ثم دخلت سنة خمس عشرة ومايتين وألف ١٨٠٠م

كان ابتدا المحرم يوم الأحد وفي خامسه أصعدوا الشيخ السادات إلى القلعة، وكان أرسل إلى كبار القبط بأن يسعوا في قضيته ورهن حصصه، ويغلق الذي عليه، فردوا عليه بأنه لا بد من تشهيل قدر نصف الباقي أولًا، ولا يمكن غير ذلك، وأما الحصص فليست في تصرفه، ولما تكرر إرساله للنصارى وغيرهم نقلوه إلى القلعة، ومنعوه الاجتماع بالناس وهي المرة الثالثة.

وفيه أشيع حضور مراكب وغلايين من ناحية الروم إلى ثغر الإسكندرية، وسافر ساري عسكر كليبر وصحبته العساكر الفرنساوية، فغاب أيامًا ثم عاد إلى مصر، ولم يظهر لهذا أثر.

وفيه طلبوا عسكرًا من القبط فجمعوا منهم طايفة وزيوهم بزيهم، وقيدوا بهم من يعلمهم كيفية حربهم ويدربهم على ذلك، وأرسلوا إلى الصعيد فجمعوا من شبانهم نحو الألفين وأحضروهم إلى مصر، وأضافوهم إلى العسكر.

وفي حادي عشرينه أعادوا الشيخ أحمد العريشي إلى القضا كما كان، وعملوا له موكبًا وركب معه أعيان الفرنسيس وسواري عساكرهم بطبولهم وزمورهم والمشايخ والتجار والأعيان، وبجانبه قايمقام عبد الله منو الذي كان ساري عسكر برشيد، فلم يزالوا معه حتى أوصلوه إلى المحكمة الكبرى بعد أن شقوا به المدينة.

ذكر قتل ساري عسكر كليبر وتحقيق قضيته

وفي ذلك اليوم أعني يوم السبت وقعت نادرة عجيبة، وهو أن ساري عسكر كليبر كان مع كبير المهندسين يسيران بداخل البستان الذي بداره بالأزبكية، فدخل عليه شخص حلبي وقصده فأشار إليه بالرجوع، وقال له: مافيش، وكررها فلم يرجع، وأوهمه أن له حاجة وهو مضطر في قضايها، فلما دنا منه مدَّ إليه يده اليسار كأنه يريد تقبيل يده، فمد إليه الآخر يده، فقبض عليه وضربه بخنجر كان أعده في يده اليمنى أربع ضربات متوالية، فشق بطنه وسقط إلى الأرض صارخًا، فصاح رفيقه المهندس فذهب إليه وضربه أيضًا ضربات وهرب، فسمع العسكر الذين خارج الباب صرخة المهندس، فدخلوا مسرعين فوجدوا كليبر مطروحًا وبه بعض الرمق ولم يجدوا القاتل، فانزعجوا وضربوا طبلهم وخرجوا مسرعين، وجروا من كل ناحية يفتشون على القاتل، واجتمع رويساهم وأرسلوا العساكر إلى الحصون والقلاع، وظنوا أنها من فعل أهل مصر فاحتاطوا بالبلد، وعمروا المدافع وحرروا القنابر، وقالوا: لا بد من قتل أهل مصر عن آخرهم.

ووقعت هوجة عظيمة في الناس وكرشة وشدة انزعاج، وأكثرهم لا يدري حقيقة الحال، ولم يزالوا يفتشون عن ذلك القاتل حتى وجدوه منزويًا في البستان المجاور لبيت ساري عسكر المعروف بغيط مصباح بجانب حايط منهدم، فقبضوا عليه فوجدوه شاميًّا، فأحضروه وسألوه عن اسمه وعمره وبلده فوجدوه حلبيًّا، واسمه سليمان، فسألوه عن محل مأواه فأخبرهم أنه يأوي ويبيت بالجامع الأزهر، فسألوه عن معارفه ورفقايه، وهل أخبر أحدًا بفعله وهل شاركه أحد في رأيه وأقره على فعله أو نهاه عن ذلك، وكم له بمصر من الأيام أو الشهور، وعن صنعته وملته، وعاقبوه حتى أخبرهم بحقيقة الحال، فعند ذلك علموا ببراءة أهل مصر من ذلك، وتركوا ما كانوا عزموا عليه من محاربة أهل البلد، وقد كانوا أرسلوا أشخاصًا من ثقاتهم تفرقوا في الجهات والنواحي يتفرسون في الناس فلم يجدوا فيهم قراين دالة على علمهم بذلك، ورأوهم يسألون من الفرنسيس عن الخبر، فتحققوا من ذلك براءتهم من ذلك.

ثم إنهم أمروا بإحضار الشيخ عبد الله الشرقاوي والشيخ أحمد العريشي القاضي، وأعلموهم بذلك وعوقوهم إلى نصف الليل، وألزموهم بإحضار الجماعة الذين ذكرهم القاتل، وأنه أخبرهم بفعله فركبوا وصحبتهم الأغا وحضروا إلى الجامع الأزهر، وطلبوا الجماعة فوجدوا ثلاثة منهم ولم يجدوا الرابع، فأخذهم الأغا وحبسهم ببيت قايمقام بالأزبكية.

ثم إنهم رتبوا صورة محاكمة على طريقتهم في دعاوى القصاص، وحكموا بقتل الثلاثة أنفار المذكورين مع القاتل، وأطلقوا مصطفى أفندي البرصلي لكونه لم يخبره بعزمه وقصده، فقتلوا الثلاثة المذكورين لكونه أخبرهم بأنه عازم على قصده صبح تاريخه، ولم يخبروا عنه الفرنسيس، فكأنهم شاركوه في الفعل وانقضت الحكومة على ذلك، وألفوا في شأن ذلك أوراقًا ذكروا فيها صورة الواقعة وكيفيتها، وطبعوا منها نسخًا كثيرة باللغات الثلاث الفرنساوية والتركية والعربية.

وقد كنت أعرضت عن ذكرها لطولها وركاكة تركيبها لقصورهم في اللغة، ثم رأيت كثيرًا من الناس تتشوق نفسه إلى الإطلاع عليها لتضمنها خبر الواقعة وكيفية الحكومة، ولما فيها من الاعتبار وضبط الأحكام من هولا الطايفة الذين يحكمون العقل ولا يتدينون بدين، وكيف وقد تجارى على كبيرهم ويعسوبهم رجل آفاقي أهوج وغدره وقبضوا عليه وقرروه ولم يعجلوا بقتله وقتل من أخبر عنهم بمجرد الإقرار بعد أن عثروا عليه، ووجدوا معه آلة القتل مضمخة بدم ساري عسكرهم وأميرهم، بل رتبوا حكومة ومحاكمة، وأحضروا القاتل وكرروا عليه السؤال والاستفهام مرة بالقول ومرة بالعقوبة، ثم أحضروا من أخبر عنهم وسألوهم على انفرادهم ومجتمعين، ثم نفذوا الحكومة فيهم بما اقتضاه التحكيم، وأطلقوا مصطفى أفندي البرصلي الخطاط، حيث لم يلزمه حكم ولم يتوجه عليه قصاص كما يفهم جميع ذلك من فحوى المسطور بخلاف ما رأيناه بعد ذلك من أفعال أوباش العساكر الذين يدَّعون الإسلام ويزعمون أنهم مجاهدون وقتلهم الأنفس وتجاريهم على هدم البنية الإنسانية بمجرد شهواتهم الحيوانية، مما سيُتلَى عليك بعضه بعد، وصورة ترجمة الأوراق المذكورة:

بيان شرح الاطلاع على جسم ساري عسكر العام كليبر يوم الخامس والعشرين من شهر (برريال) مايو السنة الثامنة من انتشار الجمهور الفرنساوي

نحن الواضعون أسمانا وخطنا فيه باش حكيم والجرايحي من أول مرتبة الذي صار مرتبة باش جرايحي في غيبته، انتهينا حصة ساعتين بعد الظهر إلى بيت ساري عسكر العام في الأزبكية بمدينة مصر، وكان سبب روحتنا هو أننا سمعنا دقة الطبل وغاغة الناس التي كانت تخبر أن ساري عسكر العام كليبر انغدر وقتل، وصلنا له فرأيناه في آخر نفس، فحصنا عن جروحاته فتحقق لنا أنه قد انضرب بسلاح مدبب وله حد، وجروحاته كانت أربعة: الأول منها تحت البز في الشقة اليمنى، الثاني أوطى من الأول جنب السوَّة، الثالث في الذراع الشمال نافذ من شقه لشقه، والرابع في الخد اليمين، فهذا حررنا البيان بالشرح في حضور الدفتردار «سارتلون» الذي وضع اسمه فيه كمثلنا لأجل أن يسلم البيان المذكور إلى ساري عسكر مدبر الجيوش.

تحريرًا في سراية ساري عسكر العام في النهار، والسنة المذكورة في الساعة الثالثة بعد الظهر، بإمضا باش حكيم وخط الجرايحي من أول مرتبة «كازبيانكا» والدفتردار سارتلون.

شرح جروحات الستوين بروتاين المهندس نهار تاريخه خمسة وعشرين من شهر برريال، السنة الثامنة من انتشار الجمهور الفرنساوي في الساعة الثالثة بعد الظهر، نحن الواضعون أسمانا وخطنا فيه باش حكيم وجرايحي من أول مرتبة الذي صار مرتبة باش جرايحي في غيبته، انطلبنا من الدفتردار سارتلون أننا نعمل بيان شرح جروحات الستوين بروتاين المهندس وعضو من أعضا مدرسة العلما في بر مصر، الذي انغدر هو أيضًا في جنب ساري عسكر العام كليبر مدبر الجيوش، ومضروب ستة أمرار بسلاح مدبب وله حد، وهذا بيان الجروحات: الأول في جنب الصدغ، الثاني في الكف في عظمة الإصبع الخنصر، الثالث بين الضلوع الشمالية، والرابع تحت البز في الشقة اليمنى، الخامس في الشدق الشمالي، والسادس في الصدر من الشقة الشمالية وشق نحو العرق.

ثم إلى تأييد ذلك وضعنا أسمانا وخطنا فيه برفقة الدفتردار سارتلون، تحريرًا في سراية ساري عسكر مدبر الجيوش في اليوم والشهر والسنة والساعة المرموقة أعلاه بإمضا باش حكيم، وخط الجرايحي من أول مرتبة كازابيانكا والدفتردار سارتلون.

عن أول فحص سليمان الحلبي نهار تاريخه خمسة وعشرين، في شهر برريال من السنة الثامنة من انتشار الجمهور الفرنساوي في بيت ساري عسكر داماس مدبر الجيوش.

واحد فسيال من ملازمين بيت ساري عسكر العام، حضر وبيده ماسك راجل من أهل البلد مدعيًا أن هذا هو الذي قتل ساري عسكر العام كليبر المتهوم المذكور، انعرف من الستوين بروتاين المهندس الذي كان مع ساري عسكر حين انغدر؛ لأنه أيضًا انضرب برفقته بالخنجر ذاته وانجرح بعض جروحات، ثانيًا: المتهوم المذكور كان انشاف بين جماعة ساري عسكر من حد الجيزة، وانوجد مخبي في الجنينة التي حصل فيها القتل، وفي الجنينة نفسها انوجد الخنجر الذي به انجرح ساري عسكر، وبعض حوايج أيضًا بتوع المتهوم فحالًا بدى الفحص بحضور ساري عسكر منو الذي هو أقدم أقرانه في العسكر، وتسلم في مدينة مصر، والفحص المذكور صار بواسطة الخواجا براشويش كاتم سر وترجمان ساري عسكر العام ومحرر من يد الدفتردار سارتلون الذي أحضره ساري عسكر منو لأجل ذلك المتهوم المذكور.

انسال عن اسمه وعمره ومسكنه وصنعته؟

فجاوب: أنه يسمى سليمان ولادة بر الشام، وعمره أربعة وعشرون سنة، ثم صنعته كاتب عربي، وكانت سكنته في حلب.

انسال كم زمان له في مصر؟

فجاوب: أنه بقي له خمسة أشهر وأنه حضر في قافلة وشيخها يسمى سليمان جوربجي.

انسال عن ملته؟

فجاوب: أنه من ملة محمد وأنه كان سابقًا سكن ثلاث سنين في مصر وثلاث سنين في مكة والمدينة.

انسال هل يعرف الوزير الأعظم وهل له مدة ما شافه؟

فجاوب: أنه ابن عرب ومثله ليس يعرف الوزير الأعظم.

انسال عن معارفه في مدينة مصر؟

فجاوب: أنه لم يعرف أحدًا وأكثر قعاده في الجامع الأزهر، وجملة ناس تعرفه وأكثرهم يشهدون في مشيه الطيب.

انسال هل راح صباح تاريخه الجيزة؟

فجاوب: نعم، وأنه كان قاصد ينشبك كاتب عند أحد، ولكن ما قسم له نصيب.

انسال عن الناس الذين كتب لهم أمس.

فجاوب: أن كلهم سافروا.

انسال كيف يمكن أنه لم يعرف أحدًا من الذين كتب لهم في الأيام الماضية، وكيف يكونون كلهم سافروا؟

فجاوب: أنه ليس يعرف الذين كان يكتب لهم، وأنه غير ممكن أن يفتكر أسماهم.

انسال من هو الأخراني الذين كتب لهم؟

فجاوب: أنه يسمى محمد مغربي السويسي بياع عرقسوس، وأنه ما كتب لأحد في الجيزة.

انسال ثانيًا عن سبب روحته الجيزة.

فجاوب: دايمًا أنه كان قاصد أن ينشبك كاتبًا.

انسال كيف مسكوه في جنينة ساري عسكر؟

فجاوب: أنه ما انمسك في الجنينة بل في عارض الطريق.

فذاك الوقت انقال له إنه ما ينجيك إلا الصحيح؛ لأن عسكر الملازمين مسكوه في الجنينة وفي المحل ذاته انوجدت السكينة، وفي الوقت انعرضت عليه.

فجاوب: صحيح أنه كان في الجنينة، ولكن ما كان مستخبي بل قاعد؛ لأن الخيالة كانت ماسكة الطرق وما كان يقدر أن يروح للمدينة، وأن ما كان عنده سكينة ولم يعرف أن كان هذا موجود في الجنينة.

سُيل لأي سبب كان تابع ساري عسكر من الصبح؟

فجاوب: أنه كان مراده فقط يشوفه.

انسال هل يعرف حتة قماش خضرة التي باينة مقطوعة من لبسه، وكانت انوجدت في المحل الذي انغدر فيه ساري عسكر؟

فجاوب: بأن هذه ما هي تعلقه.

انسال إن كان تحدث مع أحد في الجيزة، وفي أي محل نام؟

فجاوب: أنه ما تكلم مع ناس إلا لأجل مشترى بعض مصالح وأنه نام في الجيزة في جامع.

فأشاروا على جروحاته التي ظاهرة في دماغه، وقيل له إن هذه الجروحات بينت أنه هو الذي غدر ساري عسكر؛ لأن أيضًا الستوين بروتاين الذي كان معه عرفه وضربه كم عصاية الذين جرحوه؟

فجاوب: أنه ما انجرح إلا ساعة ما مسكوه.

انسال هل كان تحدث نهار تاريخه مع حسين كاشف أو مع مماليكه؟

فجاوب: أنه ما شافهم ولا كلمهم.

فلما أن كان المتهوم لم يصدق في جواباته أمر ساري عسكر أنهم يضربونه حكم عوايد البلاد، فحالًا انضرب لحد أنه طلب العفو ووعد أنه يقر بالصحيح، فارتفع عنه الضرب وانفكت له سواعده، وصار يحكي من أول وجديد كما هو مشروح.

انسال كم يوم له في مدينة مصر؟

فجاوب: أنه له واحد وثلاثين يومًا، وأنه حضر من غزة في ستة أيام على هجين.

انسال لأي سبب حضر من غزة؟

فجاوب: لأجل أن يقتل ساري عسكر العام.

انسال من الذي أرسله لأجل أن يفعل هذا الأمر؟

فجاوب: أنه أرسل من طرف أغات الينكجرية، وأنه حين رجع عساكر العثملي من مصر إلى بر الشام أرسلوا إلى حلب بطلب شخص يكون قادرًا على قتل ساري عسكر العام الفرنساوي، ووعدوا لكل من يقدر على هذه المادة أن يقدموه في الوجاقات ويعطوه دراهم، ولأجل ذلك هو تقدم وعرض روحه لهذا.

انسال من هم الناس الذين تصدروا له في هذه المدة في بر مصر، وهل صارح أحد على نيته؟

فجاوب: أن ما أحد تصدر له وأنه راح سكن في الجامع الأزهر، وهناك شاف السيد محمد الغزي والسيد أحمد الوالي والشيخ عبد الله الغزي والسيد عبد القادر الغزي الذين ساكنون في الجامع المذكور فبلغهم على مراده، فهم أشاروا عليه أنه يرجع عن ذلك؛ لأن غير ممكن أن يطلع من يده ويموت فرط، وإن كان لازم يشخصوا واحدًا غيره في قضا هذه المادة، ثم إنه كل يوم كان يتكلم معه في الشغل المذكور، وأن أمس تاريخه قال لهم إنه رايح يقضي مقصوده ويقتل ساري عسكر وأنه توجه إلى الجيزة حتى ينظر إن كان يطلع من يده، وأن هناك قابل نواتية قنجة ساري عسكر فاستخبر عليه منهم إن كان يخرج برًّا، فسألوه إيش طالب منه؟ فقال لهم إن مقصوده يتحدث معه، فقالوا له إنه كل ليلة ينزل في جنينته، ثم صباح تاريخه شاف ساري عسكر معديًا للمقياس، وبعده ماشي إلى المدينة فتبعه لحين ما غدره.

هذا الفحص صار من حضرة ساري عسكر منو بحضور باقي سواري العساكر الكبار وملازمين بيت ساري عسكر العام، ثم انختم بإمضا ساري منو والدفتردار سارتلون في اليوم والشهر والسنة المحررة أعلاه.

ثم انقرا على المتهوم، وهو أيضًا خط يده واسمه بالعربي سليمان إمضا ساري عسكر عبد الله منو إمضا الجنرال «مارتينه» إمضا دفتردار البحر «لروا» إمضا الدفتردار «سارتلون» إمضا الترجمان «لوماكا» إمضا الترجمان «مناروكه» إمضا «داميانوس براشويش» كاتم السر وترجمان ساري عسكر العام.

وفحص الثلاثة مشايخ المتهمين نهار تاريخه خمسة وعشرين في شهر برريال السنة الثامنة من انتشار الجمهور الفرنساوي في الساعة الثامنة بعد الظهر، حضروا في منزل ساري عسكر العام منو أمير الجيوش الفرنساوية السيد عبد الله الغزي ومحمد الغزي والسيد أحمد الوالي، وهم الثلاثة متهومين في قتل ساري عسكر العام كليبر، فساري عسكر منو أمر بفحصهم فبدى ذلك حالًا في حضور بعض سواري العساكر المجتمعين لذلك، وبواسطة الستوين لوماكا الترجمان كما يذكر أدناه السيد عبد الله الغزي هو الذي سيل أولًا لوحده.

انسال عن اسمه وعن مسكنه وصنعته؟

فجاوب: أنه يسمى السيد عبد الله الغزي، ولادة غزة ومسكنه في مصر في الجامع الأزهر، وهناك كان كارُه مقري القرآن، وأنه لم يعرف كم عمره ولكن تخمينه يجي ثلاثين سنة.

انسال إن كانت سكنته في الجامع الأزهر هل يعرف جميع الغربا الذين يدخلونه؟

فجاوب: أنه ساكن ليل ونهار ويعرف الغربا الذين فيه.

انسال هل يعرف رجلًا حضر من بر الشام من مدة شهر؟

فجاوب: أن من مدة خمسين يومًا ما شاف أحدًا حضر من بر الشام.

فقيل له: إن رجلًا من طرف عرضي الوزير حضر من مدة ثلاثين يومًا قال إنه يعرفك والظاهر أنك لم تتكلم الصدق.

فجاوب: أنه ملهي دايمًا في وظيفته، وأنه ما شاف أحدًا من بر الشام، بل سمع أن قافلة كانت وصلت من ناحية الشرق.

فقيل له أيضًا: إن ناسًا حضروا من بر الشام يقولون إنهم تكلموا معه ويعرفونه.

فجاوب: أن هذا غير ممكن وأنهم يقابلوه مع الذي فتن عليه.

انسال هل يعرف واحدًا اسمه سليمان كاتب عربي حضر من حلب من مدة ثلاثين يومًا؟

فجاوب: لا.

فقيل له إن هذا الرجل يحقق أنه شافه، وأنه أخبره ببعض أشيا لازمة.

فجاوب: أنه ما شافه، وأن هذا الرجل كذاب وأنه يريد أن يموت إن كان ما يحكي الصحيح.

فحالًا ساري عسكر نده إلى محمد الغزي الذي هو أيضًا متهوم في قتل ساري عسكر وبدى الفحص كما يذكر.

انسال عن اسمه وعمره ومسكنه وصنعته؟

فجاوب: أنه يسمى الشيخ محمد الغزي، وعمره نحو خمسة وعشرين سنة، وولادته غزة وسكن بمصر في الجامع الأزهر، ثم صنعته مقري القرآن من مدة خمس سنين، وما يخرج من الجامع إلا لكي يشتري ما يأكل.

انسال هل يعرف الغربا الذين يجون يسكنون في الجامع؟

فجاوب: أن في بعض الأوقات يحضر ناس غربا وأما البواب فهو الذي يقارشهم، ومن قبله ينام بعض ليالي في الجامع والبعض في بيت الشيخ الشرقاوي.

انسال هل يعرف رجلًا يسمى سليمان حضر من بر الشام من مدة ثلاثين يومًا؟

فجاوب: أنه لم يعرفه وأنه غير ممكن أن يشوف كل الناس؛ لأن الجامع كبير قوي.

انسال أنه يحكي على الذي تكلم به معه سليمان، فإن المذكور يحقق أنه تكلم معه في الجامع.

فجاوب: أنه يعرفه من مدة ثلاث سنين، وأنه كان عنده خبر أنه راح مكة، وأما من بعده ما شافه ولم يعرف إن كان رجع أم لا.

انسال هل السيد عبد الله الغزي يعرفه أيضًا؟

فجاوب: نعم.

فقيل له: محقق إن أمس تاريخه سليمان المذكور تحدث معه حصة طيبة وأن الشواهد موجودة.

فجاوب: أن هذا صحيح.

انسال لأي سبب كان بدأ يقول إنه ما شافه؟

فجاوب: أن تخمينه ما قال هذا وأن المترجمين غلطوا.

انسال هل سليمان المذكور ما بلغه عن شي مذنب قوي، وتحقيقًا لذلك معلوم عندنا أنه كان قصده يحوشه؟

فجاوب: أنه لم يعرف هذا الأمر، وأن سليمان المذكور راح وجا كام مرة إلى مصر وبقي له هنا مقدار شهر.

فقيل له: إنه موجود شواهد أن سليمان المذكور كان أخبره أن مراده أن يغدر ساري عسكر العام وأنه أراد أن يمنعه.

فجاوب: أنه ما بلغه عن هذا الأمر بل أمس تاريخه قال له أنه رايح ويمكن أن ما بقى يرجع.

فبعده أحضرنا عبد الله الغزي لأجل يتفحص ثانيًا كما ذكر أدناه.

انسال لأي سبب قال إنه لم يعرف سليمان الحلبي حين سألوه عنه بحيث أن موجودة شواهد أن هذا له في مصر واحد وثلاثون يومًا، وأنه تقابل وإياه جملة مرار وتحدث معه أكثر الأيام؟

فجاوب: حقًّا أنه لم يعرفه.

انسال هل يعرف واحدًا يسمى محمد الغزي الذي هو مثله مقري القرآن في جامع الأزهر؟

فجاوب: نعم.

انسال السيد عبد الله المذكور لأي سبب أنكر ذلك؟

فجاوب: أنهم لخبطوا عليه السؤال، وأن هذا الوقت بحيث إنهم سألوه عن سليمان الذي من حلب فيقر أنه يعرفه.

فقيل له: معلوم عندنا أنه شافه مرارًا كثيرة وتحدث معه.

فجاوب: أنه بقى له ثلاثة أيام ما شافه.

انسال هل إنه ما قصد يمنعه عن قتل ساري عسكر العام؟

فجاوب: أنه ما قال له أبدًا على هذا الأمر، وأنه لو كان بلغه منه ذلك كان منعه بكل قدرته.

انسال لأي سبب ما يحكي الصحيح بحيث إنه موجودة عليه شواهد؟

فجاوب: أنه غير ممكن يوجد عليه شواهد، وأنه ما شاف سليمان المذكور إلا لأجل أن يسلموا على بعض حين تقابلوا.

انسال هل سليمان ما أخبره أبدًا عن سبب مجيه إلى مصر؟

فجاوب: حاشا.

فبعد ذلك أخروا الاثنين المذكورين، وأحضروا السيد أحمد الوالي الذي هو متهوم وسيل كما يذكر:

انسال عن اسمه وعمره ومسكنه وصنعته.

فجاوب: أنه يسمى السيد أحمد الوالى، ولادة غزة، وصنعته مقري القرآن في الجامع الأزهر من مدة عشر سنين، ولم يعرف كم عمره.

انسال هل يعرف الغربا الذين يدخلون في الجامع؟

فجاوب: أن وظيفته يقرا ولا يتنبه إلى الغربا.

فقيل له: إن بعض الغربا الذين حضروا هناك عن قريب يقولون إنهم شافوه في الجامع.

فجاوب: أنه ما شاف أحدًا.

انسال هل شاف رجلًا حضر من بر الشام من طرف الوزير وهذا الرجل قال إنه يعرفه؟

فجاوب: لا وإن كانوا يقدروا يحضروا هذا الرجل حتى يقابله.

انسال هل يعرف سليمان الحلبي؟

فجاوب: أنه يعرف واحدًا يسمى سليمان الذي كان يروح يقرا عند واحد أفندي، وكان طالب أنه يستقيم في الجامع، وأن هذا الرجل قال إنه من حلب ومن مدة عشرين يومًا كان شافه وبعدها ما قابله، ثم كان قال له إن الوزير في يافا وإن عساكره ما كان عندهم دراهم وكانوا يفوتوه.

انسال هل هذا الرجل المذكور ما هو تحت حمايته؟

فجاوب: أنه لم يعرفه طيبًا حتى يضمنه.

انسال هل الاثنان الآخران المتهومان معارفه، وهل أن الثلاثة تحدثوا سوا عن قريب أم أمس تاريخه مع سليمان المذكور؟

فجاوب: لا بل إنه يعرف أن سليمان المذكور كان حضر لزيارة الجامع، وأنه وضع في الجامع جملة أوراق مضمونها أنه كان قوي متعبدًا لخالقه.

انسال هل المذكور أمس أيضًا ما وضع أوراقًا في الجامع؟

فجاوب: أن ما عنده خبر بذلك.

انسال هل ما منع سليمان عن فعل ذنب بليغ؟

فجاوب: أنه أبدًا ما حدثه بهذا الشي ولكن قال له إن مراده يفعل شي جنون، وأنه عمل كل جهده حتى يرجعه.

انسال إيش هو الجنان الذي قاصد يعمله وحدثه عليه؟

فجاوب: أنه قال له إنه كان مراده يغازي في سبيل الله وأن هذه المغازة هي قتل واحد نصراني، ولكن ما أخبره باسمه وأنه قصد يمنعه بقوله إن ربنا أعطى القوة للفرنساوية وإن لم أحد يقدر يمنعهم حكم البلاد.

فبعد هذا المتهوم المذكور انشال لمحله، وهذا الفحص تحتم بحضور سواري العساكر المجموعين بإمضا ساري عسكر منو والدفتردار سارتلون الذي هو ذاته حرر هذا الفحص بأمر ساري عسكر منو، ثم بعد قراءته على المتهومين وضعوا أسماهم وخطهم بالعربي.

تحريرًا في اليوم والشهر والسنة المحررة أعلاه.

ثلاثة إمضاءات بالعربي: إمضا ساري عسكر منو، إمضا الدفتردار سارتلون، إمضا الترجمان لوماكا.

ساري عسكر العام منو أمير الجيوش الفرنساوية في مصر يأمر بتأسيس:
  • المادة الأولى: أن ينتشى ديوان قضاة لأجل أن يشرعوا على الذين غدروا ساري عسكر العام كليبر في اليوم الخامس والعشرين من شهر برريال.
  • المادة الثانية: القضاة المذكورون يكونوا تسعة وهم: ساري عسكر رينيه، ساري عسكر فرياند، ساري عسكر روبين، الجنرال موراند، رئيس المعمار براند الوكيل، رجنيه دفتردار البحر، لروو الدفتردار، سارتلون في وظيفة مبلغ، والوكيل لبهر في وظيفة وكيل الجمهور.
  • المادة الثالثة: القضاة المذكورون ينظر لهم كاتم سر.
  • المادة الرابعة: القضاة المذكورين مفوضون الأمر في الكشف والتفتيش وحوش كل من يريدوا، حتى إنهم يطلعوا على الذين لهم حصة في الذنب المذكور أو يكون عندهم خبره.
  • المادة الخامسة: القضاة المذكورون يتفقون على العذاب اللايق إلى موت القاتل ورفقاه.
  • المادة السادسة: القضاة المذكورون يجتمعون من نهار تاريخه الذي هو السادس والعشرون من شهر برريال لحد خلاص الشريعة المذكورة.

إمضا ساري عسكر منو، وهذه نسخة من الأصل إمضا الجنرال رينيه كتخدا مدبر الجيوش.

شرع اجتماع القضاة في السنة الثامنة من انتشار الجمهور الفرنساوي في اليوم السادس والعشرين من شهر برريال، حكم أمر ساري عسكر العام منو أمير الجيوش الفرنساوي المحرر في نهار تاريخه، اجتمعوا في بيت ساري عسكر رينيه المذكور وساري عسكر روبين ودفتردار البحر لرو والجنرال مارتينه عوضًا عن ساري عسكر فرياند حكم أمر ساري عسكر منو، ثم الجنرال موراند وريس العسكر جوجه وريس العمارة برتراند وريس المدافع فاور والوكيل رجنيه والدفتردار سارتلون في رتبة مبلغ والوكيل لبهر في وظيفة وكيل الجمهور لأجل قضا شريعة قتل ساري عسكر العام كليبر الذي انغدر أمس تاريخه.

القضاة المذكورون اجتمعوا مع شيخهم ساري عسكر رينيه، وقروا أمر ساري عسكر منو المشروح أعلاه وحكم المادة الثالثة المحرر فيه استخصوا كاتم السر لهم الوكيل «بينه» الذي حلف كما هي العوايد ولزم وظيفته، ثم القضاة المذكورون وكلوا ساري عسكر رينيه والمبلغ الدفتردار سارتلون في التفتيش والحبس لكل من اكتشفوا عليه حكم ما هو محرر في المادة الرابعة المحررة أعلاه، وهذا لكي يظهروا رفقا القاتل، ثم إن السكينة التي وجدت مع القاتل حين انمسك تبقى عند كاتم السر، لأجل يظهرها في الوقت الذي يلزم.

ثم وعدوا المجلس لصباح تاريخه في الساعة الرابعة قبل الظهر ثم حرروا خط يدهم مع كاتم السر إمضا الوكيل رجنيه، إمضا ريس المعمار برتراند، إمضا رئيس المدافع فاور، إمضا ريس العسكر جوجه، إمضا الجنرال موراند، إمضا الجنرال مارتينه، إمضا دفتردار البحر، وإمضا ساري عسكر روبين، إمضا ساري عسكر رينيه، إمضا كاتم السر «بينه».

إقرار الشهود نهار تاريخه في ستة وعشرين شهر برريال السنة الثامنة من انتشار الجمهور الفرنساوي:

نحن الواضعون أسمانا فيه الدفتردار سارتلون المسمى من حضرة ساري عسكر العام منو أمير الجيوش في وظيفة مبلغ حكم الأمر الذي خرج من طرفه.

أشار القضاة في شرع القاتلين ساري عسكر العام كليبر والسيتوين «بينه» المسمى من القضاة المذكورين في مرتبة كاتم السر إنه حضر بين يدنا «يوسف برين» عسكري خيال من الطبجية الملازمين بيت ساري عسكر العام، وقال لنا هو ورفيقه خيال أيضًا يسمى «روبرت» مسكوا المسلم سليمان المتهوم في غدر ساري عسكر العام، وأنهم وجدوه في الجنينة التي معمول فيها الحمامان الفرنساويان الملتزقان بجنينة ساري عسكر، وأنهم رأوه مخبأً بين حيطان الجنينة المهدودة، وأن الحيطان المذكورة كانت ملغمطة بدم في بعض نواحي، وأن سليمان المذكور كان أيضًا ملغمطًا بدم، وأنهم مسكوه في هذه الحالة وأن بعده التزموا يضربوه بالسيف لأجل يمشوه.

ثم «برين» المذكور قال إن بعد حوشة سليمان بساعة في الموضع ذاته الذي كان مخبأً فيه شاف سكينة بدمها، وأنه سلم السكينة في بيت ساري عسكر العام، فقرينا إليه إقراره هذا، وسألناه هل فيه شي زايد أم ناقص؟ فجاوب أن هذا كل الذي فعله وعاينه.

ثم حرر خط يده معنا، إمضا برين الخيال، إمضا سارتلون، إمضا كاتم السر بينه.

ثم حضر أيضًا بين أيدينا الشاهد الثاني وهو السيتوين روبرت الخيال أحد الطبجية الملازمين، وقال إنه حين كان يفتش على الذي قتل ساري عسكر دخل في الجنينة التي فيها الحمامين الفرنساوية لزق جنينة ساري عسكر العام، وهناك شاف برفقة «برين» المذكور سليمان الحلبي مستخبي في ركن حيطان مهدودة، وكان ملغمط دم، وأن حين مسكوه بان منه وهم، وأن بعد حوشته بساعة شاف برفقة السيتوين برين في الموضع ذاته سكينة بدمها، وأنهم سلموها في بيت ساري عسكر العام، والسكينة المذكورة كانت مخبية تحت الأرض.

فقرانا عليه إقراره هذا، ثم سألناه إن كان ما فيه زايد أم ناقص؟

فجاوب: أن هذا هو الذي فعله وشافه.

ثم حرر خط يده معنا، حرر بمدينة مصر في النهار والشهر والساعة المحررة أعلاه.

إمضا روبرت الخيال، إمضا سارتلون، إمضا كاتم السر «بينه».

أنا الدفتردار سارتلون المبلغ رحت إلى بيت السيتوين بروتاين؛ لأنه كان راقدًا بسبب جروحاته ثم استلمت منه التبليغ الآتي أدناه.

أنا حنا قسطنطين بروتاين المهندس وعضو من أعضاء مدرسة العلم في بر مصر، أنني كنت أتمشور تحت التكعيبة الكبيرة التي في جنينة ساري عسكر وتطل على بركة الأزبكية، وكنت برفقة ساري عسكر العام فنظرت رجلًا لابسًا عثملي خارج من مبتدا التكعيبة من جنب الساقية، فأنا كنت بعيدًا كام خطوة عن ساري عسكر، والتفت لورا فحالًا سمعت صاري عسكر ينده على الغفرا، فانتبهت لأجل أشوف السيرة رأيت أن الرجل المذكور بيضرب ساري عسكر بالسكينة فرحت لأجل أخلصه منه، فالراجل ضربني بالسكينة ذاتها كام مرة، فارتميت على الأرض، وفي الوقت سمعت ساري عسكر يصرخ ثانيًا، فهميت ورحت قريبًا من ساري عسكر فرأيت الرجل يضربه فهو ضربني ثانيًا كام سكينة، التي رمتني وغيبت صوابي، وما عدت نظرت شيًّا، غير أنني أعرف طيب أننا قعدنا مقدار ستة دقايق قبل ما أحد يسعفنا.

فبعده قريت هذا الإقرار على السيتوين بروتاين.

وسألته هل فيه زايد أم ناقص؟

فجاوب: أن هذا الذي فعله وعاينه، ثم حرر خط يده معنا إمضا بروتاين، إمضا سارتلون، إمضا كاتم السر «بينه» والسيتوين بروتاين.

بعد ما ختم الورقة أعلاه قال إن مقصوده يضيف عليها أن بعد غدر ساري عسكر بزمان قليل، حين شاف سليمان الحلبي الذي هو متهوم في غدره وغدر ساري عسكر العام عرفه أنه هو ذاته الذي كان ضرب ساري عسكر، وبعده ضربه سليمان المذكور كام سكينة غيبت صوابه، فقرينا عليه أيضًا هذه الإضافة.

فجاوب: أنها حاوية الحق وما فيها زايد ولا ناقص، ثم ختمها معنا.

إمضا بروتاين، إمضا سارتلون، إمضا كاتم السر «بينه» نهار تاريخه ستة وعشرين في شهر برريال — مايو — السنة الثامنة من انتشار الجمهور الفرنساوي.

أنا الواضع اسمي فيه مبلغ القضاة المأمور في شرع قتلة ساري عسكر العام كليبر، ذهبت إلى مساعدي ساري عسكر المذكور لأجل أن أسمع إقرارهم ثم كان معي كاتم السر «بينه» وهم قالوا لنا كما يذكر أدناه.

السيتوين فورتونه دهوج ابن أربعة وعشرين سنة فسيال في طابور الخيالة ومساعد عند ساري عسكر كليبر، قال: إنه في اليوم الخامس والعشرين من شهر برريال كان مع ساري عسكر العام حين حضر إلى الأزبكية يشوف بيته الذي كان داير فيه العمارة، وأنه شاف رجلًا بعمة خضرا ودلق وحش وكان دايمًا تابع ساري عسكر حين كان داير يتفرج على المحلات.

وأنه هو وخلافه حسبوا هذا الرجل من جملة الفعلة فما أحد سأله، ولكن حين نزل ساري عسكر من بيته إلى الجنينة لأجل ينفذ إلى جنينة ساري عسكر «داماس السيتوين دهوج» شاف الرجل المذكور مدحوش بين جماعة ساري عسكر، فنهره وطرده برًّا فبعد ساعتين حين انغدر ساري عسكر «السيتوين دهوج» المذكور عرف دلق الخاين؛ لأنه كان رماه جنب ساري عسكر، وبعده حين انمسك الرجل فعرفه أنه هو الذي قبل بشوية طرده من الجنينة.

ثم قُرِي هذا المضمون على «السيتوين دهوج» المذكور لأجل بيان هل يوجد شي خلافه يزيد أم ينقص؟

فجاوب: أن هذا الحق حكم ما عاين وفعل، ثم حرر خط يده مع كاتم السر.

تحريرًا في اليوم والشهر والسنة المحررة أعلاه.

إمضا السيتوين دهوج، إمضا سارتلون، إمضا «بينه» كاتم السر.

ثاني فحص سليمان الحلبي.

نهار تاريخه ستة وعشرين من شهر برريال السنة الثامنة من انتشار الجمهور الفرنساوي.

نحن الواضعون أسمانا فيه الدفتردار سارتلون برتيه مبلغ والوكيل «بينه» في رتبة كاتم سر القضاة المنقامين إلى شرع كل من هو متهوم في غدر ساري عسكر العام كليبر، أحضرنا سليمان الحلبي لأجل نسأله من أوله وجديد عن صورة غدر وقتل ساري عسكر، وهذا صار بواسطة «السيتوين براشيوش» كاتم سر وترجمان ساري عسكر العام كما يذكر أدناه.

انسال المذكور عن قصة ساري عسكر؟

فجاوب: أنه حضر من غزة مع قافلة حاملة صابون ودخان، وأنه كان راكب هجين وبحيث إن القافلة كانت خايفة أن تنزل بمصر توجهت إلى ريف يسمى الغيطة في ناحية الألفية، وهناك استكرى حمارًا من واحد فلاح، وحضر لمصر ولكن لم يعرف الفلاح صاحب الحمار.

ثم إن أحمد أغا وياسين أغا من أغوات الينكجرية بحلب وكَّلوه في قتل ساري عسكر العام بسبب أنه يعرف مصر طيب، بحيث إنه سكن فيها سابق ثلاث سنوات، وأنهم كانوا وصوه أنه يروح ويسكن في الجامع الأزهر وأن لا يعطي سره لأحد كليًّا؛ بل يوعى لروحه ويكسب الفرصة في قضا شغله؛ لأنها دعوة تحب السر والنباهة، ثم يعمل كل جهده حتى يقتل ساري عسكر.

لكن حين وصل إلى مصر التزم يسارر الأربعة مشايخ الذين أخبر عنهم؛ لأنه لو كان ما قال لهم فما كانوا يسكنوه في الجامع، أنه كان كل يوم يتحدث معهم في هذا الأمر، وأن المشايخ المذكورين قصدوا يغيروا عقله عن هذا الفعل بقولهم إنه ما يقدر عليه، وهو ما دعاهم لمساعدته لأنه كان يعرفهم بلديين.

وأن اليوم الذي قصد التوجه فيه ليقتل ساري عسكر قابل أحدهم الذي هو محمد الغزي، فعرفه أن مقصوده أن يتوجه إلى الجيزة ليفعل مراده، ثم إنه مضى وحده ليفعل هذا الغدر.

وأن تخمينه أنه مثل المجنون من حين أراد أن يقضي هذا الأمر؛ لأنه لو كان له عقل ما حضر من غزة لهذا الأمر.

وأن الأوراق الذين وضعهم في الجامع هم بعض آيات من القرآن؛ لأنه عوايد الكتبة أولاد العرب يوضعوا ذلك في الجامع.

وأنه ما أخذ دراهم من أحد في مصر؛ لأن الأغوات كانوا أعطوا له كفايته.

وأن الأفندي الذي كان يروح يقرا عنده يسمى مصطفى أفندي، وكان يقرا عليه نهار الاثنين والخميس تبع العادة، ولكن ما أخبره بسر خوفًا أن ينشهر.

وأما من قبل الأربعة مشايخ المذكورين صحيح أنه كان قال لهم كل شي؛ لأنهم من أولاد بلاده ثم حقق لهم أنه ناوي أن يغازي في سبيل الله.

انسال أين كان هو حين رجع الوزير من بر مصر في ابتدا شهر جرمنيال (مارس) الموافق لشهر الإسلام ذي القعدة؟

فجاوب: أنه كان في القدس حاجج من حين كان الوزير أخذ العريش.

انسال أين شاف أحمد أغا الذي يقول إنه عرض عليه مادة قتل ساري عسكر، وفي أي يوم قال له ذلك؟

فجاوب: أنه حين انكسر الوزير رجع إلى العريش وغزة في أواخر شهر شوال أو في أوايل شهر ذي القعدة الموافق لشهر جرمنيال الفرنساوي، وأن أحمد أغا المذكور هو من جملة أغوات الوزير، ولكن كان رسم عليه في غزة من حين أخذ العريش، وحين رجع أرسله إلى القدس في بيت المتسلم، ثم إنه يوم وصوله توجه سلم عليه في بيت المتسلم وشكا له من إبراهيم باشا متسلم حلب الذي كان يظلم أباه الذي يسمى الحاج محمد أمين بياع سمن وحططوه غرامات زايدة، ومن الجملة واحدة قبل سفر الوزير من الشام، ثم وقع في عرضه بشأن ذلك.

ثم إنه رجع عند أحمد أغا ثاني يوم وأن الأغا وقتها قال له إنه محب إبراهيم باشا، وأنه ما يقصر ويوصيه في راحة أبيه، ولكن بشرط أنه يروح يقتل أمير الجيوش الفرنساوية.

ثم في ثالث ورابع يوم كرر عليه أيضًا هذا السؤال، وحالًا أرسله إلى ياسين أغا في غزة لأجل أن يعطي له مصروفه.

وأنه من بعد هذا الكلام بأربعة أيام سافر من القدس إلى الخليل، وهناك قعد كام يوم وما وصله ولا مكتوب من أحمد أغا، وأما أحمد أغا المذكور كان أرسل خدامًا إلى غزة لأجل يخبر ياسين أغا بالذي اتفقوا عليه.

انسال كام يوم قعد في الخليل؟

فجاوب: عشرين يومًا.

انسال لأي سبب قعد عشرين يومًا في الخليل، وهل في هذه المدة ما وصله مكاتيب من الاثنين الأغوات؟

فجاوب: أن السكة كانت ملآنة عرب وأنه خايف منهم، فالتزم يستنظر سفر القافلة التي سافر برفقتها، وأنه كان في غزة في أواخر شهر ذي القعدة الموافق لغرة شهر فلوريال الفرنساوي.

انسال إيش عمل في غزة وإيش قال له ياسين أغا؟

فجاوب: أن ثاني يوم وصوله راح شاف الأغا، والمذكور قال له إنه يعرف الشغل الذي هو سبب مشواره، هذا وأنه أسكنه في الجامع الكبير، وهناك أمرار عديدة كان يروح يشوفه ليلًا ونهارًا، ويتحدث معه في هذا الأمر ووعده أنه يرفع الغرايم عن أبيه، وأنه دايمًا يجعل نظره عليه في كل ما يلزمه، ثم بلغه عن كل الذي كان لازم يفعله كما شرح أعلاه، وهذا صار سرًّا بينهم، ثم أعطى له أربعين قرشًا لمصروف السفر، وبعد عشرة أيام سافر من غزة راكبًا هجينًا ووصل هنا بعد ستة أيام كما عرف سابقًا، وأن سفره من غزة كان في أوايل شهر ذي الحجة الموافق لنصف شهر فلوريال الفرنساوي، فبقى باين أنه حين غدر ساري عسكر كان له واحد وثلاثون يومًا في مدينة مصر.

انسال هل يعرف الخنجر الملغمط دم الذي قتل به ساري عسكر؟

فجاوب: نعم يعرفه، وأن هذا هو بداية الذي قتل به ساري عسكر.

انسال من أين أحضر هذا الخنجر؟ وهل أحد من الأغوات أعطاه له أم أحد خلافهم؟

فجاوب: أنه ما أحد أعطاه له، وإنما بحيث إنه كان قاصد قتل ساري عسكر توجه إلى سوق غزة واشترى أول سلاح شافه.

انسال هل أن أحمد أغا أو ياسين أغا ما حدثاه أصلاه عن الوزير، وعشموه بشي من طرفه إن كان يقدر يقتل ساري عسكر؟

فجاوب: لا بل أنهم ذاتهم وعدوه أنهم يساعدوه في كل ما يلزمه إن كان يخرج هذا الشي من يده.

انسال هل إن الوزير نادى في تلك النواحي بقتل الفرنساوية؟

فجاوب: أنه لا يعلم بل يعرف أن الوزير كان أرسل طاهر باشا لأجل يعين الذين كانوا بمصر وأنه رجع حين شاف العثملي مقبلين لبر الشام من مصر.

انسال هل هو فقط الذي توكل في هذه الإرسالية؟

فجاوب: أن تخمينه هكذا؛ لأن هذا الكلام قد حصل سرًّا ما بينه وبين الأغوات.

انسال كيف كان يعمل حتى إنه كان يعرف الأغوات بالذي فعله؟

فجاوب: أنه كان قصده يروح هو بنفسه يخبرهم أو يرسل لهم حالًا ساعي.

فبعد خلاص الفحص المذكور انقرا على المتهوم، وهو حرر خط يده مع المبلغ وكاتم السر والترجمان.

حرر بمصر في اليوم والشهر والسنة المحررة أعلاه.

إمضا سليمان الحلبي بالعربي، إمضا كاتم السر «بينه».

مقابلة المتهمين مع بعضهم.

نهار تاريخه ستة وعشرين من شهر برريال السنة الثامنة من انتشار الجمهور الفرنساوي.

أنا الواضع اسمي فيه مبلغ القضاة المنقامين لشرع كل من هو متهوم في قتل ساري عسكر العام كليبر، أحضرنا الشيخ محمد الغزي لأجل نجدد فحصه ونقابله مع سليمان الحلبي قاتل ساري عسكر؛ ولهذا كان موجود معنا السيتوين بينه كاتم سر القضاة المذكورين، وصار كما يذكر أدناه.

انسال الشيخ محمد الغزي هل يعرف سليمان الحلبي الموجود ههنا؟

فجاوب: نعم.

انسال سليمان الحلبي هل يعرف الشيخ محمد الغزي الموجود هنا؟

فجاوب: نعم.

انسال محمد الغزي هل أن سليمان الحلبي ما قال له من قيمة واحد وثلاثين يومًا أنه حضر من بر الشام من طرف أحمد أغا وياسين أغا لأجل يقتل ساري عسكر العام، وهو كل يوم ما حدثه في هذا الشغل حتى إنه في آخر يوم قال له إنه رايح إلى الجيزة حتى يغدر ساري عسكر؟

فجاوب: أن هذا ما له أصل، لكن حين شافوا بعضًا وقع بينهم سلام فقط، ومن قبل آخر يوم الذي فيه سليمان نوى على الرواح إلى الجيزة جاب له ورق وحبر، وقال له إنه ما يرجع إلا غدًا.

فقيل له: إنه ما يخبر بالصحيح؛ لأن سليمان يحقق أنه أخبره بهذه السيرة كل يوم، وأن عشية قبل غدر ساري عسكر كان قال له أنه رايح لقضا هذا الأمر؟

فجاوب: أن هذا الرجل يكذب.

انسال هل كان يروح مرارًا عديدة يبات عند الشيخ الشرقاوي، وهل له في الأيام الأخيرة ما راح بات عنده؟

فجاوب: أن من حين دخول الفرنساوية ما راح أبدًا بات عنده، وأما قبل دخول الفرنساوية كان يبيت عنده بعض مرار.

فقيل له: إنه ما يحكي الصحيح؛ لأن في فحص أمس قال إنه كان يروح مرارًا عديدة يبيت عند الشيخ الشرقاوي.

فجاوب: أنه ما قال ذلك.

انسال سليمان الحلبي هل يقدر يثبت على الشيخ محمد الحاضر بأنه كل يوم كان يخبره على نيته في قتل ساري عسكر، وخصوصًا عشية النهار الذي صباحه صار القتل؟

فجاوب: نعم وأنه ما قال إلا الصحيح.

وأن الشيخ محمد الغزي ما كان يقر بالحق، أمرنا بضربه كعادة البلد، فحالًا انضرب لحد أنه طلب العفو، ووعد أنه يحكي على كل شي فارتفع عنه الضرب.

انسال هل سليمان أخبره على ضميره في قتل ساري عسكر؟

فجاوب: أن سليمان كان قال له إنه حضر من غزة لأجل أنه يغازي في سبيل الله بقتل الكفرة الفرنساوية، وأنه منعه عن ذلك بقوله إنه يحصل له من ذلك ضرر وما عرفه أن مراده يغدر ساري عسكر إلا الليلة التي راح فيها إلى الجيزة وصباحها قتله.

انسال لأي سبب ما حضر أخبرنا على سليمان المذكور؟

فجاوب: أنه أبدًا ما كان يصدق أن واحدًا مثل هذا يقدر على قتل ساري عسكر الذي الوزير بذاته ما قدر عليه.

انسال هل أخبر بالذي قال له عليه سليمان لأحد من المدينة وخصوصًا إلى الشيخ الشرقاوي؟

فجاوب: أنه ما أخبر أحدًا بذلك، وحتى إذا وضعوه تحت القتل ما يقول بذلك.

انسال هل يعرف أحدًا خلاف سليمان حضر لأجل غدر الفرنساوية وأين هم قاعدين؟

فجاوب: أنه ما يعرف وأن سليمان ما قال له على أحد.

انسال سليمان المذكور أنه يشهر رفقاه أي يذكر رفقاه في الجريمة.

فجاوب: أنه لم يعرف أحدًا في مصر، وأن تخمينه ما فيه غيره الذي قاصد قتله الفرنساوية.

فبعد هذا صرفنا محمد الغزي المذكور لحبسه، وأبقينا سليمان لأجل نقابله مع السيد أحمد الوالي الذي حالًا أحضرناه لأجل ذلك.

انسال هل يعرف سليمان الحلبي الموجود ههنا؟

فجاوب: نعم.

انسال أيضًا سليمان هل يعرف السيد أحمد الوالي الموجود ههنا؟

فجاوب هو أيضًا: نعم.

انسال السيد أحمد الوالي هل أن سليمان ما أخبره على نيته في قتل ساري عسكر، وخصوصًا في العشية التي قصد بها التوجه لذلك؟

فجاوب: أن سليمان حين وصل من مدة ثلاثين يومًا كان قال له إنه حضر حتى يغازي في الكفرة، وأنه نصحه عن ذلك بقوله: إن هذا شي غير مناسب، وما أخبره على سيرة ساري عسكر.

انسال سليمان المذكور أنه يبين هل حدثه أحمد الوالي في قتل ساري عسكر وكم يوم له ما حدثه؟

فجاوب: أن في أوايل وصوله قال له: إنه حضر بقصد الغزو في الكفار، وأن السيد أحمد ما رضي له بذلك، ثم بعد ستة أيام أخبره على نيته في قتل ساري عسكر، ومن بعد ما عاد حدثه بذلك، وقبل الغدر بأربعة أيام ما كان قابله.

فقيل للسيد أحمد الوالي: إنه لم يصدق في قوله؛ لأنه ينكر أن سليمان ما أخبره بأنه كان ناوي يقتل ساري عسكر.

فجاوب: الآن لما فكره سليمان افتكر أنه أخبره.

انسال لأي سبب ما أشهر سليمان المذكور؟

فجاوب: أنه ما أشهره لسببين: الأول: أنه كان يخمن أنه يكذب.

والثاني: ما كان مستعنيه في فعل مادة مثل هذه.

انسال هل سليمان ما عرفه برفقاه، وهل هو ما تحدث مع أحد بذلك وخصوصًا مع شيخ الجامع الذي هو ملزوم يخبره بكل ما يجري؟

فجاوب: أن سليمان ما قال له على رفقاه، وهو ما أخبر بذلك أحدًا ولا أيضًا شيخ الجامع.

انسال هل يعرف الأمر الذي خرج من ساري عسكر العام بأن كل من شاف عثملي في البلد يخبر عنه؟

فجاوب: أنه ما درى بذلك.

انسال هل سكن سليمان بالجامع لسبب أنه قال له على مراده في قتل ساري عسكر؟

فجاوب: لا؛ لأن كل أهل الإسلام تقدر تسكن في الجامع.

انسال سليمان هل إنه ما قال بأنهم ما كانوا يريدوا يسكنوه لولا أنه قال لهم على سبب مجيه لمصر؟

فجاوب: أن كامل الغربا لازم يخبروا عن سبب حضورهم، وأما هو يقول الحق إن ما أحد من المشايخ ارتضى على مقصوده.

فبعد هذا أرسلنا السيد أحمد الوالي إلى حبسه، وبقي سليمان الحلبي لأجل مقابلة السيد عبد الله الغزي الذي أحضرناه في الحال.

انسال سليمان هل يعرف السيد عبد الله الغزي الموجود ههنا؟

فجاوب: نعم.

انسال السيد عبد الله الغزي هل يعرف سليمان الموجود ههنا؟

فجاوب: نعم.

انسال السيد عبد الله الغزي هل ما بلغه نية سليمان في قتل ساري عسكر؟

فجاوب وأقر أن يوم حضور سليمان عرفه أنه حضر يغازي في الكفرة، وأنه مراده يقتل ساري عسكر وأنه قصد يمنعه عن ذلك.

انسال لأي سبب ما شكاه؟

فجاوب: أنه كان يظن أن سليمان المذكور يتوجه عند المشايخ الكبار، وأن المذكورين يمنعوه، ولكن من الآن صار يخبر بالذين يحضرون بهذه النية.

انسال هل يعرف أن سليمان أخبر أحدًا خلافه في مصر؟

فجاوب: أن ما عنده علم بذلك.

انسال هل يعرف أنه موجود بمصر ناس خلاف سليمان متوكلين في قتل الفرنساوية؟

فجاوب: أن ما عنده خبر وأن تخمينه لم يوجد أحد.

فبعد ذلك انقرا هذا الفحص على الأربعة المتهومين وهم: سليمان الحلبي، ومحمد الغزي، والسيد أحمد الوالي، والسيد عبد الله الغزي.

وسألوهم هل جواباتهم هذه صحيحة ولا فيها زايد ولا ناقص؟

فأربعتهم جاوبوا: لا.

ثم حرروا خط يدهم معنا بالعربي برفقة الاثنين المترجمين وكاتم السر.

حرر بمدينة مصر في اليوم والشهر والسنة المحررة أعلاه، إمضا المتهومين بالعربي، إمضا الترجمان لوماكا، إمضا دميان سومر براشويش كاتم السر وترجمان ساري عسكر العام، إمضا المبلغ سارتلون، إمضا كاتم السر «بينه».

بعد خلاص الفحص المشروح أعلاه أنا المبلغ سارتلون، سألت الأربعة المتهومين المذكورين أنهم يختاروا لهم واحد ليتكلم عنهم قدام القضاة ويحامي عنهم، والمذكورون قالوا: إن ما هم عارفون من يختاروا فأورينا لهم الترجمان لوماكا لأجل يمشي لهم في ذلك.

حرر بمصر في اليوم والشهر والسنة المحررة أعلاه.

إمضة سارتلون، إمضة كاتم السر بينه.

بيان فحص مصطفى أفندي

نهار تاريخه ستة وعشرين شهر برريال السنة الثامنة من انتشار الجمهور الفرنساوي.

أنا المبلغ سارتلون وبينه كاتم سر القضاة المنتشرين لشرع كل من كان له جرة في قتل ساري عسكر العام كليبر أحضرنا مصطفى أفندي لكي نفحص منه على الذي قد حصل.

انسال عن اسمه وعمره ومسكنه وصنعته؟

فجاوب: بأنه يسمى مصطفى أفندي، ولادة برصة في بر أناضول، وعمره واحد وثمانون سنة، وساكن في مصر، ثم صنعته معلم كتاب.

انسال هل من مدة شهر شاف سليمان الحلبي؟

فجاوب: أن هذا الرجل مشدوده من مدة ثلاث سنين، وأنه من مدة عشرة أو عشرين يومًا حضر عنده وبات ليلة، ومن حيث إنه رجل فقير قال له يروح يفتش له على محل غيره.

انسال هل سليمان المذكور ما أخبره أنه حضر من بر الشام حتى يقتل ساري عسكر العام؟

فجاوب: لا بل حضر عنده ليسلم عليه فقط؛ لكونه معلمه من قديم.

انسال هل سليمان ما عرفه عن سبب حضوره لهذا الطرف، وهل هو نفسه ما استخبر عن ذلك؟

فجاوب: أن كل اجتهاده كان في أنه يصرفه من عنده بحيث إنه رجل فقير بل سأله عن سبب حضوره، فأخبره لأجل يتقن القراة.

انسال هل يعرف بأن سليمان راح عند ناس من البلد، وخصوصًا عند أحد من المشايخ الكبار؟

فجاوب: أنه لا يعرف شيًّا؛ لأنه ما شافه إلا قليلًا وأنه لم يقدر يخرج كثيرًا من بيته بسبب ضعفه وكبره.

انسال هل أنه ما يعلم القرآن إلا لمشاديده؟

فجاوب: نعم.

انسال هل أن القرآن يرضى بالمغازاة ويأمر بقتل الكفرة؟

فجاوب: أنه ما يعرف إيش هي المغازاة التي القرآن ينبي عنها.

انسال هل يعلم مشاديده هذه الأشيا؟

فجاوب: واحد اختيار مثله ما له دعوة في هذه الأشيا، بل إنه يعرف أن القرآن ينبي عن المغازة وأن كل من قتل كافرًا يكسب أجرًا.

انسال هل علَّم هذا الغرض لسليمان؟

فجاوب: أنه ما علَّمه إلا الكتابة فقط.

انسال هل عنده خبر أن أمس تاريخه رجل مسلم قتل ساري عسكر الفرنساوية الذي ما هو من ملته، وهل بموجب تعليم القرآن هذا الرجل فعل طيب ومقبول عند النبي محمد؟

فجاوب: أن القاتل يقتل، وأما هو يظن أن شرف الفرنساوية هو من شرف الإسلام، وإذا كان القرآن يقول غيره شيًّا هو ما له علاقة.

فحالًا قدمنا سليمان المذكور وقابلناه بمصطفى أفندي.

ثم سألناه هل شاف مصطفى أفندي مرارًا كثيرة، وهل بلغه عن نيته؟

فجاوب: أنه ما شافه سوى مرة واحدة لأجل أنه يسلم عليه بحيث أنه معلمه القديم، وبما أنه رجل اختيار وضعيف قوي ما رأى مناسب يخبره عن ضميره.

انسال هل هو من ملة المغازين، وهل أن المشايخ سمحوا له في قتل الكفار في مصر ليكتب له أجر ويقبل عند النبي محمد؟

فجاوب: أنه ما فتح سيرة المغازاة إلا إلى الأربعة مشايخ فقط الذين سماهم.

انسال هل أنه ما تحدث مع الشيخ الشرقاوي؟

فجاوب: أنه ما شاف هذا الشيخ؛ لأنه ما هو من ملته بسبب أن الشيخ الشرقاوي شافعي وهو حنفي.

فبعد هذا قرينا على سليمان ومصطفى أفندي إقرارهم هذا، فجاوبوا أن هذا هو الحق وما عندهم ما يزيدوا ولا ينقصوا، ثم حرروا خط يدهم برفقة الترجمان ونحن.

حرر بمصر في اليوم والشهر والسنة المحررة أعلاه، إمضا لوماكا الترجمان، إمضا سارتلون إمضا كاتم السر بينه.

هذه الرواية المنقولة في اليوم السابع والعشرين من شهر برريال السنة الثامنة من إقامة الجمهور الفرنساوي عن الوكيل سارتلون بحضور مجمع القضاة المفوضين لمحاكمة قاتل ساري عسكر العام كليبر، وأيضًا لمحاكمة شركا القاتل المذكور.

يا أيها القضاة إن المناحة العامة والحزن العظيم الذي نحن مشتملون بهما الآن يخبران بعظم الخسران الذي حصل الآن بعسكرنا؛ لأن ساري عسكرنا في وسط نصراته ومماجده ارتفع بغتة من بيننا بحديد قاتل رذيل، ومن يد مستأجره من كبرا ذوي الخيانة والغيرة الخبيثة، والآن أنا معين ومأمور لاستدعا الانتقام للمقتول، وذلك بموجب الشريعة، من القاتل المسفور وشركاه كمثل أشنع المخلوقات، لكن دعوني ولو لحظة خالطًا فيض دموع عيني وحسراتي بدموعكم ولوعاتكم التي سببها هذا المفدَّى الأسيف والمكرم المنيف، فقلبي احتسب جدًّا اهتياجه لتأدية تلك الجزية لمستحقها، فوظيفتي كأنها ليست في الرؤية إلا ألمًا بتغريق المهيب بماء هذه المصنوعة الشنيعة التي بوقوعها ارتبكت، سمعتم الآن قراءة إعلام وفحص المتهمين وباقي المكتوبات عما جرى منهم، وقط ما ظهر سيئة أظهر من هذه السيئة التي أنتم محاكمون فيها من صفة الغدارين ببيان الشهود وإقرار القاتل وشركاه، والحاصل كل شي متحد ورامي الضيا المهيب لمناورة ذا القتل الكريه، إني أنا راوي لكم سرعة الأعمال جاهد نفسي إن ظفرت لمنع غضبي منهم منها، فلتعلم بلاد الروم والدنيا بكمالها أن الوزير الأعظم سلطنة العثمانية وروسا جنود عسكرها رذلوا أنفسهم حتى أرسلوا قاتل معدوم العرض إلى الجريء والأنجب كليبر الذي لا استطاعوا بتقهيره، وكذلك ضموا إلى عيوب مغلوبيتهم المجرم الظالم بالذي ترأسوا قبل السما والأرض، تذكروا جملتكم تلك الثول العثمانية المحاربين من إسلامبول ومن أقاصي أرض الروم وأناضول واصلين منذ ثلاثة شهور بواسطة الوزير لتسخير وضبط بر مصر وطالبين تخليتها بموجب الشروط الذي بمتفقهم بذاتهم مانعوا إجراهم، والوزير أغرق بر مصر وبر الشام بمناداته مستدعي بها قتل عام الفرنساوية، وعلى الخصوص هو عطشان لانتقامه لقتل سر عسكرهم.

وفي لحظة الذين هم أهالي مصر محتفين بأغويات الوزير كانوا محرومين شفقات ومكارم نصيرهم، وفي دقيقة الذين هم أسارى ومجروحين العثملية هم مقبولون ومرعيين في دور ضيوفنا وضعفانا، تقيد الوزير بكل وجوه بتكميل سو غفارته تلوه منذ زمان طويل.

واستخدم لذلك أغا مغضوبًا منه ووعد له إعادة لطفه، وحفظ رأسه الذي كان بالخطر إن كان يرتضي بذات الصنع الشنيع.

وهذا المغوي هو أحمد المحبوس بغزة منذ ما ضبط العريش، وذهب للقدس بعد انهزام الوزير في أوايل شهر جرمينال الماضي والأغا المرقوم محبوس هناك بدار متسلم البلد وفي ذلك الملجأ، فهو مفتكر بإجرا السو الخبيث الذي يستثقل التقدير لا فهيم ولا معه تدبير سيما هو عامل شي لإجرا انتقام الوزير.

وسليمان الحلبي شب مجنون وعمره أربعة وعشرون سنة، وقد كان بلا ريب متدنس بالخطايا، ظهر عند ذا الأغا يوم وصوله القدس، ويترجى صيانته لحراسة أبيه تاجر بحلب من أذيَّات إبراهيم باشا والي حلب، يرجع له سليمان يوم غدره، فقد كان استفتش الأغا عن احتيال أصل وفصل ذا الشب المجنون، وعلم أنه مشتغل بجامع بين قراء القرآن وأنه هو الآن بالقدس للزيارة وأنه حج سابقًا بالحرمين، وأن العَتَة النسكي هو منصوب في أعلى رأسه المضطرب من زيغاته وجهالاته بكمالة إسلامه وباعتماده أن المسمى منه جهاد هو تهليك غير المؤمنين، فمما أنهى وأيقن أن هذا هو الإيمان.

ومن ذلك الآن ما بقي تردد أحمد أغا في بيان ما نوى منه فوعد له حمايته وإنعامه، وفي الحال أرسله إلى ياسين أغا ضابط مقدار من جيوش الوزير بغزة، وبعثه بعد أيام لمعاملته وأقبضه الدراهم اللازمة له.

وسليمان قد امتلا من خباثته وسلك بالطرق، فمكث واحدًا وعشرين يومًا في بلد الخليل بحبرون منتظرًا فيه قافلة لذهاب البادية وكل مستعجل.

ووصل غزة في أوايل شهر فلوريال الماضي وياسين أغا سكنه بالجامع لاستخدام غيرته والمجنون وتواجهه مرارًا وتكرارًا بالنهار والليل مدة عشرة أيام مكثه بغزة يعلمه، وبعدما أعطاه أربعين قرشًا أسديًّا ركبه بعقيبة الهجين الذي وصل مصر بعد ستة أيام، وممتن بخنجر دخل بأواسط شهرنا فلوريال إلى مصر التي قد سكنها سابقًا ثلاث سنين، وسكن بموجب تربياته بالجامع الكبير، ويتحضر فيه للسيئة التي هو مبعوث لها.

ويستدعي الرب تعالى بالمناداة وكتب المناجاة وتعليقها بالسور مكانه بالجامع المذكور أعلاه، وتأنس مع الأربعة مشايخ الذين قروا القرآن مثله وهم مثله مولودين ببر الشام وسليمان أخبرهم بسبب مراسلته، وكان كل ساعة معهم متامرين به لكن ممنوعين بصعبة ومخطرات المواجدة الواحدة، وهم: محمد الغزي والسيد أحمد الوالي وعبد الله الغزي وعبد القادر الغزي هم معتمدين سليمان بارتهان ما نواه ولا عاملوا شي لممانعته أو لبيانه، وعن مداومة سكوتهم به صاروا مسامحين ومشتركين في قبحه.

القاتل هو منتظر واحد وثلاثين يوم معدودة بمصر فعقبه جَزَم توجهه إلى الجيزة، وبذاك اليوم اعتمد سره إلى الشركا المذكورين أعلاه، وكان كل شي صار مسهل جرم القاتل بمصنوعته الشنيعة.

وبيوم الغدرة طلع السر عسكر من الجيزة متوجهًا مصر، وسليمان طوى الطرق ولحقه هلقدر حتى لزم أن يطردوه مرارًا مختلفة لكن هو المكار عقيب غدار تعداه.

وفي يوم الخامس والعشرين من شهرنا الجاري، وصل واختفى في جنينة السر عسكر لتقبيل يده، فالسر عسكر لا أبى عن قيافة فقره، وفي حال ما السر عسكر ترك له يده ضربه سليمان بخنجره ثلاثة جروح، وقصد الستوين بروتاين الذي هو ريس المعمار ومصاحب العرفا وجاهد لحماية السر عسكر لكن ما نفع جسارته، فهو بذاته وقع أيضًا مجروحًا عن يد القاتل المسفور بستة جروحات، وبقى لا مستطيع شي وهكذا وقع بلا صيانة، وهو الذي كان من الأماجد في الحرب ومخاطرات الغزا، وهو أول الذين مضوا برياسة عسكر دولة الجمهور الفرنساوي المنصور الرهن الرهين، وهو فتح ثانيًا بر مصر حينئذ بهجوم سحايب من العثمانية، فكيف اقتدر واضم الوجع العميق الجملة إلى دموع الأجناد إلى لوعات الرويسا وجميع الجنرالية أصحابه بالمجاهدة والمماجدة بالمناحة وموالهة العسكر، أنتم جميعًا تنعوه والمحاسنات تستاهله وتنبغي له، والقاتل سليمان ما قدر يهرب من مغاشاة الجيوش غَضُوبين له، والدم ظاهر في ثيابه وخنجره واضطرابه ووحشة وجهه وحاله كشفوا جرمه، وهو بالذات مقر بذنبه بلسانه ومسمي شركاه، وهو كمادح نفسه للقتل الكريه صنع يديه وهو مستريح بجواباته للمسايل، وينظر محاضر سياسات عذابه بعين رفيعة، والرفاهية هي الثمر المحصول من العصمة والتفاوه، فكيف تظهر بوجوه الآثمين ومسامحينهم، وشركا سليمان الأثيم كانوا مرتهنين سره للقتل الذي حصل من غفلتهم وسكوتهم قالوا باطلًا إنهم ما صدقوا سليمان هو مستعد بذا الإثم، وقالوا باطلًا أيضًا أن لو كانوا صدقوا ذا المجنون كانوا في الحال شايعين خيانته، لكن الأعمال شهود تزور وتنبي أنهم قابلوا القاتل، وما غيروا له نية إلا خوف مهلكتهم ومصممين تهلكة غيرهم ولا هم مستعذرين وجهًا من الوجوه.

لا أحكي لكم شيًّا عن مصطفى أفندي بما أن لا ظهر شي عند ذاك الشيب يثبت معاقرته بشكل العذاب اللايق للمذنبين هو تحت اصطفاكم بموجب الأمر من الذي أنتم مأمورون بعقيبه لمحاكمة السيئين، وأظن أن يليق أن تصنعوا لهم من العذابات العادية ببلاد مصر، ولكن عظمة الإثم تستدعي أن يصير عذابه مهيبًا، فإن سألتموني أجبت أنه يستحق الخوزقة، وإن قبل كل شي تحرق يد ذا الرجل الأثيم وأنه هو يموت بإعذابه، ويبقى جسده لمأكول الطيور.

وبجهة المسامحين له يستحقون الموت لكن بغير عقوبة كما قلت لكم، ونبهت فليعلم الوزير والعثملية الظالمين تحت أمره حد جزا الآثمين الذين ارتكبوا بقصد انتقامهم لعدم المروة أنهم عدموا من عسكرنا واحد مقدام سبب دايم دموعنا ولوعتنا الأبدية، فلا يحسبوا ولا يأملوا بإقلال جزانا إنما خليفة السر عسكر المرحوم هو رجل قد شهر شجاعة ومضى قدمًا بصفا ضمير منير، وهو مشار إليه بالبنان لمعرفته بتدبير الجنود والجمهور المنصور وهو يهدينا بالنصرة، وأما أوليك المعدومين القلب والعرض فلا احمرت وجوههم بانتقامهم وانهزامهم باقٍ ثم عدم اعتبارهم بالتواريخ لأبدانهم باقين بالرذالة لا نفع لهم قدام العالم إلا اكتساب خجالتهم.

وعلى المبالاة حالًا كشفتها لكم أثبت محاكمات كما يأتي بيانها:
  • أولًا: أن سليمان الحلبي مثبت اسمه الكريه بقتل السر عسكر كليبر؛ فلهذا هو يكون مدحوض بتحريق يده اليمنى، وبتخزيقه حتى يموت فوق خازوقه وجيفته باقية فيه لمأكولات الطيور.
  • ثانيًا: أن الثلاثة مشايخ المسمين محمد الغزي وعبد الله الغزي وأحمد الغزي يكونون متبينين منكم أنهم شركا لهذا القاتل؛ فلذلك يكونون مدحوضين بقطع روسهم.
  • ثالثًا: أن الشيخ عبد القادر الغزي يكون مدحوضًا بذلك العذاب.
  • رابعًا: أن إجرا عذابهم يصير بعودة المجتمعين لتدفين السر عسكر وأمام العسكر، وناس البلد لذاك الفعل موجودون فيه.
  • خامسًا: أن مصطفى أفندي تبين غير مثبوت مسامحته وهو مطلوق إلى ما نوى.
  • سادسًا: أن ذا الإعلام وبيناته وما جرى يطبع في خمس نسخ ويُؤوَّل من لسان الفرنساوي بالعربي والتركي لتلزيقها بمحلات بلاد بر مصر بكمالها بموجب المأمور.

حرر بمصر القاهرة في اليوم السابع وعشرين من شهرنا برريال سنة ثمانية من إقامة الجمهور المنصور.

ممضي سارتلون

الفتوى الخارجة من طرف ديوان القضاة المنتشرين بأمر ساري عسكر العام منو أمير الجيوش الفرنساوية في مصر لأجل شرعية كل من له جرة في غدر وقتل ساري عسكر العام كليبر.

في السنة الثامنة من انتشار الجمهور الفرنساوي، وفي اليوم السابع والعشرين من شهر برريال اجتمعوا في بيت ساري عسكر رينيه المذكور وساري عسكر روبين ودفتردار البحر لرو، والجنرال مارتينه والجنرال مورانه وريس العسكر جوجة وريس المدافع فاور وريس المعمار برترنه، والوكيل رجينه، والدفتردار سارتلون في رتبة مبلغ، والوكيل لبهر في رتبة وكيل الجمهور، والوكيل بينه في رتبة كاتم السر، وهذا ما صار حكم أمر ساري عسكر العام منو أمير الجيوش الفرنساوية الذي صدر أمس وأقام القضاة المذكورين لكي يشرعوا على الذي قتل ساري عسكر العام كليبر في اليوم الخامس والعشرين من الشهر ولكي يحكموا عليه بمعرفتهم.

فحين اجتمعوا القضاة المذكورون وساري عسكر رينيه الذي هو شيخهم أمر بقراءة الأمر المذكور أعلاه الخارج من يد ساري عسكر منو، ثم بعده المبلغ قرا كامل الفحص والتفتيش الذي صدر منه في حق المتهومين وهم: سليمان الحلبي والسيد عبد القادر الغزي ومحمد الغزي وعبد الله الغزي وأحمد الوالي ومصطفى أفندي.

فبعد قراءة ذلك أمر ساري عسكر رينيه بحضور المتهومين المذكورين قدام القضاة وهم من غير قيد ولا رباط بحضور وكيلهم والأبواب مفتحة قدام كامل الموجودين فحين حضروا ساري عسكر رينيه وكامل القضاة سألوهم جملة سؤالات وهذا بواسطة الخواجا براشويش الترجمان، فهم ما جاوبوا إلا بالذي كانوا قالوه حين انفحصوا، فساري عسكر رينيه سألهم أيضًا إن كان مرادهم يقولوا شي مناسب لتبريتهم، فما جاوبوه بشي، فحالًا ساري عسكر المذكور أمر بردهم إلى الحبس مع الغفرا عليهم.

ثم إن ساري عسكر رينيه التفت إلى القضاة، وسألهم إيش رأيهم في عدم حديث المتهومين، وأمر بخروج كامل الناس من الديوان وقفل المحل عليهم لأجل يستشاروا بعضهم من غير أن أحدًا يسمعهم.

ثم انوضع أول سؤال، وقال: سليمان الحلبي ابن أربع وعشرين سنة وساكن بحلب، متهوم بقتل ساري عسكر العام وجرح السيتوين بروتاين المهندس، وهذا صار في جنينة ساري عسكر العام في خمسة وعشرين من الشهر الجاري، فهل هو مذنب؟

فالقضاة المذكورون ردوا كل واحد منهم لوحده، والجميع بقول واحد: إن سليمان الحلبي مذنب.

السؤال الثاني: السيد عبد القادر الغزي مقري قرآن في الجامع الأزهر، ولادة غزة وساكن في مصر، متهوم أنه بلغه بالسر في غدر ساري عسكر العام وما بلغ ذلك وقصد الهروب، فهل هو مذنب؟

فالقضاة جاوبوا تمامًا: إنه مذنب.

ثم وضع السؤال الثالث، وقال: محمد الغزي ابن خمس وعشرين سنة، ولادة غزة وساكن في مصر، مقري قرآن في الجامع الأزهر، متهوم أنه بلغه بالسر في غدر ساري عسكر، وأنه حين ذلك الغادر كان نوى الرواح لقضا فعله بلغه أيضًا، وهو ما عرف أحدًا بذلك، فهل هو مذنب؟

فالقضاة جاوبوا تمامًا: إنه مذنب.

السؤال الرابع: عبد الله الغزي ابن ثلاثين سنة، ولادة غزة، ومقري قرآن في الجامع الأزهر، متهوم أنه كان يعرف في غدر ساري عسكر، وأنه ما بلغ أحدًا بذلك، فهل هو مذنب؟

فالقضاة جاوبوا تمامًا: إنه مذنب.

السؤال الخامس: أحمد الوالي ولادة غزة، مقري قرآن في جامع الأزهر، متهوم أن عنده خبر في غدر ساري عسكر، وأنه ما بلغ أحدًا بذلك، فهل هو مذنب؟

فالقضاة جاوبوا تمامًا: إنه مذنب.

السؤال السادس: مصطفى أفندي ولادة برصة في بر أناضول، عمره واحد وثمانون سنة، ساكن في مصر، معلم كتاب، ما عنده خبر بغدر ساري عسكر، فهل هو مذنب؟

فالقضاة تمامًا جاوبوا بأنه غير مذنب، وأمروا بإطلاقه.

فبعد ذلك القاضي وكيل الجمهور طلب أنهم يفتوا بالموت على المذنبين أعلاه، فالقضاة تشاوروا مع بعضهم ليعتمدوا على جنس عذاب لايق لموت المذنبين أعلاه.

ثم بدوا بقراة خامس مادة من الأمر الذي أخرجه أمس ساري عسكر منو بسبب ذلك والذي بموجبه أقامهم قضاة في فحص وموت كل من كان له جرة في غدر وقتل ساري عسكر العام كليبر، ثم اتفقوا جميعهم أن يعذبوا المذنبين بعذاب من العذابات المعتادة بالبلد الأعظم، ويكون لايق للذنب الذي صدر وأفتوا أن سليمان الحلبي تحرق يده اليمين، وبعده يتخوزق ويبقى على الخازوق لحين تاكل رمته الطيور، وهذا يكون فوق التل الذي برا قاسم بك، ويسمى تل العقارب بعد دفن ساري عسكر العام كليبر، وقدام كامل العسكر وأهل البلد الموجودين في المشهد.

ثم أفتوا بموت السيد عبد القادر الغزي مذنب أيضًا كما ذكر أعلاه، وكل ما تحكم يده عليه يكون حلالًا للجمهور الفرنساوي، ثم هذه الفتوى الشرعية تكتب، وتوضع فوق النبوت الذي مختص بوضع رأسه.

وأيضًا أفتوا على محمد الغزي وعبد الله الغزي وأحمد الوالي أن تقطع روسهم، وتوضع على نبابيت وجسمهم يحرق بالنار وهذا يصير في المحل المعين أعلاه، ويكون ذلك قدام سليمان الحلبي قبل أن يجري فيه شي.

هذه الشريعة والفتوى لازم ينطبعوا باللغة التركية والعربية والفرنساوية من كل لغة قدر خمسماية نسخة لكي يرسلوا ويتعلقوا في المحلات اللازمة، والمبلغ يكون مشهل في هذه الفتوى.

تحريرًا في مدينة مصر في اليوم والشهر والسنة المحررين أعلاه.

ثم إن القضاة حطوا خط يدهم بأسمايهم برفقة كاتم السر.

ممضي في أصله إمضة الوكيل رجليه، إمضة ريس المدافع فاور، إمضة ريس المعمار برتراند، إمضة ريس العسكر جوجه، إمضة الجنرال موراند، إمضة الجنرل مارتينه، إمضة دفتردار البحر لرو، إمضة صاري عسكر روبين، إمضة صاري عسكر رينيه، إمضة كاتم السر بينه.

ثم هذه الشريعة والفتوى انقرت، وتفسرت على المذنبين بواسطة السيتوين لوماكا الترجمان قبل قصاصهم، فهم جاوبوا أن ما عندهم شي يزيدوا ولا ينقصوا على الذي أقروا به في الأول.

فحالًا قضوا أمرهم في ثمانية وعشرين من شهر برريال حكم الاتفاق، وقبل نصف النهار بساعة واحدة.

حرر بمصر في ثمانية وعشرين برريال السنة الثامنة من انتشار الجمهور الفرنساوي.

ثم ختموا بأصله الدفتردار سارتلون وكاتم السر بينه، وهذه نسخة من الأصل إمضا بينه كاتم السر. ا.ﻫ.

وهذا آخر ما كتبوه في خصوص هذه القضية ورسموه وطبعوه بالحرف الواحد ولم أغير شيًّا مما رقم، إذ لست ممن يحرف الكلم وما فيه من تحريف فهو كما في الأصل، والله أعلم وأحكم.

ولما فرغوا من ذلك اشتغلوا بأمر ساري عسكرهم المقتول، وذلك بعد موته بثلاثة أيام كما ذكر ونصبوا مكانه عبد الله جاك منو، ونادوا ليلة الرابع من قتله وهي ليلة الثلاثا خامس عشرين المحرم في المدينة بالكنس والرش في جهات حكام الشرطة.

فلما أصبحوا اجتمع عساكرهم وأكابرهم وطايفة عينها القبط والشوام، وخرجوا بموكب مشهدِه ركبانًا ومشاةً، وقد وضعوه في صندوق من رصاص مسنم الغطا، ووضعوا ذلك الصندوق على عربة وعليه برنيطته وسيفه والخنجر الذي قتل به، وهو مغموس بدمه وعملوا على العربة أربعة بيارق صغار في أركانها معمولة بشعر أسود، ويضربون بطبولهم بغير الطريقة المعتادة وعلى الطبول خرق سود، والعسكر بأيديهم البنادق وهي منكسة إلى أسفل وكل شخص منهم معصب ذراعه بخرقة حرير سودا، ولبسوا ذلك الصندوق بالقطيفة السودا وعليها قصب مخيش، وضربوا عند خروج الجنازة مدافع وبنادق كثيرة وخرجوا من بيت الأزبكية على باب الخرق إلى درب الجماميز إلى جهة الناصرية، فلما وصلوا إلى تل العقارب حيث القلعة التي بنوها هناك ضربوا عدة مدافع، وكانوا أحضروا سليمان الحلبي والثلاثة المذكورين فأمضوا فيهم ما قدر عليهم، ثم ساروا بالجنازة إلى أن وصلوا باب قصر العيني، فرفعوا ذلك الصندوق ووضعوه على علوة من التراب بوسط تخشيبة صنعوها وأعدوها لذلك، وعملوا حولها درابزين وفوقه كسا أبيض، وزرعوا حوله أعواد سرو ووقف عند بابها شخصان من العسكر ببنادقهما ملازمان ليلًا ونهارًا، يتناوبان الملازمة على الدوام وانقضى أمره، واستقر عوضه في السر عسكرية قايمقام عبد الله جاك منو، وهو الذي كان متولي على رشيد من قدومهم، وقد كان ظهر أنه أسلم وتسمى بعبد الله وتزوج بامرأة مسلمة، وقلدوا عوضه في قايمقامية بليار.

فلما أصبح ثاني يوم حضر قايمقام والأغا إلى الأزهر، ودخلا إليه وشقا في جهاته وأروقته وزواياه بحضرة المشايخ.

وفي يوم الخميس حضر ساري عسكر عبد الله جاك منو وقايمقام والأغا، وطافوا به أيضًا وأرادوا حفر أماكن للتفتيش على السلاح ونحو ذلك، ثم ذهبوا فشرعت المجاورون به في نقل أمتعتهم منه ونقل كتبهم وإخلا الأروقة، ونقلوا الكتب الموقوفة بها إلى أماكن خارجة عن الجامع، وكتبوا أسما المجاورين في ورقة وأمروهم أن لا يبيت عندهم غريب ولا يؤووا إليهم آفاقيًا مطلقًا، وأخرجوا منه المجاورين من طايفة الترك، ثم إن الشيخ الشرقاوي والمهدي والصاوي توجهوا في عصريتها عند كبير الفرنسيس منو، واستأذنوه في قفل الجامع وتسميره، فقال بعض القبطة الحاضرين للأشياخ: هذا لا يصح ولا يتفق، فحنق عليه الشيخ الشرقاوي وقال: اكفونا شر دسايسكم يا قبطة، وقصد المشايخ من ذلك منع الريبة بالكلية، فإن للأزهر سعة لا يمكن الإحاطة بمن يدخله فربما دس العدو من يبيت به، واحتج بذلك على إنجاز غرضه ونيل مراده من المسلمين والفقها، ولا يمكن الاحتراس من ذلك، فأذن كبير الفرنسيس بذلك لما فيه من موافقة غرضه باطنًا، فلما أصبحوا أقفلوه وسمروا أبوابه من ساير الجهات.

وفي غايته جمعوا الوجاقلية، وأمروهم بإحضار ما عندهم من الأسلحة فأحضروا ما أحضروه فشددوا عليهم في ذلك.

فقالوا: لم يكن عندنا غير الذي أحضرناه.

فقالوا: وأين الذي كنا نرى لمعانه عند متاريسكم؟

فقالوا: تلك أسلحة العساكر العثمانية والأجناد المصرية وقد سافروا بها.

واستهل صفر بيوم الثلاثاء سنة ١٢١٥

في أوايله سافر بعض الأعيان من المشايخ وغيرهم إلى بلاد الأرياف بعيالهم وحريمهم، وبعضهم بعث حريمه وأقام هو فسافر الشيخ محمد الحريري، وصحب معه حريم الشيخ السحيمي وصهره الشيخ المهدي، فلما رآهم الناس عزم الكثير منهم على الرحلة، وأكثروا المراكب والجمال وغير ذلك، فلما أشيع ذلك كتب الفرنسيس أوراقًا ونادوا في الأسواق بعدم انتقال الناس ورجوع المسافرين، ومن لم يرجع بعد خمسة عشر يومًا نهبت داره، فرجع أكثر الناس ممن سافر أو عزم على السفر إلا من أخذ له ورقة بالإذن من مشاهير الناس، أو احتج بعذر كأن يكون في خدمة لهم أو قبض خراج أو مال أو غلال من التزامه.

وفيه قرروا فردة أخرى وقدرها أربعة ملايين، وقدرُ المليون ماية وستة وثمانون ألف فرانسة، وكان الناس ما صدقوا قرب تمام الفردة الأولى، بعدما قاسوا من الشدايد ما لا يوصف، ومات أكثرهم في الحبوس وتحت العقوبة، وهرب الكثير منهم وخرجوا على وجوههم إلى البلاد، ثم دُهُوا بهذه الداهية أيضًا فقرروا على العقار والدور مايتي ألف فرانسة، وعلى الملتزمين ماية وستين ألفًا، وعلى التجار مايتي ألف، وعلى أرباب الحرف المستورين ستين ألفًا، وأسقطوا في نظير المنهوبات ماية ألف، وقسموا البلدة ثمانية أخطاط، وجعلوا على كل خطة منها خمسة وعشرين ألف ريال، ووكلوا بقبض ذلك مشايخ الحارات والأمير الساكن بتلك الخطة، مثل المحتسب بجهة الحنفي وعمر شاه وسويقة السباعين ودرب الحجر، ومثل ذي الفقار كتخدا جهة المشهد الحسيني وخان الخليلي والغورية والصنادقية والأشرفية، وحسن كاشف جهة الصليبة والخليفة وما في ضمن كل من الجهات والعطف والبيوت، فشرعوا في توزيع ذلك على الدور الساكنة وغير الساكنة، وقسموها عال وأوسط ودون، وجعلوا العال ستين ريالًا، والوسط أربعين، والدون عشرين، ويدفع المستأجر قدر ما يدفع المالك، والدار التي يجدونها مغلقة وصاحبها غايب عنها يأخذون ما عليها من جيرانها.

وفي سادس عشرينه أفرجوا عن الشيخ السادات، ونزل إلى بيته بعد أن غَلَّق الذي تقرر عليه، واستولوا على حصصه وأقطاعه وقطعوا مرتباته، وكذلك جهات حريمه والحصص الموقوفة على زاوية أسلافه، وشرطوا عليه عدم الاجتماع بالناس، وأن لا يركب بدون إذن منهم، ويقتصد في أموره ومعاشه ويقلل أتباعه.

شهر ربيع الأول سنة ١٢١٥

فيه نادوا على الناس الخارجين من مصر من خوف الفردة وغيرها بأن من لم يحضر من بعد اثنين وثلاثين يومًا من وقت المناداة، نهبت داره وأحيط بموجوده، وكان من المذنبين، واشتد الأمر بالناس وضاقت منافسهم، وتابعوا نهب الدور بأدنى شبهة ولا شفيع تقبل شفاعته أو متكلم تسمع كلمته، واحتجب ساري عسكر عن الناس، وامتنع من مقابلة المسلمين وكذلك عظما الجنرالات، وانحرفت طباعهم عن المسلمين زيادة عن أول، واستوحشوا منهم ونزل بالرعية الذل والهوان، وتطاولت عليهم الفرنساوية وأعوانهم وأنصارهم من نصارى البلد الأقباط والشوام والأروام بالإهانة حتى صاروا يأمرونهم بالقيام إليهم عند مرورهم، ثم شددوا في ذلك حتى كان إذا مر بعض عظمايهم بالشارع ولم يقم إليه بعض الناس على أقدامه رجعت إليه الأعوان وقبضوا عليه، وأصعدوه إلى الحبس بالقلعة، واستمر عدة أيام في الاعتقال ثم يطلق بشفاعة بعض الأعيان.

وفيه أنزلوا مصطفى باشا من الحبس، وأهدوا إليه هدايا وأمتعة وأرسلوه إلى دمياط فأقام بها أيامًا، وتوفي إلى رحمة الله تعالى.

شهر ربيع الثاني سنة ١٢١٥

فيه اشتد أمر المطالبة بالمال وعُيِّنَ لذلك رجل نصراني قبطي يسمى شكر الله، فنزل بالناس منه ما لا يوصف، فكان يدخل إلى دار أي شخص كان لطلب المال وصحبته العسكر من الفرنساوية والفعلة، وبأيديهم القزم فيأمرهم بهدم الدار إن لم يدفعوا له المقرر وقت تاريخه من غير تأخير إلى غير ذلك، وخصوصًا ما فعله ببولاق، فإنه كان يحبس الرجال مع النسا ويدخن عليهم بالقطن والمشاق وينوع عليهم العذاب، ثم رجع إلى مصر يفعل كذلك.

وفيه أغلقوا جميع الوكايل والخانات على حين غفلة في يوم واحد وختموا على جميعها، ثم كانوا يفتحونها وينهبون ما فيها من جميع البضايع والأقمشة والعطر والدخان خانًا بعد خان، فإذا فتحوا حاصلًا من الحواصل قوَّموا ما فيه بما أحبوا بأبخس الأثمان وحسبوا غرامته، فإن بقي لهم شي أخذوه من حاصل جاره، وإن زاد له شي أحالوه على جاره الآخر كذلك وهكذا، ونقلوا البضايع على الجمال والحمير والبغال وأصحابها تنظر وقلوبهم تتقطع حسرة على مالهم، وإذا فتحوا مخزنًا دخله أمناهم ووكلاهم فيأخذون ما يجدونه من الودايع الخفيفة أو الدراهم، وصاحب المحل لا يقدر على التكلم، بل ربما هرب أو كان غايبًا.

وفيه حرَّروا دفاتر العشور وأحصوا جميع الأشيا الجليلة والحقيرة، ورتبوها بدفاتر وجعلوها أقلامًا يتقلدها من يقوم بدفع مالها المحرر، وجعلوا جامع أزبك الذي بالأزبكية سوقًا لمزاد ذلك بكيفية يطول شرحها، وأقاموا على ذلك أيامًا كثيرة يجتمعون لذلك في كل يوم، ويشترك الاثنان فأكثر في القلم الواحد وفي الأقلام المتعددة.

وفيه كثر هدم الدور وخصوصًا في دور الأمرا ومن فر من الناس، وكذلك كثر الاهتمام بتعمير القلاع وتحصينها وإنشا قلاع في عدة جهات، وبنوا بها المخازن والمساكن وصهاريج الما وحواصل الجبخانات حتى ببلاد الصعيد القبلية.

(جماد الأول سنة ١٢١٥)

واستهل شهر جمادى الأولى سنة ١٢١٥ والأمور من أنواع ذلك تتضاعف والظلومات تتكاثف، وشرعوا في هدم أخطاط الحسينية وخارج باب الفتوح وباب النصر من الحارات والدور والبيوت والمساكن والمساجد والحمامات والحوانيت والأضرحة، فكانوا إذا دهموا دارًا وركبوها للهدم لا يمكنون أهلها من نقل متاعهم، ولا أخذ شي من أنقاض دارهم فينهبونها ويهدمونها وينقلون الأنقاض النافعة من الأخشاب والبلاط إلى حيث عمارتهم وأبنيتهم، وما بقي يبيعون منه ما أحبوا بأبخس الأثمان ولوقود النيران، وما بقي من كسارات الخشب يحزمه الفعلة حزمًا، ويبيعونه على الناس بأغلى الأثمان لعدم حطب الوقود، ويباشر غالب هذه الأفاعيل النصارى البلدية، فهدم للناس من الأملاك والعقار ما لا يقدر قدره وذلك مع مطالبتهم بما قرر على أملاكهم، ودورهم من الفردة فيجتمع على الشخص الواحد النهب والهدم والمطالبة في آن واحد، وبعد أن يدفع ما على داره أو عقاره، وما صدق أنه غلق ما عليه إلا وقد دهموه بالهدم فيستغيث فلا يغاث، فترى الناس سكارى حيارى ثم بعد ذلك كله يطالب بالمنكسر من الفردة.

وذلك أنهم لما قسموا الأخطاط كما تقدم وتولى ذلك أمير الخطة وشيخ الحارة والكتبة والأعوان، ووزعوا ذلك برأيهم ومقتضى أغراضهم، فأول ما يجتمعون بديوانهم يشرع الكتبة في كتابة التنابيه، وهي أوراق صغار باسم الشخص والقدر المقرر عليه وعلى عقاره بحسب اجتهادهم ورأيهم وعلى هامشها كراء طريق المعينين، ويعطون لكل واحد من أولئك القواسة عدة من تلك الأوراق، فقبل أن يفتح الإنسان عينيه ما يشعر إلا والمعين واقف على بابه، وبيده ذلك التنبيه فيوعدونه حتى ينظر في حاله فلا يجد بدًّا من دفع حق الطريق، فما هو إلا أن يفارقه حتى يأتيه المعين الثاني بتنبيه آخر فيفعل معه كالأول وهكذا على عدد الساعات، فإن لم يوجد المطلوب وقف ذلك القواس على داره ورفع صوته وشتم حريمه أو خادمه، فيسعى الشخص جهده حتى يغلق ما تقرر عليه بشفاعة ذي وجاهة أو نصراني، وما يظن أنه خلص إلا والطلب لاحقه أيضًا بمعين وتنبيه، فيقول: ما هذا؟ فيقال له: إن الفردة لم تكمل وبقي منها كذا وكذا، وجعلنا على العشرة خمسة أو ثلاثة أو ما سولت لهم أنفسهم، فيرى الشخص أن لا بد من ذلك، فما هو إلا أن خلص أيضًا إلا وكرة أخرى وهكذا أمرًا مستمرًّا، ومثل ذلك ما قرر على الملتزمين، فكانت هذه الكسورات من أعظم الدواهي المغلقة ونكسات الحمى المطبقة.

وفي خامسه كان عيد الصليب وهو انتقال الشمس لبرج الميزان والاعتدال الخريفي، وهو أول سنة الفرنسيس وهي السنة التاسعة من تاريخ قيامهم، ويسمى عندهم هذا الشهر ڤندميير وذلك يوم عيدهم السنوي، فنادوا بالزينة بالنهار والوقدة بالليل، وعملوا شنكات ومدافع وحراقات ووقدات بالأزبكية والقلاع، وخرجوا صبح ذلك اليوم بمواكبهم وعساكرهم وطبولهم وزمورهم إلى خارج باب النصر، وعملوا مصافهم فقُري عليهم كلام بلغتهم على عادتهم وكأنه مواعظ حربية، ثم رجعوا بعد الظهر.

وفي هذه السنة زاد النيل زيادة مفرطة لم يعهد مثلها فيما رأينا، حتى انقطعت الطرقات وغرقت البلدان وطف الماء من بركة الفيل، وسال إلى درب الشمسي وكذلك حارة الناصرية وسقطت عدة دور من المطلة على الخليج، ومكث زايدًا إلى آخر توت.

واستهل شهر جمادى الثانية سنة ١٢١٥

فيه قرروا على مشايخ البلدان مقررات يقومون بدفعها في كل سنة أعلى وأوسط وأدنى، فالأعلى وهو ما كانت بلده ألف فدان فأكثر خمسماية ريال، والأوسط وهي ما كانت خمسماية فأزيد ثلثماية ريال، والأدنى ماية وخمسون ريالًا، وجعلوا الشيخ سليمان الفيومي وكيلًا في ذلك، فيكون عبارة عن شيخ المشايخ، وعليه حساب ذلك وهو من تحت يد الوكيل الفرنساوي الذي يقال له بريزون، فلما شاع ذلك ضجت مشايخ البلاد؛ لأن منهم من لا يملك عشاه فاتفقوا على أن وزعوا ذلك على الأطيان، وزادت في الخراج واستملوا البلاد والكفور من القبطة، فأملوها عليهم حتى الكفور التي خربت من مدة سنين، بل سموا أسما من غير مسميات.

وفيه شرعوا في ترتيب الديوان على نسق غير الأول من تسعة أنفار متعممين لا غير، وليس فيهم قبطي ولا وجاقلي ولا شامي ولا غير ذلك، وليس فيه خصوصي وعمومي على ما سبق شرحه، بل هو ديوان واحد مركب من تسعة رؤسا هم: الشيخ الشرقاوي ريس الديوان، والمهدي كاتب السر، والشيخ الأمير والشيخ الصاوي وكاتبه، والشيخ موسى السرسي، والشيخ خليل البكري، والسيد علي الرشيدي نسيب ساري عسكر، والشيخ الفيومي، والقاضي الشيخ إسماعيل الزرقاني، وكاتب سلسلة التاريخ السيد إسماعيل الخشاب، والشيخ علي كاتب عربي، وقاسم أفندي كاتب رومي، وترجمان كبير القس رفاييل، وترجمان صغير إلياس فخر الشامي، والوكيل الكمثاري فوريه، ويقال له مدبر سياسة الأحكام الشرعية ومقدم وخمسة قواسة، واختاروا لذلك بيت رشوان بك الذي بحارة عابدين، وكان يسكنه برطلمان فانتقل منه إلى بيت الجلفي بالخرنفش وعمر وبيض، وفرشت قاعة الحريم بمجلس الديوان فرشًا فاخرًا، وعينوا عشرة جلسات في كل شهر، وانتقل إليها فوريه وسكنها بأتباعه وأعدوا للمترجمين والكتبة من الفرنساوية مكانًا خاصًّا يجلسون به في غير وقت الديوان على الدوام لترجمة أوراق الوقايع وغيرها، وجعلوا لها خزاين للسجلات وفتحوا أيضًا بجانبها دارًا نفذوها إليها، وشرعوا في تعميرها وتأنيقها وسموها بمحكمة المتجر، وأخذوا يرتبون أنفارًا من تجار المسلمين والنصارى يجلسون بها للنظر في القضايا المتعلقة بقوانين التجار، والكبير على ذلك كله فوريه، ولم يتم ذلك المكان الثاني.

وفي خامس عشره شرعوا في جلسة الديوان وصورته أنه إذا تكامل حضور المشايخ يخرج إليهم الوكيل فوريه وصحبته المترجمون، فيقومون له فيجلس معهم، ويقف الترجمان الكبير رفاييل ويجتمع أرباب الدعاوى، فيقفون خلف الحاجز عند آخر الديوان، وهو من خشب مقفص وله باب كذلك، وعنده الجاويش يمنع الداخلين خلاف أرباب الحوايج، ويدخلهم بالترتيب الأسبق فالأسبق، فيحكي صاحب الدعوى قضيته فيترجمها له الترجمان، فإن كانت من القضايا الشرعية، فإما أن يتمها قاضي الديوان بما يراه العلما أو يرسلوها إلى القاضي الكبير بالمحكمة إن احتاج الحال فيها إلى كتابة حجج أو كشف من السجل، وإن كانت من غير جنس القضايا الشرعية كأمور الالتزام أو نحو ذلك يقول الوكيل: ليس هذا من شغل الديوان، فإن ألح على أرباب الديوان في ذلك يقول: اكتبوا عرضًا لساري عسكر، فيكتب الكاتب العربي والسيد إسماعيل يكتب عنده في سجله كل ما قال المدعي، والمدعى عليه وما وقع في ذلك من المناقشة، وربما تكلم قاضي الديوان في بعض ما يتعلق بالأمور الشرعية، ومدة الجلسة من قبيل الظهر بنحو ثلاث ساعات إلى الأذان أو بعده بقليل بحسب الاقتضا، ورتبوا لكل شخص من مشايخ الديوان التسعة أربعة عشر ألف فضة في كل شهر عن كل يوم أربعماية نصف فضة، وللقاضي والمقيد والكاتب العربي والمترجمين وباقي الخدم مقادير متفاوتة تكفيهم وتغنيهم عن الارتشا، وفي أول جلسة من ذلك اليوم عملت المقارعة لريس الديوان وكاتب السر فطلعت للشرقاوي والمهدي على عادتهما، وكذلك الجاويشية والترجمان، وكتبت تذكرة من أهل الديوان خطابًا لساري عسكر يخبرونه فيها بما حصل من تنظيم الديوان وترتيبه، وسُرَّ الناس بذلك لظنهم أنه انفتح لهم باب الفرج بهذا الديوان، ولما كانت الجلسة الثانية ازدحم الديوان بكثرة الناس، وأتوا إليه من كل فج يشكون.

وفي ثالث عشرينه أمروا بجمع الشحاذين — أي السؤَّال — بمكان وينفق عليهم نُظَّار الأوقاف.

وفيه أيضًا أمروا بضبط إيراد الأوقاف، وجمعوا المباشرين لذلك وكذلك الرزق الأحباسية والأطيان المرصدة على مصالح المساجد والزوايا، وأرسلوا بذلك إلى حكام البلاد والأقاليم.

وفي غايته حضر رجل إلى الديوان مستغيث بأهله، وإن قلق الفرنسيس قبض على ولده وحبسه عند قايمقام وهو رجل زيات، وسبب ذلك أن امرأة جات إليه لتشتري سمنًا، فقال لها: لم يكن عندي سمن، فكررت عليه حتى حنق منها، فقالت له: كأنك تدخره حتى تبيعه على العثملي تريد بذلك السخرية، فقال لها: نعم رغمًا عن أنفك وأنف الفرنسيس، فنقل عنه مقالته غلام كان معها حتى أنهوه إلى قايمقام فأحضره وحبسه، ويقول أبوه: أخاف أن يقتلوه، فقال الوكيل: لا لا يقتل بمجرد هذا القول وكن مطمينًّا، فإن الفرنساوية لا يظلمون كل هذا الظلم، فلما كان في اليوم الثاني قتل ذلك الرجل ومعه أربعة لا يُدرَى ذنبهم وذهبوا كيوم مضى.

واستهل شهر رجب الفرد سنة ١٢١٥

والطلب والنهب والهدم مستمر ومتزايد، وأبرزوا أوامر أيضًا بتقرير مليون على الصنايع والحرف يقومون بدفعه في كل سنة قدره ماية ألف وستة وثمانون ألف ريال فرانسة، ويكون الدفع على ثلاث مرات كل أربعة أشهر يدفع من المقرر الثلث وهو اثنان وستون ألف فرانسة، فدُهِي الناس وتحيرت أفكارهم واختلطت أذهانهم وزادت وساوسهم، وأشيع أن يعقوب القبطي تكفل بقبض ذلك من المسلمين، ويقلد في ذلك شكر الله وأضرابه من شياطين أقباط النصارى، واختلفت الروايات فقيل: إن قصده أن يجعلها على العقار والدور، وقيل: بل قصده توزيعها بحسب الفردة، وذلك عشرها لأن الفردة كانت عشرة ملايين، فالذي دفع عشرة يقوم بدفع واحد على الدوام والاستمرار، ثم قيدوا لذلك رجلًا فرنساويًّا يقال له دناويل وسموه مدبر الحرف، فجمع الحرف وفرض عليهم كل عشرة أربعة، فمن دفع عشرة في الفردة يدفع أربعة الآن، فعورض في ذلك بأن هذا غير المعقول، فقال هذا باعتبار من خرج من البلد ومن لم يدخل في هذه الفردة كالمشايخ والفارين، فإن الذي جعل عليهم أضيف على من بقي، فاجتمع التجار وتشاوروا فيما بينهم في شأن ذلك، فرأوا أن هذا شي لا طاقة للناس به من وجوه:
  • الأول: وقف الحال وكساد البضايع وانقطاع الأسفار وقلة ذات اليد، وذهاب البقية التي كانت في أيدي الناس في الفرد والدواهي المتتابعة.
  • الثاني: أن الموكلين بالفردة السابقة وزعوا على التجار والمتسببين وكل من كان له اسم في الدفتر من مدة سنين، ثم ذهب ما في يده وافتقر حاله وخلا حانوته وكيسه، فألزموه بشقص من ذلك وكلفوه به وكتب اسمه في دفتر الدافعين، ويلزمه ما يلزمهم وليس ذلك في الإمكان.
  • الثالث: أن الحرفة التي دفعت مثلًا ثلاثين ألفًا يلزمها ثلاثة آلاف في السنة على الرأي الأول، وعلى الثاني اثنا عشر ألفًا، وقد قل عددهم وغلقت أكثر حوانيتهم لفقرهم وهَجاجِهم، وخصوصًا إذا لزموا بذلك المليون فيفر الباقي ويبقى من لا يمكنه الفرار ولا قدرة للبعض بما يلزم الكل.

وفيه أمر الوكيل بتحرير قايمة تتضمن أسما الذين تقلدوا قضا البلاد من طرف القاضي والذين لم يتقلدوا، وأخبر أن السر في ذلك أن مناصب الأحكام الشرعية استقر النظر فيها له، وأنه لا بد من استيناف ولايات القضاة حتى قاضي مصر بالقرعة من ابتدا سنة الفرنساوية، ويكتب لمن تطلع له القرعة تقليد من ساري عسكر الكبير، فكتبت له القايمة كما أشار.

وفي رابعه قتل جماعة بالرميلة وغيرها ونودي عليهم هذا جزا من يتداخل في الفرنسيس والعثملي.

وفي سادسه عملت القرعة على شرطها، بل زاد تكرارها ثلاث مرات لقاضي مصر واستقرت للعريشي على ما هو عليه وخرج له التقليد بعد مدة طويلة.

وفي ثامنه قتل غلام وجارية بباب الشعرية، ونودي عليهما هذا جزا من خان وغش وسعى بالفساد، فيقال إنهما كانا يخدمان فرنساويًّا فدسا له سمًّا وقتلاه.

وفي تاسعه حضر جماعة من الوجاقلية إلى الديوان وهم: يوسف باشا جاويش، ومحمد أغا سليم كاتب الجاويشية، وعلي أغا يحيى باشجاويش الجراكسة، ومصطفى أغا أبطال، ومصطفى كتخدا الرزاز، وذكروا أنهم كانوا تعهدوا بباقي الفردة المطلوبة من الملتزمين وقدرها خمسة وعشرون ألف ريال، وقد استدانوا لذلك قدرًا من البن بخمسة وثلاثين ألف ريال فرانسة؛ ليوفوا ما عليهم من الديون، وأنهم أرسلوا إلى حصصهم يطالبون الفلاحين بما عليهم من الخراج، فامتنع الفلاحون عن الدفع وأخبروا أن الفرنساوية خرجوا عليهم، ومنعوهم من دفع المال للملتزمين، فكتب لهم عرض حال في شأن ذلك، وأرسل إلى ساري عسكر ولم يرجع جوابه.

وفي رابع عشره صنع الجنرال بليار المعروف بقايمقام عزومة لمشايخ الديوان والوجاقلية وأعيان التجار وأكابر نصارى القبط والشوام، ومد لهم أسمطة حافلة وتعشوا عنده ثم ذهبوا إلى بيوتهم.

وفي ثاني عشرينه طيف بامرأتين في شوارع مصر بين يدي الحاكم ينادي عليهما هذا جزا من يبيع الأحرار، وذلك أنهما باعتا امرأة لبعض نصارى الأروام بتسعة ريالات.

وفيه طلب الخواجة الفرنسيسي المعروف بموسى كافو من الوجاقلية بقية الفردة المتقدم ذكرها، فأجابوا بأن سبب عجزهم عن غلاقها توقُّفُ الفلاحين عن دفع المال بأمر الفرنساوية، وعدم تحصيلهم المال من بلادهم، ثم أحيلوا بعد كلام طويل على استيف الخازندار؛ لأن ذلك من وظايفه لا من وظايف الديوان.

وفي سابع عشرينه حضر الوجاقلية، ومعهم بعض الأعيان وحريمات ملتزمات يستغيثون بأرباب الديوان، ويقولون إنه بلغنا أن جمهور الفرنساوية يريدون وضع أيديهم على جميع الالتزام المفروج عنه الذي دفعوا حلوانه ومغارمه، ولا يرفع أيدي الملتزمين عن التصرف في الالتزام جملة كافية، وقد كان قبل ذلك أنهى الملتزمون الذين لم يفرجوا لهم عن حصصهم، إما لفرارهم وعودهم بالأمان، وإما لقصر أيديهم عن الحلوان، وإما لشراقي بلادهم، وإما لانتظارهم الفرج وعودة العثمانيين فيتكرر عليهم الحلوان والمغارم، فلما طال المطال وضاق حال الناس، أعرضوا أمرهم وطلبوا من مراحم الفرنساوية الإفراج عن بعض ما كان بأيديهم ليتعيشوا به، ووقع في ذلك بحث طويل ومناقشات يطول شرحها، ثم ما كفى حتى بلغهم أن القصد نزع المفروج عنه أيضًا ونزع أيدي المسلمين بالكلية، وأنهم يستشفعون بأهل الديوان عند ساري عسكر بأن يبقي عليهم التزامهم يتعيشون به، ويقضون ديونهم التي استدانوها في الحلوان ومغارم الفردة، فقال فوريه الوكيل: هل بلغكم ذلك من طريق صحيح؟ فقالوا: نعم، بلغنا من بعض الفرنساوية، وقال الشيخ خليل البكري: وأنا سمعته من الخازندار، وقال الشيخ المهدي مثل ذلك، وإنهم يريدون تعويضهم من أطيان الجمهور، فقال الملتزمون: إن بيدنا الفرمانات والتمسكات من سلفكم بونابارته ومن السلاطين السابقين ونوابهم وقايمون بدفع الخراج، وإنهم ورثوا ذلك عن آباهم وأسلافهم وأسيادهم، وإذا أخذ منهم الالتزام اضطروا إلى الخروج من البلد والهجاج وخراب دورهم، ويصبحون صعاليك ولا يأتمنهم الناس، وطال البحث في ذلك والوكيل مع هذا كله ينكر وقوع ذلك مرة، ويناقش أخرى إلى أن انتهى الكلام بقوله: إن الكلام في هذا وأمثاله ليس من وظيفتي، فإني حاكم سياسة الشريعة لا مدبر أمر البلاد، نعم من وظيفتي المعاونة والنصح فقط.

وفي خامس عشرينه اتفق أن جماعة من أولاد البلد خرجوا إلى النزهة جهة الشيخ قمر، ومعهم جماعة آلاتية ويغنون ويضحكون، فنزل إليهم جماعة من العسكر الفرنساوية المقيمين بالقلعة الظاهرية خارج الحسينية، وقبضوا عليهم وحبسوهم، وأرسلوا شخصًا منهم إلى شيخ البلد بليار وأخبروه بمكانهم ليستفسر عن شأنهم فلقيه، ثم رده إلى القلعة الظاهرية ثانيًا فبات عند أصحابه، ثم طلبهم في ثاني يوم فذهبوا وصحبتهم جماعة من العسكر بالبندق تحرسهم، فقابلوه ومَنَّ عليهم بالإطلاق وذهبوا إلى منازلهم.

وفيه منعوا الأغا والوالي والمحتسب من عوايدهم على الحرف والمتسببين، فإنها اندرجت في أقلام العشور ورتبوا لهم جامكية من صندوق الجمهور يقبضونها في كل شهر.

واستهل شهر شعبان سنة ١٢١٥

فيه أجيب الملتزمون بإبقا التزامهم عليهم، وأنكروا ما قيل في رفع أيديهم، وعوتب مَن صدَّق هذه الأكذوبة، وإن كانت صدرت من الخازندار، فإنما كانت على سبيل الهزل، أو يكون التحريف من الترجمان أو الناقل.

وفيه حضر التجار إلى الديوان وذكروا أمر المليون، وأن قصدهم أن يجعلوه موزعًا على الروس ولا يمكن غير ذلك، وطال الكلام والبحث في شأن ذلك ثم انحط الأمر على تفويض ذلك لرأي عقلا المسلمين، وأنهم يجتمعون ويدبرون ويعملون رأيهم في ذلك بشرط أن لا يتداخل معهم في هذا الأمر نصراني أو قبطي، وهم الضامنون لتحصيلهم بشرط عدم الظلم، وأن لا يجعلوا على النسا ولا الصبيان ولا الفقها ولا الخدامين شيًّا وكذلك الفقرا، ويراعى في ذلك حال الناس وقدرتهم وصناعتهم ومكاسبهم، ثم قالوا: نرجو أن تضيفوا إلينا بولاق ومصر القديمة، فلم يجابوا إلى ذلك لكونهم جعلوهما مستقلَّيْنِ، وقرروا عليهما قدرًا آخر خلاف الذي قرروه على مصر.

وفيه لخَّصوا عرضًا ولطفوا فيه العبارة لساري عسكر، فأجيبوا إلى طلبهم ما عدا بولاق ومصر القديمة، وأخرجوا من أرباب الحرف الصيارفة والكيَّالين والقبَّانية، وجعلوا عليهم بمفردهم ستين ألف ريال خلاف ما يأتي عليهم من المليون أيضًا، يقومون بدفعها في كل سنة، والسر في تخصيص الثلاث حرف المذكورة دون غيرها أن صناعتهم من غير رأس مال.

وفيه أفردوا ديوانًا لذلك ببيت داود كاشف خلف جامع الغورية، وتقيد لذلك السيد أحمد الزرو وأحمد بن محمود محرم وإبراهيم أفندي كاتب البهار وطايفة من الكتبة، وشرعوا في تحرير دفاتر بأسما الناس وصناعاتهم، وجعلوها طبقات فيقولون: فلان من نمرة عشرة أو خمسة أو ثلاثة أو اثنين أو واحد ومشوا على هذا الاصطلاح.

وفيه أبطلوا عشور الحرير الذي يتوجه من دمياط إلى المحلة الكبرى.

وفيه أرسل ساري عسكر يسأل المشايخ عن الذين يدورون في الأسواق ويكشفون عوراتهم ويصيحون ويصرخون ويدَّعون الولاية وتعتقدهم العامة ولا يصلون صلاة المسلمين ولا يصومون هذا جايز عندكم في دينكم أو هو محرم؟ فأجابوه بأن ذلك حرام ومخالف لديننا وشرعنا وسنتنا، فشكرهم على ذلك وأمر الحكام بمنعهم والقبض على من يرونه كذلك، فإن كان مجنونًا ربط بالمارستان، أو غير مجنون فإما أن يرجع عن حالته أو يخرج من البلد.

وفيه أرسل ريس الأطبا الفرنساوي نسخًا من رسالة ألفها في علاج الجدري لأرباب الديوان، لكل واحد نسخة على سبيل المحبة والهدية ليتناقلها الناس ويستعملوا ما أشار إليه فيها من العلاجات لهذا الدا العضال فقبلوا منه ذلك، وأرسلوا له جوابًا شكرًا له على ذلك، وهي رسالة لا بأس بها في بابها.

وفي حادي عشره وجدت امرأة مقتولة بغيط عمر كاشف بالقرب من قناطر السباع، فتوجه بسبب الكشف عليها رسول القاضي والأغا وأخذوا الغيطانية وحبسوهم، وكان بصحبتهم أيضًا القبطان الحاكم بالخط ولم يظهر القاتل، ثم أطلقوا الغيطانية بعد أيام.

وفيه كمل المكان الذي أنشاه بالأزبكية عند المكان المعروف بباب الهوا وهو المسمى في لغتهم بالكُمدي وهو عبارة عن محل يجتمعون به كل عشرة ليالٍ ليلة واحدة يتفرجون به على ملاعيب يلعبها جماعة منهم بقصد التسلي والملاهي مقدار أربع ساعات من الليل وذلك بلغتهم، ولا يدخل أحد إليه إلا بورقة معلومة وهيئة مخصوصة.

وفي سادس عشره ذكروا في الديوان أن ساري عسكر أمر وكيل الديوان أنه ذكر لمشايخ الديوان أن قصده ضبط وإحصا من يموت ومن يولد من المسلمين، وأخبرهم أن ساري عسكر بونابارته كان في عزمه ذلك، وأن يقيد له من يتصدى لذلك ويرتبه ويدبره ويعمل له جامكية وافرة فلم يُتِمَّ مراميه، والآن يريد تتميم ذلك ويطلب منهم التدبير في ذلك وكيف يكون، وذكر لهم أن في ذلك حِكمًا وفوايد منها ضبط الأنساب ومعرفة الأعمار، فقال بعض الحاضرين: وفيه معرفة انقضا عدة الأزواج أيضًا، ثم اتفق الرأي على أن يُعلِموا بذلك قلقات الحارات والأخطاط، وهم يقيدون على مشايخ الحارات والأخطاط بالتفحص عن ذلك من خَدَمة الموتى والمغسلين والنسا القوابل وما في معنى ذلك، ثم ذكر الوكيل أن ساري عسكر ولد له مولود، فينبغي أن تكتبوا له تهنية بذلك المولود، ولد له من المرأة المسلمة الرشيدية، وجوابًا عن هذا الرأي فكتبوا ذلك في ورقة كبيرة وأوصلها إليه الوكيل فوريه.

وفي خامس عشرينه، أرسل ساري عسكر إلى مشايخ الديوان كتابًا، وقراه الترجمان الكبير رفائيل وصورته ونصه بالحرف الواحد.

بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله محمد رسول الله، من عبد الله جاك منو ساري عسكر أمير عام جيوش دولة جمهور الفرنساوية بالشرق ومظاهر حكومتها ببر مصر حالًا إلى حضرة المشايخ والعلما أهالي الديوان المنيف بمصر القاهرة حالًا، أدام الله تعالى فضايلهم، وزيَّنهم بليمع النور لإكمال وظايفهم وإنجاز فرايضهم، آمين يا معين.

والآن نخبركم أن الذي حررتموه لنا ملأ أنفسنا سرورًا، وقلبنا حبورًا، فثبت عندنا وتحقق وفور ما عندكم من المحبة التي شهدتم بها وما فيكم من النعمة والنظام والعدل، فحقًّا إنكم لمستحقون لأن تكونوا في مثل هذا المحل الذي اخترتم عليه، فنحن نعلم أن القرآن العظيم الشأن ذلك المصحف الأكمل والكتاب المفضل، يشتمل على مبادي الحكمة السنية والحقوق اليقينة، وهذه المبادي المذكورة لا يصح بناها المتين على الحكم والحق اليقين إلا إذا عرضت على أحسن الآداب وتعليم العلوم بغير ارتياب، وبهذين تنتج أعظم الفوايد، وذلك بمساعي أناس متحدين معًا برياضيات الحظ والسعد، وبمثل ذلك عرفت أنه لمن المستحيل أن القرآن الشريف يفصح إلا على ما هو من باب النظام؛ لأنه من دون ذلك، فكل ما هو في هذا العالم الفاني ليس إلا معابر وخراب، ولا يُسهَى عنا أن كل ما هو من الموجودات الكاينات كقولك تلك المتحركة بطريقة ونظام من قبل من جعلها للمسير سبحانه مبدع الأنام كالنجوم السايرة في الأعالي، وبها يهتدي للسير الحالي، ثم على الخصوص تلك الفصول الأربع المتوالي انتقالها باستمرار جولانها، ثم اتصال الليل بالنهار والنهار بالليل على حد واحد من المقدار، ثم وجود المتباينات وتمييز النور من الظلمات، وأن ذاك وما أدراك فماذا عسى كان يحل بنا وبحال العالم بأسره أيضًا لو عدم هذا النظام ولو برهة، فالآن نرجو جناب حضرة المشايخ والعلما يفيدون كيف ترى كان يصير حال القطر المصري لو يمتنع عن جريانه كعادته نهره هذا المبارك المشتهر لا يسمح الله سبحانه بذلك، فبلا شك أن البلاد قاطبة لا يمكن أن تسكن حين ذاك إلا ببحر سنة واحدة فقط، وذلك من عدم الما وريِّ الأرض، أراضي هذه المملكة التي أنتم قاطنون بها، وفي ذلك الحين كانت تصعد الرمال على الأطيان والمزارع والحيضان، والناس تهلك جوعًا وتعدم السكان فتنشحن الأرض من الأموات، فنعوذ بالله الحفيظ لساير المخلوقات.

وإذا كان الله — سبحانه وتعالى — قد أبدع كل الأشيا بمعرفته القادرة وحكمته الباهرة، وجعل هذا النظام العجيب ورتب هذه الدنيا وما فيها ترتيب معجز غريب فقد عرف أنها بدون ذلك تعدم سريعًا، وحالها يغدو مريعًا الآن إنما نكون من أشهر المذنبين إذا سرنا سيرة كالضالين، وعلى أوامره عصاة غير منخضعين، ومع ذلك فنسأله — جل شأنه — أن يقوينا على السلوك في ديننا ودنيانا وهذا القدر كفانا.

فيا أيها المشايخ المكرمون والعلما المحققون ومن هم بالعلم موصوفون، لا يخافكم أن أجمل ما في النظام في تدبير هذه الدنيا بأسرها حسن تام هو الاحتفال والميل إلى النظام الذي هو صادر ترتيبه عن حكمة الله — تعالى — بوجه تام، ثم إن البلاد وتلك النواحي التي يطلق عليها كونها في حال النجاح والحظ والفلاح لا تعتد هكذا إلا إذا كان سكانها يهتدون إلى قواعد الشريعة والفرايض الصادرة عن أصحاب الفطنة والإدراك، ويستعدون للسلوك بالعدل والإنصاف خلافًا لغيرها من البلاد التعسة الحال، تلك التي سكانها خاضعون على الدوام لما فيهم من العجرفة والاعتدا، ولا ينعطفون إلا إلى أهوا أنفسهم المنحرفة.

فجناب حضرة بونابارته الشهير النبيل الصنديد الشجاع الجليل، قد تقدم فأمر بأن يُحرَّر دفتر يكتب فيه أسما كامل الميتين، والآن حضرتكم قد طلبتم مني دفترًا آخر خلافه يتحرر فيه أسما المولودين أيضًا، ومن حيث ذلك فلا بد أن أعتني منذ الآن مع جزيل الاهتمام بهذين الأمرين، وهكذا أيضًا بتحرير دفتر الزواج إذ كان ذلك أشد المهمات والحوادث الواجبات، ثم يتبع ذلك بتحديد نظام غير قابل التغيير في ضبط الأملاك والتمييز الكامل عمن ولد ومات من السكان، وهذا يعرف من أهل كل بيت، فعلى هذا الحال يتيسر للحاكم الشرعي الحكم بالعدل والإنصاف، وينقطع الخلف والخصام بين الورثة، وتقرر الولادة ومعرفة السلالة التي هي الشي الأجل والأوفر استحقاقًا في الإرث، وهكذا — إن شاء الله — لا بد من الفحص والتفتيش بالحرص والتدقيق وبذل المهمة للحصول لأقرب نوال إلى ما يلزم لإكمال ما قصدناه، ثم إن أراد الله لا بد أن أعتني بالمطالبة على وجه تام كل وقت يُقتضَى لنا أن ندبر أشيا تستفيد بها هذه المملكة التي قد تسلمنا سياستها، وبهذا نوقن ونتحقق كوننا امتثلنا لأوامر دولة جمهور الفرنساوية وحضرة قنصلها الأول بونابرته، فيا حضرة المشايخ الكرام إننا نشكر فضلكم على ما أظهرتم لنا تهنية بولادة ولدي السيد سليمان مراد جاك منو، فنطلب من الله — سبحانه وتعالى — واسألوه كذلك بجاه رسوله سيد المرسلين أن يجود به عليَّ زمانا مديدًا، وأن يكون للعدل محبًّا وللاستقامة والحق مكرمًا وموِّفي وعده صادقًا، وألا يكون من أهل الطمع فهذا هو أوفر الغنى الذي أرغبه لولدي؛ لأن الرجل الذي لا يهتدي إلا بالخير فلا يصرف اعتناه إلا في خير الأدب لا في قنية الفضة والذهب، فنسأله — تعالى — أن يطيل بقاكم، والسلام.

وفي غايته سقطت منارة جامع قوصون، سقط نصفها الأعلى فهدم جانبًا من بوايك الجامع ونصفها الأسفل مال على الأماكن المقابلة له بعطفة الدرب النافذ لدرب الأغوات، وبقي مسندًا كذلك قطعة واحدة إلى يومنا هذا، وأظن أن سقوطها من قبل الفرنسيس بالبارود.

واستهل شهر رمضان سنة ١٢١٥

ثبت هلاله ليلة الجمعة، وعملت الرؤية وركب المحتسب ومشايخ الحرف بالطبول والزمور على العادة، وأطلقوا له خمسين ألف درهم لذلك نظير عوايده التي كان يصرفها في لوازم الركبة.

وفي خامسه وقع السوال والفحص عن كسوة الكعبة التي كانت صنعت على يد مصطفى أغا كتخدا الباشا، وكملت بمباشرة حضرة صاحبنا العمدة الفاضل الأديب الأريب الناظم الناثر السيد إسماعيل الشهير بالخشاب، ووضعت في مكانها المعتاد بالمسجد الحسيني، وأهمل أمرها إلى حد تاريخه، وربما تلف بعضها من رطوبة المكان وخرير السقف من المطر، فقال الوكيل: إن ساري عسكر قصده التوجه بصحبتكم يوم الخميس قبل الظهر بنصف ساعة إلى المسجد الحسيني، ويكشف عنها فإن وجد بها خللًا أصلحه ثم يعيدها كما كانت، وبعد ذلك يشرع في إرسالها إلى مكانها بمكة، وتُكسى بها الكعبة على اسم المشيخة الفرنساوية، فقالوا له: شأنكم وما تريدون، وقُري بالمجلس فرمان بمضمون ذلك.

وفي ذلك اليوم قري فرمان مضمونه أنه وردت مكاتبات من فرنسا بوقوع الصلح بينهم وبين أهل الجزاير وتونس بشروط ممضاة مرضية، وقد أطلقوا الإذن للتجار من أهل الجهتين بالسفر للتجارة، فمن سافر له الحماية والصيانة في ذهابه وإيابه وإقامته باسم دولة الجمهور الفرنساوية إلى آخره ولم يظهر لذلك أثر.

وفيه قري تقليد الشيخ أحمد العريشي بقضا مصر، ووصل أيضًا تقليد القضا بدمياط لأحمد أفندي عبد القادر وإبيار للعلامة الشيخ رضوان نجا، ومحلة مرحوم للشيخ عبد الرحمن طاهر الرشيدي، وذلك على موجب القرعة السابقة من مدة شهرين أو أكثر، وقري ذلك بالديوان ولم يحصل بعد ذلك غيرهم، فلما كان صبح ذلك اليوم أرسل شيخ البلد «بليار» إلى العريشي ومشايخ الديوان والوجاقلية، فلما تكاملوا خلع على القاضي العريشي فروة سمور بولايته القضا، وركب بصحبته الجميع وجملة من العساكر الفرنساوية وشيخ البلد بجانبه، ومشوا من وسط المدينة إلى أن وصلوا المحكمة بين القصرين، فجلسوا ساعة من النهار وقري تقليده بحضرة الجميع ووكيل الديوان «فوريه» ثم رجعوا إلى منازلهم.

وفي يوم الخميس الموعود بذكره توجه الوكيل ومشايخ الديوان إلى المشهد الحسيني لانتظار حضور ساري عسكر الفرنسيس بسبب الكشف على الكسوة، وازدحم الناس زيادة على عادتهم في الازدحام في رمضان، فلما حضر ونزل عن فرسه عند الباب، وأراد العبور للمسجد رأى ذلك الازدحام فهاب الدخول وخاف من العبور، وسأل ممن معه عن سبب هذا الازدحام، فقالوا له: هذه عادة الناس في نهار رمضان يزدحمون دايمًا على هذه الصورة في المسجد، ولو حصل منكم تنبيه كنا أخرجناهم قبل حضوركم، فركب فرسه ثانيًا وكر راجعًا، وقال: نأتي في يوم آخر وانصرف حيث جا وانصرفوا.

وفي ليلة السبت تاسعه حصلت كاينة سيدي محمود وأخيه سيدي محمد المعروف بأبي دفية، وذلك أن سيدي محمود المذكور كان بينه وبين علي باشا الطرابلسي صداقة ومحبة أيام إقامته بالجيزة، وحج صحبته في سنة تسع ومايتين وألف، فلما وقعت حادثة الفرنساوية وخرج علي باشا المذكور مع من خرج إلى الشام، ووردت العساكر العثمانية صحبة يوسف باشا الوزير في العام الماضي، وصحبته علي باشا المذكور، وله به مزيد الوصلة والعناية والمرجع في المشورة لخبرته بالأقطار المصرية، ومعرفته أهالي البلاد، استشاره في شخص يعرفه يكون عينًا بمصر ليراسله ويطالعه بالأخبار، فأشار عليه بمحمود أفندي المذكور، فكانوا يراسلونه ويطالعهم بالأخبار سرًّا فلما قدموا إلى مصر في السنة الماضية وجرى ما جرى من نقض الصلح ورجوع الوزير، ولم يزل سيدي محمود تأتيه المراسلات بواسطة السيد أحمد المحروقي أيضًا؛ ولأن علي باشا ارتحل إلى الديار الرومية، فيطالعهم كذلك بالأخبار مع شدة الحذر خوفًا من سطوة الفرنساوية، وتجسس عيونهم المقيدة لذلك، فكان يذهب إلى قليوب ويتلقى ورود القاصد ويرد له الجواب، فلما كان في التاريخ ورد عليه رسول ومعه جواب وأربعة أوراق مكتوبة باللغة الفرنساوية، وفيها الأمر بتوزيعها ووضعها في أماكن معينة حيث يسكن الفرنساوية، فوزع اثنتين وقصد وضع الثالثة في موضع جمعيتهم فلم يمكنه ذلك إلا ليلًا، فأعطاها خادمه وأمره أن يشكها بمسمار في حايط ذلك المكان، وهو بالقرب من الحمام المعروف بحمام الكلاب ففعل، وتلكَّا في الذهاب فاطلع عليه بعض الفرنسيس من أعلى الدار، فنزل إليه وأخذ الورقة وقبضوا على ذلك الخادم وصادف ذلك مرور حسن القلق وهو يتوقع نكتة تكون له بها الوجاهة عند الفرنساوية، فاغتنم هذه الفرصة وقبض على الخادم مع الفرنساوية، وسيده ينظر إليه من بعيد، وعلم أنه وقع في خطب لا ينجيه منه إلا الفرار، فرجع إلى داره وتناجى مع أخيه واستشاره فيما وقع فيه، وكيف يكون العمل، فأشار عليه بالاختفا، ويستمر أخوه بالمنزل مستهدفًا للقضا، وليكون وقاية على منزله وعرضه وليس هو مقصودًا بالذات فكان كذلك، وتغيب سيدي محمود وأصبح الطلب قاصده، فلما لم يجدوه قبضوا على أخيه سيدي محمد أفندي ومن كان معه بالبيت، وهو الشيخ خليل المنير وقرابته إسماعيل حلبي ونسيبه البرتوسي والسقا وشيخ حارتهم وحبسوهم ببيت قايمقام، وهم سبعة أنفار بالخادم المقبوض عليه أولًا، وأوقفوا حرسًا بدارهم واجتهدوا في الفحص عن سيدي محمود، وتكرار السؤال عليه من أخيه ورفقايه أيامًا، فلما لم يقفوا له على خبر أحاطوا بالدار، ونهبوا ما فيها وصحبتهم الخادم يدلهم على المتاع والمخبآت.

ثم أصعدوهم إلى القلعة وضيقوا عليهم وأرسلوا خلف الشواربي شيخ قليوب ومن كان ينتقل عندهم، وألزموهم بإحضاره فأنكروه وجحدوه، ثم أطلقوا خادمه بعد أن أعطوه خمسين ريالًا فرانسة، وجعلوا له ألفًا إن دلهم عليه، وقيدوا به عينًا يتبعه أينما توجه، فاستمر أيامًا يغدو ويروح في مظناته فلم يقع له على خبر، فردوه إلى السجن ثانيًا عند أصحابه، ولم يزالوا حتى فرج الله عنهم، وأما المطلوب فوقع له مزيد المشقة في مدة اختفاه وتبرا منه غالب أصحابه ومعارفه من العربان وغيرهم وتنكروا منه، ولم يزل حتى استقر عند شيخ العرب موسى أبي حلاوة وأولاده بناحية أميية بالقليوبية باطلاع الشواربي، فأكرموه وواسوه وأخفوا أمره ولم يزل مقيمًا عندهم في غاية الإكرام حتى فرَّج الله عنه.

ولما كان يوم الخميس رابع عشره تقيد للحضور بسبب الكشف على الكسوة «استوفو» خازندار الجمهور «وفوريه» وكيل الديوان، فحضرا صحبتهما المشايخ والقاضي والأغا والوالي والمحتسب بعدما أُخلِيَ المسجد من الناس، وأحضروا خدامين الكسوة الأقدمين، وحلوا رباطاتها وكشفوا عليها فوجدوا بها بعض خلل، فأمروا بإصلاحه ورسموا لذلك ثلاثة آلاف فضة، وكذلك رسموا للخدمة الذين يخدمونها ألف نصف فضة، ولخدمة الضريح ألف نصف، ثم ركبوا إلى منازلهم ثم طويت ووضعت في مكانها بعد إصلاحها.

وفي رابع عشرينه ضربت مدافع كثيرة بسبب ورود مركبين عظيمين من فرنسا فيهما عساكر وآلات حرب، وأخبار بأن بونابارته أغار على بلاد النمسة وحاربهم وحاصرهم وضايقهم، وأنهم نزلوا على حكمه وبقي الأمر بينهم وبينه على شروط الصلح، وأنه استغنى عن هذه الأشيا المرسلة، وسيأتي في إثرهم مركبان آخران فيهما أخبار تمام الصلح، ويستدل بذلك على أن مملكة مصر صارت في حكم الفرنسيس لا يشركهم غيرهم فيها، هكذا قالوا وقرأوه في ورقة بالديوان.

واستهل شهر شوال سنة ١٢١٥

وفيه بدا أمر الطاعون فانزعج الفرنساوية من ذلك، وجردوا مجالسهم من الفرش وكنسوها وغسلوها، وشرعوا في عمل كرنتيلات ومحافظات.

وفي ثامنه، قال وكيل الديوان للمشايخ: إن حضرة ساري عسكر بعث إليَّ كتابًا معناه إيضاح ما يتعلق بأمر الكرنتيلة، ويرى رأيكم في ذلك، وهل توافقون على رأي الفرنساوية أم تخالفون؟

فقالوا: حتى ننظر ما هو المقصود.

فقال: حضرة أرباب الديون يجب عليهم أن يعملوا الطريق الذي يكون سببًا لانقطاع هذه العلة، فإننا نبغي لهم ولغيرهم الخير، فإن أجابوا فذاك وإلا فليلزموا ولو قهرًا، وربما استعملنا القصاص ولو بالموت عند المخالفة، ومن الذي يتغافل عما يكون سببًا لقطع هذا الدا، فإنَّ رأينا قد انعقد على ذلك ويجب أن يتفق معنا أرباب الديوان لأن حفظ الصحة واجب؛ ولذا نرى كثيرًا من الناس — ولا سيما المتشرعون — يستعمل الطبيب عند المرض وغايته حفظ الصحة وما نحن فيه من ذلك، ونذكر لكم أن بلاد المغرب قد اعتمدوا فعل الكرنتيلة الآن، فعُلمَا القاهرة أولى بأن لا يتأخروا عن استعمال الوسايط إذ قد ربطت الأسباب بالمسببات.

فقيل له: وما الذي تأمرون به أن يُفعَل؟

فقال: هو الحذر لا غير وهو الغاية والنتيجة، وهو أنه إذا دخل الطاعون بيتًا لا يدخل فيه أحد، ولا يخرج منه أحد مع ما يترتب على ذلك من القوانين المختصة به وخدمة المريض وعلاجه، وسيوضح لكم ذلك فيما بعد يعني أن تذعنوا للطاعة وعدم المخالفة.

وطال البحث والمناقشة في ذلك بين أرباب الديوان والوكيل، وأنفض المجلس على أن الوكيل سيفاوض ساري عسكر في ذلك، ثم يدبرون أمرًا وطريقة يكون فيها الراحة للناس البلدية والفرنساوية، فإن ذلك فيه مشقة على أهل البلد لعدم ألفتهم لهذه الأمور.

وفي ثالث عشره ضربت عدة مدافع من القلاع لا يُدرَى سببها.

وفي رابع عشره قُرِيَ فرمان من ساري عسكر بالديوان، وألصقت منه نسخ في مفارق الطرق والأسواق، ونصه:

بعد البسملة والجلالة من عبد الله جاك منو سر عسكر أمير عام جيوش دولة جمهور الفرنساوية بالشرق ومظاهر حكومتها ببر مصر حالًا إلى كامل الأهالي كبير وصغير غني وفقير المقيمين حالًا بمحروسة مصر وبمملكة مصر، الناس الذين هم من الأشقيا والمفسدين ولا يفتشون إلا على الإضرار بالناس وإضراركم يظهرون في وسط المدينة بينكم أخبارًا ردية تزويرًا لتخويفكم وتخويف المملكة، وكل ذلك كذب وافترا، فإنما نحن نخبركم جميعًا أن كلًّا من الأهالي المذكورة من أي طايفة وملة كان الذي يثبت عليه بالإشهاد أو النشر من نفسه بينكم تلك الأخبار الردية المكذوبة تخويفًا لكم وإضلالًا بالناس، ففي الحال ذلك الرجل يمسك وترمى رقبته بوسط واحدة طرق مصر، ويا أهالي مصر انتبهوا وتذكروا هذه الكلمات، وكونوا مستريحين البال ومترهفين الحال، إنما دولة الجمهور الفرنساوي حاضرة لحمايتكم وصيانتكم، ولكن ناظر كذلك إلى تعذيب العصاة، والسلام على من اتبع الهدى والصدق والاستقامة، تحريرًا في شهر فانتور سنة تسع الموافق لحادي عشر شهر شوال. انتهى.

فعلم الناس من ذلك الفرمان ورود شي وحصول شي على حد كاد المرتاب أن يقول: خذني.

وليس للناس ذكر ولا فكر إلا في بواقي الفردة وما لزمهم في المليون، ولا شغل لكل فرد إلا بتحصيل ما فرض عليه، ولعل ذلك بسبب الأوراق الواصلة على يد سيدي محمود أبي دفية باللغة الفرنساوية التي تقدم ذكرها، واشتهر أيضًا أنه وردت عليهم أخبار بوصول مراكب إنكليز جهة أبي قير، وفي ذلك المجلس سُيِلَ الوكيل عن ضرب المدافع لأي شي، فقال: لا بد وأن أحيط علمكم ببعض ذلك في هذا المجلس، وهو أن الفرنساوية كانت تحارب القرانات، والآن وقع صلح بينهم وبين القرانات ما عدا الإنكليز فإنه الآن مضيق عليه، وربما كان ذلك سببًا لرضاه بالدخول في الصلح، وقد خرج من فرنسا عمارة ربما توجهت إلى الهند، وربما أنهم يقدمون إلى مصر، وقد وصل لساري عسكر أمر من المشيخة بوصول مراكب الموسقو التي تحمل الذخاير إلى الفرنساوية، وأن يمكِّنهم من دخول إسكندرية، وقد خرج ستة غلايين من فرنسا إلى بحر الهند فربما قدموا بعد ذلك إلى جهة السويس، وبورود هذه الأخبار تعين خلوص مصر إلى جمهور الفرنساوية، وفي سالف الزمان كانت جميع القرانات التي بالجهة الشمالية ضدًّا للفرنساوية، وقد زالت الآن هذه الضدية ومتى انقضى أمر الحرب عمت الرحمة والرأفة والنظر بالملاطفة للرعية، والذي أوجب الاغتصاب والعسف إنما هو الحرب، ولو دامت المسألة لما وقع شي من هذا، فقال بعض أهل الديوان: سُنَّة الملوك العفو والصفح وما مضى لا يعاد، فارحموا واعفوا عما سلف، فقال الوكيل: قد وقع الامتحان ولم يبقَ إلا السلم والمسامحة.

وفيه قبضوا على القلق المعروف بعمر أغا وهو أغات المغاربة المرتبة عندهم عسكرًا وعلى شخصين آخرين، يدعى أحدهما علي جلبي والآخر مصطفى جلبي وسجنا بالقلعة، وسبب ذلك أنه حضر إلى مصطفى جلبي مكتوب من نسيبه بجهة الشام يطلب منه بعض حوايج فقُرِيَ ذلك المكتوب بحضرة عمر القلق ورفيقه الآخر، فوشَى بهم رجل قواس فقبضوا على الجميع، وكان مصطفى جلبي المذكور سكن ببيته محمد أفندي ثاني قلفة، فدخلوا يفتشون عليه في الدار فلم يجدوه، فألزموا به محمد أفندي المذكور وأزعجوه وأحاط به عدة من العسكر، ولم يمكنوه من القيام من مجلسه ولا من اجتماعه بأحد، وبعد أن وجدوا ذلك الإنسان لم يفرجوا عن محمد أفندي بل استمر معهم في الترسيم، ووجدوا مكانًا بالدار به أسلحة وأمتعة فنهبوه وانتهبت الدار والحارة، وحصل عندهم غاية الكرب والمشقة حتى إن بعض جيران ذلك المحل كبر عنده الخوف، وغلب عليه الوهم فمات فجأة رحمه الله، ثم فرَّج الله عن محمد أفندي بعد ثلاثة أيام، وأطلق عمر القلق لظهور براته ولم يكن له جرم غير العلم والسكوت، وانتقل محمد أفندي من تلك الدار وما صدق بخلاصه منها، وبقي علي جلبي ومصطفى جلبي في الحبس.

وفي سابع عشره استُفيضت الأخبار بوصول مراكب إلى أبي قير كما تقدم.

وفي ثامن عشره خرج جملة من العسكر الفرنساوية، وسافروا إلى الجهة البحرية برًّا وبحرًا.

وفي عشرينه اجتمع أهل الديوان فيه على العادة فبدأ الوكيل يقول إنه كان يظن أن يكون حرب، ولكن وردت أخبار أن المراكب التي حضرت إلى إسكندرية وهي نحو ماية وعشرين مركبًا قد رجعت، فقيل له: وما هذه المراكب؟ فقال: مراكب فيها طايفة من الإنكليز وصحبتهم جماعة من الأروام ليس فيها مراكب كبار إلا قليل جدًّا وباقيها صغار تحمل الذخيرة، ثم قال: إن حضرة ساري عسكر قد كان وجه إليكم فرمانًا في شأن ذلك قبل أن يتبين الأمر، وهو وإن كان قد فات موضعه من حيث إنه كان يظن أن هناك حربًا، ولكن من حيث كونه قد برز إلى الوجود فينبغي أن يُتلَى على مسامعكم، ثم أمر رفاييل الترجمان بقرايته ونصه:

من عبد الله جاك منو سر عسكر أمير عام جيوش دولة جمهور الفرنساوية بالشرق، ومظاهر حكومتها ببر مصر حالًا.

إلى جميع سكان مصر، الكبير والصغير، الأغنيا والفقرا، المشايخ والعلما، وجميعهم الذين يتبعون الدين الحق والحاصل لجميع أهالي بر مصر سلمهم الله بمقام السر عسكر الكبير بمصر في أربعة عشر شهر «فانتوز» سنة تسع من قيام الجمهور الفرنساوية واحد ولا ينقسم، ثم كتب تحت ذلك البسملة ولفظ الجلالة، وتحته إن الله هو هادي الجنود، ويعطي النصرة لمن يشا، والسيف الصقيل في يد ملاكه يسابق دايمًا الفرنساوية ويضمحل أعداهم، إن الإنكليزية الذين يظلمون كل جنس للشر في كل المواضع فهم ظهروا في السواحل، وإن كان يتجرءوا يضعوا أرجلهم في البر فيرتدوا في الحال على أعقابهم في البحر والعثمانيين متحركين كَهَوُلا الإنكليزية يعملون أيضًا بعض حركات، فإن كان يقدموا ففي الحال يرتدوا وينقلعوا في غبار وعفار البادية، فأنتم يا أهالي مملكة ومحروسة مصر إني أنا أخبركم إن كان تسلكوا في طريق الخاضعين لله، وتبقوا مستريحين في بيوتكم ومقيمين كما كنتم في أشغالكم وأغراضكم فحينئذ لا خوف عليكم، ولكن إن كان واحد منكم يسلك للفساد وإضلالًا لكم بالعداوة ضد دولة الجمهور الفرنساوي، فأقسمت بالله العظيم وبرسوله الكريم أن رأس ذلك المفسد ترمى في تلك الساعة فتذكروا في كل المواقع حين محاصرة مصر الأخيرة، وجرى دما آبايكم ونسايكم وأولادكم في كل مملكة مصر وخصوصًا محروسة مصر وخواصكم، انتهبوا تحت الغارات وطرحوا عليكم فردة قوية غير المعتاد، فأدخلوا في عقولكم وأذهانكم كل ما قلت لكم الآن، والسلام على كل من هو في طريق الخير، فالويل ثم الويل على كل من يبعد من طريق الخير، ممضي خالص الفؤاد عبد الله جاك منو.

وفي ذلك اليوم عملوا شنكًا وضربوا عدة مدافع من القلاع، فارتاع الناس لذلك واضطربوا اضطرابًا شديدًا، فسيل من الفرنسيس فأخبروا أن ذلك سرور بقدوم مركبين من فرنسا إلى إسكندرية.

وفي ذلك اليوم أيضًا وقع بمجلس الديوان بين الوكيل والمشايخ مفاوضة ومناقشة، وذلك أنه لما أشيع خبر ورود المراكب إلى أبي قير شحت الغلال وارتفعت من الرقع على العادة وزادت أثمانها، فتفاوضوا في شأن ذلك وأنه لا بد من الاعتنا من الحكام وزجر الباعة وطواف المحتسب وشيخ البلد على الرقع والسواحل، ولما قُري الفرمان المذكور قال بعض الحاضرين: العقلا لا يسعون في الفساد وإذا تحركت فتنة لزموا بيوتهم، فقال الوكيل: ينبغي للعقلا ولأمثالكم نصيحة المفسدين فإن البلا يعم المفسد وغيره، فقال بعضهم: هذا ليس بجيد، بل العقاب لا يكون إلا على المذنب، قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ، وقال آخر من أهل المجلس: أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ، فقال الوكيل: المفسدون فيما تقدم أهاجوا الفتنة فعمَّت العقوبة، والمدافع والبنبات لا عقل لها حتى تميز بين المفسد والمصلح فإنها لا تقرأ القرآن، وقال آخر: المخلص نيته تخلصه، فقال الوكيل: إن المصلح من يشمل صلاحه الرعية، فإن صلاحه في حد ذاته يخصه فقط، والثاني أكثر نفعًا، وطال البحث والمناقشة المذكورة، وصورته:

بعد البسملة والجلالة من عبد الله جاك منو سر عسكر أمير عام جيوش دولة جمهور الفرنساوية بالشرق ومظاهر حكومتها ببر مصر حالًا إلى كافة المشايخ والعلما الكرام المقيمين بمحفل الديوان المنيف بمحروسة مصر أدام الله تعالى فضايلهم وألهمهم الحكمة الواجبة لإجرا فرايضهم، نرسل لحضراتكم يا مشايخ ويا علما الكرام نداءً جديدًا خطابًا إلى جميع أهالي مملكة مصر وخصوصًا أهل محروسة مصر ولا شبهة لي في تقييدكم لتنبيههم لكل ما هو محرر فيها، وغير ذلك تذكروا أن هذا التنبيه هو غرضكم إنما حضراتكم ههنا رجال دولة الجمهور الفرنساوي، فيبقى في عقولكم وأذهانكم كل ما وقع حين قصاص مصر الأخيرة، تفهموا بنا على ذلك كيف هو واجب إلى أمنيتكم وراحتكم ضبط الخلايق؛ لأنه إن كان يصير أصغر الحركات فلا بد أثقالها يقع على روسكم وغير ذلك ورد لنا في الحال من فرنسا أنه كملت المصالحة مع إمبراطورية النيمسة، وأن قيصر الروسيين أقام المحاربة ضد دولة العثمانية، والسلام.

وفيه أصبح ثاني يوم اجتمع المشايخ ببيت الشيخ عبد الله الشرقاوي، وحضر الأغا والوالي والمحتسب، وأحضروا مشايخ الحارات وكبرا الأخطاط ونصحوهم وأنذروهم وأمروهم بضبط من هو دونهم، وأن لا يغفلوا أمر عامتهم وحذروهم وخوَّفوهم العاقبة، وما يترتب على قيام المفسدين وجهل الجاهلين، وأنهم هم المأخوذون بذلك كما أن من فوقهم مأخوذ عنهم، فالعاقل يشتغل بما يعنيه على أنه لم يبقَ في الناس إلا رسوم هافتة.

وانفصلوا على ذلك، هذا وديوان المليون يعملون فيه بالجد والاجتهاد وبث المعينين من القواسة والفرنساوية في المطالبة بالثلث والكسرة الباقية من الفردة والتشديد في أمر الكرنتيلة، وإزعاج الناس من ذلك وخوفهم من حصول الطاعون، وأشاعوا فيما بينهم أن من أصابه هذا الدَّا في مكان كشفوا عليه، فإن كان مريضًا بذلك الدا أخذوا ذلك المصاب إلى الكرنتيلة عندهم وانقطع خبره عن أهله إلا إن كان له أجل باقٍ وشُفِيَ من ذلك ويعود إليهم صحيحًا، وإلا فلا يراه أهله بعد ذلك أصلًا ولا يُدرَى خبره؛ لأنه إذا مات أخذه الموكلون بالكرنتيلة ودفنوه بثيابه في حفرة وردموا عليه التراب، وأما داره فلا يدخلها أحد ولا يخرج منها مدة أربعة أيام ويحرقون ثيابه التي تختص به، ويقف على بابه حرس فإن مر أحد ولمس الباب أو الحد المحدود قبضوا عليه وأدخلوه الدار وكرتنوه.

وإن مات الشخص في بيته وظهر أنه مطعون جمعوا ثيابه وفرشه وأحرقوها وغسله الغاسل وحمله الحمالون لا غير وأخرجوه من غير مشهد، وأمامه ناس تمنع المارين من التقرب منه، فإن قرب منه أحد كرتنوه في الحال، وبعد دفنه يكرتنون على كل من باشره بغسل أو حمل أو دفن فلا يخرجون إلا لخدمة أخرى مثلها بشرط لا مساس، فهال الناس هذا الفعل واستبشعوه وأخذوا في الهرب والخروج من مصر إلى الأرياف لذلك ولتوهم وقوع الفتنة بورود أخبار المراكب إلى أبي قير وتحذر الفرنساوية واستعدادهم وتأهبهم ونقل أمتعتهم إلى القلعة.

وفي تاسع عشره خرجت عساكر كثيرة بحمولهم وفرشهم، وذهبوا إلى جهة الشرق وأشيع حضور عرضي العثمانية، ووصولهم إلى العريش صحبة يوسف باشا الوزير.

وفيه أصعدوا الشيخ السادات إلى القلعة من غير إهانة.

وفي يوم الثلاثا رابع عشرينه قبضوا أيضًا على حسن أغا المحتسب، وأصعدوه إلى القلعة أيضًا بشخص يخدمه، فحبسوه بالبرج الكبير، فأما الشيخ السادات فسأل الموكل به عن ذنبه وجرمه الموجب لحبسه، فقال له: لم يكن إلا الحذر من إثارة تلك الفتن في البلد وإهاجة العامة لبغضك الفرنسيس لما سبق لك منهم من الإيذا، وأما المحتسب فإن الشيخ البكري والسيد أحمد الزرو ذهبا إلى قايمقام وإلى ساري عسكر، وتكلما في شأنه فأجابهما بأن هذا لم يكن من شغلكما وقيل للسيد أحمد: إنك رجل تاجر وذاك أمير وليس من جنسك حتى تشفع فيه، فقال: إننا محتاجون إليه لأجل مساعدته معنا في قبض المليون، ولا نعرف له ذنبًا يوجب حبسه؛ لأنه ناصح في خدمة الفرنسيس، فقالا على لسان الترجمان: الله يعلم ذنبه وساري عسكر وهو أيضًا يعلم ذلك من نفسه، ولما سجنوه لم يقلدوا مكانه غيره، فكان كتخداه يركب مع الأغا وأمامهم الميزان ونوبة الحسبة.

وفيه نادوا في الأسواق بالأمان وعدم الانزعاج من أمر الكرنتيلة، وأن من مات لا تحرق إلا ثيابه التي على بدنه لا غير، وكان أشيع في الناس ما تقدم وزادوا على ذلك حرق الدار التي يموت فيها أيضًا، وأن قصدهم أيضًا عمل كرنتيلة على البلد بتمامها، فحصل من هذا المشاع في الناس كرب عظيم ووهم جسيم، فنودي بذلك ليسكن روع الناس.

وفي يوم الخميس سادس عشرينه أرسل كبير الفرنسيس، وطلب رويسا الديوان والتجار فحضروا إلى منزله، فأعلمهم أنه مسافر إلى بحري وتارك بمصر قايمقام بليار وجملة من العسكر والكتبة والمهندسين، وأوصاهم بأن يكون نظرهم على البلد، وكان في العزم حبسهم رهينة، فاستشار في ذلك فاقتضى رأيهم تأخير ذلك، وركب من فوره مسافرًا ولم يرجع من هذه السفرة إلى مصر، وحضر الجماعة إلى الديوان واجتمعوا بالوكيل فوريه فأخبرهم أنه حضر إلى ناحية أبي قير طايفة من الإنكليز وصحبتهم طايفة من المالطية وأخرى نابطلية، وطلعوا إلى قطعة أرض رخوة بين سلسولين من الما، وأن الفرنساوية محيطون بهم من كل جهة.

وفي سابع عشرينه رجعت العساكر التي كانت توجهت إلى جهة الشرق بحمولهم وأثقالهم وصحبتهم ساري عسكر الشرقية «رينه»، فسافروا من يومهم ولحقوا بكبيرهم برًّا وبحرًا، وأخبروا عنهم أنهم لم يزالوا سايرين حتى وصلوا إلى الصالحية، وأرسلوا هجانة إلى العريش، فلم يجدوا أحدًا فكروا راجعين وأشاعوا أن الجهة الشرقية لم يأتِ إليها أحد مطلقًا، وأصل الخبر أن ساري عسكر رينه كاشف القليوبية والشرقية أخبره بعض عربان المويلح بأنهم شاهدوا مراكب إنكليزية ترددت بالقلزم، فأرسل بخبر ذلك إلى ساري عسكر منو ويقول له في ضمن ذلك ويشير عليه بأن يتوجه صحبة جانب من العسكر، ويحصن نواحي الإسكندرية خوفًا من ورود الإنكليز تلك الناحية، وأن رينه يتكفل له بمن يرد إلى ناحية الشرق وأكد عليه في ذلك، فأجابه ساري عسكر بقوله: إن الإنكليز لا يأتون من هذه الناحية وإنهم يأتون من ساحل الشام، ويأمره بالارتحال والذهاب إلى الصالحية يرابط فيها، فتوانى في الحركة وأرسل إليه ثانيًا بمعنى الجواب الأول، ويحثه على تحصين ثغور الإسكندرية، وترددت بينهما المراسلات في ذلك ومضت أيام فيما بين ذلك، فورد الخبر للفرنساوية بورود مراكب الإنكليز وتردادها تجاه الإسكندرية ثم رجوعها، فكتب ساري عسكر منو يقول لرينه: إنهم تَراءَوْا ليوهموا بأن قصدهم ورود الإسكندرية ثم غابوا، وإنهم رجعوا ليطلعوا بناحية الطينة، ويستحثه على الرحلة والذهاب إلى الصالحية فلم يسعه إلا الامتثال والارتحال.

وكتب إليه كتابًا يقول فيه إنهم لا يريدون إلا ثغر الإسكندرية وإنما لم يسعفهم الريح، فلا تغتر برجوعهم وإنه رحل امتثالًا للأمر ويشير عليه هو أيضًا بعدم تأخره عن الذهاب إلى الإسكندرية ويقبل إشارته، فلم يسمع وتأخر عن ذلك، ورحل رينه إلى جهة البركة ولم يستعجل الذهاب، ثم انتقل إلى الزوامل ثم إلى بلبيس، وفي كل يوم ووقت يرسل إليه ساري عسكر منو ويأمره بالذهاب إلى الصالحية، وهو يتلكأ في الرحيل، ثم أرسل له آخرًا يقول له: إنه وردت علينا أخبار بأن يوسف باشا الوزير متحرك إلى القدوم، ويحتم عليه في الرحيل إلى الصالحية، فعند ذلك جمع رينه سواري عسكره وعرض عليهم ذلك وسفَّه رأيه وأن هذا الخبر لا أصل له، وأنا أعلم أننا لا نصل إلى الصالحية حتى يأتي الخبر بخلاف ذلك، ويأتينا الأمر بالرجوع والذهاب إلى الإسكندرية فلا نستفيد إلا التعب والمشقة، وارتحل بمن معه من غير استعجال فوصلوا إلى القرين في ثلاثة أيام، وإذا بمراسلة ساري عسكر منو إلى رينه يخبره بأن الإنكليز وصلوا إلى أبي قير، وطلعوا إلى البر وتحاربوا مع أمير الإسكندرية ومن معه من الفرنساوية وظهروا عليهم، ويستعجله في الرجوع والذهاب إلى الإسكندرية، فقال رينه: هذا ما كنت أخمنه وأظنه، وارتحل راجعًا وعدى على بر إنبابة بعساكره، وتقدم ساري عسكر منو وسبقه إلى الإسكندرية.

شهر القعدة سنة ١٢١٥

في ثالثه أمر وكيل الديوان أرباب الديوان بأن يكتبوا لساري عسكر مكتوبًا بالسلام ففعلوا ما أمروا به.

وفي سادسه توفي محمد أغا مستحفظان مطعونًا، مرض يوم السبت وتوفي ليلة الأحد فوضعوه في نعش وخرج به الحمالون لا غير، وأمامه الطرادون ولم يعملوا له مشهدًا ولا جماعة وكرتنوا داره وأغلقوها على من فيها ولم يقلدوا عوضه أحدًا، بل أذنوا لعبد العال أن يركب عوضًا عنه، وذلك بمعونة نصر الله النصراني ترجمان قايمقام، فاستقر عبد العال المذكور أغات مستحفظان ومحتسبًا، فكان ذلك من جملة النوادر والعبر، فإن عبد العال هذا كان من أسافل العامة، وكان أجيرًا لبعض نصارى الشوام بخان الحمزاوي يخدمه، ثم توسط بمصطفى أغا السابق بسبب معرفته للنصارى المترجمين، حتى تقدم بوساطته وقلدوه الأغاوية فجعله كتخداه ومشيره، فلما تولى محمد أغا تقيد معه كما كان مع مصطفى أغا، ولكن دون الحالة التي كان عليها مع ذلك لصلاحية محمد أغا عن ذلك المقتول، فلما توفي في هذا الوقت ترك لعبد العال أمر المنصب لاشتغال الفرنساوية بما هو الأهم من انفتاح الحروب والطاعون وغير ذلك.

وفي يوم الثلاثا تاسعه أشيع في الناس وصول العثمانيين إلى ناحية غزة، وأن جواليشهم وصلوا إلى العريش وقدمت الهجانة إلى الفرنساوية بالخبر، فلما كان عشا تلك الليلة طلبوا المشايخ إلى الديوان، فلما تكامل حضورهم حضر فوريه الوكيل وصحبته آخر من الفرنسيس من طرف قايمقام، فتكلم فوريه كلامًا كثيرًا ليزيل عنهم الوهم ويوانسهم بزخرف القول كقوله إنه يحب المسلمين ويميل بطبعه إليهم وخصوصًا العلما وأهل الفضايل ويفرح لفرحهم ويغتم لغمهم ولا يحب لهم إلا الخير، وسياسة الأحكام تقتضي بعض الأمور المخالفة للمزاج، وإن ساري عسكر قبل ذهابه رسم لهم رسومًا وأمرهم بإجرائها والمشي عليها في أوقاتها، وإنه عند سفره قصد أن يعوق المشايخ وأعيان الناس ويتركهم في الترسيم رهينة عن المسلمين، فلما ظهر له وتحقق أن الذين وردوا إلى أبي قير ليسوا من المسلمين، وإنما هم إنكليزية ونابلطية، وأعدا للفرنساوية وللمسلمين أيضًا وليسوا من ملتهم حتى يخشى من ميلهم إليهم أو يتعصبوا من أجلهم، والآن بلغنا أن يوسف باشا الوزير وعساكر العثمانية تحركوا إلى هذا الطرف، فلزم الأمر لتعويق بعض الأعيان وذلك من قوانين الحروب عندنا بل وعندكم، ولا يكون عندكم تكدر ولا وهم بسبب ذلك، فليس إلا الإعزاز والإكرام أينما كنتم، والوكيل دايمًا نظره معهم ولا يغفل عن تعليل مزاجهم في كل وقت ويوم، ثم انتهى الكلام وانقضى المجلس على تعويق أربعة أشخاص من المشايخ، وهم: الشيخ الشرقاوي والشيخ المهدي والشيخ الصاوي والشيخ الفيومي، فأصعدوهم إلى القلعة في الساعة الرابعة من الليل مكرمين وأجلسوهم بجامع سارية، ونقلوا إلى مكانهم الشيخ السادات، فاستمر معهم بالمسجد وأمروا الأربعة الباقية من أعضاء الديوان، وهم: البكري والأمير السرسي وكاتبه أن يكون نظرهم على البلد، ويجتمعوا بشيوخ البلد ولا ينقطعوا عنه، وأن المشايخ المحجوزين لا خوف عليهم ولا ضرر، وهم معززون مكرمون، وأطلقوا لكل شيخ منهم خادمًا يطلع إليه وينزل ليقضي له أشغاله وما يحتاج إليه من منزله، والذي يريد من أحبابهم وأصحابهم زيارتهم يأخذ له ورقة بالإذن من قايمقام ويطلع بها فلا يمنع، وكذلك أصعدوا إبراهيم أفندي كاتب البهار وأحمد بن محمود محرم وحسين قرا إبراهيم ويوسف باشجاويش تفكجيان وعلي كتخدا يحيى أغات الجراكسة ومصطفى أغا أبطال وعلي كتخدا النجدلي ومحمد أفندي سليم ومصطفى أفندي جمليان ورضوان كاشف الشعراوي وغيرهم، وأمروا المشايخ الباقية والذين لم يحبسوا بتقييدهم ونظرهم إلى البلد والعامة، وأنهم يترددون على بليار قايمقام ويعلمونه بالأمور التي ينشا عنها الشرور والفتن، وأهمل الديوان المليون والمطالبة بثلثه وكذلك كسرة الفردة ونفَّس الله عن الناس، وكذلك تُسُوهِلَ في أمر الكرنتيلة وإجازة الأموات وعدم الكشف عليهم وتصديق الناس بما يخبرون به في مرض من يموت، وذلك لكثرة أشغالهم وحركاتهم وتحصنهم، ونقل متاعهم وصناديقهم وفرشهم وذخايرهم إلى القلعة الكبيرة على الجمال والحمير ليلًا ونهارًا والطاعون متعلق فيهم، ويموت منهم العدة الكثيرة في كل يوم.

وفي حادي عشره أفرجوا عن الشيخ سليمان الفيومي، وأنزلوه من القلعة ليكون مع من لم يحبس، وأمرهم الوكيل بالتقيد والحضور إلى الديوان على عادتهم ولا يهملونه، فكانوا يحضرون ويجلسون حصة يتحدثون مع بعضهم، ولا يرد عليهم إلا القليل من الدعاوى، ثم ينصرفون إلى منازلهم، وكذلك أمروا الشيخ أحمد العريشي القاضي بأن يحضر ويجلس من غير سابقة له بذلك، وذلك حفظًا للناموس لا غير.

وفي ثالث عشره نقل الكمساري فوريه الوكيل متاعه إلى القلعة وصعد إليها فلم ينزل، وأرسل إلى الشيخ سليمان الفيومي تذكرة يأمره فيها بأن ينقل فراش المجلس ويودعه في مكان بداره ففعل ما أمره به ولم يتركوا به إلا الحصر، وأمر بحضور أرباب الديوان على عادتهم، فكانوا يفرشون سجاجيدهم ويجلسون عليها حصة الجلوس ثم ينصرفون.

وفي رابع عشره نقلوا حسن أغا المحتسب من البرج إلى جامع سارية صحبة المشايخ، وكذلك فوريه الوكيل جعل سكنه الجامع المذكور وأظهر أن قصده موانستهم وليس إلا لضيق مساكن القلعة وازدحام الفرنسيس، وكثرة ما نقلوه إليها من الأمتعة والذخاير والغلال والأحطاب مع ما هدموه من أماكنها حتى إنهم سدوا أبواب الميدان وجعلوه من جملة حقوقها، فكانوا ينزلون إليه ويصعدون منه من باب السبع حدرات.

وفي تاسع عشره ورد مكتوب من كبير الفرنسيس من ناحية إسكندرية مؤرَّخ بثالث عشر القعدة، وهو جواب عن المكتوب المرسل إليه السابق ذكره وصورته بعد الصدر المعتاد:

من عبد الله جاك منو سر عسكر أمير عام جيوش الفرنساوية بالشرق والمظهر حكومتها ببر مصر حالًا إلى كامل المشايخ والعلما الكرام المقيمين بالديوان المنيف بمحروسة مصر أدام الله فضايلهم، ورد لنا مكتوبكم العزيز ورأينا بكامل السرور كل ما فصلتم لنا به، وثبت من مفهومنا صدق ودادكم لنا ولعساكر دولة جمهور الفرنساوية ودمتم حضراتكم وكافة أهالي مصر بالحمية والاستقامة الموعودة، ومعلوم على فضايلكم أن الله يهدي كل من يشاء وما النصر إلا منه، ووضعت عليه اعتمادي وما توفيقي إلا به وبرسوله الكريم عليه الصلاة والسلام الدايم، وإن ابتغيت النصرة فما هو إلا لسهولة خيراتي إلى بر مصر وسكان ولايتها وخير أمور أهلها، والله تعالى يكون دايمًا معكم ويكرم وجوهكم بالسلامة.

وفيه سمع ونقل عن بعض الفرنسيس أنه وقع الحرب بين الفرنساوية والإنكليزية، وكانت الهزيمة على الفرنساوية، وقتل بينهم مقتلة كبيرة وانحازوا إلى داخل الإسكندرية، ووقع بينهم الاختلاف واتهم منو ساري عسكر رينه وداماص، ورَابَهُ منهما ما رَابَه، وكانا سببًا لهزيمته فيما يظن ويعتقد، فقبض عليهما وعزلهما من إمارتهما، وذلك أن رينه وداماص لمَّا ذهبا على الصورة المتقدمة، ونظر رينه وأرسل من كشف على متاريس الإنكليز فوجدها في غاية الوضع والإتقان، فاجتمعوا للمشورة على عادتهم، ودبروا بينهم أمر المحاربة، فرأى ساري عسكر منو رأيه فلم يعجب رينه ذلك الرأي، وقال: إن فعلنا ذلك وقعت الغلبة علينا وإنما الرأي عندي كذا وكذا، ووافقه على ذلك داماص وكثير من عقلاهم، فلم يرضَ بذلك منو، وقال: أنا ساري عسكر وقد رأيت رأيي، فلم يسعهم مخالفته، وفعلوا ما أمر به فوقعت عليهم الهزيمة، وقتل منهم في تلك الليلة خمسة عشر ألفًا وتنحى رينه وداماص ناحية ولم يدخلا في الحرب بعسكرهما، فاغتاظ منو ونسبهما للخيانة والمخامرة عليه وتسفيههم لرأيه، وأكد ذلك عنده أنهما لما حضرا إلى الإسكندرية أخذا معهما أثقالهما، وما كان لهما بمصر لعلمهما عاقبة الأمر وسوء رأي كبيرهما، فاشتد إنكاره عليهما وعزل عنهما العسكر، وحبسهما ثم أطلقهما ونزلا إلى المراكب مع عدة من أكابرهم وسافرا إلى بلادهما، وكان منو أرسل إلى بونابرته يخبر عن ورود الإنكليز ويستنجده، فأرسل إليه عسكرًا فصادفوا الجماعة المذكورين في الطريق فأخبروهم عن الواقع وردوهم من أثناء الطريق، وقد أشاروا لذلك في بعض مكاتباتهم، وأخبر أيضًا المخبرون أن الإنكليز أطلقوا حبوس المياه الملحة حتى أغرقت طرق الإسكندرية، وصار جميعها لجة ماء ولم يبقَ لها طريق مسلوك إلا من جهة العجمي إلى البرية وأن الإنكليز تترسوا قبالهم من جهة الباب الغربي.

وفيه ورد الخبر بأن حسين باشا القبطان ورد بعساكره جهة أبي قير، وطلع عسكره من المركب إلى البر وقويت القراين الدالة على صحة هذه الأخبار، وظهرت لوايح ذلك من الفرنسيس مع شدة تجلدهم وكتمان أمرهم وتنميق كلامهم.

وفيه سدوا باب البرقية المعروف بباب الغريب وبنوه، فضاق خناق الناس بسبب الخروج إلى القرافة بالأموات، فكان الذي مدفنه ببستان المجاورين يخرج بجنازته من باب النصر، ويمرون بها من خلف السور المسافة الطويلة حتى ينتهوا إلى مدفنهم، فحصل للناس مشقة شديدة وخصوصًا مع كثرة الأموات، فكلَّم يوم الأحد حادي عشرينه بعض المشايخ قايمقام في شأن ذلك، فأرسل إلى قبطان الخطة ففتح بابًا صغيرًا من حايط السور جهة كفر الطماعين على قدر النعش والحمالين والمشاة.

وفي ثاني عشرينه سافر جماعة من أعيان الفرنساوية إلى جهة بحري، وهم: استوف الخازندار العام ومدبر الحدود وفوريه وكيل الديوان وشنانيلو مدبر أملاك الجمهور وبرنار وكيل دار الضرب وريج خازندار دار الضرب ولابرت ريس مدرسة المكتب وحافظ سجلاتهم وكتبهم، وأخذوا معهم طايفة من رويسا القبط وفيهم جرجس الجوهري، وأشيع في الناس بأن سفرهم لتقرير الصلح وليس كذلك.

وفي ثالث عشرينه توكل بحضور الديوان كمساري يقال له جيرار.

وحضر يوم الجمعة سادس عشرينه بصحبة كاتب سلسلة التاريخ محبنا الفاضل العمدة السيد إسماعيل المعروف بالخشاب، وحضرة قاسم أفندي أمين الديوان وكاتب الديوان، فلما استقر به الجلوس أخبر أنه ورد كتاب من كبيرهم جاك منو باللغة الفرنساوية مضمونه أنه مقيم بإسكندرية، وهو مورَّخ بعشرين القعدة، ومثل ذلك من الكلام الفارغ.

وفيه قدم ثلاثة أنفار من العرب صحبة جماعة من الفرنسيس، وذهبوا بهم إلى بيت قايمقام فاستفسر منهم فاختل كلامهم وتبين كذبهم، فأمر بحبسهم.

وفيه حضر جماعة من الفرنسيس من جهة الشرق، ومعهم دواب كثيرة وآلات حرب ومروا في شارع المدينة، ومنعوا الناس من شرب الدخان خوفًا على البارود من النار ولم يعلم سبب قدومهم، ثم تبين أنهم هم الذين كانوا محافظين بالصالحية، وبعد أيام حضر أيضًا الذين كانوا بالقرين، وكذلك الذين كانوا ببلبيس وناحية الشرق شيًّا بعد شي.

شهر ذي الحجة الحرام سنة ١٢١٥

فيه حصل الاجتماع بالديوان وأخبر الوكيل أن كبيرهم قد بعث أخبارًا بالأمس، منها أنه قد مات جماعة من كبرا الإنكليز وأن أكثر عساكرهم مريضون بمرض الزحير والرمد، وربما يحصل الصلح عن قريب ويرجعون إلى بلادهم، وأن العطش مضاررهم، وبعثوا عدة مراكب لتأتيهم بالماء فتعذر عليهم ذلك، ثم سأل عن أحوال البلد وسكون الرعية والغلال والأقوات، فأجيب بأن البلد مطمينة والرعية ساكنة والغلال موجودة، فقال: لا بد من اعتناكم بجميع هذه الأمور الموجبة للراحة.

وفيه أشيع أن الإنكليز ومن معهم من العثمانية ملكوا ثغر رشيد وأبراجها، وحاربوا من كان بها من الفرنسيس حتى أجلوهم عنها ودخلوها.

وفي ذلك اليوم قبضوا على نيف وستين من مغاربة الفحامين وطولون والغورية ونفوهم، وذلك من فعل عبد العال الأغا.

وفيه أمر بليار قايمقام بركوب أحد المشايخ صحبة عبد العال ويمرون بشوارع المدينة، فكان يركب معه مرة الشيخ محمد الأمير ومرة الشيخ سليمان الفيومي وذلك لتطمين الرعية.

وفي سادسه قُرِيَ مكتوب زعموا أنه حضر من ساري عسكر منو من جهة الإسكندرية، وصورته بعد البسملة والجلالة والصدر المعتاد.

إلى حضرات كافة المشايخ والعلما الكرام المستشيرين بمحفل الديوان المنيف بمحروسة مصر أدام الله تعالى فضايلهم، وما النصرة إلا من الله وبشفاعة رسوله الكريم عليه السلام الدايم، العساكر الفرنساوية والإنكليزية هما إلى هذا الآن حصيران قبلهما، فحصنا أطرافنا بمتاريس وخنادق لا تغلب ولا تهجن، وغير ذلك يلزم نخبر حضراتكم لتهدية تمشياتكم ولأجل انتظامها أن سلطان الروسية المحمية أعلن بواسطة مراسله إلى حضرة السلطان سليم أذعن الأمر إلى عسكره لأجل ما يتجانبوا ويتراووا ويخلوا من بر مصر جميعًا وإلا لا بد من السلطان الروسيا الجمعية الإقامة بالمحاربة بمعية ماية ألف عسكرية ضد العثمانية وضد قسطنطينية فبناءً على ذلك أرسل السلطان سليم أوامره بفرمانه خطابه إلى عساكره لتخلية بر مصر بالكامل من بالبر المذكور.

ولكن ذهب الإنكليزية كفًّا للارتشا بعض من مقدار العسكر العثمانية وبتقديم امتثالهم إلى أوامر سلطانهم فأعلنوا وأخبروا كل ذلك إلى أهالي مصر، فانتظموا كما كنتم دايمًا بالخير، واعتمدوا واعتنوا بحماية وصيانة دولة الجمهور الفرنساوية، والله تعالى يديم فضايلكم عن الإلهام بالخير والسلامات، حرر في الخامس والعشرين من شهر جرمينيال سنة تسعة الموافق لثلاثة ذي الحجة سنة ألف ومايتين وخمسة عشر، كتب بألفاظه وحروفه من خط مُنشِيه لوماكا الترجمان.

ثم قال الترجمان: إن الفرنساوي الذي حمل هذا الكتاب نقل لي عن سر عسكر أنه ناشر لكم ألوية الشكر على قيامكم بوظايفكم، فدوموا على ذلك فأجيب بالسمع والطاعة، ثم إن بعض الحاضرين من المشايخ أخبر بأن رجلًا من المنوفية يقال له موسى خالد كان الفرنساوية أحسنوا إليه وقدموه على أقرانه، فلما خرجوا من المنوفية أفسد في البلاد وقطع الطريق ولا يتمكن أحد من أهل هذه الجهة أن يخرج من بلده لتحصيل معاشه، وأنه قبض على الشيخ عابدين القاضي وصادره في نحو ثلاثة آلاف ريال، وكذلك صادر كثيرًا من أغنيا منوف وغيرها وأخذ أموالهم، فقال الوكيل: ستسكن الفتنة ويعاقب المفسدون، ثم أمر بكتابة مكاتيب ممضاة من مشايخ الديوان خطابًا للتجار والمتسببين ولمشايخ البلاد يأمرونهم بإرسال الغلال والأقوات إلى مصر، فكتبوا للمحلة الكبرى ومنوف والمنصورة والفشن وبني سويف.

وفيه كتبوا جوابًا من مشايخ الديوان لكبير الفرنسيس جوابًا عن المكتوب المذكور آنفًا.

وفيه ذكر قايمقام بليار لبعض الرؤسا أنه إذا رجع ساري عسكر منصورًا، ودامت أهل البلد على طاعتهم وسكونهم رفع عنهم نصف المليون والظلم، ويمكنكم أن تكتبوا إلى البلاد بدفع الميري ورفعنا الطلب عن الناس، فقالوا: هذا غير ممكن لحصول البلاد في حيازة القادمين وقطع الطريق من وقوف العرب بها وعدم الانتظام، وإنما القصد الملاطفة والرفق، فإن وظيفتنا النصح والوساطة في الخير.

وفي يوم الخميس سادس الحجة حضر استوف الخازندار وجرجس الجوهري ومن معهما من القبطة وغيرهم ما عدا الفرنسيس الذين ذهبوا معه، فأرسلت أوراق بحضور مشايخ الديوان والتجار والأعيان من الغد، فلما كان في صبحها حصلت الجمعية، وحضر الخازندار والوكيل وعبد العال وعلي أغا الوالي وبعض التجار كالسيد أحمد الزرو والحاج عبد الله التاودي شيخ الغورية والحاج عمر المطيلي التاجر بخان الخليلي ومحمود حسن وكليمان الترجمان، فتكلم استوف وترجم عنه الترجمان بما يلي:

إن ساري عسكر الكبير منو يقريكم السلام ويثني عليكم كثيرًا، وسينجلي هذا الحادث — إن شا الله تعالى — ويقدم فيه خير، ويرى أهل مصر ما يسرهم، وقد هلك من الإنكليز خلق كثير وباقيهم أكثرهم مرمودون الأعين وبمرض الزحير، وجات طايفة منهم إلى الفرنساوية وانضموا إليهم من جوعهم وعطشهم، ولتعلموا أن الفرنساوية لم يسلموا في رشيد قهرًا عنهم بل تركوها قصدًا، وكذلك أخلينا دمياط لأجل أن يطمعوا ويدخلوا إلى البلاد وتتفرق عساكرهم فنتمكن عند ذلك من استيصالهم، ونخبركم أنه قد وردت إلى إسكندرية مركب من فرنسا، وأخبرت أن الصلح قد تم مع كامل القرانات ما عدا الإنكليز فإنهم لم يدخلوا في الصلح وقصدهم عدم سكون الحرب والفتن ليستولوا على أموال الناس، واعلموا أن المشايخ المحبوسين بالقلعة وغيرهم لا بأس عليهم، وإنما القصد من تعويقهم وحبسهم رفعُ الفتن والخوف عليهم، وشريعة الفرنساوي اقتضت ذلك ولا يمكن مخالفتها كمخالفة القرآن العظيم عندكم، وقد بلغنا أن السلطان العثملي أرسل إلى عسكره بالكف عن الفرنساوية، والرجوع عن قتالهم فخاف عليه بعض السفها منهم، وخرجوا عن طاعته وأقاموا الحرب بدون إذنه، فأجابه بعض الحاضرين بقوله: إن القصد حصول الراحة والصلح والفرنساوية عندنا أحسن حالًا من الإنكليز؛ لأننا قد عرفنا أخلاقهم ونعلم أن الإنكليز إنما يريدون بانضمامهم إلى العثملية تنفيذ أغراضهم فقط، فإنهم يولون العثملي ويغرونه حتى يوقعوه في المهالك ثم يتركونه كما فعلوا سابقًا، ثم قال الخازندار: إن الفرنساوية لا يحبون الكذب ولم يعهد عليهم، فلازم أن تصدقوا كل ما أخبركم به، فقال بعض الحاضرين: إنما يكذب الحشاشون، والفرنساوية لا يأكلون الحشيش، ثم قال الخازندار: إن وقع من أهل مصر فشل أو فساد عوقبوا أكثر من عام أول، واعلموا أن الفرنساوية لا يتركون الديار المصرية ولا يخرجون منها أبدًا؛ لأنها صارت بلادهم وداخلة في حكمهم، وعلى الفرض والتقدير إذا غلبوا على مصر فإنهم يخرجون منها إلى الصعيد ثم يرجعون إليها ثانيًا، ولا يخطر في بالكم قلة عساكرهم فإنهم على قلب رجل واحد، وإذا اجتمعوا كانوا كثيرًا، وطال الكلام في مثل هذه التمويهات والخرافات وأجوبة الحاضرين بحسب المقتضيات، ثم قال الخازندار: القصد منكم معاونة الفرنساوية ومساعدتهم وغلاق نصف المليون ونشفع بعد ذلك عند ساري عسكر في فوات النصف الثاني حكم ما عرفكم قايمقام بليار، فاجتهدوا في غلاقه من الأغنياء واتركوا الفقرا، فأجابوا في آخر الكلام بالسمع والطاعة، فقال: لكن ينبغي التعجيل فإن الأمر لازم لأجل نفقة العسكر، ثم قال لهم: ينبغي أن تكتبوا جوابًا لساري عسكر تعرفونه فيه عن راحة أهل البلد وسكون الحال وقيامكم بوظايفكم، وهو إن شا الله يحضر إليكم عن قريب، وانفض المجلس، وكتب الجواب المأمور به وأرسل.

وفيه ورد الخبر بوصول طاهر باشا الأرنؤدي بجملة من العساكر الأرنؤدية إلى أبي زعبل.

وفيه خرج عدة من عساكر الفرنساوية، وضربوا أربع قرى من الريف بعلة موالاة العرب وقطاع الطريق، فنهبوهم وحضروا إلى مصر بمتاعهم ومواشيهم.

وفيه أرسل بليار قايمقام يطلب من الوجاقلية بقية ما عليهم من المال المتأخر من فردة الملتزمين، وقدره اثنا عشر ألف ريال، وإن تأخروا عن الدفع أحاط العسكر ببيوتهم، ونقلهم إلى أضيق الحبوس بل واستعمالهم في شيل الأحجار، فاعتذروا بضيق ذات يدهم وحبسهم، فتصدر إليهم السيد أحمد الزرو وتشفع عند قايمقام بأن يقوموا بدفع أربعة آلاف ريال ويؤجلوا بالباقي وينزلوا من القلعة لتحصيل ذلك، فأجابه وأنزل علي أغا يحيى أغات الجراكسة ويوسف باشجاويش إلى بيت عبد العال، وحبسهم بمكان بداره وحبس معهم مصطفى كتخدا الرزاز، فكان يتهددهم ويرسل إليهم أعوانه يقولون لهم: شهلوا ما عليكم وإلا ضربكم الأغا بالكرابيج، فسبحان الفعال لما يريد، فإن عبد العال هذا الذي يتهددهم ربما كان لا يقدر على الوصول إلى الوقوف بين يدي بعض أتباعهم فضلًا عنهم.

وفيه أحاط الفرنسيس بمنزل حسن أغا الوكيل المتوفَّى قبل تاريخه، وذلك بسبب أنه وُجِدَ ببيته غلام فرنساوي مختفٍ أسلم وحلق رأسه، وقبضوا على أحد خشداشينه وحبسوه لكونه علم ذلك ولم يخبر به.

وفيه حضرت رسل من طرف عرضي الوزير لقايمقام بليار، فاجتمعوا به وخلا بهم ووجههم من ليلتهم، فلما حصلت الجمعية بالديوان سيل الوكيل عن ذلك فقال: نعم، إنهم أرسلوا يطلبون الصلح.

وفي ثامن عشره أفرجوا عن إبراهيم أفندي كاتب البهار ليساعد في قبض نصف المليون.

وفي رابع عشرينه قبضوا على أبي القاسم المغربي شيخ رواق المغاربة، وحبسوه بالقلعة بسبب أنه كان يتكلم في بعض المجالس، ويقول: أنا شيخ المغاربة وأحكم عليهم ويتباهى بمثل هذا القول، فنقل عنه ذلك إلى عبد العال والفرنسيس وظنوا صحة قوله وأنه ربما أثار فتنة فقبضوا عليه وحبسوه، وكذلك حبسوا محمد أفندي يوسف ثاني قلفة وآخر يقال له عبيد السكري.

وفي خامس عشرينه أبرزوا مكتوبًا، وزعموا أنه حضر من ساري عسكرهم وقري بالديوان وصورته بعد الصدر خطابًا.

إلى كافة العلما والمشايخ الكرام بمحفل الديوان المنيف بمحروسة مصر حالًا أدام الله تعالى فضايلهم، ورد لنا مكتوبكم وانشرح قلبي من كل ما شهدتم لنا فيه بأنه يثبت عقلكم السليم وصدقكم وتقييد قلوبكم في طارق الدستور، فدوموا مهتدين بهذه المملكة، ولا بد لفضايلكم من دولة جمهورنا كامل الوفا من حسن رضا واطمينان عليكم منها ومن طرف عمدة أصحاب الجراءة والشجاعة حضرة القونصل أولها بونابارته وعلى الخصوص من طرفنا، وكان ضد أوامري أن الستويان رينيه الذي كنت وصفته قرب فضايلكم ترك ذلك الموضع توجهًا إلى إسكندرية، وما تلك الفعلة إلا من نقص جسارته في ذي الوقعة، فبدلناه جنب فضايلكم بالستويان جيرار جُلَّ واجب الاستوصا لأجل عرضه وفضله، وخصوصًا لأجل غيرته وجسارته؛ فلذلك هو كسب اعتمادي فاعتمدوا إلى كل ما هو قايل بفضايلكم من جانبنا، وبمنِّه وعونه تعالى عن قريب نواجهكم بمصر بخير وسلامة، ودوموا حسب تدبيراتكم لتنظيم البلد ومماسكة الطاعة بين الأمة الحامدة والسياسة بين غيرهم، وكذلك نرجو من رب الأجناد بحرمة سيد العباد أن تشدوا قلوبكم توكلًا له؛ لأن عوننا اسمه العظيم.

حرر في ثلاثة عشر فلوريال سنة تسعة موافقًا لثمانية عشر ذي الحجة سنة ألف ومايتين وخمسة عشر، ممضي عبد الله جاك منو، انتهى بألفاظه وحروفه.

وفي سادس عشرينه أعادوا فرش الديوان بأمر الوكيل جيرار، وذلك على حد قول القايل:

وتجلُّدِي للشامتين أريهمُ
أني لريب الدهر لا أتضعضع

وفيه أفرجوا عن محمد كاشف سليم الشعراوي بشفاعة حسين كاشف وسافر إلى جهة الصعيد.

وفي ثامن عشرينه وردت الأخبار بوصول ركاب الوزير يوسف باشا إلى مدينة بلبيس، وذلك يوم الجمعة رابع عشرينه.

وفيه أخبر وكيل الديوان أن ساري عسكر أرسل كتابًا إلى الست نفيسة بالتعزية، ورتب لها في كل شهر ماية ألف نصف وأربعين، وانقضت هذه السنة بحوادثها وما حصل فيها.

موجز لأحداث العام الماضي

فمنها توالى الهدم والخراب وتغيير المعالم وتنويع المظالم، وعم الخراب خطة الحسينية خارج باب الفتوح والخروبي فهدموا تلك الأخطاط والجهات والحارات والدروب والحمامات والمساجد والمزارات والزوايا والتكايا وبركة جناق وما بها من الدور والقصور المزخرفة وجامع الجنبلاطية العظيم بباب النصر، وما كان به من القباب العظام المعقودة من الحجر المنحوت المربعة الأركان الشبيهة بالأهرام والمنارة العظيمة ذات الهلالين، واتصل هدم خارج باب النصر بخارج باب الفتوح وباب القوس إلى باب الحديد حتى بقي ذلك كله خرابًا متصلًا واحدًا، وبقي سور المدينة الأصلي ظاهرًا مكشوفًا فعمروه ورموا ما تشعث منه، وأوصلوا بعضه ببعض بالبنا ورفعوا بنيانه في العلو، وعملوا عند كل باب كرانك وبدنات عظامًا وأبوابًا داخلة وخارجة وأخشابًا مغروسة بالأرض مشبكة بكيفية مخصوصة، وركزوا عند كل باب عدة من العسكر مقيمين وملازمين ليلًا ونهارًا.

ثم سدوا باب الفتوح بالبنا وكذلك باب البرقية وباب المحروق، وأنشاوا عدة قلاع فوق تلال البرقية ورتبوا فيها العساكر وآلات الحرب والذخيرة وصهاريج الما، وذلك من حد باب النصر إلى باب الوزير وناحية الصوة طولًا، فمهدوا أعالي التلال وأصلحوا طرقها وجعلوا لها مزالق وانحدارات لسهولة الصعود والهبوط بقياسات وتحريرات هندسية على زوايا قايمة ومنفرجة، وبنوا تلك القلاع بمقادير بين أبعادها، وهدموا أبنية راس الصوة حيث الحطابة وباب الوزير تحت القلعة الكبيرة، وما بذلك من المدارس القديمة المشيدة والقباب المرتفعة.

وهدموا أعالي المدرسة النظامية ومنارتها، وكانت في غاية من الحسن وجعلوها قلعة، ونبشوا ما بها من القبور فوجدوا الموتى في توابيت من خشب، فظنوا داخلها دراهم فكسروا بعضها فوجدوا بها عظام الموتى فأنزلوا تلك التوابيت وألقوها إلى خارج، فاجتمع أهل تلك الجهة وحملوها وعملوا لها مشهدًا بجمع من الناس ودفنوها داخل التكية المجاورة لباب المدرج، وجعلوا تلك المدرسة قلعة أيضًا بعد أن هدموا منارتها أيضًا.

وكذلك هدموا مدرسة القانبية والجامع المعروف بالسبع سلاطين، وجامع الجركسي وجامع خوند ببركة الناصرية خارج باب البرقية، وكذلك أبنية باب القرافة ومدارسها ومساجدها، وسدوا الباب وعملوا الجامع الناصري الملاصق له قلعة بعد أن هدموا منارته وقبابه.

وسدوا أبواب الميدان من ناحية الرميلة وناحية عرب اليسار، وأوصلوا سور باب القرافة بجامع الزمرد، وجعلوا ذلك الجامع قلعة، وكذلك عدة قلاع متصلة بالمجراة التي كانت تنقل الماء إلى القلعة الكبيرة وسدوا عيونها وبواكيها وجعلوها سورًا بذاتها، ولم يُبقُوا منها إلا قوصرة واحدة من ناحية الطيبي جهة مصر القديمة جعلوها بابًا ومسلكًا، وعليها الكرنك والغفر والعسكر الملازمين الإقامة بها، ولقبض المكس من الخارج والداخل، وسدوا الجهة المسلوكة من ناحية قنطرة السد بحاجز خشب مقفص وعليه باب بقفل مقفص أيضًا وعليه حرسجية ملازمون القيام عليه، وذلك حيث سواقي المجراة التي كانت تنقل الما إلى القلعة، وحفروا خلف ذلك خندقًا.

وأما ما أنشاوه وعمروه من الأبراج والقلاع والحصون بناحية ثغر الإسكندرية ورشيد ودمياط وبلاد الصعيد فشيٌّ كثير جدًّا وذلك كله في زمن قليل.

ومنها تخريب دور الأزبكية وردم رصيفاتها بالأتربة، وتبديل أوضاعها وهدم خطة قنطرة الموسكي، وما جاورها من أول القنطرة المقابلة للحمام إلى البوابة المعروفة بالعتبة الزرقا، حيث جامع أزبك وما كان في ضمن ذلك من الدور والحوانيت والوكايل وكوم الشيخ سلامة، فيسلك المار من على القنطرة في رحبة متسعة تنتهي إلى رحبة الجامع الأزبكي، وهدموا بيت الصابونجي ووصلوه بجسر عريض ممتد ممهد حتى ينتهي إلى قنطرة الدكة، وفي متوسط ذلك الجسر ينعطف جسر آخر إلى جهة اليسار عند بيت الطويل المهدوم وبيت الألفي حيث سكن ساري عسكر، ممتد ذلك الجسر إلى قنطرة المغربي، ومنها يمتد إلى بولاق على خط مستقيم إلى ساحل البحر حيث موردة التبن والشون، وزرعوا بحافتيه السيسبان والأشجار وكذلك برصيفات الأزبكية.

وهدموا المسجد المجاور لقنطرة الدكة مع ما جاوره من الأبنية والغيطان، وعملوا هناك بوابة وكرنكًا وعسكرًا ملازمين الإقامة والوقوف ليلًا ونهارًا، وذلك عند مسكن بليار قايمقام وهي دار جرجس الجوهري وما جاوره، وكان في عزمهم إيصال ما انتهوا إلى هدمه بقنطرة الموسكي إلى سور باب البرقية، ويهدمون من حد حمام الموسكي حتى يتصل المهدوم بناحية الأشرفية، ثم إلى خان الخليلي إلى إسطبل الطارمة المعروف الآن بالشنواني إلى ناحية كفر الطماعين إلى البرقية، ويجعلون ذلك طريقًا واحدًا متسعًا وبحافتيه الحوانيت والخانات، وبها أعمدة وأشجار وتكاعيب وتعاريش وبساتين من أولها إلى آخرها من حد باب البرقية إلى بولاق، فلما انتهوا في الهدم إلى قنطرة الموسكي تركوا الهدم ونادوا بالمهلة ثلاثة أشهر، وشرعوا في أبنية حوايط بحافتي القنطرة ومعاطف ومزالق إلى حارة الإفرنج وحارة النباقة، وذلك بالحجر النحت المتقن الوضع، وكذلك عمروا قناطر الخليج المتهدمة داخل مصر وخارجها على ذلك الشكل مثل قنطرة السد والقنطرة التي بين أراضي الناصرية، وطريق مصر القديمة وقنطرة الليمون، وقنطرة قديدار وقنطرة الإوز وغير ذلك، ثم فاجأهم حادث الطاعون، ووصول القادمين فتركوا ذلك واشتغلوا بأمور التحصين وسيأتي تتمة ذلك.

ومنها توالي خراب بركة الفيل وخصوصًا بيوت الأمرا التي كانت بها، وأخذوا أخشابها لعمارة القلاع ووقود النيران والبيع، وكذلك ما كان بها من الرصاص والحديد والرخام، وكانت هذه البركة من جملة محاسن مصر، وفيها يقول أبو سعيد الأندلسي وقد ذكر القاهرة:

وأعجبني في ظاهرها بركة الفيل؛ لأنها دايرة كالبدر والمناظر فوقها كالنجوم، وعادة السلطان أن يركب فيها بالليل، ويسرج أصحاب المناظر على قدر هممهم وقدرتهم فيكون بذلك لها منظر عجيب، وفيها أقول:

انظر إلى بركة الفيل التي اكتنفت
بها المناظر كالأهداب للبصر
كأنما هي والأبصار ترمقها
كواكب قد أداروها على القمر

ونظرت إليها، وقد قابلتها الشمس بالغدو فقلت:

انظر إلى بركة الفيل التي نحرت
لها الغزالة نحرًا من مطالعها
وخل طرفك محفوفًا ببهجتها
تهيم وجدًا وحبًّا في بدايعها

وتخرب أيضًا جامع الرويعي وجعلوه خمارة، وبعض جامع عثمان كتخدا القزدغلي الذي بالقرب من رصيف الخشاب، وجامع خير بك حديد الذي بدرب الحمام بقرب بركة الفيل، وجامع البنهاوي والطرطوشي والعدوي، وهدموا جامع عبد الرحمن كتخدا المقابل لباب الفتوح حتى لم يبقَ به إلا بعض الجدران، وجعلوا جامع أزبك سوقًا لبيع أقلام المكوس.

ومنها أنهم غيَّروا معالم المقياس وبدلوا أوضاعه، وهدموا قبته العالية والقصر البديع الشاهق والقاعة التي بها عمود المقياس، وبنوها على شكل آخر لا بأس به لكنه لم يتم، وهي على ذلك باقية إلى الآن ورفعوا قاعدة العامود العليا ذراعًا، وجعلوا تلك الزيادة من قطعة رخام مربعة، ورسموا عليها من جهاتها الأربع قراريط الذراع.

ومنها أنهم هدموا مساطب الحوانيت التي بالشارع، ورفعوا أحجارها مظهرين أن القصد بذلك توسيع الأزقة لمرور العربات الكبيرة التي ينقلون عليها المتاع واحتياجات البنا من الأحجار والجبس والجير وغيره، والمعنى الخفي الشافي خوفًا من المتاريس بها عند حدوث الفتن كما تقدم، وكانوا وصلوا في هدم المساطب إلى باب زويلة ومن الجهة الأخرى إلى عطفة مرجوش، فهدموا مساطب خط قناطر السباع والصليبة ودرب الجماميز وباب سعادة وباب الخرق إلى آخر باب الشعرية، ولو طال الحال لهدموا مساطب العقادين والغورية والصاغة والنحاسين إلى آخر باب النصر وباب الفتوح، فحصل لأرباب الحوانيت غاية الضيق لذلك، وصاروا يجلسون في داخل فجوات الحوانيت مثل الفيران في الشقوق.

وبعض الزوايا والجوامع والرباع التي درجُها خارج عن سمت حايط البنا لما هدموا درجَه وبسطته بقي باب مدخله معلقًا، فكانوا يتوصلون إليه بدرج من الخشب مصنوع، يضعونه وقت الحاجة ويرفعونه بعدها وذلك عمل كثير.

ومنها تبرج النسا وخروج غالبهن عن الحشمة والحيا، وهو أنه لما حضر الفرنسيس إلى مصر ومع البعض منهم نساهم كانوا يمشون في الشوارع مع نساهم وهن حاسرات الوجوه لابسات الفستانات والمناديل الحرير الملونة، ويسدلن على مناكبهن الطرح الكشميري والمزركشات المصبوغة، ويركبن الخيول والحمير ويسوقونها سوقًا عنيفًا مع الضحك والقهقهة ومداعبة المكارية معهم وحرافيش العامة.

فمالت إليهم نفوس أهل الأهوا من النسا الأسافل والفواحش، فتداخلن معهم لخضوعهم للنسا وبذل الأموال لهن، وكان ذلك التداخل أولًا مع بعض احتشام وخشية عار ومبالغة في إخفايه، فلما وقعت الفتنة الأخيرة بمصر، وحاربت الفرنسيس بولاق وفتكوا في أهلها وغنموا أموالها وأخذوا ما استحسنوه من النسا والبنات صرن مأسورات عندهم، فزيوهن بزي نساهم وأجروهن على طريقتهن في كامل الأحوال، فخلع أكثرهن نقاب الحيا بالكلية، وتداخل مع أوليك المأسورات غيرهن من النسا الفواجر.

ولما حل بأهل البلاد من الذل والهوان وسلب الأموال واجتماع الخيرات في حوز الفرنسيس ومن والاهم وشدة رغبتهم في النسا وخضوعهم لهن وموافقة مرادهن وعدم مخالفة هواهن ولو شتمته أو ضربته بتاسومتها الحذاء، فطرحن الحشمة والوقار والمبالاة والاعتبار، واستملن نظراهن واختلسن عقولهن لميل النفوس إلى الشهوات وخصوصًا عقول القاصرات، وخطب الكثير منهم بنات الأعيان وتزوجوهن رغبة في سلطانهم ونوالهم، فيُظهِر حالة العقد الإسلام وينطق بالشهادتين؛ لأنه ليس له عقيدة يخشى فسادها، وصار مع حكام الأخطاط منهم النسا المسلمات متزييات بزيهم ومشوا معهم في الأخطاط للنظر في أمور الرعية والأحكام العادية والأمر والنهي والمناداة، وتمشي المرأة بنفسها أو معها بعض أترابها وأضيافها على مثل شكلها، وأمامها القواسة والخدم وبأيديهم العصيُّ يفرجون لهن الناس مثل ما يمر الحاكم، ويأمرن وينهين في الأحكام.

ومنها أنه لما أوفى النيل أذرعه ودخل الما إلى الخليج وجرت فيه السفن، وقع عند ذلك من تبرج النسا واختلاطهن بالفرنسيس ومصاحبتهم لهن في المراكب والرقص والغنا والشرب في النهار والليل في ضو الفوانيس والشموع الموقدة، وعليهن الملابس الفاخرة والحلي والجواهر المرصعة، وصحبتهم آلات الطرب، وملاحو السفن يكثرون من الهزل والمجون، ويتجاوبون برفع الصوت في تحريك المقاديف بسخيف موضوعاتهم وكثايف مطبوعاتهم، وخصوصًا إذا دبت الحشيشة في روسهم وتحكمت في عقولهم، فيصرخون ويطبلون ويرقصون ويزمرون ويتجاوبون بمحاكاة ألفاظ الفرنساوية في غناهم وتقليد كلامهم شي كثير.

وأما الجواري السود فإنهن لما علمن رغبة القوم في مطلق الأنثى ذهبن إليهم أفجواجًا فرادى وأزواجًا، فنططن الحيطان وتسلقن إليهم من الطبقات، ودلوهم على مخبآت أسيادهن وخبايا أموالهم ومتاعهم وغير ذلك.

ومنها أن يعقوب القبطي لما تظاهر مع الفرنساوية وجعلوه ساري عسكر القبطة، جمع شبان القبط وحلق لحاهم وزياهم بزي مشابه لعسكر الفرنساوية مميزين عنهم بقبع يلبسونها على روسهم مشابهة لشكل البرنيطة، وعليها قطعة فروة سودا من جلد الغنم في غاية البشاعة مع ما يضاف إليها من قبح صورهم وسواد أجسامهم وزفارة أبدانهم، وصيَّرهم عسكره وعزوته، وجمعهم من أقصى الصعيد، وهدم الأماكن المجاورة لحارة النصارى التي هو ساكن بها خلف الجامع الأحمر، وبنى له قلعة وسوَّرها بسور عظيم وأبراج وباب كبير يحيط به بدنات عظام، وكذلك بنى أبراجًا في ظاهر الحارة جهة بركة الأزبكية، وفي جميع السور المحيط والأبراج طيقانًا للمدافع، وبنادق الرصاص على هية سور مصر الذي رمَّه الفرنساوية، ورتب على باب القلعة الخارج والداخل عدة من العسكر الملازمين للوقوف ليلًا ونهارًا، وبأيديهم البنادق على طريقة الفرنساوية.

ومنها قطعهم الأشجار والنخيل من جميع البساتين والجناين الكاينة بمصر وبولاق ومصر القديمة والروضة وجهة قصر العيني وخارج الحسينية وبساتين بركة الرطلي وأرض الطبالة وبساتين الخليج، بل وجميع القطر المصري كالشرقية والغربية والمنوفية ورشيد ودمياط، كل ذلك لاحتياجات عمل القلاع وتحصين الأسوار في جميع الجهات، وعمل العجل والعربات والمتاريس ووقود النار، وكذلك المراكب والسفن أخذوا أخشابها أيضًا مع شدة الاحتياج إليها، وعدم إنشا الناس سفنًا جديدة لفقرهم وعدم الخشب والزفت والقار والحديد وباقي اللوازم، حتى إنهم حال حلولهم الديار المصرية وسكنهم بالأزبكية كسروا جميع القنج والأغربة التي كانت موجودة تحت بيوت الأعيان بقصد التنزه، وكذلك ما كان ببركة الفيل، وبسبب ذلك شحت البضايع وغلت الأسعار وتعطلت الأسباب وضاقت المعايش، وتضاعفت أُجَر حمل التجارات في السفن لقلتها.

ومنها هدم القباب والمدافن الكاينة بالقرافة تحت القلعة خوفًا من تترس المحاربين بها، فكانوا يهدمون ذلك بالبارود على طريقة اللغم، فيسقط المكان بجميع أجزايه من قوة البارود وانحباسه في الأرض، فيسمع له صوت عظيم ودوي، فهدموا شيًّا كثيرًا على هذه الصورة، وكذلك أزالوا جانبًا كبيرًا من الجبل المقطم بالبارود من الجهة المحاذية للقلعة خوفًا من تمكن الخصم منها والرمي على القلعة.

ومنها زيادة النيل الزيادة المفرطة التي لم يُعهَد مثلها في هذه السنين حتى غرقت الأراضي وحوصرت البلاد، وتعطلت الطرق فصارت الأرض كلها لجة ماء، وغرق غالب البلاد التي على السواحل فتهدم من دورها شي كثير، وأما المدينة فإن الماء جرى من جهة الناصرية إلى الطريق المسلوكة وطفح من بركة الفيل إلى درب الشمسي وطريق قنطرة عمر شاه.

ومنها استمرار انقطاع الطرق وأسباب المتاجر وغلو البضايع المجلوبة من البلاد الرومية والشامية والهندية والحجازية والمغرب حتى غلت أسعار جميع الأصناف، وانتهى سعر كل شي إلى عشرة أمثاله وزيادة على ذلك، فبلغ الرطل الصابون إلى ثمانين نصفًا، واللوزة الواحدة بنصفين، وقس على ذلك، وأما الأشيا البلدية فإنها كثيرة موجودة وغالبها يباع رخيصًا مثل السمن والعسل النحل والأرز والغلال، وخصوصًا الأرز فإنه بيع في أيامهم بخمسماية نصف فضة الأردب، وكانت النصارى باعة العسل النحل يطوفون به في بلاليص محملة على الحمير ينادون عليه في الأزقة بأرخص الأثمان.

ومنها وقوع الطاعون بمصر والشام، وكان معظم عمله ببلاد الصعيد، أخبرني صاحبنا العلامة الشيخ حسن المعروف بالعطار المصري نزيل أسيوط مكاتبة، ونصها: ونعرفكم يا سيدي أنه قد وقع في قطر الصعيد طاعون لم يعهد ولم نسمع بمثله، وخصوصًا ما وقع منه بأسيوط، وقد انتشر هذا البلا في جميع البلاد شرقًا وغربًا، وشاهدنا منه العجايب في أطواره وأحواله، وذلك أنه أباد معظم أهل البلاد، وكان أكثره في الرجال سيما الشبان والعظما وكل ذي منقبة وفضيلة، وأغلقت الأسواق وعزت الأكفان، وصار المعظم من الناس بين ميت ومشيع ومريض وعايد، حتى إن الإنسان لا يدري بموت صاحبه أو قريبه إلا بعد أيام، ويتعطل الميت في بيته من أجل تجهيزه فلا يوجد النعش ولا المغسل ولا من يحمل الميت إلا بعد المشقة الشديدة، وأن أكبر كبير إذا مات لا يكاد يمشي معه ما زاد على عشرة أنفار تكترى، وماتت العلما والقراء والملتزمون والرويسا وأرباب الحرف، ولقد مكثت شهرًا بدون حلق رأسي لعدم الحلاق.

وكان مبدأ هذا الأمر من شعبان، وأخذ في الزيادة في شهري ذي القعدة والحجة حتى بلغ النهاية القصوى، فكان يموت كل يوم من أسيوط خاصة زيادة على الستماية، وصار الإنسان إذا خرج من بيته لا يرى إلا جنازة أو مريضًا أو مشتغلًا بتجهيز ميت، ولا يسمع إلا نايحة أو باكية، وتعطلت المساجد من الأذان والإمامة لموت أرباب الوظايف واشتغال من بقي منهم بالمشي أمام الجنايز والسبح والسهر، وتعطل الزرع من الحصاد ونشف على وجه الأرض وأبادته الرياح لعدم وجدان من يحصده، وعلى التخمين أنه مات الثلثان من الناس، هذا مع سعي العرب في البلاد بالفساد والتخويف بسبب خلو البلاد من الناس والحكام، إلى أن قال: ولو شيت أن أشرح لك يا سيدي ما حصل من أمر الطاعون لملأت الصحف مع عدم الإبقا، وتاريخه ثامن عشرين الحجة سنة تاريخه.

وأما من مات في هذه السنة من الأعيان

مات الإمام الألمعي والذكي اللوذعي، مَن عُجِنت طينته بماء المعارف، وتآخت طبيعته مع العوارف، العمدة العلامة والنحرير الفهامة فريد عصره ووحيد دهره الشيخ محمد بن أحمد بن حسن بن عبد الكريم الخالدي الشافعي الشهير بابن الجوهري، وهو أحد الإخوة الثلاثة وأصغرهم، ويعرف هو بالصغير، ولد سنة إحدى وخمسين وماية وألف، ونشأ في حجر والده في عفة وصون وعفاف، وقرا عليه وعلى أخيه الأكبر الشيخ أحمد بن أحمد، وعلى الشيخ خليل المغربي والشيخ محمد الفرماوي وغيرهم من فضلا الوقت، وأجازه الشيخ محمد الملوي بما في فهرسته، وحضر دروس الشيخ عطية الأجهوري في الأصول والفقه وغير ذلك، فلازمه وبه تخرج في الإلقا، وحضر الشيخ علي الصعيدي والبراوي، وتلقى عن الشيخ الوالد حسن الجبرتي كثيرًا من العلوم، ولازم التردد عليه والأخذ منه مع الجماعة ومنفردًا، وكان يحبه ويميل إليه ويقبل بكليته عليه، وحج مع والده في سنة ثمانٍ وستين، وجاور معه فاجتمع بالشيخ السيد عبد الله المرغني صاحب الطايف، واقتبس من أنواره واجتنى من ثماره، وكان آية في الفهم والذكا والغوص والاقتدار على حل المشكلات، وأقرا الكتب وألقى الدروس بالأشرفية، وأظهر التعفف والانجماع عن خلطة الناس والذهاب والترداد إلى بيوت الأعيان والتزهد عما بأيديهم، فأحبه الناس وصار له أتباع ومحبون، وساعده على ذلك الغنى والثروة وشهرة والده وإقبال الناس عليه ومدحتهم له وترغيبهم في زيارته، وتزوج ببنت الخواجا الكريمي وسكن بدارها المجاورة لبيت والده بالأزبكية، واتخذ له مكانًا خاصًّا بمنزل والده يجلس فيه في أوقات، وكل من حضر عند أبيه في حال انقطاعه من الأكابر أو من غيرهم للزيارة، أو للتلقي يأمره بزيارة ابنه المترجم، والتلقي عنه وطلبهم الدعا منه، ويحكي لهم عنه مزايا وكرامات ومكاشفات ومجاهدات وزهديات فازداد اعتقاد الناس فيه، وعاشر العلما والفضلا من أهل عصره ومشايخه وقرناه، وتردد عليهم وترددوا عليه، ويبيتون عنده ويطعمهم ويكرمهم ويتنزه معهم في أيام النيل مع الحشمة والكمال ومجانبة الأمور المخلة بالمروة.

ولما مات أخوه الكبير الشيخ أحمد، وقد كان تصدر بعد والده في إقرا الدروس، أجمع الخاص والعام على تقدم المترجم في إقرا الدروس في الأزهر والمشهد الحسيني في رمضان، فامتنع من ذلك وواظب على حالة انجماعه وطريقته وإملايه الدروس بالأشرفية، وحج في سنة سبع وثمانين وماية وألف، وجاور سنة وعقد دروسًا بالحرم، وانتفع به الطلبة ثم عاد إلى وطنه وزاد في الانجماع والتحجب عن الناس في أكثر الأوقات، فعظمت رغبة الناس فيه ورد هداياهم مرة بعد أخرى، وأظهر الغنى عنهم فازداد ميل الناس إليه وجبلت قلوبهم على حبه واعتقاده، وتردد الأمرا وسعوا لزيارته أفواجًا وربما احتجب عن ملاقاتهم، وقلد بعضهم بعضًا في السعي، ولم يعهد عليه أنه دخل بيت أمير قط، أو أكل من طعام أحد قط إلا بعض أشياخه المتقدمين، وكانت شفاعته لا ترد عند الأمرا والأعيان، وكان من الشكيمة والصدع بالأمر والناصحة في وجوههم إذا أتوا إليه، وازدادت شهرته وطار صيته، ووفدت عليه الوفود من الحجاز والمغرب والهند والشام والروم وقصدوا زيارته والتبرك به.

وحج أيضًا في سنة تسع وتسعين لما حصلت الفتنة بين أمرا مصر، فسافر بأهله وعياله وقصد المجاورة فجاور سنة وأقرا هناك دروسًا واشترى كتبًا نفيسة ثم عاد إلى مصر، واستمر على حالته في انجماعه وتحجبه عن الناس بل بالغ في ذلك، ويقري ويملي الدروس بالأشرفية وأحيانًا بزاويتهم بدرب شمس الدولة وأحيانًا بمنزله بالأزبكية.

ولما توفي الشيخ أحمد الدمنهوري وتولى مشيخة الأزهر الشيخ عبد الرحمن العريشي الحنفي باتفاق الأمرا والمتصدرين من الفقها، وهاجت حفايظ الشافعية وذهبوا إليه وطلبوه للمشيخة، فأبى ذلك ووعدهم بالقيام لنصرتهم وتولية من يريدونه، فاجتمعوا ببيت الشيخ البكري واختاروا الشيخ أحمد العروسي لذلك وأرسلوا إلى الأمرا فلم يوافقوا على ذلك، فركب المترجم بصحبة الجمع إلى ضريح الإمام الشافعي، ولم يزل حتى نقض ما أبرمه العلما والأمرا ورد المشيخة إلى الشافعية، وتولى الشيخ أحمد العروسي وتم له الأمر كما تقدم ذلك في ترجمة العريشي.

ولما توفي الشيخ أحمد العروسي كان المترجم غايبًا عن مصر في زيارة سيدي أحمد البدوي، فأهمل الأمر حتى حضر وتولى الشيخ عبد الله الشرقاوي بإشارته، ولم يزل وافر الحرمة معتقدًا عند الخاص والعام حتى حضر الفرنساوية واختلفت الأمور وشارك الناس في تلقي البلا، وذهب ما كان له بأيدي التجار ونُهِب بيته وكتبه التي جمعها، وتراكمت عليه الهموم والأمراض وحصل له اختلاط.

ولم يزل حتى توفي يوم الأحد حادي عشرين شهر القعدة سنة تاريخه بحارة برجوان، وصُلِّيَ عليه بالأزهر في مشهد حافل، ودفن عند والده وأخيه بزاوية القادرية بدرب شمس الدولة، وبالجملة فكان من محاسن مصر الفريد في العصر، ذهنه وقَّاد ونظمه مستجاد، وكان رقيق الطبع لطيف الذات مترفهًا في مأكله وملبسه.

ومن مؤلفاته مختصر المنهج في الفقه، وزاد عليه فوايد واختصر الاسم وسماه المنهج ثم شرحه وهو بليغ في بابه.

ومنها شرح المعجم الوجيز لشيخه السيد عبد الله المرغني، وقد اعتنى به وقراه درسًا، ومنها شرح عقيدة والده المسماة «منقذة العبيد» في كراريس أجاد فيه جدًّا، ورسالة في تعريف شكر المنعم، وشرح الجزرية والدر النظيم في تحقيق الكلام القديم، ونظم عقايد النسفي وعقيدة في التوحيد وشرحها بشرحين، و«اللمعة الألمعية في قول الشافعي بإسلام القدرية»، و«تحقيق الفرق بين علم الجنس وبين اسمه»، و«إتحاف الكامل ببيان تعريف العامل»، و«زهر الأفهام في تحقيق الوضع وما له من الأقسام»، و«حلية ذوي الأفهام بتحقيق دلالة العام»، و«إتحاف الطرف في بيان متعلق الظرف»، و«الروض الأزهر في حديث من رأى منكم منكرًا»، و«رسالة في تعريف الشكر العرفي»، و«ثمرة غرس الاعتنا بتحقيق أسباب البنا»، و«الدر المنثور في الساجور»، و«إتحاف الآمال بجواب السؤال في الحمل والوضع لبعض الرجال»، و«إتحاف الأحبة في الضبة أي المفضضة»، و«رسالة في التوجه وإتمام الأركان»، و«رسالة في زكاة النابت»، و«رسالة في ثبوت رمضان»، و«رسالة في أركان الحج»، و«رسالة في مُدِّ عَجْوَةٍ ودرهم»، و«رسالة في مسألة الغصب»، و«حاشية على شرح ابن قاسم العبادي إلى البيوع»، و«الروض الوسيم في المُفتَى به من المذهب القديم»، و«رسالة في النذر للشريف»، و«رسالة في إهدا القُرَبِ للنبي عليه السلام»، و«رسالة في الأصولي والأصول»، و«رسالة في مسألة ذوي الأرحام»، و«إتحاف اللطيف بصحة النذر للموسر والشريف»، وله غير ذلك منظومات، وضوابط وتحقيقات، رحمه الله تعالى.

ومات الأجل الأمثل العمدة الوجيه السيد عبد الفتاح بن أحمد بن الحسن الجوهري أخو المترجم المذكور، وهو أسن منه وأصغر من أخيه الشيخ أحمد، ولد سنة إحدى وأربعين وماية وألف، ونشأ في حجر أبيه، وحضر الشيخ الملوي وبعض دروس أبيه وغيره، ولم يكن معتنيًا بالعلم ولم يلبس زي الفقها، وكان يعاني التجارة ويشارك ويضارب ويحاسب ويكاتب، فلما توفي أخوه الأكبر الشيخ أحمد وامتنع أخوه الأصغر الشيخ محمد من التصدر للإقرا في محله اتفق الحال على تقدم المترجم حفظًا للناموس وبقاءً لصورة العلم الموروث، فعند ذلك تزيا بزي الفقها ولبس التاج والفراجة الواسعة، وأقبل على مطالعة العلم وخالط أهله، وصار يطالع ويذاكر، وأقرا دروس الحديث بالمشهد الحسيني في رمضان مع قلة بضاعته، وذلك بمعونة الشيخ مصطفى ابن الشيخ محمد الفرماوي، فكان يطالع الدرس الذي عليه من الغد ويتلقى عنه مناقشات الطلبة، وثبت على ذلك حتى ثبتت المشيخة وتقررت العالمية، كل ذلك مع معاناته التجارة، وتردد إلى الحرمين وأثرى واقتنى كتبًا نفيسة وعروضًا وحشمًا، واشترى المماليك والعبيد والجواري والأملاك والالتزام، ولم يزل حتى حصلت حوادث الفرنساوية، وصادروه وأخذوا منه خمسة عشر ألف فرانسة، وداخله من ذلك كرب وانفعال زايد، فسافر إلى بلدة جارية في التزامه يقال لها كوم النجار، فأقام بها أشهرًا ثم ذهب إلى شيبين الكوم بلدة أقاربه وأقام بها إلى أن مات في هذه السنة، وذلك بعد وفاة أخيه الشيخ محمد بنحو خمسة أيام، ودفن هناك رحمه الله تعالى.

ومات الإمام العلامة الثقة الهمام النحرير الذي ليس له في فضله نظير، أبو محمد أحمد بن سلامة الشافعي المعروف بأبي سلامة، اشتغل بالعلم وحضر العلوم النقلية والنحوية والمنطقية، وتفقَّه على كثير من علما الطبقة الأولى كالشيخ علي قايتباي والحفني والبراوي والملوي وغيرهم، وتبحر في الأصول والفروع، وكان مستحضرًا للفروع الفقهية والمسايل الغامضة في المذاهب الأربع، ويغوص بذهنه وقياسه في الأصول الغريبة ومطالعة كتب الأصول القديمة التي أهملها المتأخرون، وكان الفضلا يرجعون في ذلك إليه ويعتمدون قوله ويعولون في الدقايق عليه إلا أن الدهر لم يصافِهِ على عادته، وعاش في خمول وضيق عيش وخشونة ملبس وفَقْد رفاهية بحيث إن من يراه لا يعرفه لرثاثة ثيابه، وكان مهذبًا حسن المعاشرة جميل الخلق والنادرة، مطبوعًا فيه صلاح وتواضع، ونزل مؤقتًا في مسجد عبد الرحمن كتخدا الذي أنشاه تجاه باب الفتوح بمعلوم قدره ثمانية أنصاف يتعيش بها مع ما يرد عليه من بعض الفقها والعامة الذين يحتاجون إليه في مراجعة المسايل والفتاوى، فلما خرب المسجد المذكور في حادثة الفرنسيس وجهات أوقافه انقطع عنه ذلك المعلوم، وكان ذا عائلة ومع ذلك لا يسال شيًّا ولا يظهر فاقة، توفي يوم الأحد حادي عشرين جمادى الآخرة من السنة عن خمس وسبعين سنة تقريبًا، رحمه الله.

ومات الأمير مراد بك محمد، مات بسهاج قادمًا إلى مصر باستدعا الفرنسيس، ودفن بها عند الشيخ العارف، وكان موته رابع شهر الحجة كما تقدم، وهو من مماليك محمد بك أبي الدهب، ومحمد بك مملوك علي بك، وعلي بك مملوك إبراهيم كتخدا القازدغلي، اشترى محمد بك مراد بك المذكور في سنة اثنتين وثمانين وماية وألف، وذلك في اليوم الذي قتل فيه صالح بك الكبير، فأقام في الرق أيامًا قليلة ثم أعتقه وأمَّره وأنعم عليه بالإقطاعات الجليلة وقدمه على أقرانه، وتزوج بالست فاطمة زوجة الأمير صالح بك وسكن داره العظيمة بخط الكبش، ولما مات علي بك تزوج بسريته أيضًا، وهي الست نفيسة الشهيرة الذكر بالخير، ولما انفرد محمد بك بإمارة مصر كان هو وإبراهيم بك أكبر أمراه المشار إليهما دون غيرهما، فلما سافر محمد بك إلى الديار الشامية محاربًا للظاهر عمر أقام عوضه في إمارة مصر إبراهيم بك، وأخذ صحبته مراد بك وباقي أمراه، فلما مات محمد بك بعكَّا اجتمع أمراه على رأي مماليكه في رياسة مراد بك، فتقدم وقدمه عليهم وحملوا جثة سيدهم وحضروا بأجمعهم إلى مصر، فاتفق رأي الجميع على إمارة من استخلفه سيدهم وقدمه دون غيره وهو إبراهيم بك، ورضي الجميع بتقدمه ورياسته لوفور عقله وسكون جاشه، فاستقر بمشيخة مصر ورياستها ونايب نوابها ووزراها، وعكف مراد بك على لذَّاته وشهواته، وقضى أكثر زمانه خارج المدينة، مرة بقصره الذي أنشاه بالروضة، وأخرى بجزيرة الدهب، وأخرى بقصر قايماز جهة العادلية، كل ذلك مع مشاركته لإبراهيم بك في الأحكام والنقض والإبرام والإيراد والإصدار ومقاسمة الأموال والدواوين وتقليد مماليكه وأتباعه الولايات والمناصب، وأخذ في بذل الأموال وإنفاقها على أمراه وأتباعه، فانضم إليه بعض أمرا علي بك وغيرهم ممن مات أسيادهم كعلي بك المعروف بالملط، وسليمان بك الشابوري، وعبد الرحمن بك عثمان، فأكرمهم وواساهم ورخص لمماليكه في هفواتهم، وسامحهم في زلاتهم، وحظي عنده كل جري غشوم عسوف ذميم ظلوم، فانقلبت أوضاعهم وتبدلت طباعهم وشرهت نفوسهم وعلت روسهم، فتناظروا وتفاخروا وطمعوا في أستاذهم، وشمخت آنافهم عليه وأغاروا حتى على ما في يده، واشتهر بالكرم والعطا فقصده الراغبون، وامتدحه الشعرا والغاوون، وأخذ الشي من غير حقه وأعطاه لغير مستحقه، كما قال القايل:

وإنها خطرات من وساوسه
يعطي ويمنع لا بخلًا ولا كرمًا

ثم لما ضاق عليه المسلك ورأى أن رضا العالم غاية لا تدرك، أخذ يتحجب عن الناس فعظم فيه الهاجس والوسواس، وكان يغلب على طبعه الخوف والجبن مع التهور والطيش والتورط في الإقدام مع عدم الشجاعة، ولم يُعهَد عليه أنه انتصر في حرب باشره أبدًا على ما فيه من الادعا والغرور والكبر والخيلا والصلف والظلم والجور كما قال القايل:

أسدٌ عليَّ وفي الحروب نعامة
فَتْخاء تنفر من صفير الصافر

ولما قدم حسن باشا إلى مصر وخرج المترجم مع خشداشينه وعشيرته هاربين إلى الصعيد حتى انقضت أيام حسن باشا وإسماعيل بك ومن كان معه ورجعوا ثانيًا بعد أربع سنين وشي من الشهور من غير عقد ولا عهد ولا حرب، وتعاظم في نفسه جدًّا، واختص بمساكن إسماعيل بك وجعل إقامته بقصر الجيزة وزاد في بناه وتنميقه، وبنى تحته رصيفًا محكمًا وأنشا بداخله بستانًا عظيمًا نقل إليه أصناف النخيل والأشجار والكروم، واستخلص غالب بلاد إقليم الجيزة لنفسه شرا ومعاوضة وغصبًا، وعمر أيضًا قصر جزيرة الدهب وجعل بها بستانًا عظيمًا، وكذلك قصر ترسا وبستان المجنون، وصار ينتقل في تلك القصور والبساتين ويركب للصيد في غالب أوقاته، واقتنى المواشي من الأبقار والجواميس الحلابة والأغنام المختلفة الأجناس، فكان عنده بالجيزة من ذلك شي كثير جدًّا، وعمل له ترسخانة عظيمة وطلب صناع آلات الحرب من المدافع والقنابر والبنب والجلل والمكاحل، واتخذ بها أيضًا معامل البارود خلاف المعامل التي في البلد، وأخذ جميع الحدادين والسباكين والنجارين، فجمع الحديد المجلوب والرصاص والفحم والحطب حتى شحت جميع هذه الأدوات لكونه كان يأخذ كل ما وجده منها، وكذلك حطب القرطم والترمس والذرة لحرق قمام الجير والجبس للعمارة، وأوقف الأغوات في كل جهة يحجزون المراكب التي تأتي من البلاد بالأحطاب يأخذونها ويجمعونها للطلب ويبيعون لأنفسهم ما أحبوا، ويأخذون الجعالات على ما يسمحون به أو يطلقونه لأربابه بالوسايط والشفاعات، وأحضر أناسًا من القليونجية ونصارى الأروام وصناع المراكب، فأنشاوا له عدة مراكب حربية وغلايين، وجعلوا بها مدافع وآلات حرب على هية مراكب الروم صرف عليها أموالًا عظيمة ورتب بها عساكر وبحرية، وأدار عليهم الجماكي والأرزاق الكثيرة، وجعل عليهم ريسًا كبيرًا رجلًا نصرانيًّا وهو الذي يقال له نقولا، بنى له دارًا عظيمة بالجيزة وأخرى بمصر، وله عزوة وأتباع من نصارى الأروام المرتبين عسكرًا، وكان نقولا المذكور يركب الخيل ويلبس الملابس الفاخرة، ويمشي في شوارع مصر راكبًا وأمامه وخلفه قواسة يوسعون له الطريق في مروره على هيئة ركوب الأمرا، كل ذلك خطرات من وساوسه لا يدري أحد لأي شي هذا الاهتمام، ولأي حاجة إنفاق هذا المال في الخشب والحديد وإعطاه لنصارى الأروام، واختلفت آراء الناس في ذلك فمن قايل إن ذلك خوفًا من خشداشينه، وقايل من مخافة العثمانية كما تقدم في قضية حسن باشا، والبعض يظن خلاف ذلك وليس غير الوهم والتخيل الفاسد والخوف شي، وبقيت آلات الحرب جميعها والبارود بحواصله والجلل والبنبات حتى أخذ جميعه الفرنسيس، فيقال إنه كان بحواصل الترسخانة من جنس الجلل أحد عشر ألف جلة، كذا نقل عن معلم الترسخانة أخذ جميع ذلك الفرنسيس يوم استيلاهم على الجيزة والقصر.

ومما اتفق أنه وقعت مشاجرة في بعض الأيام بين بعض نصارى الأروام القليونجية، وبعض السوقة بمصر القديمة فتعصب النصارى على أهل البلد وحاربوهم وقتلوا منهم نيفًا وعشرين رجلًا، وانتهت الشكوى إلى الأمير فطلب كبيرَهم فعصى عليه وامتنع من مقابلته، وعمَّر مدافع المراكب ووجهها جهة قصره، فلم يسعه إلا التغافل وراحت على من راح.

واستوزر رجلًا بربريًّا وهو المسمى بإبراهيم كتخدا السناري، وجعله كتخداه ومشيره وبلغ من العظمة ونفوذ الكلمة بإقليم مصر ما لم يبلغه أعظم أمير بها، وبنى له دارًا بالناصرية، واقتنى المماليك الحسان والسراري البيض والحبوش والخدم، وتعلم اللغة التركية والأوضاع الشيطانية، واختص ذلك السناري أيضًا ببعض رعاع الناس وجعله كتخداه يأتمر بأمره، ويتوسل به أعاظم الناس في قضا أشغالهم، ولما حسن لمراد بك الإقامة بالجيزة واختار السكن بها وزين له شيطانه العزلة عن خشداشينه وأقرانه وترك لإبراهيم بك أمر الأحكام والدواوين ومقتضيات نواب السلطنة العثمانية مع كونه لا ينفذ أمرًا دون رأيه ومشورته، واحتجب هو عن الاجتماع بالناس بالكلية حتى عن الأمرا الكبار من أقرانه، كان السفير بينه وبينهم إبراهيم كتخدا المذكور، فكان هو عبارة عنه وربما نقض القضايا التي انبرم أمرها عند إبراهيم بك أو غيره بنفسه أو عن لسان مخدومه، وأقام المترجم على عزلته بالبر الغربي نحو الست سنوات متوالية لا يعدي إلى البر الشرقي أبدًا، ولا يحضر الديوان ولا يتردد إلى الأقران.

وإذا حضر الباشا المولى على مصر ووصل إلى بر إنبابة ركب وسلم عليه مع الأمرا، ورجع إلى قصره فلا يراه بعد ذلك أبدًا، وتعاظم في نفسه وتكبر على أقرانه وأبنا جنسه، فتزاحمت على سدته الطلاب وتكالبت على جيفته الكلاب، فانزوى من نبشهم وتوارى من نهشهم، فإذا بلغه قدوم من يختشيه أو وصول من يرتجيه، وكان يستحيي من رده أو يخشى عاقبة صده ركب في الحال وصعد إلى الجبال، وربما وصله الغريم على غفلة فيجده قد شمع الفتلة، فإن صادفه واجتمع عليه أعطاه ما في يديه أو وعده بالخير، أو وهبه ملك الغير، فما يشعر الميسور إلا ولقمته قد اختطفتها النسور.

ثم أخذ يعبث بدواوين الأعشار والمكوسات والبهار، فيحول عليهم الحوالات ويتابع لمماليكه ختم الوصولات، فتجاذب هو وإبراهيم بك ذلك الإيراد، وتعارضت أوراقهما وخافا في المعتاد، ثم اصطلحا على أن تكون له الدواوين البحرية، ولقسيمه ما يرد من الأصناف الحجازية، وما انضاف إلى قلم البهار وحسب في دفاتر التجار، فانفرد كل منهما بوظيفته، وفعل بها من الإجحاف ما سطر في صحيفته، فأحدث المترجم ديوانًا خاصًّا بثغر رشيد على الغلال التي تحمل إلى بلاد الإفرنج وسموه ديوان البدعة، وأذن ببيع الغلال لمن يحملها إلى بلاد الإفرنج أو غيرها، وجعل على كل أردب دينارًا خلاف البراني، والتزم بذلك رجل سراج من أعوانه الموصوفين بالجور، وسكن برشيد وبقيت له بها وجاهة وكلمة نافذة، فجمع من ذلك أموالًا وإيرادًا عظيمًا.

وكانت هذه البدعة السيئة من أعظم أسباب قوة الفرنسيس، وطمعهم في الإقليم المصري مع ما أضيف إلى ذلك من أخذ أموالهم، ونهب تجاراتهم وبضاعاتهم من غير ثمن.

واقتدى به أمراه وتناظروا في ذلك، وفعل كل منهم ما وصلت إليه همته، واستخرجته فطنته، واختص بالسيد محمد كريم السكندري ورفع شأنه بين أقرانه، فمهد له الأمور بالثغر وأجرى أحكامه وفتح له باب المصادرات والغرامات، ودله على مخبآت الأمور وأخذ أموال التجار من المسلمين وأجناس الإفرنج حتى تجسمت العداوة بين المصريين والفرنسيس، وكان هو من أعظم الأسباب في تملك الفرنسيس للثغر كما ذكر ذلك في قتله، وذلك أنه لما خرجت مراكب الفرنساوية وعمارتهم لا يدري أحد لأي جهة يقصدون تبعهم طايفة الإنكليز إلى الإسكندرية فلم يجدوهم، وكانوا ذهبوا أولًا إلى جهة مالطة فوقف الإنكليزية قبالة الإسكندرية، وأرسلوا قاصدهم إلى الثغر يسألون عن خبر الفرنساوية فردهم المذكور ردًّا عنيفًا، فأخبروه الخبر على جليته، وأن أخصامهم علموا بخروجهم فاقتفوا أثرهم، ونريد منكم أن تعطونا الما والزاد بثمنه ونقف لهم على ظهر البحر، فلا نمكنهم من العبور إلى ثغركم، فلم يقبل منهم، ولم يأذن في تزويدهم، فذهبوا ليتزودوا من بعض الثغور فما هو إلا أن غابوا في البحر نحو الأربعة أيام إلا والفرنسيس قد حضروا وكان ما كان.

ومما سولت به نفس المترجم بإرشاد بعض الفقها عمارة جامع عمرو بن العاص وهو الجامع العتيق، وذلك أنه لما خرب هذا الجامع بخراب مدينة الفسطاط، وبقيت تلالًا وكيمانًا وخصوصًا ما قرب من ذلك الجامع، ولم يبقَ بها بعض العمار إلا ما كان من الأماكن التي على ساحل النيل، وخربت في دولة القزدغلية وأيام حسن باشا لما سكنتها عساكره، ولم يبقَ بساحل النيل إلا بعض أماكن جهة دار النحاس وفم الخليج يسكنها أتباع الأمرا ونصارى المكوس، وبها بعض مساجد صغار يصلي بها السواحلية والنواتية وسكان تلك الخطة من القهوجية والباعة، والجامع العتيق لا يصل إليه أحد لبعده وحصوله بين الأتربة والكيمان، وكان فيما أدركنا الناس يصلون به آخر جمعة في رمضان، فتجتمع به الناس على سبيل التسلي من القاهرة ومصر وبولاق، وبعض الأمرا أيضًا والأعيان، ويجتمع بصحنه أرباب الملاهي من الحواة والقرداتية وأهل الملاعيب والنسا الراقصات المعروفات بالغوازي، فبطل ذلك أيضًا من نحو ثلاثين سنة لهدمه وخراب ما حوله وسقوط سقفه وأعمدته وميل شقته اليمنى بل وسقوطها بعد ذلك، فحسن ببال المترجم هدُّه وتجديده بإرشاد بعض الفقها ليرقع به دينه الخلق كما قال شاعرهم:

ومسجد في فضاء ما عمارته
فوق الصيانة إلا لهو مختلق
كأن عمرًا دعا يا عاص هُمَّ به
ورمَّه رقعة في دينك الخلق

فاهتم لذلك وقيد به نديمه الحاج قاسم المعروف بالمصلي، فجعله مباشرًا على عمارته وصرف عليه أموالًا عظيمة أخذها من غير حلها ووضعها في غير حلها، وأقام أركانه وشيد بنيانه ونصب أعمدته وكمل زخرفته وبنى به منارتين وجدد جميع سقفه بالخشب النقي، وبيضه جميعه فتم على أحسن ما يكون، وفرشه بالحصر الفيومي وعلق به القناديل، وحصلت به الجمعية آخر جمعة برمضان سنة اثنتي عشرة ومايتين وألف فحضر الأمرا والأعيان والمشايخ وأكابر الناس وعامتهم، وبعد انقضا الصلاة عقد له الشيخ عبد الله الشرقاوي مجلسًا، وأملى حديث «من بنى لله مسجدًا» وآية إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله، وعند فراغه ألبس فروة من السمور وكذلك الخطيب، فلما حضرت الفرنساوية في العام القابل جرى عليه ما جرى على غيره من الهدم والتخريب، وأخذ أخشابه حتى أصبح بلقعًا أشوه مما كان، «فيا ليتها لم تزنِ ولم تتصدق»، وبالجملة فمناقب المترجم لا تحصى وأوصافه لا تستقصى، وهو كان من أعظم الأسباب في خراب الإقليم المصري بما تجدد منه ومن مماليكه وأتباعه من الجور والتهور ومسامحته لهم، فلعل الهم يزول بزواله.

وكان صفته أشقر مربوع القامة كث اللحية غليظ الجسم والصوت بوجهه أثر ضربة سيف، ظالمًا غشومًا متهورًا مختالًا معجبًا متكبرًا، إلا أنه كان يحب العلما ويتأدب معهم وينصت لكلامهم ويقبل شفاعتهم، ويميل طبعه إلى الإسلام والمسلمين، ويحب معاشرة الندما والفحصا وأهل الذوق والمتكلمين، ويشاركهم ويباسطهم ولا يمل من مجالستهم ومنادمتهم، ويناهل في الشطرنج ويطلب أهل المعرفة فيه، ويحب سماع الآلات والأغاني، وكانت عطاياه جمة ومواهبه وهمته فوق كل همة، ولم يخلف ولدًا ولا بنتًا، وصناجقه الذين مات عنهم الأمير محمد بك المعروف بالألفي، وعثمان بك الجوخدار المعروف بالطنبرجي، وعثمان بك المعروف بالبرديسي ومحمد بك المنفوخ، وسليم بك أبو دياب وأصله مملوك مصطفى بك الإسكندراني، ولما مات دفن بسوهاج — كما تقدم — عند الشيخ العارف غفر الله له.

ومات الأمير حسن بك الجداوي مملوك علي بك، وهو من خشداشين محمد بك أبي الدهب، مات بغزة بالطاعون وكان من الشجعان الموصوفين والأبطال المعروفين، ولما انفرد علي بك بمملكة مصر ولَّاه إمارة جدة؛ فلذلك لقب بالجداوي، وذلك سنة أربع وثمانين وماية وألف، وابتلي فيها بأمور ظهرت بها شجاعته وعرفت فروسيته، ولذلك خبر يطول شرحه، ولما حصلت الوحشة بين إسماعيل بك والمحمديين كان المترجم ممن نافق معه وعضده هو وخشداشينه رضوان بك وعبد الرحمن بك، وكانت لهم الغلبة، ونما أمره عند ذلك وظهر شانه بعد أن كان خمل ذكره، وهو الذي تجاسر على قتل يوسف بك في بيته بين مماليكه وعزوته، ثم خامر على إسماعيل بك، وانقلب مع المحمديين عندما خرج لمحاربتهم بالصعيد فخدعوه وراسلوه، وانضم إليهم بمن معه، ورجعوا إلى مصر وفر إسماعيل بك بمن معه إلى الشام واستقر هو وخداشينه في مملكة مصر مشاركين لهم مظهرين عليهم الشمم طامعين في خلوص الأمر لهم متوقعين بهم الفرصة مع التهور الموجب لتحذر الآخرين منهم إلى أن استعجلوا إشعال نار الحرب فجرى ما جرى بينهم من الحروب والمحاصرة بالمدينة، وانجلت عن خذلانهم وهزيمتهم وظهور المحمديين عليهم، وقتل بها عدة من أعيانهم ومواليهم ومن انضم إليهم وربما عوقب من لا جناية له كما سطر ذلك في محله.

وفر المترجم مع بعض من بقي من عشيرته إلى القليونجية، فقُبض عليه وأُتِيَ به إلى مصر ففر إلى بولاق بمفرده، والتجا إلى بيت الشيخ الدمنهوري، فأحاط به العسكر فنط من سطح الدار وخلص إلى الزقاق وسيفه مشهور في يده، فصادف جنديًّا فقتله وأخذ فرسه فركبه وفر والعساكر خلفه تريد أخذه وتتلاحق به من كل جهة وهو يراوغهم ويقاتلهم، حتى خلص إلى بيت إبراهيم بك فأمنه واتفقوا على إرساله إلى جدة، فلما أقلع به في القلزم أمر ريس المركب أن يذهب به إلى القصير وخوَّفه القتل إن لم يفعل، فذهب به إلى القصير فتوجه منها إلى إسنا، وعلمت به عشيرته وخشداشينه ومماليكه فتلاقوا به واستقر أمرهم بها بعد وقايع يطول شرحها، فأقام نيفًا وعشر سنين حتى رجع إليهم إسماعيل بك بعد غيبته الطويلة، وانضم إليهم واصطلح معهم إلى أن كان ما كان من وصول حسن باشا إلى الديار المصرية، وإخراج المحمديين وإدخاله للمذكور مع إسماعيل بك ورضوان بك وأتباعهم، وتأميرهم بمصر واستقرارهم بها بعد رجوع حسن باشا إلى بلاده ووقوع الطاعون الذي مات به إسماعيل بك ورضوان بك وغيرهم من الأمرا، فاستقل بمن بقي من الأمرا وفعل معهم من التهور والحمق والشر ما أوجب لهم بغض النعيم والحياة معه.

وخامر عليه من كان يأمن إليه فلم يسعه ومن معه إلا الفرار، ورضي ذاك لنفسه بالذل والعار.

ودخلت المحمديون إلى مصر المحمية، واستقر هو كما كان بالجهة القبلية، فأقام على ذلك سبع سنين وبعض أشهر إلى أن وقعت حادثة الفرنسيس واستولوا على الإقليم المصري، وحضرت العساكر بصحبة الوزير يوسف باشا، ووقع ما وقع من الصلح ونقضه وانحصر المترجم مع من انحصر بالمدينة من المصرلية والعثمانية، فقاتل وجاهد وأبلى بلا حسنًا شهد له بالشجاعة والإقدام كل من العثمانية والفرنساوية والمصرلية، فلما انفصل الأمر وخرجوا إلى الجهة الشامية، لم يزل محرصًا ومرابطًا ومجتهدًا، حتى مات بالطاعون في هذه السنة، وفاز بالشهادتين، وقدم على كريم يغفر الذنوب جميعًا إنه هو الغفور الرحيم، وأمراه الموجودون الآن عثمان بك المعروف بالحسيني وأحمد بك أمَّره الوزير عوضًا عن أستاذه.

ومات الأمير عثمان بك المعروف بطبل، وهو من مماليك إسماعيل بك أمَّره في سنة اثنتين وتسعين، ثم خرج مع سيده وتغرب معه في غيبته الطويلة، فلما رجع إلى مصر في أيام حسن باشا تولى إمارة الحج في سنة خمسة ومايتين وألف، وكان سيده يقدمه على أقرانه ويظن به النجاح، ولما طعن وعلم أنه مفارق الدنيا أحضره وأوصاه وحذره من أعداه، وقال له: إني حصنت لك مصر وسورتها وصيرتها بحيث تملكها بنت عميا، فلما مات سيده تشوق للإمارة حسن بك الجداوي وعلي بك الدفتردار، فلم يرضَ كل منهما بالآخر وتخوفا من بعضهما، فاتفق رأيهما على تأمير عثمان بك المذكور كبيرًا عوضًا عن سيده، وسكن داره وعقدوا الدواوين عنده، فنزل عن إمارة الحج لحسن بك تابع حسن بك قصبة رضوان، واشتغل هو بأمور الدولة ومشيخة مصر فلم يفلح، وخامر مع أخصامه وأخصام سيده، والتف عليهم سرًّا وصدق تمويهاتهم وخذل نفسه ودولته، وذلك غيظًا من حسن بك كما سبقت إليه الإشارة، وكل من حسن بك وعثمان بك الجداوي وعلي بك الدفتردار يتخوف نفاق صاحبه لتكرر ذلك منهما في الوقايع السابقة، وانحراف طبع كل عن صداقة الآخر الباطنية ولم يخطر ببالهما، بل ولا ببال أحد من المجانين فضلًا عن العقلا ركون المشار إليه إلى أعداه وأعدا سيده العداوة الموروثة، فكانا كلما شرعا في تدبير أو شي من مكايد الحرب ثبطهما وأقعدهما، وهما يظنان نصحه ويعتقدان خلوصه ومعرفته، ولكونه تعلم سياسة الحروب من سيده لكثرة تجاربه وسياحته، ولم يعلما أنه يمهد لنفسه طريقًا مع الأعدا إلى أن كان ما كان من مساعدته لهم بالتغافل والتقاعد، حتى تحولوا إلى الجهة الشرقية، وخلص إليهم بمن انضم إليه من عشيرته، فلم يسع الباقين إلا الهرب وأسلم هو نفسه لأعداه، فأظهروا له المحبة وولوه إمارة الحج حكم عهدهم بذلك، وأن تكون له إمارة الحج ما دام حيًّا، فخرج في تلك السنة أميرًا على الحج أعني سنة ست ومايتين وألف، وكذلك سنة سبع، ونهب الحج في تلك السنة، وفر المترجم إلى غزة فصودرت زوجاته، واقتسمت أقطاعه ورجع بعد حين إلى مصر، وأهمل أمره وأقام بطالًا واستمر كآحاد الطايفة من الأجناد، ويغدو ويروح إليهم ويرجو رفدهم إلى أن حدثت حادثة الفرنسيس، فخرج مع من خرج إلى الشام، ولم يزل هناك حتى مات بالطاعون في السنة المذكورة، وكان دايمًا يقول عند تذكره الدولة والنعيم: ذلك تقدير العزيز العليم.

ومات الأمير عثمان بك المعروف بالشرقاوي، وهو من مماليك محمد بك أبي الدهب أيضًا الكبار، وتأمر في أيامه وعرف بالشرقاوي لكونه تولى الشرقية، ووقع منه ظلم وجبروت بعد موت أستاذه، وصادر كثيرًا من الناس في أموالهم، ثم انكف عن ذلك، وزعم أن ذلك كان بإغرا مقدمه فشهره وقتله، ولم يزل في إمارته حتى مات في الشام بالطاعون.

ومات أيوب بك الكبير وهو أيضًا من مماليك محمد بك، وكان من خيارهم يغلب عليه حب الخير والسكون، ويدفع الحق لأربابه، وتأمر على الحج، وشكرت سيرته، واقتنى كتبًا نفيسة واستكتب الكثير من المصاحف والكتب بالخطوط المنسوبة، وكان لين الجانب مهذب النفس يحب أهل الفضايل ذا ثروة وعزوة وعفة، لا يعرف إلا الجد ويجتنب الهزل، ويلوم ويعترض على خشداشينه في أفعالهم، ولا يعجبه سلوكهم ولا يهمل حقًّا توجَّهَ عليه، وإذا ساوم شيًّا وقال له البايع: هذا بعشرة، يقول له: بل هو بخمسة مثلًا وهذا ثمنها حالًا، وقد يكون ذلك رأس مالها أو بزيادة قليلة ويرضى البايع بذلك، ويقبض الثمن في المجلس، وهكذا كان شانه وطريقته.

ومات الأمير مصطفى بك الكبير، وهو أيضًا من مماليك محمد بك، تولى الصعيد وإمارة الحج عدة مرار، وكان فظًّا غليظًا متمولًا بخيلًا شحيحًا، وفي إمارته على الحج ترك زيارة المدينة لخوفه من العرب وشحه بعوايدهم وقلة اعتناه بشعاير الدين، وانتقد ذلك على المصريين من الدولة وغيرها، وكان ذلك من أعظم ما اجترمه من القبايح.

ومات الأمير سليمان بك المعروف بالأغا، توفي بأسيوط بالطاعون، وهو أيضًا من مماليك محمد بك الكبير، وهو أخو إبراهيم بك المعروف بالوالي، صهر إبراهيم بك الكبير، وهو الذي مات غريقًا في وقعة الفرنسيس الأولى بإنبابة مدبرًا فارًّا فسقط في البحر وغرق، وكان هو وأخوه المترجم قبل تقلدهما الصنجقية أحدهما والي الشرطة والآخر أغات مستحفظان، فلم يزالا يلقبان بذلك حتى ماتا، وكان المترجم محبًّا لجمع المال وله أقطاع واسعة خصوصًا بجهة قبلي، وفي آخر أمره استوطن أسيوط؛ لأنها كانت في أقطاعه وبنى بها قصرًا عظيمًا وأنشا بعض البساتين وسواقي، واقتنى أبقارًا وأغنامًا كثيرة، ومما اتفق له أنه جز صوف الأغنام وكانت أكثر من عشرة آلاف، ثم وزعه على الفلاحين وسخرهم في غزله بعد أن وزنه عليهم، ثم وزعه على القزازين فنسجوه أكسية، ثم جمع التجار وباعه عليهم بزيادة عن السعر الحاضر فبلغ ذلك مبلغًا عظيمًا.

ومات الأمير قايد أغا وهو من مماليك محمد بك أيضًا، وكان يلقب أيام كشوفيته بقايد نار لظلمه وتجبره، وولي أغات مستحفظان في سنة ثمانٍ وتسعين وماية وألف، فأخاف العامة وكان يتنكر ويتزيا بأشكال مختلفة ويتجسس على الناس، وذلك أيام خروج إبراهيم بك إلى قبلي ووحشته من مراد بك وانفراد مراد بك بإمارة مصر، فلما تصالحا ورجع إبراهيم بك رد الأغاوية لعلي أغا، فحنق المترجم لذلك وقلق قلقًا عظيمًا وترامى على الأمرا، وصار يقول: إن لم يردوا إليَّ منصبي قتلت علي أغا أو قتلت نفسي، فلما حصل منه ذلك عزلوا علي أغا وقلدوا سليم أغا أمين البحرين أغاوية مستحفظان، ولم يبلغ غرضه ولم ترضَ نفسه بالخمول.

وأكثر عنده من الأعوان والأتباع فيحضرون بين يديه الشكاوى والدعاوى، ويضرب الناس ويحبسهم ويصادرهم في أموالهم، ويركب وبين يديه العدة الوافرة من القواسة والخدم يحملون بين يديه الحراب والقرابين والبنادق وخلفه الكثير من الأجناد والمماليك، واتخذ له جُلسَا وندما يباسطونه ويضاحكونه، ولم يزل كذلك حتى خرج مع عشيرته إلى الصعيد عند حضور حسن باشا، فاستولى على كثير من حصص الإقطاع، فلما رجعوا في أواخر سنة خمس بعد المايتين سكن دار جوهر أغا دار السعادة سابقًا بالخرنفش، وقد كان مات في الطاعون وتزوج سريته قهرًا، واستكثر من المماليك والجند وتاقت نفسه للإمارة وتشوف إلى الصنجقية، وسخط على زمانه والأمرا الذين لم يلبوا دعوته ولم يبلغوه أمنيته، وصارت جلساه وندماه لا يخاطبونه إلا بالإمارة ويقولون له: يا بك، ويكره من يخاطبه بدون ذلك.

وكان له من الأولاد الذكور اثنا عشر ولدًا لصلبه يركبون الخيول، ماتوا في حياته، وكان له أخ من أقبح خلق الله في الظلم اتخذ له أعوانًا وأتباعًا وليس عنده ما يكفيهم، فكان يخطف كل ما مر بخطته بباب الشعرية من قمح وتبن وشعير وغير ذلك، ولا يدفع له ثمنًا، هلك قبله بنحو ست سنوات بناحية قبلي، وأتوا بجيفته إلى مصر مقرفصًا، ودفن بمدفن أخيه بتربة المجاورين.

ومن جملة أفاعيله القبيحة أنه كان يجرد سيفه ويضرب رقاب الحمير، ويزعم أنه يقطعها في ضربة واحدة، ولم يزل المترجم وأخوه على حالته حتى خرج من مصر عند مجي الفرنسيس، وعاد بصحبة عرضي العثملي، ومات قاسم بك مع من مات من الأمرا والصناجق بالشام، فقلده الوزير الصنجقية فيمن تقلد وأدرك أمنيته فأقام قليلًا وهلك فيمن هلك بالطاعون، فكان كما قال القايل:

فكان كالمتمني أن يرى فلقًا
من الصباح فلما أن رآه عمي

ومات أيضًا حسن كاشف المعروف بجركس، وهو أيضًا من مماليك محمد بك وإشراق عثمان بك الشرقاوي، وكان من الفراعنة وهو الذي عمر الدار العظيمة بالناصرية وصرف عليها أموالًا عظيمة، فما هو إلا أن تمم بناها ولم يكمل بياضها حتى وصلت الفرنسيس، فسكنها الفلكيون والمدبرون وأهل الحكمة والمهندسون؛ فلذلك صينت من الخراب كما وقع بغيرها من الدور، لكون عسكرهم لم يسكنوا بها، وتقلد المذكور الصنجقية بالشام أيضًا، ثم هلك بالطاعون.

ومات الأمير حسن كتخدا المعروف بالجربان بالشام أيضًا وأصله من مماليك حسن بك الأزبكاوي، وكان ممتهنًا في المماليك فسموه بالجربان لذلك، فلما قتل أستاذه بقي هو لا يملك شيًّا فجلس بحانوت جهة الأزبكية يبيع فيها تنباكًا وصابونًا، ثم سافر إلى المنصورة فأقام بها مدة تحت قصر محمود جربجي، ثم رجع إلى مصر في أيام دولة علي بك، وتنقلت به الأحوال فأنعم عليه علي بك بأمرية بناحية قبلي.

فلما حصلت الوحشة بين علي بك ومحمد بك وخرج محمد بك من مصر إلى قبلي خرج إليه المترجم ولاقاه وقدم بين يديه ما كان عنده من الخيام واليرق والخيول، وانضم إليه ولم يزل حتى تملك محمد بك واستوزر إسماعيل أغا الجلفي، وكان يبغض المترجم لأمور بينهما، فلم يزل حتى أوغر عليه صدر مخدومه وأدى به الحال إلى الإقصاء والبعد، إلى أن انضم إلي مراد بك وتقرب منه.

وكان مفوهًا لينًا مشاركًا قد حنكته الأيام والتجارب فجعله كتخداه ووزيره، واشتهر ذكره وعمر دارًا بناحية باب اللوق بالقرب من غيط الطواشي، وصار من الأعيان المعدودين وقصدته أرباب الحاجات، واحتجب في غالب الأوقات واتحد به محمد أغا البارودي فقربه من مراد بك وبلغ إلى ما بلغ معه، وكان يعتري المترجم مرض شبيه بالصرع ينقطع به أيامًا عن السعي والركوب، ولم يزل حتى مات مع من مات بالشام.

ومات الأمير قاسم بك المعروف بالموسقو، وكان من مماليك إبراهيم بك وكان لين الجانب قليل الأذى، إلا أنه كان شحيحًا لا يدفع حقًا توجَّهَ عليه، ولما مات خشداشه حسن بك الطحطاوي تزوج بزوجته، وشرع في بنا السبيل المجاور لبيته بحارة قوصون بالقرب من الداودية، فما قرب إتمامه إلا وقد قدمت الفرنسيس لمصر فخربوه وشعثوا بنيانه وخرقوا حيطانه، وأخذوا عواميده وبقي على حالته مثل ما فعلوه بدور تلك الخطة وغيرها، ومات أيضًا المترجم بالشام.

ومات علي أغا كتخدا الجاويشية وهو من مماليك الدمياطي، ونسب إلى محمد بك وأخيه إبراهيم بك ورقاه واختص به وولَّاه أغات مستحفظان في سنة اثنتين وتسعين وماية وألف، فلم يزل إلى سنة ثمانٍ وتسعين، فخرج مع إبراهيم بك إلى المنية عندما تغاضب مع مراد بك، فلما تصالحا قلَّده الأغاوية كما كان، فحنق قايد أغا وكان ما كان من عزله وولاية سليم أغا كما سبق الإلماع بذلك عند ذكر قايد أغا، ثم تقلد كتخدا الجاويشية في سنة ست ومايتين وألف.

ولم يزل متقلدًا ذلك حتى خرج مع من خرج في حادثة الفرنسيس، وكان ذا مال وثروة مع مزيد شح وبخل، واشترى دار عبد الرحمن كتخدا القازدغلي العظيمة التي بحارة عابدين وسكنها، وليس له من المآثر إلا السبيل والكتَّاب الذي أنشأه بجوار داره الأخرى بدرب الحجر وهو من أحسن المباني، وقد حماه الله من تخريب الفرنسي، وهو باقٍ إلى يومنا هذا ببهجته ورونقه.

ومات الأمير يحيى كاشف الكبير وهو من مماليك إبراهيم بك الأقدمين، وكان لطيف الطباع حسن الأوضاع، وعنده ذوق وتودد عطارديًّا يحب الرسومات والنقوش والتصاوير والأشكال ودقايق الصناعات والكتب المشتملة على ذلك، مثل: «كليلة ودمنة» و«النوادر» و«الأمثال».

واهتم في بناء السبيل المجاور لداره بخطة عابدين، فرسم شكله قبل الشروع فيه في قرطاس بمعونة الأسطا حسن الخياط، ثم سافر إلى الإسكندرية وأحضر ما يحتاجه من الرخام والأعمدة المرمر الكبيرة والصغيرة وأنواع الأخشاب، وحفر أساسه وأحكم وضعه واستدعى الصناع والمرخمين، فتأنقوا في صناعته ونقش رخامه على الرسم الذي رسمه لهم، كل ذلك بالحفر بالآلات في الرخام وموهوه بالذهب، فما هو إلا أن ارتفع بنيانه وتشيدت أركانه وظهر للعيان حسن قالبه، وكاد يتم ما قصده من حسن مآربه، حتى وقعت حادثة الفرنسيس، فخرج مع من خرج قبل إتمامه، وبقي على حالته إلى الآن، ولما خرج سكن داره برطلمين واستخرج مخبأة بين داره والسبيل فيها ذخايره ومتاعه فأوصلها للفرنسيس.

ومات الأمير رشوان كاشف وهو من مماليك مراد بك، وكان له أقطاع بالفيوم فكان معظم إقامته بها فاحتكر الورد وما يخرج من مايه والخل المتخذ من العنب، والخيش واتجر في هذه البضايع بمراده واختياره، وتحكم في الإقليم تحكم الملاك في أملاكهم وعبيدهم وذلك قوة واقتدارًا.

ومات الأمير سليم كاشف بأسيوط مطعونًا، وهو من مماليك عثمان بك المعروف بالجرجاوي من البيوت القديمة، وخشداش عبد الرحمن بك عثمان المتوفى في سنة خمس ومايتين وألف بالطاعون الذي مات به إسماعيل بك وخلافه، وتزوج ابنته بعد موته.

وكان ملتزمًا بحصة من أسيوط وشرق الناصري، واستوطن بأسيوط وبنى بها دارًا عظيمة وعدة دور صغار، وأنشا بها عدة بساتين وغرس بها وبشرق الناصري أشجارًا كثيرة، وعمر عدة قناطر وحفر ترعًا وصنع جسورًا وأسبلة في مفاوز الطرق.

وأنشا دارًا بمصر بالمناخلية بسوق الأنماطيين، واشترى دارًا جليلة كانت لسليمان بك المعروف بأبي نبوت بحارة عابدين وعمرها وزخرفها.

وأنشا بأسيوط جامعًا عظيمًا ومكتبًا، فما هو إلا أن أكمل بنيانه حتى قدمت الفرنسيس فاتخذوه سجنًا يسجنون به.

ثم لما قابل المذكور الفرنسيس وأمَّنوه أخذ في إصلاح ما تشعث من البنا وتتميم العمارة، ولم يساعده الوقت إذ ذاك لقلة الأخشاب وآلات البنا فاشتغل بذلك على قدر طاقته، فلما فرغ البنا وقارب التمام ولم يبقَ إلا اليسير وقع الطاعون بأسيوط فمات، والمسجد باقٍ على ما هو عليه الآن، وهو من المباني العظيمة المزخرفة على هيئة مساجد مصر.

وكان المذكور ذا بأس وشدة وإقدام وشجاعة وتهور مشابه لحسن بك الجداوي في هذه الفعال، وموائده مبسوطة وطعامه مبذول وداره بأسيوط مقصد للوارد والقاصد والصادر من الأمرا وغيرهم، وله إغداقات وصدقات وأنواع من البر ومحبة في العمارة وغراس الأشجار واقتنا الأنعام.

وكان متزوجًا بثلاث زوجات إحداهن ابنة سيده عثمان بك توفيت بعصمته، والثانية ابنة خشداشه عبد الرحمن المذكور آنفًا، والثالثة زوجة علي كاشف المعروف بجمال الدين.

وكان ذا بأس، وله صولة وظلم وتجارؤ على سفك الدما، فبذلك خافته عرب الناحية وأهل القرى وقاتل العرب مرارًا وقتل منهم الكثير، وبسكناه بأسيوط كثرت عمارتها وأمنت طرقها برًّا وبحرًا واستوطنها الكثير من الناس لحمايتها وعدم صولة أحد على أهلها، وله مهاداة مع الأمرا المصرية وأرباب الحل والعقد بها والمتكلمين عندهم، فيرسل إليهم الغلال والعبيد والجواري السود والطواشية وغير ذلك.

وله عدة مماليك بيض وسود أعتق كثيرًا منهم، من جملتهم عزيزنا الأمير أحمد كاشف المعروف بالشعراوي، رقيق حواشي الطبع مهذب الأخلاق ذو فروسية في ركوب الخيل ومحبة في العلما واللطفا، وهو من جملة محاسن سيده.

ومات كل من الأمير بكير بك والأمير محمد بك تابع حسين بك كشكش كلاهما بالشام، ومات غير هولا ممن لم يحضرني أسماهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤