل إبراهيم أفندي الروزنامجي وثاني قلفة وغيرهما بنساهم وأولادهم يظنون فروغ القضية، والذي خافوا منه وقعوا فيه كما ستراه.

وأرسل إبراهيم بك إلى السيد أحمد المحروقي يطلب كساوى وثيابًا وطرابيش وسراويل للمماليك ولخاصة نفسه، فأرسل إليه مطلوبه وأخرجت لهم الخيام والتراتيب والنظام، وهيأت نسا الأمرا والأجناد احتياجاتهم وترتيباتهم، وجروا على عادتهم في التغالي ولازمت الخدم والفراشون الغدو والرواح إلى خيم ساداتهم، وهم راكبو البغال والرهوانات والحمير الفارهة، وفي حجورهم تعابي الثياب والبقج المزركشة بالذهب والفضة.

وكذلك الخدم الذين يحملون الخوانات وطبالي الأطبخة والأطعمة، وعليها الأغطية الحرير والوشي الملون وهم يتغنون برفع أصواتهم، ويتجاوبون بكلام وسخريات ولعن للنصارى البلدية والفرنسيس بمرأى منهم ومسمع، إلى غير ذلك مما يحرك الحفايظ ويوغر الصدور.

ولما استقر الوزير بمدينة بلبيس، وذلك في الثاني والعشرين من شهر رمضان استأذن العلما والتجار والأعيان المصرية مصطفى باشا في التوجه للسلام فاستأذن ثم أذن لهم، فذهبوا أيضًا إلى ساري عسكر كليبر واستأذنوه فأذن لهم أيضًا، فذهبوا عند ذلك للسلام عليه فوصلوا إلى نصوح باشا والي مصر، وسلموا عليه وباتوا بوطاقه.

فلما وصلوا إليه واستقر بهم الجلوس سأل عن أسماهم، وكذلك عن التجار وأكابر النصارى ثم خلع عليهم خلعًا، وانصرفوا من عنده فطافوا على أكابر الدولة بالعرضي، وكذلك على الأمرا المصرية ورجعوا إلى مصر ودخلوها، وعليهم تلك الخلع وصحبتهم قاضي العسكر وهو لابس قبوط أسود، ووصل نصوح باشا والأمرا إلى جهة الخانكاه ثم إلى المطرية.

وفيه حضر درويش باشا والي الصعيد إلى خارج القاهرة جهة الشيخ قمر، فمكث أيامًا ثم توجه إلى قبلي وصحبته نحو الماية نفر، وكذلك ذهبت طايفة إلى السويس وإلى دمياط والمنصورة، وانبثوا في البلاد ودخلوا مصر شيًّا فشيًّا.

واستهل شهر شوال سنة ١٢١٤

في سابعه وقعت حادثة بين عسكر الفرنساوية والعثمانية، وهي أول الحوادث التي حصلت بينهم، وهو أن جماعة من عسكر العثمانية تشاجروا مع جماعة من عسكر الفرنساوية فقتل بينهم شخص فرنساوي، ووقعت في الناس زعجة وكرشة وأغلقوا الحوانيت وعمل العثمانية متاريس وتترسوا بها بناحية الجمالية وما والاها واجتمعوا هناك، ووقع بينهم مناوشة قتل فيها أشخاص قليلة من الفريقين وكادت تكون فتنة، وباتوا ليلتهم عازمين على الحرب، فتوسطت بينهم كبرا العسكر في تمهيد ذلك، وأزالوا المتاريس وانكف الفريقان، وبحث مصطفى باشا عمن أثار الفتنة وهم ستة أنفار، فقتلهم وأرسلهم إلى ساري عسكر الفرنساوية فلم يطب خاطره بذلك.

وقال: لا بد من خروج عسكركم إلى عرضيهم حتى تنقضي الأيام المشروطة، وإذا دخل منهم أحد إلى المدينة لا يدخلون إلا بطريقته وبدون سلاح، فعند ذلك أمر مصطفى باشا بخروج الداخلين من العساكر ولا يبقى منهم أحد، ووقف جماعة من الفرنساوية خارج باب النصر، فإذا أراد أحد من العسكر أو من أعيان العثمانية الدخول إلى المدينة فعند وصوله إليهم ينزل عندهم وينزع ما عليه من السلاح، ويدخل وصحبته شخص أو شخصان موكلان به يمشيان أمامه حتى يقضي شغله ويرجع، فإذا وصل إلى الفرنساوية الملازمين خارج البلد أعطوه سلاحه، فيلبسه ويمضي إلى أصحابه فكان هذا شأنهم.

وفي منتصفه توجه جماعة من أعيان الفرنساوية إلى الإسكندرية بمتاعهم وأثقالهم، وفيهم دوجا قايمقام وديزه ساري عسكر الصعيد وبوسليك ريس الكتاب ومدبر الحدود، ونزل جماعة منهم إلى البحر يريدون السفر إلى بلادهم، فتعرض لهم الإنكليز يريدون معاكستهم، فأرسلوا إلى ساري عسكر بمصر وعرفوه الحال، فأرسل بذلك إلى الوزير، فأجابه بجواب لم يرتَضِه، وأصبح زاحفًا إلى سطح الخانكاه، وكان ذلك آخر أيام المهلة المتفق عليها في دخول الوزير إلى مصر وخروج الفرنساوية منها، فلما رأوا ذلك طلبوا ثمانية أيام آجلة زيادة على أيام المهلة فأجيبوا إلى ذلك، ووصل الأمرا المصرية وعرضي نصوح باشا، وجملة من العساكر العثمانية إلى ناحية المطرية، ونصبوا خيامهم ووطاقهم هناك.

ثم إن الفرنساوية جعلوا الثمانية أيام المذكورة ظرفًا لجمع عساكرهم وطوايفهم من البلاد القبلية والبحرية، ونصبوا وطاقهم بساحل البحر متصلًا بأطراف مصر ممتدًّا من مصر القديمة إلى شبرا، وترددوا إلى نواحي القلاع وهي لم يكن بها أحد، وشرعوا واجتهدوا في رد الجبخانة والذخيرة وآلات الحرب والبارود والجلل والمدافع والبنب على العربات ليلًا ونهارًا، والناس يتعجبون من ذلك، ومصطفى باشا قايمقام ومن معه يشاهدون ذلك ولا يقولون شيًّا، والبعض يقول إن الوزير أرسل إليهم وأمرهم برد ذلك كما كان، ونحو ذلك من الخرافات التي لا تروج على الفطن.

ويقال إن الفرنساوية أرسل إليهم بعض أصدقاهم من الإنكليز وعرفوهم أن الوزير اتفق مع الإنكليز على الإحاطة بالفرنساوية إذا صاروا بظاهر البحر، فلما حصل منهم معهم ما سبقت الإشارة إليه تحققوا ذلك، وأرسلوا ليوسف باشا بذلك فلم يجبهم بجواب شافٍ، وعجل بالرحيل والقدوم إلى ناحية مصر.

وقد كان الفرنساوية عندما تراسلوا وترددوا جهة العرضي تفرسوا في عرضي العثمانيين وعساكرهم وأوضاعهم، وتحققوا حالهم وعلموا ضعفهم عن مقاومتهم، فلما حصر ما ذكر تأهبوا للمقاومة والمحاربة وردوا آلاتهم إلى القلاع، فلما تمموا أمر ذلك وحصنوا الجهات وأبقوا من أبقوه وقيدوه بها من عساكرهم واستوثقوا من ذلك، خرجوا بأجمعهم إلى ظاهر المدينة جهة قبة النصر، وانتشروا في تلك النواحي، ولم يبقَ بداخل المدينة منهم إلا من كان بداخل القلاع وأشخاص ببيت الألفي بالأزبكية وبعض بيوت الأزبكية، وغلب على ظن الناس أنهم برزوا للرحيل.

وفي العشرين منه طلبوا مصطفى باشا وحسن أغا نزله أمين، فلما حضرا إليهم أرسلوهما للجيزة، فلما كان اليوم الثالث والعشرون من شوال ركب ساري عسكر كليبر قبل طلوع الفجر بعساكره، وصحبتهم المدافع وآلات الحرب، وقسَّم عساكره طوابير، فمنهم من توجه إلى عرضي الوزير، ومنهم من مال على جهة المطرية فضربوا عليهم، فلم يسعهم إلا الجلا والفرار وتركوا خيامهم ووطاقهم، وركب نصوح باشا ومن كان معه وطلبوا جهة مصر، فتركهم الفرنساوية ولحقوا بالذاهبين من إخوانهم إلى جهة العرضي بالخانكاه، بعد أن نهبوا ما في عرضي ناصف باشا من المتاع والأغنام، وسمروا أفواه المدافع وتركوها وساروا إلى جهة العرضي، فلما قاربوه أرسلوا إلى الوزير يأمرونه بالرحيل بعد أربع ساعات، فلم يسعه إلا الارتحال والفرنساوية في أثره وغالب عساكره مفرقون ومنتشرون في البلاد والقرى والنواحي لجمع المال ومقررات الفرض وظلم الفقرا.

أما أهل مصر فإنهم لما سمعوا صوت المدافع كثر فيهم اللغط والقيل والقال، ولم يدركوا حقيقة الحال، فهاجوا ورمحوا إلى أطارف البلد، وقتلوا أشخاصًا من الفرنساوية صادفوهم خارجين من البلد ليذهبوا إلى أصحابهم، وذهبت شرذمة من عامة أهل مصر فانتهبت الخشب وبعض ما وجدوه من نحاس وغيره حيث كان عرضي الفرنساوية.

وخرج السيد عمر أفندي نقيب الأشراف والسيد المحروقي وانضم إليهما أتراك خان الخليلي والمغاربة الذين بمصر، وكذلك حسين أغا شنن أخو أيوب بك الصغير، وتبعهم كثير من عامة أهل البلد وتجمعوا على التلول خارج باب النصر بأيدي الكثير منهم النبابيت والعصي والقليل معه السلاح، وكذلك تحزب كثير من طوايف العامة والأوباش والحشرات، وجعلوا يطوفون بالأزقة وأطارف البلد ولهم صياح وضجيج وتجاوب بكلمات يقفونها من اختراعاتهم وخرافاتهم وقاموا على ساق، وخرج الكثير منهم إلى خارج البلدة على تلك الصورة، فلما تضحى النهار حضر بعض الأجناد المصريين ودخلوا مصر وفيهم المجاريح، وطفق الناس يسألونهم فلم يخبروهم بشي لجهلهم أيضًا حقيقة الحال.

ثم لم يزل الحال كذلك إلى أن دخل وقت العصر، فوصل جمع عظيم من العامة ممن كان خارج البلد ولهم صياح وجلبة على الشرح المتقدم، وخلفهم عثمان كتخدا الدولة، ثم نصوح باشا ومعه عدة وافرة من عساكرهم وصحبتهم السيد عمر النقيب والسيد أحمد المحروقي وحسن بك الجداوي وعثمان بك المرادي وعثمان بك الأشقر وعثمان بك الشرقاوي وعثمان أغا الخازندار وإبراهيم كتخدا مراد بك المعروف بالسناري، وصحبتهم مماليكهم وأتباعهم، فدخلوا من باب النصر وباب الفتوح ومروا على الجمالية حتى وصلوا إلى وكالة ذي الفقار، فقال نصوح باشا عند ذلك للعامة: اقتلوا النصارى وجاهدوا فيهم، فعندما سمعوا منه ذلك القول صاحوا وهاجوا ورفعوا أصواتهم، ومروا مسرعين يقتلون من يصادفون من نصارى القبط والشوام وغيرهم، فذهب طايفة إلى حارات النصارى وبيوتهم التي بناحية بين الصورين وباب الشعرية وجهة الموسكي، فصاروا يكبسون الدور ويقتلون من يصادفونه من الرجال والنساء والصبيان، ويأسرون حتى اتصل ذلك بالمسلمين المجاورين لهم، فتحزبت النصارى واحترسوا وجمع كل منهم ما قدر عليه من العساكر الفرنساوي والأروام، وقد كانوا قبل ذلك محترسين، وعندهم الأسلحة والبارود والمقاتلون لظنهم وقوع هذا الأمر، فوقع الحرب بين الفريقين وصارت النصارى تقاتل وترمي البندق والقرابين من طبقات الدور على المجتمعين بالأزقة من العامة والعسكر ويحامون عن أنفسهم، والآخرون يرمون من أسفل ويكبسون الدور، ويتسورون عليها، وبات نصوح باشا وكتخدا الدولة وإبراهيم بك وبعض من صناجق مصر والكشاف والأتباع وطوايف من العساكر بخط الجمالية بوكالة ذي الفقار.

فلما أصبح الصباح أرسلوا إلى المطرية، وأحضروا منها ثلاثة مدافع فوجدوها مسدودة الفانية فعالجوها حتى فتحوها، وقام ناصف باشا وشمر عن ساعديه، وشد وسطه ومشى وصحبته الأمرا المصرية على أقدامهم، وجرُّوا أمامهم الثلاثة مدافع وسحبوها إلى الأزبكية وضربوا منها على بيت الألفي، وكان به أشخاص مرابطون من عساكر الفرنساوية، فضربوهم أيضًا بالمدافع والبنادق.

واستمر الحرب بين الفريقين إلى آخر النهار فسكن الحرب وباتوا ينادون بالسهر.

وفي هذا اليوم وضع أهل مصر والعسكر متاريس بالأطراف كلها وبجهة الأزبكية، وشرعوا في بنا بعض جهات السور، واجتهدوا في تحصين البلد بقدر الطاقة، وبات الناس في هذه الليلة خلف المتاريس.

فلما أظلم الليل أطلق الفرنساوية المدافع والبنب على البلد من القلاع، ووالوا الضرب بالخصوص على خط الجمالية لكون المعظم مجتمعًا بها، فلما عاين ذلك الجميع أجمع رأي الكبرا والروسا على الخروج من البلد في تلك الليلة لعجزهم عن المقاومة وعدم آلات الحرب وعزة الأقوات والقلاع بيد الفرنساوية، ومصر لا يمكن محاصرتها لاتساعها وكثرة أهلها، وربما طال الحال فلا يجدون الأقوات؛ لأن غالب قوت أهلها يجلب من قراها في كل يوم، وربما امتنع وصول ذلك إذا تجسمت الفتنة، فاتفقوا على الخروج بالليل.

وتسامع الناس بذلك، فتجهز المعظم للخروج، وغصت خطة الجمالية وما والاها من الأخطاط بازدحام الناس الذين يريدون الخروج من المدينة، وركب بعضهم بعضًا وازدحمت تلك النواحي بالحمير والبغال والخيول والهجن والجمال المحملة بالأثقال، وباتوا على تلك الصورة.

ووقع للناس في هذه الليلة من الكرب والمشقة والانزعاج والخوف ما لا يوصف وتسامع أهل خان الخليلي من الألداشات وبعض مغاربة الفحامين والغورية ذلك، فجاءوا للجمالية وشنعوا على من يريد الخروج وعضدهم طايفة عساكر الينكجرية، وعمدوا إلى خيول الأمرا فحبسوها ببيت القاضي والوكايل، وأغلقوا باب النصر وبات في تلك الليلة معظم الناس على مساطب الحوانيت وبعض الأعيان في بيوت أصحابهم بالجمالية وأزقة الحارات أيضًا وكل متهيئ للخروج.

فلما حصل ذلك وأصبح يوم السبت فتهيأ كبرا العساكر والعساكر ومعظم أهل مصر ما عدا الضعيف الذي لا قوة له للحرب، وذهب المعظم إلى جهة الأزبكية وسكن الكثير في البيوت الخالية، والبعض خلف المتاريس، وأخذوا عدة مدافع زيادة عن الثلاثة المتقدمة وجدت مدفونة في بعض بيوت الأمرا، وأحضروا من حوانيت العطارين من المثقلات التي يزنون بها البضايع من حديد، وأحجار استعملوها عوضًا عن الجلل للمدافع، وصاروا يضربون بها بيت ساري عسكر بالأزبكية، واستمر عثمان كتخدا بوكالة ذي الفقار بالجمالية، وكان كل من قبض على نصراني أو يهودي أو فرنساوي أخذه وذهب به إلى الجمالية حيث عثمان كتخدا ويأخذ عليه البقشيش فيحبس البعض حتى يظهر أمره ويقتل البعض ظلمًا، وربما قتل العامة من قتلوه وأتوا برأسه لأجل البقشيش، وكذلك كل من قطع رأسًا من روس الفرنساوية يذهب بها إما لنصوح باشا بالأزبكية وإما لعثمان كتخدا بالجمالية ويأخذ في مقابلة ذلك الدراهم.

وبعد أيام أغلقوا باب القرافة وباب البرقية وباقي الأبواب التي في أطراف البلد، وزاد الناس في اصطناع المتاريس وفي الاحتراس، وجلس عثمان بك الأشقر عند متاريس باب اللوق وناحية المدابغ، وعثمان بك طبل عند متاريس المحجر، ومحمد بك المبدول عند الشيخ ريحان، ومحمد كاشف أيوب وجماعة أيوب بك الكبير والصغير عند الناصرية، ومصطفى بك الكبير بقناطر السباع، وسليمان كاشف المحمودي عند سوق السلاح، وأولاد القرافة والعامة وزعر الحسينية والعطوف عند باب النصر مع طايفة من الينكجرية وباب الحديد وباب القرافة، وجماعة خان الخليلي والجمالية عند باب البرقية المعروف الآن بالغريب.

وبالجملة كل من كان في حارة من أطراف البلد انضم إلى العسكر الذي بجهته بحيث صار جميع أهل مصر والعساكر كلها واقفة بأطراف البلد عند الأبواب والمتاريس والأسوار، وبعض عساكر من العثمانية وما انضم إليهم من أهل مصر المتسلحين مكثت بالجمالية، إذا جا صارخ من جهة من الجهات أمدوه طايفة من هولا، وصار جميع أهل مصر إما بالأزقة ليلًا ونهارًا، وهو مَن لا يمكنه القتال، وإما بالأطراف ورا المتاريس وهو من عنده إقدام وتمكن من الحرب.

ولم ينم أحد ببيته سوى الضعيف والجبان والخايف وناصف باشا وإبراهيم بك وجماعاتهم وعسكر من الينكجرية والأرنؤد والدلاة وغيرهم جهة الأزبكية ناحية باب الهوا والرحبة الواسعة التي عند جامع أزبك والعتبة الزرقا.

وأنشا عثمان كتخدا معملًا للبارود ببيت قايد أغا بخط الخرنفش، وأحضر القندقجية والعربجية والحدادين والسباكين لإنشا مدافع وبنبات وإصلاح المدافع التي وجدوها في بعض البيوت، وعمل العجل والعربات والجلل وغير ذلك من المهمات الجزئية، وأحضروا لهم ما يحتاجون إليه من الأخشاب وفروع الأشجار والحديد، وجمعوا إلى ذلك الحدادين والنجارين والسباكين وأرباب الصنايع الذين يعرفون ذلك، فصار هذا كله يصنع ببيت القاضي والخان الذي بجانبه، والرحبة التي عند بيت القاضي من جهة المشهد الحسيني، واهتم لذلك اهتمامًا زايدًا، وأنفق أموالًا جمة وأرسلوا فأحضروا باقي المدافع الكاينة بالمطرية، فكانوا كلما أدخلوا مدفعًا أدخلوه بجمع عظيم من الأوباش والحرافيش والأطفال، ولهم صياح ونباح وتجاوب بكلمات مثل قولهم: الله ينصر السلطان ويهلك فرط الرمان، وغير ذلك.

وحضر محمد بك الألفي في ثاني يوم وتترس بناحية السويقة التي عند درب عبد الحق وعطفة البيدق وصحبته طوايفه ومماليكه وأشخاص من العثمانية، وبذل الهمة وظهرت منه ومن مماليكه شجاعة، وكذلك كشافه وخصوصًا إسماعيل كاشف المعروف بأبي قطية، فإنه لم يزل يحارب ويزحف حتى ملك ناحية رصيف الخشاب وبيت مراد بك الذي أصله بيت حسن بك الأزبكاوي وبيت أحمد أغا شويكار، وتترس فيهما، وحسن بك الجداوي تترس بناحية الرويعي، وربما فارق متراسه في بعض الليالي لنصرة جهة أخرى.

وحضر أيضًا رجل مغربي يقال إنه الذي كان يحارب الفرنسيس بجهة البحيرة سابقًا، والتفت عليه طايفة من المغاربة البلدية وجماعة من الحجازية ممن كانوا قد قدموا صحبة الجيلاني الذي تقدم ذكره، وفعل ذلك الرجل المغربي أمورًا تنكر عليه؛ لأن غالب ما وقع من النهب وقتل من لا يجوز قتله يكون صدوره عنه، فكان يتجسس على البيوت التي بها الفرنسيس والنصارى فيكبس عليهم ومعه جمع من العوام والعسكر، فيقتلون من يجدونه منهم وينهبون الدار ويسحبون النسا ويسلبون ما عليهن من الحلي والثياب، ومنهم من قطع رأس البنية الصغيرة طمعًا فيما على راسها وشعرها من الذهب.

وتتبع الناس عورات بعضهم البعض وما دعتهم إليه حظوظ أنفسهم وحقدهم وضغائنهم، واتهم الشيخ خليل البكري بأنه يوالي الفرنسيس، ويرسل إليهم الأطعمة.

فهجم عليه طايفة من العسكر مع بعض أوباش العامة ونهبوا داره وسحبوه مع أولاده وحريمه وأحضروه إلى الجمالية وهو ماشٍ على أقدامه ورأسه مكشوفة، وحصلت له إهانة بالغة وسمع من العامة كلامًا مؤلمًا وشتمًا، فلما مثلوه بين يدي عثمان كتخدا هاله ذلك، واغتم غمًّا شديدًا ووعده بخير وطيب خاطره، وأخذه سيدي أحمد بن محمود محرم التاجر مع حريمه إلى داره وأكرمهم وكساهم، وأقاموا عنده حتى انقضت الحادثة.

وباشر السيد أحمد المحروقي وباقي التجار ومساتير الناس الكلف والنفقات والمآكل والمشارب، وكذلك جميع أهل مصر كل إنسان سمح بنفسه، وبجميع ما يملكه وأعان بعضهم بعضًا، وفعلوا ما في وسعهم وطاقتهم من المعونة.

وأما الفرنساوية فإنهم تحصنوا بالقلاع المحيطة بالبلد، وببيت الألفي وما والاه من البيوت الخاصة بهم وبيوت القبطة المجاورين لهم، واستمر الناس بعد دخول الباشا والأمرا ومن معهم من العسكر إلى مصر أيامًا قليلة، وهم يدخلون ويخرجون من باب الفتوح وباب العدوى وأهل الأرياف القريبة تأتي بالميرة والاحتياجات من السمن والجبن واللبن والغلة والتبن والغنم، فيبيعونه على أهل مصر ثم يرجعون إلى بلادهم.

كل ذلك ولم يعلم أحد حقيقة حال الفرنساوية المتوجهين مع كبيرهم للحرب، واختلفت الروايات والأخبار، وأما الوزير فإنه لما ارتحل بالعرضي تخلف عنه ببلبيس جملة من العسكر، وأما عثمان بك حسن وسليم بك أبو دياب ومن معهما، فإنهما تقاتلا مع الفرنساوية، ثم رجعا إلى بلبيس فحاصروا من بها، وكان عثمان بك وسليم بك وعلي باشا الطرابلسي وبعض وجاقلية خرجوا منها وذهبوا إلى ناحية العرضي، فحارب الفرنساوية مَنْ في بلبيس من العسكر، ولم يكن لهم بهم طاقة فطلبوا الأمان فأمنوهم وأخذوا سلاحهم، وأخرجوهم حيث شاءوا، فذهبوا أشتاتًا في الأرياف يتكففون الناس ويأوون إلى المساجد الخربة، ومات أكثرهم من العري والجوع.

ثم لما لحق عثمان بك ومن معه بالعرضي ناحية الصالحية تكلموا مع الوزير وأوجعوه بالكلام فاعتذر إليهم بأعذار منها عدم الاستعداد للحرب، وتركه معظم الجبخانة والمدافع الكبار بالعريش، اتكالًا على أمر الصلح الواقع بين الفريقين وظنه غفلة الفرنساوية عما دبره عليهم مع الإنكليز، فقال له عثمان بك: أرسل معنا العساكر وانتظرنا هنا، فخاطب العسكر وبذل لهم الرغايب فامتنعوا ولم يمتثل منهم إلا المطيع والمتطوع وهم نحو الألف، وعادوا على إثرهم وجمعوا منهم من كان مشتتًا ومنتشرًا في البلاد ورجعوا يريدون محاربة الفرنساوية، فنزلوا بوهدة بالقرب من القرين لكونهم نظروه في قلة من عسكره، وعلمهم بقرب من ذكر منهم فضاربوهم بالنبابيت والحجارة وأصيب سرج ساري عسكر بنبوت فانكسر وسقط ترجمانه إلى الأرض وتسامع المسلمون، فركبوا لنجدتهم واستصرخ الفرنساوية عساكرهم فلحقوا بهم ووقع الحرب بين الفريقين حتى حال بينهم الليل فانكف الفريقان وانحاز كل فريق ناحية، فلما دخل الليل واشتد الظلام أحاط العسكر الفرنساوي بعساكر المسلمين، فأصبح المسلمون وقد رأوا إحاطة العسكر بهم من كل جانب، فركبت الخيالة وتبعتهم المشاة واخترقوا تلك الدايرة، وسلم منهم من سلم وعطب من عطب ورجعوا على إثرهم إلى الصالحية، فعند ذلك ارتحل الوزير ورجع إلى الشام.

وأما مراد بك فإنه بمجرد ما عاين هجوم الفرنسيس على الباشا والأمرا بالمطرية، وكان هو بناحية الجبل ركب من ساعته هو ومن معه ومروا من سفح الجبل، وذهب إلى ناحية دير الطين ينتظر ما يحصل من الأمور وأقام مطمينًّا على نفسه، واعتزل الفريقين واستمر على صلحه مع الفرنساوية.

هذا حاصل خبر الشرقيين، ولما تحقق الباشا والأمرا الذين انحصروا بمصر ذلك أخفوه بينهم، وأشاعوا خلافه لئلا تنحل عزايم الناس عن القتال وتضعف نفوسهم، واستمر الباشا يظهر كتابة المراسلات وإرسال السعاة في طلب النجدة والمعونة، وربما افتعلوا أجوبة فزوروها على الناس، فتروج عليهم وتسري في غفلتهم ويقولون للناس في كل وقت إن حضرة الصدر الأعظم مجتهد في محاربة الفرنسيس، وفي غد أو بعد غد يقدم العساكر والجنود بعد قطع العدو، وعند حضوره ووصوله يحصل تمام الفتح وتهدم العساكر القلاع وتقلبها على من يبقى من الفرنساوية، وبعد ذلك ينظم البلاد ويريح العباد، واجتهدوا فيما أنتم فيه وتابعوا المناداة على الناس والعسكر باللسان العربي والتركي بالتحريض والاجتهاد والحرص على الصبر والقتال وملاقاة العدو ونحو ذلك، ووصل طايفة من عسكر الفرنساوية، ورجعوا من عرضيهم نجدة لأصحابهم الذين بمصر فقويت بهم نفوس الكاينين بمصر، ووقفت منهم طايفة خارج باب النصر وخارج باب الحسينية ونهبوا زاوية الدمرداش وما حولها كقبة الغوري والمنيل، وحضر نحو خمسماية من عسكر الأرنؤد، وهم الذين كان الوزير وجههم إلى القرى لقبض الكلف والفرض، فلما قربوا من مصر عارضهم عسكر الفرنساوية الواقفة على التلول الخارجة، فحاموا ودافعوا عن أنفسهم وخلصوا منهم ودخلوا إلى مصر، وفرح الناس لقدومهم، وضجت العامة بحضورهم، واشتدت قواهم ولفقوا أن يقولوا للناس إذا سُيلوا إنهم حاضرون مددًا، وسيأتي في أثرهم عشرون ألفًا، وعليهم كبير ونحو ذلك.

وأما بولاق فإنها قامت على ساق واحد وتحزم الحاج مصطفى البشتيلي وأمثاله وهيجوا العامة، وهيئوا عصيهم وأسلحتهم ورمحوا وصفحوا، وأول ما بدأوا به أنهم ذهبوا إلى وطاق الفرنسيس الذي تركوه بساحل البحر وعنده حرسية منهم، فقتلوا من أدركوه منهم، ونهبوا جميع ما فيه من خيام ومتاع وغيره، ورجعوا إلى البلد وفتحوا مخازن الغلال والودايع التي للفرنساوية، وأخذوا ما أحبوا منها، وعملوا كرانك حوالي البلد ومتاريس واستعدوا للحرب والجهاد، وقوي في روسهم العتاد واستطالوا على من كان ساكنًا ببولاق من نصارى القبط والشوام، فأوقعوا بهم بعض النهب وربما قتل منهم أشخاص، هذا ما كان من أمر هولا.

وأما ما كان من أمر ساري عسكر الفرنساوية ومن معه، فإنه لما استوثق بهزيمة الوزير وعدم عوده ونجاته بنفسه، لم يزل خلفه حتى بعد عن الصالحية فأبقى بها بعضًا من عسكر الفرنسيس محافظين، وكذلك بالقرين وبلبيس، ورجع إلى مصر وقد بلغت الأخبار بما حصل من دخول ناصف باشا والأمرا وقيام الرعية، فلم يزل حتى وصل إلى داره بالأزبكية، وأحاطت العساكر الفرنساوية بالمدينة وبولاق من خارج، ومنعوا الداخل من الدخول والخارج من الخروج، وذلك بعد ثمانية أيام من ابتدا الحركة، وقطعوا الجالب عن البلدين وأحاطوا بها إحاطة السوار بالمعصم، فكانت جماعة من المفوضين لهم المحصورين داخل المدينة كبعض القبطة ونصارى الشوام وغيرهم يهربون إليهم، ويتسلقون من الأسوار والحيطان بحريمهم وأولادهم، فعند ذلك اشتد الحرب وعظم الكرب وأكثروا من الرمي المتتابع بالمكاحل والمدافع، وأكثروا وأوصلوا وقع القنابر والبنبات من أعالي التلول والقلعات، خصوصًا البنبات الكبار على الدوام والاستمرار آناء الليل وأطراف النهار، في الغدو والبكور والأسحار، وعدمت الأقوات وغلت أسعار المبيعات وعزَّت المأكولات وفقدت الحبوب والغلات، وارتفع وجود الخبز من الأسواق، وامتنع الطوافون به على الأطباق، وصارت العساكر الذين مع الناس بالبلد يخطفون ما يجدونه بأيدي الناس من المآكل والمشارب، وعلا سعر الماء المأخوذ من الآبار أو الأسبلة حتى بلغ سعر القربة نيفًا وستين نصفًا، وأما البحر فلا يكاد يصل إليه أحد، وتكفل التجار ومساتير الناس والأعيان بكلف العساكر المقيمين بالمتاريس المجاورة لهم، فألزموا الشيخ السادات بكلفة الذي عند قناطر السباع، وهم مصطفى بك ومن معه من العساكر.

وأما أكابر القبط مثل جرجس الجوهري وفلتيوس وملطي، فإنهم طلبوا الأمان من المتكلمين من المسلمين لكونهم انحصروا في دورهم وهم في وسطهم، وخافوا على نهب دورهم إذا خرجوا فارين، فأرسلوا إليهم الأمان، فحضروا وقابلوا الباشا والكتخدا والأمرا وأعانوهم بالمال واللوازم.

وأما يعقوب فإنه كرنك في داره بالدرب الواسع جهة الرويعي، واستعد استعدادًا كبيرًا بالسلاح والعسكر المحاربين، وتحصن بقلعته التي كان شيدها بعد الواقعة الأولى، فكان معظم حرب حسن بك الجداوي معه.

هذا والمناداة في كل وقت بالعربي والتركي على الناس بالجهاد والمحافظة على المتاريس.

واتهم مصطفى أغا مستحفظان بموالاته للفرنساوية، وأنه عنده في بيته جماعة من الفرنسيس، فهجمت العساكر على داره بدرب الحجر، فوجدوا أنفارًا قليلة من الفرنسيس فقاتلوا وحاموا عن أنفسهم، وقتل منهم البعض وهرب البعض على حمية حتى خلصوا إلى الناصرية، وأما الأغا فإنهم قبضوا عليه وأحضروه بين يدي عثمان كتخدا، ثم تسلمه الإنكشارية وخنقوه ليلًا بالوكالة التي عند باب النصر، ورموا جيفته على مزبلة خارج البلد، واستقر عوضه شاهين كاشف الساكن بالخرنفش، فاجتهد وشدد على الناس وكرر المناداة ومنعهم من دخول الدور وكل من وجده داخل داره مقته وضربه، فكان الناس يبيتون بالأزقة والأسواق حتى الأمرا والأعيان.

وهلكت البهايم من الجوع لعدم وجود العلف من التبن والفول والشعير والدريس بحيث صار يُنادَى على الحمار أو البغل المعدد الذي قيمته ثلاثون ريالًا وأكثر بماية نصف فضة أو ريال واحد وأقل، ولا يوجد من يشتريه، وفي كل يوم يتضاعف الحال وتعظم الأهوال.

وزحف المسلمون على جهة رصيف الخشاب، وترامى الفريقان بالمدافع والنيران حتى احترق ما بينهم من الدور.

وكان إسماعيل كاشف الألفي تحصن ببيت أحمد أغا شويكار الذي كان ببيته، وقد كان الفرنساوية جعلوا به لغمًا بالبارود المدفون، فاشتغل ذلك اللغم ورفع ما فوقه من الأبنية والنسا، وطاروا في الهوا واحترقوا عن آخرهم وفيهم إسماعيل كاشف المذكور، وانهدم جميع ما هناك من الدور والمباني العظيمة والقصور المطلة على البركة، واحترق جميع البيوت التي من عند بين المفارق بقرب جامع عثمان كتخدا إلى رصيف الخشاب والخطة المعروفة بالساكت بأجمعها إلى الرحبة المقابلة لبيت الألفي سكن ساري عسكر الفرنساوية، وكذلك خطة الفوالة بأسرها وكذلك خطة الرويعي بالسباطين العظيمين وما في ضمن ذلك من البيوت إلى حد حارة النصارى، وصارت كلها تلالًا وخرايب كأنها لم تكن مغنى صبابات ولا مواطن أنس ونزاهات، وفيها يقول صديقنا العلامة النحرير الفهامة الشيخ حسن العطار حفظه الله: وأما بركة الأزبكية فهي مسكن الأمرا ومواطن الرويسا قد أحدقت بها البساتين الوارفة الظلال العديمة المثال، فترى الخضرة في خلال تلك القصور المبيضة كثياب سندس خضر على أثواب من فضة، يوقد بها كثير من السرج والشموع فالأنس بها غير مقطوع ولا ممنوع، وجمالها يدخل على القلب السرور، ويذهل العقل حتى كأنه من النشوة مخمور، ولطالما مضت لي بالمسرة فيها أيام وليالٍ هن في سمط الأيام من يتيم اللآلي وأنا أنظر إلى انطباع صورة البدر في وجناتها وفيضان لجين نوره على حافاتها وساحاتها، والنسيم بأذيال ثوب مائها الفضي لعاب، وقد سل على حافاتها من تلاعب الأمواج كل قرضاب، وقام على منابر أدواحها في ساحة أفراحها مغردات الطيور وجالبات السرور، فلذيذ العيش بها موصول وفيها أقول:

بالأزبكية طابت لي مسرات
ولَذَّ لي من بديع الأنس أوقات
حيث المياه بها والفلك سابحة
كأنها الزهر تحويها السموات
وقد أدير بها دُور مشيدة
كأنها لبدور الحسن هالات
مَدت عليها الروابي خضر سندسها
وغردت في نواحيها حمامات
والماء حين سرى رطب النسيم به
وحل فيه من الأدواح زهرات
كسابغات دروع فوقها نقط
من فضة واحمرار الورد طعنات
مراتع لظباء الترك ساحتها
وللأسود بها فيهن غيضات
وللنديم بها عيش تجدده
أيدي الزمان ولا تخشى جنايات
يروح منها صريع العقل حين يرى
على محاسنها دارت زجاجات
وللرفاق بها جمع ومفترق
لما غدت وهي للندمان حانات

قلت: وقد جنت عليها أيدي الزمان وطوارق الحدثان حتى تبدلت محاسنها وأقفرت مساكنها، وهكذا عقبى سوء ما عملوا فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا.

وأرسلوا إلى مراد بك يطلبونه للحضور أو يرسل الأمرا والأجناد التي عنده، فأرسل يعتذر عن الحضور، ويقول إنه محافظ على الجهة التي هو فيها، فأرسلوا إليه بالإرسال والاستكشاف عن أمر الوزير، فأرسل يخبر أنه أرسل هجانًا إلى الشرق من نحو عشرة أيام وإلى الآن لم يحضر، وأن الفرنساوية إذا ظفروا بالعثمانية لا يقتلونهم ولا يضربونهم وأنتم كذلك معهم، فاقبلوا نصحي واطلبوا الصلح معهم، واخرجوا سالمين، فلما بلغهم تلك الرسالة حنق حسن بك الجداوي وعثمان بك الأشقر وغيرهم، وسفهوا رأيه وقالوا: كيف يصح هذا الأمر وقد دخلنا إلى البلد وملكناها فكيف نخرج منها طايعين ونحو ذلك، هذا مما لا يكون أبدًا، فأشار إبراهيم بك برجوع البرديسي وصحبته عثمان بك الأشقر ليقول الأشقر لمراد بك ما يقوله، فلما اجتمع به ورجع لم يرجع على ما كان عليه حال ذهابه وفترت همته وجنح لرأي مراد بك.

واستمر الحال على ما هو عليه من اشتعال نيران الحرب وشدة البلا والكرب، ووقوع البنبات على الدور والمساكن من القلاع والهدم والحرق، وصراخ النسا من البيوت والصغار من الخوف والجزع والهلع مع القحط، وفقد المآكل والمشارب وغلق الحوانيت والطوابين والمخابز، ووقوف حال الناس من البيع والشرا، وتفليس الناس وعدم وجدان ما ينفقونه إن وجدوا شيًّا، واستمر ضرب المدافع والقنابر والبنادق والنيران ليلًا ونهارًا حتى كان الناس لا يهنا لهم نوم ولا راحة ولا جلوس لحظة لطيفة من الزمن، ومقامهم دايمًا أبدًا بالأزقة والأسواق وكأنما على روس الجميع الطير، وأما النسا والصبيان فمقامهم بأسفل الحواصل والعقودات تحت طباق الأبنية إلى غير ذلك.

وفي أثنا ذلك فرضوا على الناس من أهل الأسواق وغيرهم ماية كيس، فردوها على بعض الناس كالسادات والصاوي.

وصار مونة غالب الناس الأرز ويطبخونه بالعسل وباللبن، ويبيعون ذلك في طشوت وأوانٍ بالأسواق.

وفي كل ساعة تهجم العساكر الفرنساوية على جهة من الجهات، ويحاربون الذين بها ويملكون منهم بعض المتاريس فيصيحون على بعضهم بالمناداة، ويتسامع الناس ويصرخون على بعضهم البعض، ويقولون: عليكم بالجهة الفلانية، الحقوا إخوانكم المسلمين، فيرمحون إلى تلك الخطة والمتاريس حتى يجلوهم عنها، وينتقلون إلى غيرها فيفعلون كذلك.

وكان المتحمل لغالب هذه المدافعات حسن بك الجداوي، فإنه كان عندما يبلغه زحف الفرنساوية على جهة من الجهات يبادر هو ومن معه للذهاب لنصرة تلك الجهة، ورأى الناس من إقدامه وشجاعته وصبره على مجالدة العدو ليلًا ونهارًا ما ينبي عن فضيلة نفس وقوة قلب وسمو همة، وقلَّ أن وقع حرب في جهة من الجهات إلا وهو مدير رحاها وريس كماتها، هذا والأغا والوالي يكررون المناداة، وكذلك المشايخ والفقها والسيد أحمد المحروقي والسيد عمر النقيب يمرون كل وقت، ويأمرون الناس بالقتال ويحرضونهم على الجهاد، وكذلك بعض العثمانية يطوفون من أتباع الشرطة وينادون باللغة التركية مثل ذلك.

وجرى على الناس ما لا يسطر في كتاب، ولم يكن لأحد في حساب، ولا يمكن الوقوف على كلياته فضلًا عن جزئياته، منها عدم النوم ليلًا ونهارًا، وعدم الطمأنينة وغلو الأقوات، وفقد الكثير منها خصوصًا الأدهان، وتوقع الهلاك كل لحظة والتكليف بما لا يطاق، أو مغالبة الجهلا على العقلا وتطاول السفها على الروسا، وتهور العامة ولغط الحرافيش وغير ذلك مما لا يمكن حصره.

ولم يزل الحال على هذا المنوال إلى نحو عشرة أيام، وكل هذا والرسل من قبل الفرنساوية وهم عثمان بك البرديسي تارة ومصطفى كاشف ورستم تارة أخرى، والاثنان من أتباع مراد بك يترددون في شأن الصلح وخروج العساكر العثمانية من مصر، والتهديد بحرقها وهدمها إذا لم يتم هذا الغرض، واستمروا على هذا العناد، ثم نصب الفرنساوية في وسط البركة فسطاطًا لطيفًا، وأقاموا عليه علمًا وأبطلوا الرمي تلك الليلة، وأرسلوا رسولًا من قبلهم إلى الباشا والكتخدا والأمرا يطلبون المشايخ يتكلمون معهم في شأن هذا الأمر، فأرسلوا الشرقاوي والمهدي والسرسي والفيومي وغيرهم، فلما وصلوا إلى ساري عسكر وجلسوا خاطبهم على لسان الترجمان بما حاصله أن ساري عسكر قد أمن أهل مصر أمانًا شافيًا، وأن الباشا والكتخدا ومن معهما من العساكر العثمانية يخرجون من مصر ويلحقون بالعرضي، وعلى الفرنساوية القيام بما يحتاجون إليه من المونة والذخيرة حتى يصلوا إلى معسكرهم، وأما الأجناد المصرية الداخلة معهم فمن أراد منهم المقام بمصر من المماليك والغز الداخلين معهم فليقم وله الإكرام، ومن أراد الخروج فليخرج والجرحى من العثملي يجردون من سلاحهم، وإن كان يأخذه الكتخدا فليأخذه، وعلينا أن نداويهم حتى يبروا، ومن أقام بعد البرء منهم فعلينا مونته، ومن أراد الخروج بعد برئه فليخرج، وعلى أهل مصر الأمان فإنهم رعيتنا.

وتوافقوا على ذلك وتراضوا عليه، ولما كان الغد وشاع أمر الموادعة واستفاض أمر الصلح على هذا قال لهم: لأي شي تفعلون هذا الفعل، وهذه المحاربات والوزير بتاعكم ولى مهزومًا ورجع هاربًا، ولا يمكن عوده في هذا الحين إلا أن يكون بعد ستة أشهر، فاعتذروا له بأن هذا من فعل نصوح باشا وكتخدا الدولة وإبراهيم بك ومن معهم، فإنهم هم الذين أثاروا الفتنة وهيجوا الرعايا ومنوا الناس الأماني الكاذبة والعامة لا عقول لهم، فقال لهم بعد كلام طويل: قولوا لهم يتركون القتال ويخرجون فيلحقون بوزيرهم، فإنهم لا طاقة لهم على حربنا ويكون سببًا لهلاك الرعية وحرق البلدين مصر وبولاق، فقالوا له: نخشى أنهم إذا امتثلوا وجنحوا للموادعة وخرجوا وذهبوا إلى ساري عسكرهم تنتقمون منا ومن الرعايا بعد ذلك، فقال: لا نفعل ذلك، فإنهم إذا رضوا ومنعوا الحرب اجتمعنا معكم وإياهم وعقدنا صلحًا ولا نطالبكم بشي، والذي قتل منا في نظير الذي قتل منكم، وزودناهم وأعطيناهم ما يحتاجون من خيل وجمال، وأصبحنا معهم من يوصلهم إلى مأمنهم من عسكرنا ولا نضر أحدًا بعد ذلك.

فلما رجع المشايخ بهذا الكلام، وسمعه الإنكشارية والناس قاموا عليهم وسبوهم وشتموهم، وضربوا الشرقاوي والسرسي ورموا عمايمهم وأسمعوهم قبيح الكلام، وصاروا يقولون: هولا المشايخ ارتدوا وعملوا فرنسيس ومرادهم خذلان المسلمين، وأنهم أخذوا دراهم من الفرنسيس وتكلم السفلة والغوغا من أمثال هذا الفضول.

وتشدد في ذلك الرجل المغربي الملتف عليه أخلاط العالم ونادى من عند نفسه: الصلح منقوض، وعليكم بالجهاد، ومن تأخر عنه ضرب عنقه، وكان السادات ببيت الصاوي فتحير واحتال بأن خرج وأمامه شخص ينادي بقوله: الزموا المتاريس، ليقي بذلك نفسه من العامة، ووافق ذلك أغراض العامة لعدم إدراكهم لعواقب الأمور، فالتفوا عليه وتعضد كل بالآخر، وأن غرضه هو في دوام الفتنة، فإن بها يتوصل لما يريده من النهب والسلب والتصور بصورة الإمارة باجتماع الأوغاد عليه، وتكفل الناس له بالمأكل والمشرب هو ومن انضم إليه، واشتطَّ في المآكل مع فقد الناس لأدْوَن ما يوكل حتى إنه إذا نزل جهة من جهات المدينة لإظهار أنه يريد المعونة أو الحرس فيقدمون له بالطعام فيقول: لا آكل إلا الفراخ، ويظهر أنه صايم، فيكلف أهل تلك الجهة أنواع المشقات والتكلفات بتعنته في هذه الشدة بطلب أفحش المأكولات وما هو مفقود، ثم هو مع ذلك لا يغني شيًّا بل إذا دهم العدو تلك الجهة التي هو فيها فارقها وانتقل لغيرها، وهكذا كان ديدنه وسبحه ثم هو ليس ممن له في مصر ما يخاف عليه من مسكن أو أهل أو مال أو غير ذلك، بل كما قيل: لا ناقتي فيها ولا جملي، فإذا قدر ما قدر تخلص مع حزبه إلى بعض الجهات والتحق بالريف أو غيره، وحينئذ يكون كآحاد الناس ويرجع لحالته الأولى، وتبطل الهيئة الاجتماعية التي جعلها لجلب الدنيا فخًّا منصوبًا، ومخرق بها على سخاف العقول وأخفا الأحلام.

وهكذا حال الفتن تكثر فيها الدجاجلة، ولو أن نيته ممحضة لخصوص الجهاد لكانت شواهد علانيته أظهر من نار على علم، أو اقتحم كغيره ممن سمعنا عنهم من المخلصين في الجهاد وفي بيع أنفسهم في مرضاة رب العباد، لظا الهيجا ولم يتعنت على الفقرا، ولم يجعل همته السلب مصروفة وحال سلوكه عند الناس ليست معروفة.

ومهما تكن عند امرئ من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس تعلم

وبالجملة فكان هذا الرجل سببًا في تهدم أغلب المنازل بالأزبكية، ومن جملة ما رميت به مصر من البلاء، وكان ممن ينادَى به عليه حين أشيع أمر الصلح وتكلم به الأشياخ: الصلح منقوض وعليكم بالجهاد ومن تأخر ضرب عنقه، وهذا منه افتيات وفضول ودخول فيما لا يعني حيث كان في البلد مثل الباشا والكتخدا والأمرا المصرية فما قدر هذا الأهوج حتى ينقض صلحًا أو يبرمه، وأي شي يكون هو حتى ينادي أو ينصب نفسه بدون أن ينصبه أحد لذلك، لكنها الفتن يستنسر بها البغاث سيما عند هيجان العامة وثوران الرعاع والغوغا، إذ كان ذلك مما يوافق أغراضهم.

وذنب جرَّه سفهاء قوم
وحلَّ بغير جانيه العذاب

على أن المشايخ لم يأمروا بشي ولم يذكروا صلحًا ولا غيره، إنما بلغوا صورة المجلس الذي طلبوا لأجله لحضرة الكتخدا، فبمجرد ذلك قامت عليهم العامة هذا المقام وسبوهم وشتموهم بل ضربوهم، وبعضهم رموا بعمامته إلى الأرض وأسمعوهم قبيح الكلام، وفعلوا ما فعلوا معهم، وصاروا يقولون: لولا أن الكفرة الملاعين تبين لهم الغلب والعجز ما طلبوا المصالحة والموادعة، وأن بارودهم وذخيرتهم فرغت ونحو ذلك من الظنون الفاسدة، ولم يردوا عليهم جوابًا بل ضربوا بالمدافع والبنادق، فأرسلوا أيضًا رسلًا يسألونهم عن الجواب الذي توجه به المشايخ، فأرسل إليهم الباشا والكتخدا يقولان لهم: إن العساكر لم يرضوا بذلك ويقولون: لا نرجع عن حربهم حتى نظفر بهم أو نموت عن آخرنا، وليس في قدرتنا قهرهم على الصلح، فأرسل الفرنساوية جواب ذلك في ورقة يقولون في ضمنها: قد عجبنا من قولكم إن العساكر لم ترضَ بالصلح! وكيف يكون الأمير أميرًا على جيش ولا ينفذ أمره فيهم ونحو ذلك؟ وأرسلوا أيضًا رسولًا إلى أهل بولاق يطلبونهم للصلح وترك الحرب ويحذرونهم عاقبة ذلك، فلم يرضوا وصمموا على العناد، فكرروا عليهم المراسلة وهم لا يزدادون إلا مخالفة وشغبًا، فأرسلوا في خامس مرة فرنساويًّا يقول: أمان أمان سوا سوا، وبيده ورقة من ساري عسكر، فأنزلوه من على فرسه وقتلوه، وظن كامل أهل مصر أنهم إنما يطلبون صلحهم عن عجز وضعف وأشعلوا نيران القتال، وجدوا في الحرب من غير انفصال.

والفرنساوية لم يقصروا كذلك، وراسلوا رمي المدافع والقنابر والبندق المتكاثر وحضر الألفي إلى عثمان كتخدا برأي ابتدعه ظن أن فيه الصواب، وهو أن يرفعوا على هلالات المنارات أعلامًا نهارًا، ويوقدوا عليها القناديل ليلًا ليرى ذلك العسكر القادم فيهتدي، ويعلمون أن البلد بيد المسلمين وأنهم متصورون، وكذلك صنع معهم أهل بولاق، وذلك لغلبة ظن الناس أن هناك عسكرًا قادمين لنجدتهم.

وظن أهل بولاق أن الباعث على ذلك نصرتهم، فصمموا على ذلك للحرب، واستمر هذا الحال بين الفريقين إلى يوم الخميس ثاني عشرينه الموافق لعاشر برموده القبطي، وسادس نيسان الرومي فغيمت السما غيمًا كثيفًا، وأرعدت رعدًا مزعجًا عنيفًا، وأمطرت مطرًا غزيرًا، وسيلت سيلًا كثيرًا، فسالت المياه في الجهات، وتوحلت جميع السكك والطرقات، فاشتغل الناس بتجفيف المياه والأوحال، ولطخت الأمرا والعساكر بسراويلهم ومراكيبهم بالطين.

والفرنساوية هجموا على مصر وبولاق من كل ناحية، ولم يبالوا بالأمطار؛ لأنهم في خارج الأفنية، وهي لا تتأثر بالمياه كداخل الأبنية، وعندهم الاستعداد والتحفظ والخفة في ملابسهم وما على روسهم، وكذلك أسلحتهم وعددهم وصنايعهم بخلاف المسلمين، فلما حصل ذلك اغتنموا الفرصة وهجموا على البلدين من كل ناحية، وعملوا فتايل مغمسة بالزيت والقطران وكعكات غليظة ملوية على أعناقهم معمولة بالنفط والأرواح المصنوعة المقطرة التي تشتعل ويقوى لهبها بالماء، وكان معظم كبستهم من ناحية باب الحديد وكوم أبي الريش وجهة بركة الرطل، وقنطرة الحاجب وجهة الحسينية والرميلة، فكانوا يرمون المدافع والبنبات من قلعة جامع الظاهر وقلعة قنطرة الليمون، ويهجمون أيضًا وأمامهم المدافع وطايفة خلفهم بواردية يقال لهم السلطات، يرمون بالبندق المتتابع وطايفة بأيديهم الفتايل والكعكات المشتعلة بالنيران يلهبون بها السقايف وضرف الحوانيت وشبابيك الدور، ويزحفون على هذه الصورة شيًّا فشيًّا.

والمسلمون أيضًا بذلوا جهدهم وقاتلوا بشدة همتهم وعزمهم، وتحول الأغا وأكثر الناس إلى تلك الجهة وزلزلوا في ذلك اليوم والليلة زلزالًا شديدًا، وهاجت العامة وصرخت النسا والصبيان ونطوا من الحيطان، والنيران تأخذ المتوسطين بين الفيتين من كل جهة، هذا والأمطار تسح حصة من النهار، وكذلك بالليل من ليلة الجمعة، كذلك الرعد والبرق، وعثمان بك الأشقر الإبراهيمي وعثمان بك البرديسي المرادي ومصطفى كاشف رستم يذهبون ويجيون من الفرنسيس إلى المسلمين ومن الفرنسيس إليهم، ويسعون في الصلح بين الفريقين، ثم إنهم هجموا على بولاق من ناحية البحر ومن ناحية بوابة أبي العلا بالطريقة المذكور بعضها، وقاتل أهل بولاق جهدهم ورموا بأنفسهم في النيران حتى غلب الفرنسيس عليهم، وحصروهم من كل جهة وقتلوا منهم بالحرق والقتل وبلوا بالنهب والسلب، وملكوا بولاق وفعلوا بأهلها ما يشيب من هوله النواصي، وصارت القتلى مطروحة في الطرقات والأزقة، واحترقت الأبنية والدور والقصور، وخصوصًا البيوت والرباع المطلة على البحر، وكذلك الأطارف وهرب كثير من الناس عندما أيقنوا بالغلبة، فنجوا بأنفسهم إلى الجهة القبلية، ثم أحاطوا بالبلد ومنعوا من يخرج منها، واستولوا على الخانات والوكايل والحواصل والودايع والبضايع، وملكوا الدور وما بها من الأمتعة والأموال والنسا والخوندات والصبيان والبنات ومخازن الغلال والسكر والكتان والقطن والأبازير والأرز والأدهان والأصناف العطرية، وما لا تسعه السطور ولا يحيط به كتاب ولا منشور، والذي وجدوه منعكفًا في داره أو طبقته ولم يقاتل، ولم يجدوا عنده سلاحًا نهبوا متاعه وعروه من ثيابه ومضوا وتركوه حيًّا، وأصبح من بقي من ضُعفا أهل بولاق، وأهلها وأعيانها الذين لم يقاتلوا فُقرا لا يملكون ما يستر عوراتهم، وذلك يوم الجمعة ثالث عشرينه، وكان محمد الطويل كاتب الفرنساوية أخذ منهم أمانًا لنفسه، وأوهم أصحابه أنه يحارب معهم، وفي وقت هجوم العساكر انفصل إليهم واختفى البشتيلي فدلوا عليه وقبضوا على وكيله وعلى الرويسا، فحبسوا البشتيلي بالتكية والباقي ببيت ساري عسكر، وضيقوا عليهم حتى منعوهم البول.

وفي اليوم الثالث أطلقوهم وجمعوا عصبة البشتيلي من العامة وسلموهم البشتيلي وأمروهم بتجريسه وشهرته في البلدة وأن يقتلوه بأيديهم لدعواهم أنه هو الذي كان يحرك الفتنة ويمنعهم الصلح، وأنه كاتب عثمان كتخدا بمكتوب قال فيه: إن الكلب دعانا للصلح فأبينا منه، وأرسله مع رجل ليوصله إلى الكتخدا فوقع في يد ساري عسكر كليبر، فحركه ذلك على أخذ بولاق وفِعْله فيها الذي فعله، وقوبل على ذلك بأن أسلم إلى عصبته، وأمروا أن يطوفوا به البلد ثم يقتلوه ففعلوا ذلك وقتلوه بالنبابيت.

وألزم أهل بولاق بأن يرتبوا ديوانًا لفصل الأحكام، وقيدوا فيه تسعة من رويساهم، ثم بعد مضي يومين ألزموا بغرامة مايتي ألف ريال.

وأما المدينة فلم يزل الحال بها على النسق المتقدم من الحرب والكرب والنهب والسلب إلى سادس عشرينه حتى ضاق خناق الناس من استمرار الانزعاج والحريق والسهر وعدم الراحة لحظة من الليل والنهار، مع ما هم فيه من عدم القوت، حتى هلكت الناس وخصوصًا الفقرا والدواب وإيذاء عسكر العثمانلي للرعية، وخطفهم ما يجدونه معهم حتى تمنوا زوالهم ورجوع الفرنسيس على حالتهم التي كانوا عليها.

والحال كل وقت في الزيادة، وأمر المسلمين في ضعف لعدم الميرة والمدد والفرنساوية بالعكس، وفي كل يوم يزحفون إلى قدام والمسلمون إلى ورا، فدخلوا من ناحية باب الحديد وناحية كوم أبي الريش وقنطرة الحاجب وتلك النواحي، وهم يحرقون بالفتايل والنيران الموقدة، ويملكون المتاريس إلى أن وصلوا من ناحية قنطرة الخروبي وناحية باب الحديد إلى قرب باب الشعرية.

وكان شاهين أغا هناك عند المتاريس، فأصابته جراحة فقام من مكانه ورجع القهقرى، فعند رجوعه وقعت الهزيمة ورجع الناس يدوسون بعضهم البعض.

وملك الفرنساوية كوم أبي الريش وصاروا يحاربون من كوم أبي الريش وهم في العلو والمسلمون أسفل منهم، وكان المحروقي زور كتابًا على لسان الوزير، وجا به رجل يقول إنه رسول الوزير، وإنه اختفى في طريق خفية ونط من السور، وإن الوزير يقدم بعد يومين أو ثلاثة، وإنه تركه بالصالحية، وإن ذلك كذب لا أصل له وأن يكتب جوابًا عن فرمان كتبوه على لسان المشايخ والتجار، وأرسلوه إلى الوزير في أثنا الواقعة.

هذا والبرديسي ومصطفى كاشف والأشقر يسعون في أمر الصلح إلى أن تمَّمُوه على كف الحرب، وأن الفرنساوية يمهلون العثمانية والأمرا ثلاثة أيام حتى يقضوا أشغالهم ويذهبوا حيث أتوا، وجعلوا الخليج حدًّا بين الفريقين لا يتعدى أحد من الفريقين بر الخليج الآخر، وأبطلوا الحرب وأخمدوا النيران وتركوا القتال، وأخذ العثمانية والأمرا والعسكر في أهبة الرحيل وقضا أشغالهم، وزودهم الفرنساوية وأعطوهم دراهم وجمالًا وغير ذلك، وكتبوا بعقد الصلح فرمانًا مضمونه:

أنهم يعوقون عندهم عثمان بك البرديسي وعثمان بك الأشقر، ويرسلون ثلاثة أنفار من أعيانهم يكونون بصحبة عثمان كتخدا حتى يصل إلى الصالحية، وأن يوصلهم ساري عسكر داماس بثلثماية من العسكر خوفًا عليهم من العرب، وأن من جاء منهم من جهة يرجع إليها، ومن أراد الخروج من أهل مصر معكم فليخرج ما عدا عثمان بك الأشقر، فإنه إذا رجع الثلاثة مع الفرنساوية يذهب مع البرديسي إلى مراد بك بالصعيد، وأرسلوا الثلاثة المذكورين إلى وكالة ذي الفقار بالجمالية، وأجلسوهم بمسجد الجمالي صحبة نصوح باشا فهاجت العامة وراموا قتلهم، وهموا بقتل عثمان كتخدا فأغلق دونهم باب الخان، ومنع نصوح باشا العامة من الهجوم على المسجد، وركب المغربي فتوجه إلى الحسينية وطلب محاربة الفرنسيس فحضر أهل الحسينية إلى عثمان كتخدا يستأذنونه في موافقة ذلك المغربي أو منعه، فأمر بمنعه وكفَّهم عن القتال وركب المحروقي عند ذلك، ومر بسوق الخشب وقدامه المناداة بأن لا صلح ولزوم المتاريس، فمنعه (نزله أمين) ثم فتح باب الوكالة، وخرج منها عسكر بالعصي فهاجوا في العامة ففروا وسكن الحال.

وقد كان لما حصل ما تقدم من نقض الصلح، ودخول العثمانية وعساكرهم إلى المدينة ووقع ما تقدم، وكلفوا الناس الأمور الغير اللايقة، حضر السيد أحمد المحروقي إلى الشيخ أبي الأنوار السادات بجواب عن لسان عثمان كتخذا الدولة، فكتب له الشيخ تذكرة وصورتها:

حسبنا الله ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير، وما هي من الظالمين ببعيد.

ظننت أنك عُدَّتي أسطو بها
ويدي إذا اشتد الزمان وساعدي
فرُمِيتُ منك بغير ما أمَّلته
والمرء يشرق بالزلال البارد

أما بعد فقد نقضت عهدي، وتركت مودة آل بيت جدي، وأطعت الظلمة السفلة، وامتثلت أمر المارقين الثفلة، فأعنتهم على البغي والجور، وسارعت في تنجيز مرامهم الفاسد على الفور من إلزامكم الكبير والصغير والغني والفقير إطعام عسكركم الذي أوقع بالمؤمنين الذل والمضرات، وبلغ في النهب والفساد غاية الغايات، فكان جهادهم في أماكن الموبقات والملاهي حتى نزل بالمسلمين أعظم المصايب والدواهي، فاستحكم الدمار والخراب، ومنعت الأقوات وانقطعت الأسباب، فبذلك كان عسكركم مخذولًا وبهم عم الحريق كل بيت كان بالخير مشمولًا، كيف لا وأكابركم أضمرت السوء للمرتزقة في تضييق معايشهم، وأخذ مرتباتهم، وإتلاف ما بأيديهم من أرزاقهم وتعلقاتهم، وقد أخفتم أهل البلد بعد أمنها، وأشعلتم نار الفتنة بعد طفيها، ثم فررتم فرار الفيران من السنَّور، وتركتم الضعفا متوقعين أشنع الأمور، فواغوثاه واغوثاه أغثنا يا غياث المستغيثين، واحكم بعدلك يا أحكم الحاكمين، وانصرنا وانتصر لنا، فإننا عبيدك الضعفا المظلومون يا أرحم الراحمين.

شهر ذي القعدة استهل بيوم الخميس ٢٧ مارس ١٨٠٠ — واستهل شهر ذي الحجة بيوم الجمعة سنة ١٢١٤

فيه خرج العثمانية وعساكرهم وإبراهيم بك وأمراه ومماليكه والألفي وأجناده، ومعهم السيد عمر مكرم النقيب والسيد أحمد المحروقي الشاه بندر وكثيرون من أهل مصر ركبانًا ومشاة إلى الصالحية، وكذلك حسن بك الجداوي وأجناده، وأما عثمان بك حسن ومن معه فرجعوا صحبة الوزير، فلم يسع إبراهيم بك وحسن بك ترك جماعتهما خلفهما وذهابهم بأنفسهم إلى قبلي، بل رجعا بجماعتهما على أثرهما وذاقوا وبال أمرهم.

وانكشف الغبار عن تعسة المسلمين وخيبة أمل الذاهبين والمتخلفين، وما استفاد الناس من هذه العمارة وما جرى من الغارة إلا الخراب والسخام والهباب، فكانت مدة الحرب والحصر بما فيها من الثلاثة أيام الهدنة سبعة وثلاثين يومًا، وقع بها من الحروب والكروب والانزعاج والشتات والهياج وخراب الدور وعظايم الأمور، وقتل الرجال ونهب الأموال وتسلط الأشرار وهتك الأحرار، وخصوصًا ما أوقع الفرنساوية بالناس بعد ذلك مما سيُتْلى عليك بعضه.

وخرب في هذه الواقعة عدة جهات من أخطاط مصر الجليلة، مثل جهة الأزبكية الشرقية من حد جامع عثمان والفوالة وحارة كتخدا ورصيف الخشاب وخطة الساكت إلى بيت ساري عسكر بالقرب من قنطرة الدكة، وكذلك جهة باب الهوا إلى حارة النصارى من الجهة القبلية، وأما بركة الرطلي وما حولها من الدور والمنتزهات والبساتين، فإنها صارت كلها تلالًا وخرايب وكيمان أتربة، وقد كانت هذه البركة من أجل منتزهات مصر قديمًا وحديثًا، وبالقرب منها المقصف المعروف بدهليز الملك والبربخ والجسر، وكانت تعرف ببركة الطوابين، ثم عرفت ببركة الحاجب منسوبة للأمير بكتمر الحاجب، من أمرا الملك الناصر محمد بن قلاوون؛ لأنه هو الذي احتفرها وأجرى إليها الما من الخليج الناصري وبنى القنطرة المنسوبة إليه، وعمر عليها الدور والمناظر، وبنى على الجسر الفاصل بينها وبين الخليج دورًا بهية، وكان هذا الجسر من أجل المنتزهات، وقد خربت منازله في القرن العاشر في واقعة السلطان سليم خان مع الغوري، وصار محله بستانًا عظيمًا، قطع أشجاره وغالب نخيله الفرنساوية، وفيه يقول بعضهم من قصيدة قديمة:

أصابت الجسر عين الدهر فانقصفا
ولاح بدر التصابي فيه منخسفا
وأعين البحر قد فاضت معكرة
تبكي على زمن قد كان فيه صفا

ومنها:

أيا رعى الله وقتًا مرَّ حين حلا
بطيب عيش لنا في الجسر قد سلفا

وكان للقاضي ابن الجيعان عليها دور جليلة، ومسجده المعروف به إلى الآن بشاطئها، ومسجد الحريثي، وعرفت ببركة الرطلي؛ لأنه كان في شرقها زاوية بها نخل كثير، وفيها شخص يصنع الأرطال الحديد التي تزن بها الباعة، يقال له الشيخ علي الرطلي فنسبت إليه، وفيها يقول بعضهم:

في أرض طبالتنا بركة
مدهشة للعين والعقل
ترجح في ميزان عقلي على
كل بحار الأرض بالرطل

وقوله في أرض طبالتنا بركة يعني أن هذه البركة من جملة أرض الطبالة، والطبالة امرأة مغنية مشهورة في آخر دولة الإخشيد، فلما حضر المغربي معد الفاطمي إلى مصر، وكان يدَّعي الإمامة والخلافة دون بني العباس، فخرجت إليه بجوقتها ومشت أمامه تزفه بالدفوف، وتقول:

يا بني العباس ردوا
ملك الأمر معد
ملككم ملك معار
والعواري تسترد

فأعجبه ذلك، وأراد أن ينعم عليها، فتمنَّت عليه أن يقطعها هذه الأرض، فأقطعها إياها فعرفت بها، وبهذه البركة بركة يطلع بها البشنين، وهو اللينوفر يقوم على ساق ممتد إلى أعلى بمقدار غمر الما، بحيث تكون نوارة كل ساق مساوية لسطح الما، ونواره أصفر، وهو على هيئة الورد المتفتح، ويحيط بذلك الورد الأصفر ورق أخضر، وفي داخل الأصفر عروق بيض، يدور ذلك النوار مع الشمس حيث دارت.

وفيه يقول بعضهم:

وبركة تزهو بلينوفر
شبهته طيبة بشر الحبيب
مفتح الأحداق في نومته
حتى إذا الشمس دنت للمغيب
أطبق جفنيه على خده
وغاص في البركة خوف الرقيب

وليس يطلع هذا البشنين بجميع أرض البركة، بل بقطعة منها مخصوصة تجاه الجسر المذكور.

ومما تخرب أيضًا حارة المقس من قبل سوق الخشب إلى باب الحديد، وجميع ما في ضمن ذلك من الحارات والدور صارت كلها خرايب متهدمة محترقة، تُسْكَبُ عند مشاهدتها العبرات، ويُتَذكَّر بها ما يُتلَى في حق الظالمين من الآيات، فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا: إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.

وقال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ۖ فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا ۖ وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ۚ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ.

وقال تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا.

ودخل الفرنساوية إلى المدينة يسعون، وإلى الناس بعين الحقد ينظرون، واستولوا على ما كان اصطنعه وأعده العثمانية من المدافع والقنابر والبارود وآلات الحرب جميعها، وقيل إنهم حاسبوهم على كلفته ومصاريفه، وقبضوا ذلك من الفرنساوية.

وركب المشايخ والأعيان عصر ذلك اليوم، وذهبوا إلى كبير الفرنسيس، فلما وصلوا إلى داره، ودخلوا عليه وجلسوا ساعة أبرز إليهم ورقة مكتوب فيها:

النصرة لله الذي يريد أن المنصور يعمل بالشفقة والرحمة مع الناس، وبناء على ذلك، ساري عسكر العام يريد أن ينعم بالعفو العام والخاص على أهل مصر وعلى أهل بر مصر، ولو كانوا يخالطون العثملي في الحروب، وأنهم يشتغلون بمعايشهم وصنايعهم، ثم نبه عليهم بحضورهم إلى قبة النصر بكرة تاريخه.

ثم قاموا من عنده وشقوا المدينة وطافوا بالأسواق وبين أيديهم المناداة للرعية بالاطمينان والأمان، فلما أصبح ذلك اليوم ركبت المشايخ والوجاقلية، وذهبوا إلى خارج باب النصر.

وخرج أيضًا القلقات والنصارى القبط والشوام وغيرهم، فلما تكامل حضور الجميع رتَّبوا موكبًا وساروا ودخلوا من باب النصر وقدامهم جماعة من القواسة يأمرون الناس بالقيام، وبعض فرنساوية راكبين خيلًا وبأيديهم سيوف مسلولة ينهرون الناس ويأمرونهم بالوقوف على أقدامهم، ومن تباطأ في القيام أهانوه، فاستمرت الناس وقوفًا من ابتدا سير الموكب إلى انتهاه، ثم تلا الطايفة الآمرة للناس بالوقوف جمعٌ كثير من الخيالة الفرنساوية بأيديهم سيوف مسلولة، وكلهم لابسون جوخًا أحمر وعلى روسهم طراطير من الفراوي على غير هيئة خيَّالتهم ومشاتهم، ثم تتالى بعد هولا طوايف العساكر ببوقاتهم وطبولهم وزمورهم، واختلاف أشكالهم وأجناسهم وملابسهم من خيالة ورجالة، ثم الأعيان والمشايخ والوجاقلية وأتباعهم إلى أن قدم ساري عسكر الفرنساوية، وخلف ظهره عثمان بك البرديسي وعثمان بك الأشقر، وخلفهم طوايف من خيالة الفرنسيس.

ولما انقضى أمر الموكب نادوا بالزينة، فزينت البلد ثلاثة أيام آخرها يوم الثلاثا مع السهر ووقود القناديل ليلًا، ثم دعاهم في يوم الأربعا وعمل لهم سماطًا عظيمًا على طريقة المصرلية، وبعد انقضا الوليمة والطعام خاطبهم على لسان الترجمان يقول لهم: إن ساري عسكر يقول لكم إنكم تأتون إليه بعد غد يوم الجمعة، ويعمل تدبيرًا ويرتب الديوان لأجل تنظيم البلد وصلاح حالكم وحال الرعية، وقلدوا في ذلك اليوم محمد أغا الطناني أغات مستحفظان وركب ونادى بالأمان، وأعطوا البكري بيت عثمان كاشف كتخدا الحج وهو بيت البارودي الثاني فسكن به وشرع في تنظيمه وفرشه، ولبسوه في ذلك اليوم فروة سمور فقاموا من عنده فرحين مطمينين مستبشرين.

فلما كان يوم الخميس سابعه ذهب إلى مراد بك بجزيرة الدهب باستدعا، فمد لهم أسمطة عظيمة، وأعطاه ما كان أرسله درويش باشا معونة للباشا والأمرا من الأغنام وغيرها، وكانت نحو الأربعة آلاف رأس، وولوه إمارة الصعيد من جرجا إلى إسنا، ورجع عايدًا إلى داره بالأزبكية، فلما كان في صبحها يوم الجمعة ثامنه بكَّر المشايخ بالذهاب إلى بيت ساري عسكر ولبسوا أفخر ثيابهم وأحسن هيئاتهم، وطمع كل واحد منهم، وظن أن ساري عسكر يقلده في هذا اليوم أحلى المناصب، أو ربما حصل التغيير والتبديل في أهل الديوان فيكون في الديوان الخصوصي، فلما استقر بهم الجلوس في الديوان الخارج أهملوا حصة طويلة لم يؤذن لهم ولم يخاطبهم أحد، ثم طلب ساري عسكر الشيخ محمد المهدي فدخل إليه بمفرده، فكلمه كلامًا طويلًا، فمما قال له: إننا لما حضرنا إلى بلدكم هذه نظرنا أن أهل العلم هم أعقل الناس، والناس بهم يقتدون، ولأمرهم يمتثلون، ثم إنكم أظهرتم لنا المحبة والمودة وصدقنا ظاهر حالكم، فاصطفيناكم وميزناكم على غيركم واخترناكم لتدبير الأمور وصلاح الجمهور، فرتبنا لكم الديوان وغمرناكم بالإحسان، وخفضنا لكم جناح الطاعة، وجعلناكم مسموعين القول مقبولين الشفاعة، وأوهمتمونا أن الرعية لكم ينقادون، ولأمركم ونهيكم يرجعون، فلما حضر العثملي فرحتم لقدومهم وقمتم لنصرتهم وثبت عند ذلك نفاقكم لنا، فقال له: نحن ما قمنا مع العثملي إلا عن أمركم؛ لأنكم عرفتمونا أننا صرنا في حكم العثملي من ثاني شهر رمضان، وأن البلاد والأموال صارت له وخصوصًا وهو سلطاننا القديم وسلطان المسلمين، وما شعرنا إلا بحديث هذا الحادث بينكم وبينهم على حين غفلة، ووجدنا أنفسنا في وسطهم، فلم يمكننا التخلف عنهم، فردَّ عليهم الترجمان ذلك الجواب، ثم أجابهم بقوله: ولأي شي لم تمنعوا الرعية عما فعلوه من قيامهم ومحاربتهم لنا، فقالوا: لا يمكننا ذلك خصوصًا وقد تقوَّوا علينا بغيرنا، وسمعتم ما فعلوه معنا من ضربنا وبهدلتنا عندما أشرنا عليهم بالصلح وترك القتال، فقال لهم: وإذا كان الأمر كما ذكرتم ولا يخرج من يدكم تسكين الفتنة ولا غير ذلك، فما فايدة رياستكم وإيش يكون نفعكم، وحينئذ لا يأتينا منكم إلا الضرر؛ لأنكم إذا حضر أخصامنا قمتم معهم وكنتم وإياهم علينا، وإذا ذهبوا رجعتم إلينا معتذرين فكان جزاؤكم أن نفعل معكم كما فعلنا مع أهل بولاق من قتلكم عن آخركم وحرق بلدكم وسبي حريمكم وأولادكم، ولكن حيث إننا أعطيناكم الأمان فلا ننقض أماننا، ولا نقتلكم وإنما نأخذ منكم الأموال.

ثم فتح باب المجلس الداخلي وطلبوا إلى المشايخ الدخول فيه، فدخلوا وجلسوا حصة مثل الأولى، ثم خرج إليهم ساري عسكر وصحبته الترجمان وجماعة من أعيانهم، فوضع له كرسي في وسط المجلس وجلس عليه، ووقف الترجمان وأصحابه حواليه، واصطف الوجاقلية والحكام من ناحية، وأعيان النصارى والتجار من ناحية، وعثمان بك الأشقر والبرديسي أيضًا حاضران فأخرج ساري عسكر ورقة من كمه، وتكلم بما فيها وكلم الترجمان كلامًا طويلًا بلغتهم حتى فرغ، فالتفت الترجمان إلى الجماعة وشرع يفسر لهم مقالة ساري عسكر، ويترجم عنها بالعربي والجماعة يسمعون، فكان مخلص ذلك القول: إن ساري عسكر يقول لكم إنه عفا عنكم مع استحقاقكم للعقوبة وإنما يطلب منكم عشرة آلاف ألف فرنك، وذلك مقداره ألفا ألف فرانسة، منها على الشيخ السادات خاصة ماية ألف، والشيخ محمد بن الجوهري خمسون ألفًا، وأخيه الشيخ فتوح خمسون ألفًا، والشيخ مصطفى الصاوي خمسون ألفًا، والشيخ العنائي خمسة عشر ألفًا، ومايتان وخمسون ألفًا تقتطعها من ذلك نظير نهب دور الفارين مع العثملي مثل المحروقي، والسيد عمر مكرم، وحسين أغا شنن، وما بقي تدبرون رأيكم فيه وتوزعونه على أهل البلد وتتركون عندنا منكم خمسة عشر شخصًا، انظروا من يكون فيكم رهينة عندنا حتى تغلقوا ذلك المبلغ، وقام من فوره ودخل مع أصحابه إلى داخل، وأغلق بينه وبينهم الباب، ووقفت الحرسية على الباب الآخر يمنعون من يخرج من الجالسين، فبهت الجماعة وانتقعت وجوههم ونظروا إلى بعضهم البعض وتحيرت أفكارهم، ولم يخرج عن هذا الأمر إلا البكري والمهدي؛ لكون البكري حصل له ما حصل في صحايفهم والمهدي حرق بيته بمرأى منهم، وكان قبل ذلك نقل جميع ما فيه بداره بالخرنفش ولم يترك به إلا بعض الحصر، ولم يكن به غير بعض الخدم، وكان يستعمل المداهنة وينافق الطرفين بصناعته وعادته.

ولم تزل الجماعة في حيرتهم وسكرتهم، وتمنى كل منهم أنه لم يكن شيًّا مذكورًا، ولم يزالوا على ذلك الحال إلى قريب العصر حتى بال أكثرهم في ثيابه، وبعضهم شرشر ببوله من شباك المكان، وصاروا يدخلون على نصارى القبط، ويقعون في عرضهم، فالذي انحشر فيهم ولم يكن معدودًا في الرويسا أخرجوه بحجة أو سبب، وبعضهم ترك مداسه وخرج حافيًا، وما صدَّق بخلاص نفسه.

هذا والنصارى والمهدي يتشاورون في تقسيم ذلك وتوزيعه وتدبيره وترتيبه في قوايم حتى وزعوها على الملتزمين وأصحاب الحرف حتى على الحواة والقردتية والمحبظين والتجار وأهل الغورية وخان الخليلي والصاغة والنحاسين والدلالين والقبانية وقضاة المحاكم وغيرهم، كل طايفة مبلغ له صورة مثل ثلاثين ألف فرانسة وأربعين ألفًا، وكذلك بياعو التنباك والدخان والصابون والخردجية والعطارون والزياتون والشواءون والجزارون والمزينون وجميع الصنايع والحرف، وعملوا على أجرة الأملاك والعقار والدور أجرة سنة كاملة.

ثم إنهم استأذنوا للمشايخ فأذنوا لهم بالذهاب، الخالص يتوجه حيث أراد، والمشبوك يلزمون به جماعة من العسكر، حتى يغلق المطلوب منه، فأما الصاوي وفتوح بن الجوهري فحبسوهما ببيت قايمقام، والعناني هرب فلم يجدوه وداره احترقت، فأضافوا غرامته على غرامة الشيخ السادات كملت بها ماية وخمسين ألف فرانسة، وانفض المجلس على ذلك.

وركب ساري عسكر من يومه ذلك وذهب إلى الجيزة ووكَّل يعقوب القبطي يفعل في المسلمين ما يشا، وقايمقام والخازندار لرد الجوابات، وقبض ما يتحصل وتدبير الأمور والرهونات.

ونزل الشيخ السادات وركب إلى داره فذهب معه عشرة من العسكر وجلسوا على باب داره، فلما مضت حصة من الليل حضر إليه مقدار عشرة من العسكر أيضًا، فأركبوه وطلعوا به إلى القلعة وحبسوه في مكان، فأرسل إلى عثمان بك البرديسي، وتداخل عليه فشفع فيه، فقالوا له: أما القتل فلا نقتله لشفاعتك، وأما المال فلا بد من دفعه، ولا بد من حبسه وعقوبته حتى يدفع، وقبضوا على فراشه ومقدمه وحبسوهما، ثم أنزلوه إلى بيت قايمقام فمكث به يومين، ثم أصعدوه إلى القلعة ثانيًا، وحبسوه في حاصل ينام على التراب ويتوسد بحجر، وضربوه تلك الليلة، فأقام كذلك يومين ثم طلب زين الفقار كتخدا فطلع إليه هو وبرطلمان، فقال لهما: أنزلوني إلى داري حتى أسعى وأبيع متاعي وأشهل حالي، فاستأذنوا له وأنزلوه إلى داره، فأحضر ما وجده من الدراهم فكانت تسعة آلاف ريال معاملة عنها ستة آلاف ريال فرانسة، ثم قوموا ما وجدوه من المصاغ والفضيات والفراوي والملابس وغير ذلك بأبخس الثمن، فبلغ ذلك خمسة عشر ألف فرانسة، فبلغ المدفوع بالنقدية والمقومات أحدًا وعشرين ألف فرانسة.

والمحافظون عليه من العسكر ملازمونه لا يتركونه يطلع إلى حريمه ولا إلى غيره، وكان وزع حريمه وابنه إلى مكان آخر.

وبعد أن فرغوا من الموجودات جاسوا خلال الدار يفتشون ويحفرون الأرض على الخبايا حتى فتحوا الكنيفات، ونزلوا فيها فلم يجدوا شيًّا، ثم نقلوه إلى بيت قايمقام ماشيًا وصاروا يضربونه خمس عشرة عصا في الصباح ومثلها في الليل، وطلبوا زوجته وابنه فلم يجدوهما، فأحضروا محمدًا السندوبي تابعه وقرروه حتى عاين الموت حتى عرفهم بمكانهما، فأحضروهما وأودعوا ابنه عند أغات الإنكشارية وحبسوا زوجته معه، فكانوا يضربونه بحضرتها وهي تبكي وتصيح، وذلك زيادة في الإنكا، ثم إن المشايخ وهم: الشرقاوي والفيومي والمهدي والشيخ محمد الأمير وزين الفقار كتخدا، تشفعوا في نقلها من عنده فنقلوها إلى بيت الفيومي، وبقي الشيخ على حاله وأخذوا مقدمه وفراشه وحبسوهما، وتغيب أكثر أتباعه واختفوا.

ثم وقعت المراجعة والشفاعة في غرامة الشيخ فتوح الجوهري والصاوي فأضعفوها وجعلوها على كل واحد منها خمسة عشر ألف فرانسة، ورُدَّ الباقي على الفردة العامة.

وأما الشيخ محمد بن الجوهري فإنه اختفى فلم يجدوه، فنهبوا داره ودار نسيبه المعروف بالشويخ، ثم إنه توسل بالست نفيسة زوجة مراد بك فأرسلت إلى مراد بك وهو بالقرب من الفشن، فأرسل من عنده كاشفًا وتشفع فيه، فقبلوا شفاعته ورفعوها عنه وردوها أيضًا على الفردة العامة.

ثم إنهم وكلوا بالفردة العامة وجميع المال يعقوب القبطي، وتكفل بذلك وعمل الديوان لذلك ببيت البارودي، وألزموا الأغا بعدة طوايف كتبوها في قايمة بأسما أربابها، وأعطوه عسكرًا وأمروه بتحصيلها من أربابها، وكذلك علي أغا الوالي الشعراوي وحسين أغا المحتسب وعلي كتخدا سليمان بك، فنبهوا على الناس بذلك، وبثوا الأعوان بطلب الناس وحبسهم وضربهم، فدهي الناس بهذه النازلة التي لم يصابوا بمثلها ولا ما يقاربها.

ومضى عيد النحر ولم يلتفت إليه أحد بل ولم يشعروا به، ونزل بهم من البلا والذل ما لا يوصف، فإن أحد الناس غنيًّا كان أو فقيرًا لا بد وأن يكون من ذوي الصنايع أو الحرف، فيلزمه دفع ما وزع عليه في حرفته أو في حرفتيه وأجرة داره أيضًا سنة كاملة، فكان يأتي على الشخص غرامتان أو ثلاث ونحو ذلك.

وفرغت الدراهم من عند الناس واحتاج كل إلى القرض، فلم يجد الداين من يدينه لشغل كل فرد بشأنه ومصيبته، فلزمهم بيع المتاع فلم يوجد من يشتري وإذا أعطوهم ذلك لا يقبلونه، فضاق خناق الناس وتمنوا الموت فلم يجدوه، ثم وقع الترجي في قبول المصاغات والفضيات، فأحضر الناس ما عندهم فيُقوَّم بأبخس الأثمان.

وأما أثاثات البيوت من فرش ونحاس وملبوس، فلا يوجد من يأخذه، وأمروا بجمع البغال ومنعوا المسلمين من ركوبها مطلقًا سوى خمسة أنفار من المسلمين، وهم: الشرقاوي والمهدي والفيومي والأمير وابن محرم، والنصارى المترجمين وخلافهم لا حرج عليهم.

وفي كل وقت وحين يشتد الطلب، وتنبث المعينون والعسكر في طلب الناس، وهجم الدور وجرجرة الناس حتى النسا من أكابر وأصاغر وبهدلتهم وحبسهم وضربهم، والذي لم يجدوه لكونه فر وهرب يقبضون على قريبه أو حريمه أو ينهبون داره، فإن لم يجدوا شيًّا ردوا غرامته على أبنا جنسه وأهل حرفته، وتطاولت النصارى من القبط والنصارى الشوام على المسلمين بالسب والضرب، ونالوا منهم أغراضهم وأظهروا حقدهم ولم يبقوا للصلح مكانًا، وصرحوا بانقضا ملة المسلمين وأيام الموحدين.

هذا والكتبة والمهندسون والبناءون يطوفون ويحررون أجر المكان والعقارات والوكايل والحمامات، ويكتبون أسما أربابها وقيمتها، وخرجت الناس من المدينة وجلوا عنها، وهربوا إلى القرى والأرياف.

وكان ممن خرج من مصر صاحبنا النبيه العلامة الشيخ حسن المشار إليه فيما تقدم، فتوجه لجهة الصعيد وأقام بأسيوط فأقام بها نحو ثمانية عشر شهرًا، وكان كثيرًا ما يراسلني بالمكاتبة ويبالغ في ذلك لتشوقه إلى مصر، ومن جملة رسايله وقد كنت أرسلت له كتابًا فأجاب بقوله:

قد وصل إليَّ — أعزك الله — كتابك الذي برَّد بوروده لهيب الحشا، وأودع من البلاغة ما نطق بأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشا، فهو كالبُرد الموشَّى والروض الذي هو بلآلئ الزهور مغشَّى، جا مفصحًا عن بلاغة وبراعة، منبيًّا عن قريحة لدى تحرير القول، وتحبيره منقادة مطواعة:

ففي كل سطر منه شطر من المنى
وفي كل لفظ منه عقد من الدر

فلله هو من كتاب جمع محاسن الخطاب وحرك عندي ما كان كامنًا في الفؤاد، وأضرم في الحشا نار الهوى كورى الزناد، وطال ما كنت متشوقًا لأخبار، ومتشوقًا لاستعلام أحوال وآثار، فجاء كتابك يا سيدي شافيًا عليل التذكر، مبردًا عليل التشوق والتفكر، سرت حميا ألفاظه في فؤاده المشروق، وقعت عنده موقع العاشق من المعشوق، فيا له من كتاب أخبر عن محاسن الأحبه، قال له القلب حين مازجه وحبه، إنه أحاديث نعمان وساكنه، وهات حدِّث عن نجد وقاطنه، تلك شئون طال بها العهد، وانجرَّ عليها ذيل الحوادث وامتد، وما كنت أوثر أن يمتد بي الزمان، حتى أرى الأسفار تتلاعب بي كالكرة في ميدان البلدان، وحصل فيَّ القهر بخروجي من القاهرة، واغبرَّ أخضر أيامي الزاهرة، ولقد ألجأتني خطوب الاغتراب، وأخطترني شئون السفر الذي هو قطعة من العذاب، إلى التقلب في قوالب الاكتساب، والتلبيس بتلبيس الانتساب، وإخفا معالم المجي والذهاب.

فطورًا شيخ زاوية وكفر
وأخرى كاتب في باب والي

أسلك الوفاق مع الرفاق ولا أركب المشاق بجلب الشقاق.

طورًا يمان إذا لاقيت ذا يمن
وإن رأيت معديًّا فعدناني

وبهذا وأشباهه تم الدست وثبت حبل الحبالة آمنًا من السبت، بأخذي بالتخلق بأخلاق من عاصرنا من أبنا الدهر الذي حلبوا أشطره، ومارسوا أخضر العيش وأغبره، حتى انطبعت في مرآة عقولهم حقايق الأشيا، ولاحت لهم أكنتها بغير خفا، وغير خافٍ أن الماء يمازج اللبن والراح، وكما يكون به الخنق يكون به الارتياح.

لئن كنت في بعض المواضع عالمًا
فللجهل في بعض المواضع أحوج

وقد كدت من الشوق الذي اجتلبه كتابك أطير إليك بلا جناح، وأركب متن اليم آيبًا بالهلك أو النجاح، وكان من أقوى أسباب القدوم مشاهدة طلعتكم المزينة بأزاهر النجوم، ولُقَى أحباب يتفتح بهم باب المسرة ويفوح عبير الرياض التي بعدنا صارت مغبرة، فحين عزمت على السفر وصممت، وأخذت في الاستعداد وتأهبت، حدثت عوايق في الطريق وموانع، ولا وزر مما قضى الله شافع، بسبب الكرتينات التي هي من البلاء والآفات، أقيمت كالشجا في فم البر والبحر، بداعية أمر الطاعون الذي يتلى علينا من حديث سورة الانشقاق والفجر، وحلوله بالقاهرة وضواحيها، وانتشاره في أرجاها ونواحيها، وكل هذا هين بالنسبة للمتوقع التي كادت الأفئدة من أصغره تنقطع، وبه كان فراقي للوطن ونبوي من الأهل والسكن، فحينئذ تحققت أن لا خلاص من هذه البلاد ولات حين مناص، إذ لا يلدغ المسلم من جحر مرتين، ولا يكر العاقل على نفسه بالندامة كرتين، فراجعت نفسي عما عزمت عليه من السفر، وأشفقت عليها من ورود موارد الخطل والخطر، وخاطبت ما هجس في البال من السفر والارتحال، الذي قواه مطالعة كتابك وأيقظه من رقدته سحر خطابك:

طرقتك صايدة القلوب وليس ذا
وقت الزيارة فارجعي بسلام

ثم أطال في أغراض أُخَر وجال في أساليب الكلام وفنونه.

ثم إن أكثر الفارين رجع إلى مصر لضيق القرى، وعدم ما يتعيشون به فيها وانزعاج الريف بقطاع الطريق والعرب والمناسر بالليل والنهار، والقتل فيما بينهم وتعدي القوي على الضعيف.

واستمرت الطرق مجفرة والأسواق معفرة، والحوانيت مقفولة والعقول مخبولة، والخانات والوكايل مغلوقة، والنفوس مطبوقة، والغرامات نازلة والأرزاق عاطلة والمطالب عظيمة والمصايب عميمة، والعكوسات مقصودة والشفاعات مردودة، وإذا أراد الإنسان أن يفر إلى أبعد مكان وينجو بنفسه ويرضى بغير أبناء جنسه، لا يجد طريقًا للذهاب وخصوصًا من الملاعين الأعراب، الذين هم أقبح الأجناس وأعظم بلاء محيط بالناس، وبالجملة فالأمر عظيم والخطب جسيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ.

وفي عشرينه انتقلوا بديوان الفردة من بيت البارودي إلى بيت القيسرلي بالميدان، ووقع التشديد في الطلب والانتقام بأدنى سبب، وانقضى هذا العام وما جرى فيه من الحوادث العظام بإقليم مصر والشام والروم والبيت الحرام.

موجز لأحداث العام الماضي

فمنها وهو أعظمها تعطيل الثغور ومنع المسافرين برًّا وبحرًا، ووقوف الإنكليز بثغر إسكندرية ودمياط يمنعون الصادر والوارد، وتخطوا أيضًا بمراكبهم إلى بحر القلزم.

ومنها انقطاع الحج المصري في هذا العام أيضًا حتى لم يرجع المحمل بل كان مودوعًا بالقدس، فلما حضر العساكر الإسلامية أحضروه صحبتهم إلى بلبيس، فيقال إن السيد بدر أرجع به إلى جبل الخليل.

ومنها وقوف العرب وقطاع الطريق بجميع الجهات القبلية والبحرية والشرقية والغربية والمنوفية والقليوبية والدقهلية وساير النواحي، فمنعوا السبيل ولو بالخفارة وقطعوا طريق السفار، ونهبوا المارين من أبنا السبيل والتجار، وتسلطوا على القرى والفلاحين وأهالي البلاد والحرف بالعري والخطف للمتاع والمواشي من البقر والغنم والجمال والحمير وإفساد المزارع ورعيها، حتى كان أهل البلاد لا يمكنهم الخروج ببهايمهم إلى خارج القرية للرعي أو للسقي لترصد العرب لذلك.

ووثب أهل القرى على بعضهم بالعرب، فداخلوهم وتطاولوا عليهم وضربوا عليهم الضرايب، وتلبسوا بأنواع الشرور واستعان بعضهم على بعض وقوي القوي على الضعيف، وطمعت العرب في أهل البلاد، وطالبوهم بالثارات والعوايد القديمة الكاذبة، وآن وقت الحصاد فاضطروا لمسالمتهم لقلة الضم، فلما انقضت حروب الفرنسيس نزلوا إلى البلاد، واحتجوا عليهم بمصادقتهم العرب، فضربوهم وسبوهم وطالبوهم بالمغارم والكلف الشاقة، فإذا انفضوا وانتقلوا عنهم رجعت العرب على أثرهم، وهكذا كان حالهم وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ.

ومنها أن النيل قصر مده في هذه السنة، فشرقت البلاد وارتحل أهل البحيرة إلى المنوفية والغربية، فاستحسن رحيل عربان البحيرة لأنه بقي لهم في الحي نخيل.

ومنها أنه لما حضرت العثمانية وشاع أمر الصلح وخضوع الفرنساوية لهم، نزل طايفة من الفرنسيس إلى المنوفية، وطلبوا من أهلها كلفة لرحيلهم، فلما مروا بالمحلة الكبيرة تعصب أهلها، واجتمعوا إلى قاضيها وخرجوا لحربهم فأكمن الفرنسيس لهم وضربوا عليهم طلقًا بالمدافع والبنادق، فقتلوا منهم نيفًا وستماية إنسان، ومنهم القاضي وغيره ولم ينج منهم إلا من فر وكان طويل العمر.

وكذلك أهل طنتدا عند حضورهم إليهم، وصل إليهم رجل من الجزارين المنتسبين للعثمانية من جهة الشرق لزيارة سيدي أحمد البدوي وهو راكب على فرس وحوله نحو خمسة أنفار، وكان بعض الفرنسيس بداخل البلدة يقضون بعض أشغالهم، فصاحت السوقة والبياعون عند رؤية ذلك الرجل بقولهم: نصر الله دين الإسلام، وهاجوا وماجوا ولقلقت النسا بألسنتهن وصاحت الصبيان وسخروا بالفرنسيس، وتراموا بما على روسهم، وضربوهم وجرحوهم وطردوهم فتسحبوا من عندهم فغابوا ثلاثة أيام، ورجعوا إليهم بجمع من عسكرهم ومعهم الآلات من المدافع فاحتاطوا بالبلدة وضربوا عليهم مدفعًا ارتجُّوا له ثم هجموا عليهم ودخلوا إليهم وبأيديهم السيوف المسلولة ويقدمهم طبلهم، وطلبوا خَدَمة الضريح الذين يقال لهم أولاد الخادم، وهم ملتزمو البلدة وأكابرها ومتهمون بكثرة الأموال من قديم الزمان.

وكانوا قبل ذلك بنحو ثلاثة أشهر قبضوا عليهم بإغرا القبط، وأخذوا منهم خمسة عشر ألف ريال فرانسة بحجة مسالمتهم للعرب، فلما وصلوا إلى دورهم طلبوهم، فلم يمكنهم التغيب خوفًا على نهب الدور وغير ذلك، فظهروا لهم فأخذوهم إلى خارج البلد وقيدوهم، وأقاموا نحو خمسة أيام خارجها يأخذون في كل يوم ستماية ريال سوى الأغنام والكلف، ثم ارتحلوا وأخذوا المذكورين صحبتهم إلى منوف، وحبسوهم أيامًا ثم نقلوهم إلى الجيزة أيام الحرابة بمصر.

فلما انقضت تلك الأيام وسرحوا في البلاد نزلت طايفة في طنتدا وهم بصحبتهم، وقرروا عليهم أحدًا وخمسين ألف ريال فرانسة وعلى أهل البلدة كذلك بل أزيد، وأقاموا حول البلد محافظين عليهم وأطلقوا بعضهم وحجزوا المسمى بمصطفى الخادم؛ لأنه صاحب الأكثر في الوظيفة والالتزام، وطالبوه بالمال وفي كل وقت ينوعون عليه العقاب والعذاب والضرب حتى على كفوف يديه ورجليه، ويربطونه في الشمس في قوة الحر والوقت مصيف وهو رجل جسيم كبير الكرش، فخرجت له نفاخات في جسده ثم أخذوا خليفة المقام أيضًا وذهبوا به إلى منوف، ثم ردوه وولوه رياسة جمع الدراهم المطلوبة من البلد، فوزعت على الدور والحوانيت والمعاصر وغير ذلك، واستمروا على ذلك إلى انقضا العام، حتى أخذوا عساكر المقام وكانت من ذهب خالص زنتها نحو خمسة آلاف مثقال.

وأما المحلة الكبرى فإنهم رجعوا عليها، وقرروا عليها نيفًا وماية ألف فرانسة، وأخذوا في تحصيلها وتوزيعها وهجموا دورها وتتبع المياسير من أهلها.

كل ذلك مع استمرار طلب الكلف الشاقة في كل يوم منها ومن طنتدا، والتعنت عليهم وتسلط طوايف الكشوفية التابعين لهم الذين هم أقبح في الظلم من الفرنسيس، بل ومن العرب فإنهم معظم البلا أيضًا، فإنهم هم الذين يعرفون دسايس أهل البلاد ويشيعون أحوالهم ويتجسسون على عوراتهم ويغرون بهم، واستمروا على ذلك أيضًا، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ.

ومنها أنه لما وقع الصلح بين العثمانية والفرنساوية أرسل الوزير فرمانات للثغور بإطلاق الأساطيل وحضور المراكب والتجار بالبضايع وغيرها إلى ثغر إسكندرية، وصحبتها ثلاثة غلايين سلطانية وسفن مشحونة بالذخيرة لحضرة الوزير ولوازم العسكر العثماني، فلما قربوا من الثغر أقاموا البنديرات وضربوا مدافع للشنك، فطمعهم الفرنساوية وأظهروا لهم المسالمة، وأظهروا لهم بنديرة العثماني فدخلوا إلى المينا ورموا مراسيهم ووقعوا في فخ الفرنسيس فاستولوا على الجميع، وأخذوا مدافعهم وسلاحهم وحبسوا القباطين وأعيان التجار، وأخذوا الملاحين والمتسببين من البحرية والنصارى الأروام وهم عدة وافرة أعطوهم سلاحًا وزيوهم بزيهم، وأضافوهم إلى عسكرهم وأرسلوهم إلى مصر فكانوا أقبح مذكور في تسلطهم على إيذاء المسلمين، ثم أخرجوا شحنة المراكب من بضايع ويميش وحازوه بأجمعه لأنفسهم، وبقي الأمر على ذلك وكان ذلك في أواسط شهر القعدة.

ومنها أنه بعد نقض الصلح أرسل الفرنسيس عسكرًا إلى متسلم السويس الذي كان تولاها من طرف العثمانية، فتعصب معه أهل البندر فحاربوهم، فغلبهم الفرنسيس وقتلوهم عن آخرهم، ونهبوا البندر وما فيه من البن والبهار بحواصل التجار وغير ذلك.

ومنها أن مراد بك عند توجهه للصعيد بعد انقضا الصلح أخذ ما جمعه درويش باشا من الصعيد من أغنام وخيول وميرة وكان شيًّا كثيرًا، فتسلم الجميع منه وعدَّى درويش باشا إلى الجهة الشرقية متوجهًا إلى الشام، وأرسل مراد بك جميع ذلك للفرنساوية بمصر.

ومنها أيضًا أنه بعد انقضا المحاربة واستيلا الفرنسيس على المخازن والغلال التي كان جمعها العثمانية من البلاد الشرقية وبعض البلاد الغربية والقليوبية وكذلك الشعير والأتبان، طلب الفرنساوية مثل ذلك من البلاد وقرروا على النواحي غلالًا وشعيرًا وفولًا وتبنًا وزادوا خيلًا وجمالًا، فوقع على كل إقليم زيادة عن ألف فرس وألف جمل سوى ما يدفع مصالحة على قولها للوسايط وهو نحو ثمنها أو أزيد، وكذلك التعنت في نقض الغلال وغربلتها وغير ذلك، وكل ذلك بإرشاد القبطة وطوايف البلاد؛ لأنهم هم الذين تقلدوا المناصب الجليلة وتقاسموا الأقاليم والتزموا لهم بجمع الأموال، ونزل كل كبير منهم إلى إقليم وأقام بسرة الإقليم مثل الأمير الكبير ومعه عدة من العساكر الفرنساوية، وهو في أبهة عظيمة وصحبته الكتبة والصيارف والأتباع والأجناد من الغز البطالة وغيرهم، والخيام والخدم والفراشون والطباخون والحجاب، وتقاد بين يديه الجنايب والبغال والرهوانات والخيول المسومة والقواسة والمقدمون وبأيديهم الحراب المفضضة والمذهبة والأسلحة الكاملة والجمال الحاملة، ويرسل إلى ولايات الإقليم من جهته المستوفين من القبط أيضًا بمنزلة الكشاف، ومعهم العسكر من الفرنساوية والطوايف والجاويشية والصرافين والمقدمين على الشرح المذكور، فينزلون على البلاد والقرى ويطلبون المال والكلف الشاقة بالعسف ويؤجلونهم بالساعات، فإذا مضت ولم يوفوهم المطلوب حل بهم ما حل من الحرق والنهب والسلب والسبي، وخصوصًا إذا فر مشايخ البلدة من خوفهم وعدم قدرتهم وإلا قبضوا عليهم وضربوهم بالمقارع والكسارات على مفاصلهم وركبهم، وسحبوهم معهم في الحبال وأذاقوهم أنواع النكال، وخاف من بقي فصانعوهم وأتباعهم بالبراطيل والرشوات، وانضم إليهم الأسافل من القبط والأراذل من المنافقين وتقربوا إليهم بما يستميلون قلوبهم به وما يستجلبونه لهم من المنافع والمظالم وأجهدوا أنفسهم في التشفي من بعضهم وما يوجبه الحقد والتحاسد الكامن في قلوبهم إلى غير ذلك مما يتعذر ضبطه وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ.

وأما من مات في هذه السنة ممن له ذكر

مات الإمام الفاضل الصالح العلامة الشيخ عبد العليم بن محمد بن محمد بن عثمان المالكي الأزهري الضرير، حضر دروس الشيخ علي الصعيدي رواية ودراية، فسمع عليه جملة من الصحيح والموطأ والشمايل والجامع الصغير ومسلسلات ابن عقيلة، وروى عن كل من الملوي والجوهري والبليدي والسقاط والمنير والدردير والتاودي بن سودة حين حج، ودرس وأفاد وكان من البكايين عند ذكر الله، سريع الدمعة كثير الخشية، وكان يعرف أشيا في الرقي والخواص وفوايد القرينة وأم الصبيان، ثم ترك ذلك لرؤيا منامية رآها وأخبرني بها، توفي في هذه السنة ودفن ببستان المجاورين.

ومات العمدة الفاضل والنبيه الكامل صاحبنا العلامة الوجيه الشيخ شامل أحمد بن رمضان بن سعود الطرابلسي المقري الأزهري، حضر من بلده طرابلس الغرب إلى مصر في سنة إحدى وتسعين، وجاور بالأزهر وكان فيه استعداد، وحضر دروس الشيخ أحمد الدردير والبيلي والشيخ أبي الحسن الغلقي، وسمع على شيخنا السيد مرتضى المسلسل بالأولية وغير المسلسل أيضًا، وأخذ منه الإجازة في سنة اثنتين وتسعين.

ولما مات الخواجا حسن البناني من تجار المغاربة فتوصل إلى أن تزوج بزوجته بنت الغرياني وسكن بدارها الواسعة بالكعكيين، وتجمل بالملابس وتودد للناس بحس المعاشرة ومكارم الأخلاق، وكان سموح النفس جدًّا، دمث الطباع والأخلاق جميل العشرة.

ولما عزل السيد عبد الرحمن السفاقسي الضرير من مشيخة رواقهم، كان المترجم هو المتعين لذلك دون غيره، فتولى مشيخة الرواق بشهامة وكرم ونوه بذكره وزادت شهرته، وكان وجيهًا طويل القامة بهي الطلعة بشوشًا.

ولما تولى مشيخة الرواق امتدحه صاحبنا الشيخ حسن العطار بقصيدة أشار في مطلعها إشارة خفية لحالته مع المترجم المتولي، والسيد عبد الرحمن المعزول لصداقة بينه وبين المتولي بخلاف المعزول وأول القصيدة:

انهض فقد ولت جيوش الظلام
وأقبل الصبح سفير اللثام
وغنت الوُرْق على أيكها
تنبه الشرب لشرب المدام
والزهر أضحى في الربا باسمًا
لما بكت بالطل عين الغمام
والغصن قد ماس بأزهاره
لما غدت كالدر في الانتظام
وعطر الروض مرور الصبا
على الرياحين فأبرى السقام
كأنما الورد على غصنه
تيجان إبريز على حسن هام
كأنما الغدران خلجان أغصـ
ـان النقا والنهر مثل الحسام
كأن منظوم الزراجين يا
قوت غدا من نظمه في انسجام
كأنما الآس عذار على
وجنته وقد علاها ضِرام
كأنما الورقاء لما شدت
تتلو علينا فضل هذا الإمام

ثم استمر في مدحه وهي طويلة مسطرة بديوان المذكور يقول في آخرها:

بشراك مولانا على منصب
كان له فيك مزيد الهيام
وافاك إقبال به دايمًا
وعشت مسعودًا بطول الدوام
فقد رأينا فيك ما نرتجي
لا زلت فينا سالمًا والسلام

ولما حصلت واقعة الفرنسيس خرج تلك الليلة مع الفارين وذهب إلى بيت المقدس، وتوفي هناك في هذه السنة.

ومات السيد الأفضل والسند الأكمل المقري ابن المقري والفهامة الذي بكل فن على التحقيق يدري، بدر أضا في سما العرفان، وعارف وضح دقايق المشكلات بإتقان، فلله دره من فاضل أبرز درر اللطايف من كنوزها، وكشف عن مخدرات الفهوم لثامها فأظهر الأَنْفَس من نفيسها والأعز من عزيزها، فلا غرو فإنه بذلك حقيق، كيف لا وما ذكر من بعض صفاته التي به تليق، العلامة الشريف الحسن بن علي البدري العوضي، ربي في حجر أبيه وحفظ القرآن والمتون، وأخذ عن أبيه علم القراءات، وأتقن القراءات الأربعة عشر بعد أن أتقن العربية والفقه وباقي العلوم، وحضر أشياخ الوقت وتمهر وأنجب، وقرا الدروس ونظم الشعر الجيد وشهد له الفضلا، وله ديوان مشهور بأيدي الناس، وامتدح الأعيان، وبينه وبين الصلاحي وقاسم بن عطا الله مطارحات ذكرنا منها طرفًا في ترجمتهما، ومن مطارحات العالم العلامة شيخ الوقت الشيخ محمد الأمير — حفظه الله — للمذكور قوله:

حيِّ الفقيه الشافعي وقل له
ما ذلك الحكم الذي يستغرب؟
نجس عفوًا عنه ولو خالطه
نجس فإن العفو باقٍ يصحب
وإذا طرا بدل النجاسة طاهر
لا عفو يا أهل الذكاء تعجبوا

فأجاب المترجم بقوله:

حييت إذ حييتنا وسألتنا
مستغربًا من حيث لا يستغرب
العفو عن نجس عراه مثله
من جنسه لا مطلقًا فاستوعبوا
والشي ليس يصان عن أمثاله
لكنه للأجنبي يجنب
وأراك قد أطلقت ما قد قيدوا
وهو العجيب وفهم ذلك أعجب

ومن نظمه مورخًا لمولد السادات بني الوفا قوله:

قصدناكم فأثنينا عليكم
بأجمل مدحة وأجل صيغه
وشاهدنا الذي جددتموه
فأرَّخنا موالدكم بليغه

وله مدايح في الأستاذ أبي الأنوار بن وفا قصايد طنانة وغير ذلك وهو كثير مذكور بديوانه، وله أيضًا تآليف وتقييدات وتحقيقات ورسايل في فنون شتى، ورسالة بليغة في قوله تعالى: أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ، وكان الباعث له على تأليفها مناقشة حصلت بينه وبين الشيخ أحمد يونس الخليفي في تفسير الآية بمجلس علي بك الدفتردار، فظهر بها على الشيخ المذكور، وأجازه الأمير المذكور بأن رتب له تدريسًا بالمشهد الحسيني ورتب له معلومًا بوقته، وقدره كل يوم عشرة أنصاف فضة يستغلها من جانب الوقف في كل شهر، واستمر يقبضها حتى مات في شعبان من هذه السنة رحمه الله، ولم يخلف بعده مثله في الفضايل والمعارف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤