الدنيا واسطة

إنها كلمة تدور على رأس ألسنتنا وهي التي حطمت شخصيتنا وأفقدتنا الاعتماد على أنفسنا، فأفراد العائلة يتوسط بعضهم لبعض. الابن يتوسط لأخته عند أبيه وبالعكس. والأم تلجأ إلى بنيها والأب كذلك، وهكذا دواليك حتى إنه لا يطلب شيء في البيت من مرجعه مباشرة، ولا يذهب أحد إلى الهدف توًّا.

فكرت في ذلك كثيرًا لعلي أهتدي إلى موضع الداء فما وجدت لهذه العلة تعليلًا إلا نشأتنا التوكلية. فالوساطة والشفاعة طبيعية في الإنسان، وجدت فيه منذ البدء، منذ خلق الإنسان الآلهة وجعلها من ذوات الاختصاص. فللزرع إله. وللخمر آخر. ولكل غرض من أغراض الحياة قديس وولي حتى الحبل والولادة. ولما صار الله الواحد الأحد فوق الجميع تحول ذاك الاختصاص إلى القديسين والأولياء فصاروا كالأطباء اليوم. هذا للأذن، وذاك للعين، وهذاك للرأس، وغيره للصدر … إلخ.

لم أجد تعليلًا أقرب إلى الحقيقة من هذا. وإلا فلماذا نرانا نلجأ في حل أبسط قضايانا إلى الواسطة؟! فإذا قلت لأحدنا: أنت يا صاحبي صاحب حق، فما حاجتك إلى الواسطة؟ أجابك وهو يأكلك بعينيه: الدنيا واسطة، وإلا فلماذا نصلي إلى الله؟! ولماذا ننذر للقديسين؟ ولماذا نبتهل ونتضرع ونقرع صدورنا؟! ولماذا نوقف أملاكنا في سبيل الله؟! ألسنا نفعل ذلك ابتغاء رضا الله عنا وإدخالنا جنته ونعيمه؟ وإذا قلت لآخر: ولماذا تقف على الأبواب ما زلت تعرف أنك صاحب جدارة وكفاءة؟ أجابك. إن لمزاحمي يدًا قوية. هو ظهره قوي وأنا مقطوع الظهر. فما عساي أنال إذا لم يكن لي شفيع عند أصحاب الحل والعقد؟

أما سمعت بحكاية تلك المرأة؟ أراد أهل الحي الذي تقيم فيه أن يخرجوها منه؛ لأن مقامها رجس عليهم لسوء سيرتها، فطلب القاضي من أهل الحي عريضة موقعة من عشرين أو ثلاثين رجلًا ففعلوا. وقبل الجلسة التي كانت في أيام نضج التين هيأت تلك المرأة سلة وعبأتها جاعلة في كل تينة دينارًا وحملتها إلى القاضي، ولما لم تقدر على الوصول إليه سلمت السلة إلى الحاجب، فأعجبه تينها فأكل واحدة منها، فإذا بدينار يقع تحت أضراسه فأخذه. وجرب تينة ثانية وثالثة فإذا الأمر كذلك، فتوقف عن الامتحان. أدرك أن تلك المرأة داهية من الدواهي، وراح يحمل الهدية إلى القاضي وأنبأه بسرها الغريب، سر التين المحشو ذهبًا.

ورفعت العريضة الموقعة من أهل الحي إلى مقام القاضي العادل وعليها توقيع ثلاثين رجلًا فقال القاضي: ولكن جاءني وفد يقارب الخمسين وجميعهم شهدوا بحسن سيرة المرأة فلا تظلموها.

فقال الحاجب: وبقي ثلاثة أربعة عندي فلم يؤدوا شهادتهم.

تلك هي حالتنا. ننشأ على الاعتقاد بأن الدنيا واسطة فنلجأ إليها في كل موقف، وشعارنا دائمًا: الغاية تبرر الواسطة. كانت الأستانة تعين متصرفًا للبنان كل خمس سنوات، فتحمي سوق الوسائط في لبنان. تهبط الوجوه والأعيان من طلاب الوظائف إلى بيروت فتراهم مصطفين على أبواب القنصليات كعصفور العابور على قضيب الدبق، ونبدأ الاتصالات بالسفراء لعزل فلان وتنصيب فلان، فالبطرك الفلاني يوصي بفلان وهذا المطران يريد غيره، ويجيء المتصرف فتعفر الجباه على أعتابه والقلوب تدق، ثم يبدأ العزل والتعيين وهو في البحر إذ لم يكن في ذلك العهد رفع حصانة، فالقانون في فم المتصرف.

وإذا كان حاكم لبنان غير أهوج مثل مظفر باشا تأنَّى قليلًا، وطمع في غلاء الأسعار وكثرة الهدايا، فالوظيفة في ذلك الزمان كانت أقصى ما يطمح إليه أبناء البيوتات في لبنان. يتنازعون عليها وينفقون بغير حساب، ومن فاز بها كان صاحب المقام الرفيع. وهكذا طارت العقارات عقارًا إثر عقار، وصار الأولون آخرين والآخرون أولين. كانت الوظيفة في ذلك الزمان تأخذ ولا تعطي، ولا تفجر الثروة أنهارًا.

حكي أن الشيخ رشيد الخازن أوصت به السفارة الفرنسية في إسطمبول ليعود إلى قائمقاميته فخف إلى البحر ليرحب بقدوم المتصرف الجديد، وكان ذاك المتصرف خفيف الرأس ابن حلال، فحين عرفوه بالشيخ دق على قفاه، أي على جيبة بنطلونه الورائية وقال له: طمن بالك يا شيخ رشيد، أنت هنا.

فانصرف الشيخ مطمئنًّا مرتاح البال. وانتظر حينًا، ثم عاد ليسمع المعزوفة الأولى أي الدق على القفا، وظل يروح ويجيء. وأخيرًا عاد ليقدم الدولة المتصرف إصبعًا ظنه إصبعًا ذهبيًّا لأنه ألف رؤية مثله، فانتفض المتصرف وقال: ما هذا يا شيخ رشيد؟! فقال الشيخ: هذا إصبع شربة ملح إنكليزي يا أفندينا حتى تخرجني من ذلك الموضع.

وإذا كنا هكذا نشأنا منذ قرون فهل ينتظر منا العدول عن الواسطة في جميع أعمالنا؟ فنحن متكلون على الواسطة والشفاعة منذ وجدنا، وقد كان القدماء يفرقون بين شفيع وشفيع، فهناك الذي لا ترد شفاعته، بينما شفاعة غيره لا تقبل ولذلك قالوا:

ليس الشفيع الذي يأتيك متزرًا
مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا

فإذا سألت واحدًا عزل لارتكاب أو اختلاس، ثم عاد مكرمًا وارتقى درجات: كيف عدت يا هذا؟! الحمد لله على السلامة. أجابك بكل رباطة جأش ووقاحة: كانت الواسطة قوية جدًّا.

وإذا سألت آخر: كيف وصلت إلى هنا، وليس فيك الشروط المطلوبة؟ أجابك بعين مفتوحة: كله خلط! الدنيا واسطة.

ويجيئك واحد ويسألك: أتعرف فلانًا؟ فتجيبه نعم أعرفه، فيفتح أمامك كيس بضاعته مستجيرًا بقوله: خلصنا. ما بقي إلا نتفة واسطة وبس. فبحياتك ساعدنا، أنت صاحبه، وينام على يدك.

وإذا سألت غيره: كيف خلصت من تلك الورطة؟ أجابك: واسطتي قوية جدًّا جدًّا، والواسطة كما تعلم غير منكورة. وكما في السما كذلك على الأرض!

وإذا سألت الحقوق المقبورة في الأدراج: أي سليمان حبسك في هذه القماقم حتى نِمْتِ هنا على فرد جنب؟!! أجابتك: إنها كلمة قادر يقول للأمر: كن فيكون، بل قل: هي وحي يوحى، وهذه هي الواسطة الكبرى.

هذا إذا كنت توفَّق إلى وسيط صادق، أما إذا كان من يشفع بك من الذين يأكلون الطعم ويقضونها على الصنارة فالويل لك. إنه يحملك خازوقك على كنفك ولا تدري. تقتل الأيام بين ذهاب وإياب وروح وتعال، تارة يستقبلك وطورًا ينهزم ويتَخَبَّأ، وقد لا يحدِّث بشأنك أحدًا ويزعم لك أنه أقام الدنيا وأقعدها من أجلك.

لست مجنونًا حتى أنكر فعل الواسطة وألوم من يتوسطون الناس في قضاء حاجاتهم، ولا أقول لهم دعوها لأني أعلم أن الناس مطبوعون عليها، والغريق يتعلَّق بحبال الهواء. أما رأيت من يلجئون إلى رسائل التوصيات ويزورون الوسطاء؟ أما يتوسل الناس بالسحرة ويعتقدون أنهم يمهدون العقبات؟

وأخيرًا نقول: ما أكبر مصيبة من يئول إليهم أمر الحل والربط والتوظيف والعزل، فإن الناس يقلقون راحتهم وراحة من عندهم من أهل حتى الخدم والحشم، حتى تتعذر عليهم الاستراحة في بيوتهم. إن أولياء الأمور لا ينكرون ما قلت عن الواسطة، فكثيرًا ما يصرِّحون أنهم يتكتمون في إجراءاتهم خوفًا من المتوسطين متَّزِرين وعريانين.

مساكين نحن البشر! قرأت أنه صنع في الريو دي جانيرو كأس علوها متران ونصف، وهي معمولة من مائة وخمسين كيلو من الذهب، ومرصعة بالجواهر حتى بلغ ثمنها المليون. ترى ألم يصنع هذا كله واسطة للتقرب لله؟ مع أن حمل الله قال: أريد رحمة لا ذبيحة.

إذا قلنا: إن آغا خان ينتفع بالذهب الذي يوزن به فما حاجة القربان إلى كأس وزنها مائة وخمسون كيلو، وعلوها متران ونصف المتر؟! وبعد ألسنا في حاجة إلى سلم يمكن الكاهن من المباركة عليه؟

أليس يحتاج إلى جرة نبيذ وصينية خبز؟ إنه منسف!

وأخيرًا أقول: كل هذه وسائط مختلفة عرضًا متفقة في الجوهر، والله الهادي إلى الصواب. ثم كيف لنا أن ننكر الواسطة ما زالوا يزعمون أن الوسيط يخاطب الأرواح، وأنه إذا كان ملكة جمال كان مستطيعًا أكثر. وكان أقوى وأفعل لأن الله جميل ويحب الجمال.

ولولا الوسائط لم تكن عيال بأسرها، بل قرى ومدن وقصبات تستأثر بوظائف الدولة ومرافقها! أما من ليس لهم يد وواسطة، فلينتظروا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤